يتعلق مصطلح الحداثة في الفكر الحديث والمعاصر بالإيمان القطعي واللا محدود بمفهوم التقدم والعقلانية. الأمر الذي استتبعه تقسيما ثنائيا للعالم/الحضارات باعتبار انخراطها في عالم الحداثة. فإذا بنا أمام مجتمعات حديثة/متقدمة/عقلانية وأخرى تقليدية/متخلفة/عنيفة.
ويبدو أن هذه المسألة المرتبطة بشكل مباشر بمعنى «النهضة» كانت مشغلا مهما في تاريخ الفكر السياسي العربي الإسلامي منذ القرن التاسع عشر. ويمكننا في هذا المجال العودة إلى نهايات ثلاثينيات القرن التاسع عشر لنعثر على أولى التجليات الفكرية لتناول هذه الظاهرة.
بل إن السلطة العثمانية شرعت وقبل العديد من الدول الأوربية في محاولة منها لتجاوز هذا الاحتلال في إصدار مراسم تعمل على إنشاء تنظيمات سياسية يمكن إدراجها ضمن الحداثة الغربية.
وظل السؤال يستعاد من الكواكبي إلى الطهطاوي وصولا إلى جمال الدين الأفغاني مرورا بمفكري ما يسمى بعصر النهضة ونخبها وتباينت المقاربات والمداخل. فإذا كان الهم السياسي هو الذي طغى على الكواكبي في «طائع الاستبداد»، فقد انشغل بالهم السياسي وحاول التوفيق بين الديمقراطية نموذجا للحكم حديثا والشورى شكلا وسلوكا وممارسة تاريخية إسلامية، «وقد ظهر في هذا (النظر) أن الإسلامية مؤسسة على أصول الإدارة الديمقراطية، أي العمومية والشورى الارستقراطية أي شورى الإشراف».
فإنه تداخل مع بعض الجوانب التعليمية والمعيشية عند خير الدين التونسي الذي كان كتابه «أقوم المسالك» موضوعه الأول إنما هو استخلاص للأسس القانونية التي قامت عليها نظم الدول الأوروباوية في القرن التاسع عشر» ولئن غلب على موضوع مقدمة الكتاب وفصوله الحكم السياسي «سياسة الممالك وحسن الإمارة وما يمكن به إصلاح أحوال المسلمين من اقتباس النظم التي ظهرت نجاعتها في بلدان أوروبا» فإن لفظ السياسة عنده انفتح على نظام الحكم عامة وهيكل الدولة الذي هو صورة المجتمع، فاتصل عنده بتقدم العلوم والمعارف والصناعة وازدهار الثروات المادية والاقتصادية وتنظيم المدارس والجند…
إلا أن جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده تمايزا عن غيرهما، بناء متصور أشمل، كان متميزا بالأساس في تأسيس تيار فكري وسياسي وإيديولوجي لا تزال ثماره تينع كل يوم وهو التيار السلفي.
يثير مصطلح سلفي أو تيار سلفي مشاكل جمة، لأنه يحتمل أكثر من تأول وفهم. فهو يستعمل عادة نعتا لكل ما هو ماضوي أي لوصف كل فكر يفكر ملتفتا إلى الماضي، معتبرا إياه أهم من الحاضر، بل وإن في هذا الماضي ما هو كفيل بحل كل إشكاليات الحاضر ومآزقه، وتصبح السلفية من ثمة آلية تفكير تجعل من تجارب الماضي حكما على شواهد الحاضر، وتنفتح من ثمة، ليس على الفكر الديني فحسب، بل على كل أنماط التفكير الإيديولوجية الأخرى، ويمكن لنا أن نجد تبعا لذلك سلفية قومية، وسلفية مسيحية وحتى سلفية ماركسية.
كما يمكن أن يستعمل لفظ سلفي مرادفا لكل فكر تقليدي يفتقر إلى تقومات التفكير العقلاني والنقدي، فتشمل السلفية أنماطا مختلفة من المدارس الإيديولوجية والحزبية، وفئات وشرائح اجتماعية مختلفة، لأن هذا النمط من التفكير هو الغالب في الأعم على عمود الناس.
ويتبلور بذلك مفهوما ثالثا للسلفية، باعتبارها «الموقف النظري» الإيديولوجي المتحد –فيما يعتقد أصحابه- إلى بلورة رؤية إسلامية أصيلة تماما لقضايا الوجود والإنسان لمعضلات المجتمع والتاريخ، وذلك انطلاقا من ظروف المرحلة الزمنية الراهنة».
لقد ظهر هذا «التيار السلفي» ارهاصات أولى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مشكلا تصورا بديلا لما كان ينادي به خطاب النهضة عند مسيحيي الشام. وهما نهضا مهمومان «بسؤال النهضة» في علاقة بالفكر الغربي و«الحدثية الحديثة». وإذا كان التيار الليبرالي العلماني الذي مثله لطفي السيد وسلامة موسى وصولا إلى طه حسين، كان يعتقد في ضرورة الاقتباس الكلي من المدنية الأوروبية، فإن التيار السلفي طرح مشكلا آخر من التعامل يجوز لنا أن ننعته «بالتوفيقي». فبقدر ما يبدو منبهرا بمظاهر القوة والرقي الغربيين يظل منشدا إلى الماضي المجيد، فهو يبحث عن أشكال المواءمة بين مجد دارس وآخر وافد، يقول الطهطاوي مثلا، منيرا سبيل النهضة، ومنهاجها : «التمسك بالشرع، وممارسة العلوم والمعارف، وتقديم الفلاحة والتجارة والصناعة، واستكشاف البلاد التي تعين على ذلك، واختراع الآلات والأدوات». وفي كلام الطهطاوي نزعة تلفيقية واضحة، «فالتمسك بالشرع» ورد في الحقيقة نوعا من نزع الكلفة، إذ أن التوزيع التداولي للكلام، يركز على أسباب المدنية كما عرفتها أوروبا، من اهتمام بأمور الصناعة والعلم والفلاحة والتجارة وحتى الاستكشافات الكبرى. فالطهطاوي يدرك أن أسباب المدنية تكمن في الجوانب العملية الدنيوية من الحياة وأبعادها المادية والتقنية، لكن العقل السلفي فيه، يعجز عن تمثل مدنية بعيدة عن الإسلام، فكانت المجلة مفتحة «بالتمسك بالشرع» دون تفصيل.
وسيهتم الخطاب النهوضوي السلفي، بهذه المقابلة بين الإسلام الذي يحضر عنده كيانا كاملا مستقلا والغرب الذي سيكون عنده متعدد الأبعاد. فهو الحزب النصراني، مثلما هو الشأن عند محمد عبده في «الإسلام والنصرانية» وهو الغرب الكافر الملحد، مثلما هو الأمر عند جمال الدين الأفغاني في «رسالة الرد على الدهريين» ولكنه أيضا غرب التقدم والحضارة مثلما هو الأمر عند خير الدين التونسي في «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» أو عند الطهطاوي في «تلخيص الأبريز في محاسن باريس».
ولأنه ليس موضوع بحثنا، دراسة نظرة الخطاب السلفي إلى الغرب، فإننا لن نهتم بغير مسألة التداخل بين الديني والسياسي فيه. أي نظرة المفكرين السلفيين للمسألة العلمانية في الغرب والموقف منها، وكيفية تصورهم لهذه العلاقة في «الإسلام»، نروم من خلال ذلك كشف البنية التي سيؤسس عليها علال الفاسي باعتباره مفكرا سلفيا متأثرا زمنيا على هؤلاء الرواد، نظرته إلى المسألة العلمانية.
على أن المشترك الثابت في كل الخطاب السلفي هو التعامل مع الإسلام باعتباره ثابتا. مسترجعين جملة من السرديات التي ستظل عالقة بكل الخطاب السلفي في يومنا هذا. فالمسلمون كانوا أسياد العالم و«خير أمة» يوم كانت تعاليم الإسلام تسري في شرايين المسلمين وتفاصيل حياتهم، ثم جاء الدخيل والمنحرف، فضل الناس سواء السبيل فكان الانحطاط الذي يفرض على المجددين من المصلحين في الأمة النهوض والتكفل بالدعوة إلى الإصلاح ومحاربة البدع. وهذه السردية الملازمة للتفكير السلفي الإصلاحي تصدر من بديهية تلغي التاريخ وحيثياته من التجربة الإسلامية كما حصلت فعلا طيلة أربعة عشر قرنا.
إنها تتكتم على المنابت، لتجعل لنفسها إسلاما نموذجيا مثاليا، بوشر في حياة الرسول وفي الفترة القصيرة اللاحقة عليه، أي خلال الخلافة الراشدة، وتنتهي بحدود مقتل علي سنة (40 هـ).
وهو– أي الخطاب السلفي- يعود بذلك إلى الجذور ليستدعيها لسببين، الأول حمائي، فعنف اللحظة التاريخية وجبروت الآخر المتحدي دفعاه إلى الانتماء بالأصول والجذور حفاظا على الهوية المستهدفة، والثاني سليل الأول وهو التقليل من شأن المدنية الغربية بإقامة مجد آخر مخالف لها، حتى وإن كان في مستوى التصور، وهو إحيائي، يبعث الماضي كيانا تاما كاملا دون عملية تفكير فيه، محاولا إسقاط تجربته على الحاضر.
علينا، إذن، بالعودة إلى الجذور، لا لإحيائها بل لنسائلها. وإلى الأحداث لا لنسردها بل لنستنطقها وإلى القراءات لا لنتلوها بل لنتأولها.
تشترك كل المقاربات السلفية في ما يسمى بمقولة «استعادة الأصل» التي يرى الأستاذ عادل خضر «أنها من المستحيلات» وتتأسس هذه المقولة في الحقيقة على آلية تفكير تحكمت في انبناء «الفعل السلفي النهوضوي» وكيفيات اشتغاله.
لقد نهض «الفعل السلفي» على ميثيولوجيا مؤسسة، شأنه في ذلك شأن كل الخطابات التقليدية، فقد أثبتت الدراسات الانتروبولوجية خاصة تلك التي قام بها كلود ليفي شتراوس.
وخضع ظهور الأمم والثقافات دائما إلى أساطير مؤسسة تمنح أفرادها منزلة في الكون إنها «نسق تفسيري وصفي يحدد المجتمعات وتعينها وتميزها [عن غيرها] ومنها يسمى الإنسان مشروعية وجوده في الكون».
وتشتغل المجتمعات على هذه الأساطير أو السرديات وفق طرائق تختلف من زمن إلى آخر وتستحضرها في كل أزمة هوية، ونقصد بأزمة الهوية، حالات الصراع الدائمة بين تلونات المجتمع نفسه او بين الأمة وغيرها من الأمم.
ففي حالات الصراع الداخلية، يتحول الصراع السياسي والاجتماعي إلى صراع مشروعية تستدعي فيه السرديات المؤسسة لإكساب أحد أطراف الصراع مشروعيته، وقد تجلى ذلك صريحا في الصراعات بين الفرق والمذاهب الإسلامية على طول التاريخ العربي الإسلامي. فالقرابة إلى الرسول مثلا كانت جواز عبور إيديولوجي أكسب الكثير من الدول مشروعيتها».
أما في حالات الصراعات الخارجية عندما تكون الأمة في خطر فإن استحضار رمز المؤسس وما يحاط به من هالات أسطورية خارقة، يمثل سبيلا للنجاة. ويلوذ الناس بقصص العجيب والخارق الذي تبين الأصل عله يعيد المعجزة من بدئه».
إن هوية الأمة تتشكل في الحقيقة وفق بعدين، إذ تستمد وجودها بدءا من الطبيعة أي كيفيات «خلقها ونشوئها» وثانيا من الثقافة، إذ يتكفل أشخاص/أبطال خارقون بتحديد القيم العليا للأمة.
وفي هذا الحيز تكفل «عمل النهضة» بإعادة إنماء هذه السرديات. ونحن نزعم ان كل الخطابات النهضوية على اختلافها الشكلي هي في جوهرها خطاب واحد يتزيأ بأكثر من قناع.
ينهض الخطاب الحديث، كما رصد ذلك الأستاذ الحداد في كتابه، الإسلام نزاوات العنف واستراتيجيات الإصلاح» على جملة من التصورات النمطية القائمة على منوال سردي تتم استعادته باستمرار، وهو الأمر الذي جعل الوعي الثقافي السائد في الثقافة العربية الإسلامية قائما على عملية مراكمة لا تاريخية تستثنى فيها لحظة التأسيس من المساءلة النقدية. وهو في اعتقادنا المدخل الرئيس الذي سيسمح لنا برصد علاقة الديني بالسياسي ظاهرة تاريخية لها تجلياتها وأسبابها ونتائجها في تاريخ الأمة وآفاق نهضتها وحدودها.
فقد حرص العقل الفقهي على إحداث تقسيم نمطي للأشياء تحول بفعل التوارث اللاتعدي بعبارة غير قابل للمساءلة مفاده أن الإيمان والعقيدة ظاهرتان كونيتان إنسانيتان مطلقتان. وأن التاريخ وحده قابل للدراسة فإذا، الدين نمط/ميثولوجي/ البيئة لا يفكر فيه وإذا السياسة حال حالة في التاريخ ودنسه.
وفيما تؤكد هذه السرديات أن التاريخ الإسلامي كان تاريخ الانحراف عن الأصل النموذج ومن هنا الإصلاح، نراها في مواضع كثيرة أخرى تتمسك بكون التاريخ الإسلامي كان دائما دليلا على أن الدين والسياسة لا ينفصلان. أو أن العلمانية ظاهرة مسيحية غربية لا جذور لها في الحضارة العربية الإسلامية.
تسكت السردية النهضوية التي تتعامل بطريقة معيارية مشروخة بين الدين والتاريخ او السياسة عن العلاقة القائمة على المحاينة بينهما. إن الدين «كان أحد عنصر نظام حضاري تجاوز المستوى الديني… ولم يكن التاريخ الفعلي لرسالة الدين ولا انحرافا عنها، بل كان جدلية معقدة بين عناصر عديدة ليس الدين إلا بعضها».
وعملية الحصر التأويلي في تاريخية هذه العلاقة الجدلية أكثر من ضرورية. فليس الدين ما انوجد في كتب الفقهاء ورواة السير والأخبار، إذ هو غير تلك الحكاوى النمطية البسيطة. إذ أن التاريخ السياسي نفسه جزء من تاريخ الدين، إذ أن الكثير من الاجتهادات السياسية الحادثة بفعل منطق الدولة كانت أكثر جرأة إذ تصرف الحكام متجاوزين في أحايين كثيرة نمطية التصور الديني الفقهي مثل «التوقف عن طموح ادخال الناس في الدين الحق، لأن هذا الطموح يتعارض واستقرار الدولة سياسيا وماليا».