لو تتبعنا المصادر المحدودة التي تناولت الحركة التشكيلية المعاصرة في سوريا، فسوف نلاحظ أن تجارب الفنانات التشكيليات لم تحظ بحقها الطبيعي من التوثيق والمتابعة والنقد، رغم مرور أكثر من نصف قرن على ظهور أولى المبادرات التي تتالت وازدادت كما ونوعا، لتطال كل مجالات التشكيل، وتنتج فسيفساء غنية بدلالاتها وألوانها لا تقل شأنا عن تلك التي أنتجها الفنانون السوريون، ذلك أن تجارب الفنانات الرائدات والمعاصرات على حد السواء لم تُوثق، بل تم تسليط الضوء على عدد محدود جدا من نتاج الفنانات، ولكن في إطار المنطلقات والخصوصيات التي كرستها تجربة الفنانين، وهنا يحضرني قول إلين شوالتر: «إن تجربة المرأة يمكن أن تتوارى بسهولة، تغدو خرساء وباطلة وغير مرئية، تضيع في الرسوم التخطيطية لدى البنيوي أو الصراع الطبقي عند الماركسيين، التجربة ليست انفعالا، وعلينا ان نحتجّ الآن مثلما هي الحال في القرن التاسع عشر على مساواة المؤنث باللاعقلاني … علينا أن نبحث عن الرسائل المقموعة للنساء في التاريخ وفي علم الإنسان وعلم النفس وفي أنفسنا، قبل أن يكون في مقدورنا تحديد المؤنث الذي لم يقل» ولا أدعي أنني في هذه السطور سوف أستطيع القيام بهذه المهمة، لكنني سوف أحاول وضع مخطط تقريبي يوضح المفاصل التاريخية الأساسية والسمات العامة في تجربة التشكيليات السوريات مع تناول بعض الإسهامات النموذجية.
رائدات التشكيل
المصادر القليلة التي وثقت تجارب الرواد في التشكيل السوري المعاصر تجاهلت ذكر الرائدات، غير أن المعلومات المقتضبة المبعثرة هنا وهناك يمكنها أن ترسم معالم البدايات، ففي كتيب أصدرته وزارة الثقافة بمناسبة مرور ثلاثين عاما على رحيل الفنانة إقبال ناجي قارصلي أكد على أنها كانت الرسامة الأولى التي سجلت مشاركتها في تاريخ المعارض الجماعية منذ عام 1954، وكانت أول فنانة أقامت معرضا فرديا لها عام 1964 في صالة «الفن الحديث» بدمشق.
ونقرأ ضمن معلومات موقع «سيريان آرت» على صفحات الإنترنت، أن خالصة هلال (1940) كانت أول خريجة من خريجات كلية الفنون الجميلة، وأنها مُنحت شهادة تقدير رئيس الجمهورية على عطائها عام 1963، كما يطالعنا الموقع ببطاقة الفنانة السورية الأمريكية لميس ضاشوالي على أنها واحدة من خريجات الدفعة الأولى عام 1963 في كلية الفنون الجميلة، وكان لها إسهام كبير داخل سوريا وخارجها.
ويذكر عبد العزيز ملون في كتابه «تاريخ النحت المعاصر في سوريا» أن أول سيدة شاركت في معارض النحت كانت جوزفين سانطو تاجر في خريف 1963 لكنها قدمت أعمالا منفذة بواسطة الطرق على النحاس لحقتها في هذا الإطار هدى الأيوبي وزهيرة الرز، ثم قدمت درية حماد مجموعة من الميداليات، وفي جدول المعارض التي أقيمت بين عام 1947- 1963 الذي تضمنه كتاب الملون، يمكننا أن نقرأ أيضا أسماء النحاتات درية فاخوري دينابيت شاتيان وجيانا الحمصي دون معرفة أي شيء عن إسهامهن.
وفي دراسة طارق الشريف حول «تاريخ الفن السوري المعاصر» نتعرف فقط على تجربة ثلاث فنانات أكاديميات ظهرن في الستينات، هن: ليلى نصير وأسماء فيومي في مجال التصوير، وهند زلفة في مجال الحفر، وعلى الأرجح كانت الفنانة هند زلفة هي الأولى التي خاضت غمار هذا الفن على اعتبار أن دراستها وتجربتها الفنية قد تزامنت مع دخول الحفر إلى الأوساط التشكيلية في سوريا مع أن ذلك غير مذكور في أي من المراجع.
وفي كل الأحوال فإن المعطيات التي بين يدينا تؤكد أن فترة الخمسينات شهدت ظهور أولى هاويات الفن، وكانت الستينات هي الفترة التي شهدت بروز اثنتي عشرة فنانة في اختصاصات عدة، أغلبهن من التشكيليات الأكاديميات، خريجات كلية الفنون الجميلة في القاهرة أو دمشق، وعلى الأرجح كان هناك أخريات ظهرن قبل ذلك التاريخ، ولم تحتفظ بأسمائهن ذاكرة الفن، إما بسبب تجاهل النقاد لهن، أو بسبب ظروف قاهرة منعتهن من عرض نتاجهن، فليس من المنطق أن تمر فترة الأربعينات الموسومة بحراكها السياسي والاجتماعي والثقافي دون أن تسجّل أي من المحاولات التشكيلية النسوية.
أرقام وحقائق راهنة
لاشك أن افتتاح كلية الفنون الجميلة بدمشق قد أسهم إلى حد كبير في اتساع المساحة التي تشغلها الفنانات ضمن خارطة التشكيل السوري المعاصر، وفي تلوين هذه المساحة باتجاهات ورؤى متباينة، عكست تقاطعات واختلافات ومستويات عدة، أفرزتها التجارب الفنية المختلفة في إطار بلورتها وتطويرها وتخصيبها، فمن الفنانات اللواتي تخرجن خلال السبعينيات، وحققن حضورا مميزا في الوسط التشكيلي السوري، نذكر: هالة مهايني التي اتجهت نحو الأسلوب التجريدي، وعتاب حريب التي رسمت المدينة والطبيعة والزهور بالألوان المائية، ولجينة الأصيل التي انشغلت برسوم الأطفال، وسوسن جلال التي أولت عنايتها للطبيعة والمدرسة الانطباعية، وقبل ذلك كانت مها بيرقدار قد أقامت معرضها الأول عام 1973 وانشغلت لوحاتها بالواقعية الانتقادية.
وفي الثمانينات ظهرت تجربة هالة الفيصل التي دمجت ما بين الواقعية الانتقادية والأسلوب التعبيري، وسخّرت الألوان الانفعالية الصارخة، لتتأمل في مفهوم الحرية الفردية عبر وجوه البشر والعلاقات الإنسانية، وأقامت هناء العطار معرضها الفردي الأول، وعكست لوحاتها اهتماما بعوالم المرأة.
وحمل عقد التسعينات والأعوام الخمسة الأولى من القرن الواحد والعشرين ارتفاعا ملحوظا في عدد التشكيليات السوريات، بحيث يمكننا اليوم أن نحصي حوالي مئتي فنانة موزعات في مجالات: التصوير المائي والزيتي، الحفر، الخزف، النحت، الديكور، الملصق، أغلفة الكتب، الكاريكاتير والخط العربي، وهو رقم يمثل نسبة الخمس تقريبا من عدد التشكيليين الإجمالي المسجل في نقابة الفنون الجميلة، وعلى سبيل المثال لا الحصر يمكننا أن نضيف إلى جانب الأسماء المذكورة أعلاه، أسماء اللواتي أقمن معارض فنية، أو شاركن في المعارض الجماعية خلال السنوات العشر الأخيرة.
في مجال التصوير نذكر: ألسكا ابراهيم، سوسن الزعبي، سارة شمة، وفاء جديد، جمانة جبر، ايلينا خليل، ميساء عويضة، ريم حمزة، إيمان حاصباني، بتول الماوردي، رشا جبر، رولا قوتلي، سراب الصفدي، رانيا الألفي، رسمية طابع، سوزان حميدة، غادة دهني، ، سوسن مخلوف، ميادة كناني، ميادة حمدان، نهى دباغ، هيا العقاد، وفاء كريدي، هالة عبد الرحمن، منى محمد، ليلى طه، عدوية ديوب، شادية قاسم، سميرة بشارة وسهام منصور.
وفي مجال النحت ظهرت: أمل زيات، خولة حسن، جيهان عبد الرحمن، ريم كاسوح، عروبة ديب، مفيدة الديوب، مرفت أحمد، نور الزيلع، نائلة درويش، هناء ديب، تمارا محمد الزعبي، جوليا وهبة، رانية عبد الفتاح، زينة سالم، ريمان عساف زين الدين، زهر بان حاج اسماعيل، سوزان عبود.
ونجد في مجال الحفر: ديانا الجابي، ريم طراف، لينا ديب، وفي الخزف: ضحى قدسي، اميلي فرح، آمال مريود، سناء فريد، شرين ملا، نهى العلي، لمى كوكش، نسرين صالح، وفي الخط العربي نصادف اسم ريم العجية، وفي الكاريكاتير عفراء اليوسف، وفي الديكور سحاب الراهب، وهناك عدد من الفنانات المذكورات خضن في أكثر من مجال تشكيلي، كعتاب حريب التي قدمت تجاربها في التصوير والديكور وتصميم أغلفة الكتب.
السمات المشتركة
بغض النظر عن مستويات الموهبة والتأهيل والحرفية فقد عكست التجارب الفنية التي قدمتها التشكيليات السوريات صنوفا من التعددية والتنوع، سواء تعلق الأمر بالمرجعيات البصرية التي اعتمدنها، أو بالموضوعات التي تناولنها، أم بأساليب المعالجة والتنفيذ، فالتجارب المتواصلة على مدار نصف قرن لم تقفل المنجز الفني على صورة المرأة وهمومها، وإن كانت قد استثمرت حضورها للإيحاء والترميز تارة، وللإثارة في بعض الأحيان، بل إن النتاجات الفنية استشعرت هموم الوطن وإشكالات الإنسان المعاصر إلى جانب جماليات شفيفة أطرتها مفردات الطبيعة الحية والصامتة، وضمن بناء مشهدي استطاع مد الجسور بين العوالم الداخلية والخارجية، وسوف نلاحظ في إطار هذه التجارب أصول الفنون الحديثة إلى جانب الموروث الفني، وسوف نجول في فضاءات الواقعية ومساحات التجريد وأسئلة التحوير وقوة التعبير اللوني، وسوف نتلمس في الكثير من الأعمال محاولات دمج الأساليب والمرجعيات والرموز والوصول إلى هوية فنية مستقلة تبلورت عبر البحث والتجريب لدى فنانات موهوبات بحق انتزعن الاعتراف بهن، وحققن حضورا لافتا ليس على المستوى المحلي وحسب، وإنما على المستوى العربي والعالمي في بعض الاحيان.
وفي كل الأحوال يمكننا أن نسجل على هامش الفضاء التشكيلي الذي أنتجته الفنانات السوريات أن اللحظة الراهنة كانت حاضرة بقوة في معظم نتاجهن، وأن معظمهن انطلقن من كون التجربة الأنثوية الذاتية أو العامة هي المصدر الأهم للفن والعامل الأكثر دلالة من عوامل الرموز الاجتماعية والسياسية، التجربة الأنثوية بوصفها سيرة القهر والتغييب والتهميش على المستويين الجمعي والذاتي، وبوصفها أيضا منبعا للدفء والجمال.
وإذا أردنا أن نبحث في الخصوصيات الفنية، فسوف نلاحظ أن المشهد الطبيعي والصامت على حد السواء قد تكوّر وتحول لدى أغلب الفنانات إلى ما يشبه الرحم أو الحضن الدافئ، وأن التشكيلات اللونية سعت وراء التناغم والإشراق، وحين تمت استعارة الموروث والرموز وظفت للدلالة على إشكالات راهنة، كما أن الهويات الفنية المستقلة قد تحققت بدءا من الغوص في تفاصيل العلاقة الشائكة ما بين الذات المنتجة والمحيط، مما أتاح لتداعيات الذاكرة والعاطفة أن تفعل فعلها في قلب المنجز الفني وتبوح بحالات إنسانية طافحة بالشغف والعذاب.
شواهد التجربة
إقبال ناجي قارصلي (1925-١٩٦٩)
وُلدت الفنانة إقبال ناجي قارصلي في دمشق من عائلة متوسطة الحال تهتم بالثقافة والعلم، ومنذ طفولتها بدأت ترسم بالألوان المائية وتطرز رسومها بالقصب والحرير على الأغطية والشراشف، تزوجت في سن الخامسة عشرة وانتقلت إلى تدمر، حيث أُتيحت لها فرصة اللقاء الحي بمنابع الفن التدمري، والإطلاع عن كثب على أصول الفن الأوربي منذ عصر النهضة، وحيث بدأت ترسم على القماش بألوان الزيت، وبدأت تشارك لوحاتها في معارض الدولة، وبين الأعوام 1956و1958 انتسبت إلى معهد الجواهري في مصر لدراسة الفن بالمراسلة، وفي عام 1964 أقامت معرضها الفردي الأول، بعده أقامت ثلاث معارض فردية أخرى كان آخرها في مدينة الطبقة عام ١٩٦٩ أي عام رحيلها بعد أن عانت من تسمم مزمن نتج عن مادة الرصاص الموجودة في الألوان الزيتية التي كانت تستخدمها.
رحلت وهي في الرابعة والأربعين بعد أن تركت أكثر من سبعمئة وخمسين لوحة نالت عليها العديد من الجوائز التقديرية، رسمت الوجوه والطبيعة وحياة الناس في المناطق التي عاشت فيها، وأغنت لوحتها في المراحل المتأخرة من تجربتها بالموضوعات ذات الطابع الاجتماعي والسياسي، وكانت من ممثلات الواقعية الانطباعية (١).
ليلى نصير (1941)
منذ عقدين أو أكثر تعيش الفنانة ليلى النصير عزلتها في مدينة اللاذقية بعيدا عن ضجيج الأضواء والإعلام، ولولا مشاركة لوحاتها المحدودة في بعض المعارض الجماعية، وما كتبه الناقد طارق الشريف في توثيق تجربتها، لولا ذلك لاختفى اسمها من قائمة التشكيل السوري، مع أنها كانت من أول المؤهلات أكاديميا، وأول فنانة انتزعت الاعتراف بأهمية تجربتها وبصمتها الفنية المستقلة على المستويين المحلي والعربي.
في معرض الحديث عن المراحل التي عبرتها تجربة الفنانة نصير ذكر طارق الشريف: أنها بعد تخرجها من كلية الفنون الجميلة في القاهرة بدأت من تجارب واقعية لأزهار وأشخاص برماديات ولون أبيض على خلفية بلا ألوان، ثم انتقلت إلى التعبيرية وإلى الموضوعات الإنسانية التي تفاوتت في مستوى تحويرها للواقع والأشكال، فعلى سبيل المثال قد تحوّل البشر إلى عظام وجماجم في لوحتها «التمييز العنصري»، بعد ذلك استقرت تجربة الفنانة على أسلوب خاص يعتمد التأسيس التجريدي للوحة مع تشخيص التفاصيل الهامة، والتفاصيل المجزأة التي رُسمت ضمن مساحات هندسية مهشمة وتكوينات مهتزة، كأنها تُرى من خلال مجهر كما في لوحة «تشريح» التي ظهرت فيها القضية الإنسانية وقد مزقتها المشارط والسكاكين، وتجاوزت ليلى نصير ذلك حين استخدمت تقنية الطباعة المباشرة وألوان الشمع، وبدأت تقتصر في عملها على الوجوه المأساوية التي هي انعكاس لمرآة ذاتها (٢).
أسماء فيومي (1943)
تخرجت الفنانة أسماء الفيومي من قسم التصوير في كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1967، وأقامت معرضها الفردي الأول بعد عامين من ذلك التاريخ، ومرت تجربتها بتحولات ملموسة، بدأت بالتجريد، ثم انتقلت إلى التشخيص لتنقل هموم الوطن وقضاياه، واستقرت أخيرا في سياق أسلوبية واضحة تمزج ما بين التجريد وتداعيات الذاكرة، فالفنانة في أعمالها الأخيرة تضعنا أمام مساحات لا تخضع لقوانين الفن الصارمة، بل تشاكسها وتتحرك على هواها وفق إيقاع داخلي ناظم، تبعثه انفعالات الريشة وقلق الخطوط واحتدام الألوان، كي يتسع الأفق أمام الأنا المحاصرة بالذكريات والأحداث، فتغدو قادرة على التأمل والحب والبكاء والصراخ وإثارة الأسئلة …
وفي هذا الإطار تتشكل اللوحة من مستويين اثنين: مستوى التجريد الذي تحتله الخطوط والمساحات اللونية حين تتقارب وتتباعد في حزم عمودية أو أفقية، تتخللها تارة بؤر من النور وأخرى انقباضات معتمة، تحيلنا إلى مشهد درامي محتدم بصراعاته الخفية والمعلنة، ومن هذا التشكيل الذي لا تحده الزوايا، ويصبو لأن يخرج من أطر اللوحة ذاتها، ينبعث في مستوى آخر ما يفصح عن أشكال ضبابية في لحظة تخلّقها، وإذا ما أمعنا النظر في تكويناتها، تتراءى لنا كائنات ونباتات وأشجار، يصوغها حلم مقبل أو حنين موجع وأحيانا غضب عارم.
تجريدات وكائنات يخترق بعضها البعض، وتتكرر من لوحة إلى أخرى، لكنها في كل مرة تفسح المجال أمام معنى مغاير، مرة تطلق سؤالا جديدا وأخرى تنهيدة حب أو زفرة يأس أو صرخة رفض، وربما أحيانا صفعة توجع القلب والضمير، وفي كل مرة تسعى الفنانة إلى تعميق درامية المشهد، إن كان ذلك باختيارها للألوان الأكثر كثافة وتعبيرا عن حالات التوتر والانفعال، أو بالشروخ التي يحدثها حد السكين على السطوح، أو بالتكوينات الأنثوية التي تبدو أكثر وضوحا وإفصاحا عن وضعيات تغلب عليها العزلة والحزن …
ضحى قدسي (حلب ١٩٤٤)
درست الفنانة ضحى قدسي العمارة الداخلية في كلية الفنون الجميلة بدمشق، وأكملت علومها في السوربون بباريس، أقامت معرضين فرديين وشاركت في عدة معارض جماعية وملتقيات عربية، وفي تجاربها الأخيرة تحاول الفنانة الابتعاد عن السمة التطبيقية والاستهلاكية لمادة الخزف، والوصول به إلى لوحة فنية مكتملة العناصر من حيث الحامل والبناء والموضوع والخطوط والحساسيات اللونية، فثمة حامل مستو من الخزف على الأرجح وأحيانا من حجر البازلت، وهو حامل بلون وحيد في الغالب، وعليه تتموضع وحدات المشهد التي قد تتكامل وتنتج شكلا محددا، أو قد تبقى وحدات منفصلة تشكل بمجموعها فضاء متعدد الرؤى، وفي كلا الحالتين تتعدد طبقات اللوحة ومستوياتها، ويتحول الطين والحجر إلى حياة نابضة تبعث أعماقا وظلالا تجذب العين وتحرضها على اكتشاف خبايا المشهد وأسراره، هكذا نجدنا أمام مجموعة كبيرة من الأعمال منها ما ينتمي إلى اللوحة الصغيرة، ومنها ما يحاكي الجداريات، لكن الفنانة حتى حين وسّعت من مساحة مشهدها، فإنها ظلت محافظة على تقنية تقطيعه إلى وحدات صغيرة.
عوالم متخلية تعود بنا إلى فنون المنطقة وألوانها الزاهية، تعود إلى الأساطير السورية القديمة، أساطير الحب والخلق حيث تتعانق الأرض والسماء وتتراقص الحيوانات وتزدهر الأحلام في جنبات المشهد حين تلتقي عشتار ببعلها … خيول وطيور، أنهار ونخيل، شموس وأقمار وبشر، جنان وأرض تتقاطع في عمق المشهد والخطوط ناعمة والأشكال جميلة والأمكنة أليفة، وتارة يبدو المشهد تجريديا وأخرى تشخيصيا، لكنه في كل الحالات يشف عن عوالم دافئة تكشف توقا داخليا إلى السكينة والسلام والمحبة، أو فلنقل عالم بديل لما نحن فيه .
وإذا كان مسعى الفنانة الأول هو نقل الخزف إلى فضاء اللوحة، فإن مسعاها الآخر هو اكتشاف طاقة اللون التعبيرية وتأثيراته النفسية، فلوحاتها الخزفية تحتفي وتضج بكل الألوان دون استثناء، وتقيم توازناتها وإيقاعاتها الخاصة التي تبحث عن النور والإشراق الداخلي، وتبث الحركة في أوصال المشهد، حتى كأننا ندخل امبراطورية اللون على حد تعبير الفنانة.
تقول الفنانة القدسي حول آلية عملها: أعالج التربة أولا، أمد الطين وأقطعه حسب تصورات مسبقة لطبيعة الموضوع واللوحة، ثم أشوي القطع مرة بعد الأخرى، وفي كل مرة أضيف إليها بعض الألوان وبعض المواد حتى يتجسد ويكتمل الموضوع الذي أتخيله.
أما عن ألوانها فتقول: أحاول عن طريق تمازج الألوان وحركتها بلبلة الحواس الخارجية وصولا إلى الحواس الداخلية أو الأثر الروحي العميق، تماما كما تعتقد الأسطورة السورية القديمة بأن حركة الجسد الخارجية تفجر طاقاته الداخلية والروحية الكامنة.
بثينة علي (1974)
خلال عقد التسعينات درست الفنانة بثينة علي في كلية الفنون الجميلة بدمشق، وتابعت دراساتها العليا في السوربون بباريس، ثم أقامت ثلاثة معارض فردية، وسوف نتناول الأخير منها الذي أقامته في صالة الأتاسي شهر يونيو عام ٣٠٠٢ تحت عنوان ((وعود)) لأنه يشكل تجربة أولى من نوعها على صعيد التشكيل النسوي في سوريا، حيث خاضت الفنانة مغامرة الفن التركيبي الذي يتعامل مع الفراغ بوصفه لوحة ثلاثية الأبعاد وصيغة مركبة من المؤثرات، وهي تجربة معروفة في الغرب، وكان رائدها في الساحة التشكيلية السورية الفنان أحمد معلا منذ أواسط التسعينات عبر معرضين اثنين، آخرهما كان مهدى للراحل سعد الله ونوس.
قبل الدخول إلى الصالة يتناهى إلينا بكاء الأطفال وأنين الضحايا على خلفية أصوات القنابل والرصاص ونبضات القلب، ومنذ المدخل تفاجئنا الأسلاك الشائكة التي تؤطر الفراغ وتحيله إلى سجن، وعلى الأرض نرى حجارة محروقة وأشلاء بشر وحطام حياة، ومن السقف تتدلى لوحات بمقاسات كبيرة تحمل عنوانا واحدا هو العنف: أكداس من الجثث وأبواط عسكرية تنز منها الدماء وصليب قد احترق المسيح عليه وقفص صدري وما شابه من مسلسل العنف، أو فلنقل إنه فضاء الموت العميم الذي سكبته علينا شعارات التحرير والحروب الذكية، وفي هذا الفضاء المقسوم إلى أربع وحدات، تتداخل المؤثرات السمعية والبصرية ليكتسي المشهد بدمه وأعصابه، ويغدو موازيا لحالة عامة نختنق جميعا في أبعادها، ففي الوحدة الرابعة من فضاء المعرض حيث يخيم الظلام تماما تتصدر المشهد أربع شاشات تلفزة، وعلى الشاشتين الجانبيتين تتوالى صور الانتفاضة الفلسطينية وجرائم العدوان على العراق، بينما في الوسط تتوالى صور الفنانات والراقصات والدعايات والمسابقات معبرة عن فنون الإثارة والتشويق وكل أساليب التضليل الإعلامي التي كرسها الغرب.
ولتنفيذ فكرة معرضها استخدمت الفنانة كل الخامات المتوفرة والنفايات بدءا من الأسلاك المعدنية فالدمى والحجارة والأخشاب مرورا بالملابس القديمة والعظام وورق الجرائد وما شابه، كذلك لجأت إلى تركيب كل التقنيات الممكنة بدءا من الحرق فاللصق والبخ وتسليط بؤر الضوء من الخارج، وفي بناء لوحاتها اعتمدت مبدأ الكولاج على خلفية اصطبغت غالبا بألوان الرماد الداكنة، أُلصقت عليها بشكل نافر مفردات اللوحة من دمى محروقة وما شابه، وسال من جنباتها اللون الأحمر، أو فلنقل باختصار إن الفنانة بثينة قد سخرت كل ما تمتلكه من أدوات ومعارف وطاقة لتكشف زيف الوعود الأمريكية الكاذبة وتقول لا للحرب والعدوان وقتل الأبرياء وانتهاك حياة البشر …
سارة شمة (دمشق 1872)
عام 1998 تخرجت الفنانة سارة شمة من قسم التصوير الزيتي في كلية الفنون الجميلة بدمشق، وبعد عامين أقامت معرضها الفردي الأول، تبعه خمسة معارض أخرى، وربما تكون الفنانة واحدة من أهم وأشهر المصورات اللاتي ظهرن في فترة التسعينات، سواء تعلق الأمر بنتاجها المميز كما ونوعا، أم بعدد الجوائز التي حصدتها خلال السنوات السبع الأخيرة.
تعيد تجربة سارة شمة الألق إلى اللوحة البورتريه في إطار أسلوب واقعي تعبيري، يجمع بين جماليات المشهد ودقة الصنعة إلى جانب الغوص في إشكالات الإنسان المعاصر، وتتكون اللوحة لديها من ثلاث مستويات: الخلفية التي غالبا ما تنبسط في لون وحيد، يتموضع عليها الشكل المشخص بدقة تستقي الأصول الصارمة للتشريح، والشكل يكون عادة وجه امرأة أو رجل أو مقطعا نصفيا للجسد الإنساني، لكن ما يميز التكوينات المشخصة لديها أنها في لحظة ما تنفصل عن طبيعتها المادية وتدخل كينونتها التعبيرية الخاصة التي تستقيها من وضعية التكوين ذاتها التي تنم عن الحركة الخارجية والداخلية في آن واحد: حركة تقوم في إطار التضاد الذي توحي به كثافة الخطوط ثم رقتها، وتجاور الألوان الحارة والباردة، وهي حركة موظفة بدقة لتنقل الأفكار والمشاعر التي تخص الشخصية المرسومة، والتي غالبا ما تتمحور حول القلق والحزن والرفض والرغبة بالتمرد على كل الضغوطات الاجتماعية والتابوهات، وفوق كلا المستويين: الخلفية والتكوين، تنبثق طبقة لونية هلامية الشكل، تمد اللوحة بطاقة تعبيرية كبيرة، وتكثف الحالة الدرامية في المشهد، وتعزز حضور الأعماق والمفردات الشعورية، لتتحول اللوحة البورتريه إلى علامة من علامات الواقع المشبع بالدلالات المتعددة المستويات، كما فعلت سارة شمة في لوحتها التي شاركت في معرض ((النساء والحرب)) عام 2001 والتي توسطها وجه امرأة تحاول تمزيقه.
المراجع
١. انظر منشور ((إقبال ناجي قارصلي سيدة رائدة في الفن التشكيلي السوري)) إعداد وتحقيق د. محمد قارصلي، منشورات وزارة الثقافة?540;دمشق ١٩٩٩
٢. انظر طارق الشريف ((الفن التشكيلي المعاصر في سورية)) دراسة في مجلة ((الحياة التشكيلية)) ص (٩١).