عبدالله الجسمي
كاتب وأكاديمي كويتي
التطورات التي جرت خلال العقود الأخيرة على المستوى السياسي والفكري والاقتصادي ألقت بظلالها على واحدة من أبرز القضايا الخاصة لطبيعة المجتمع الإنساني الحديث والعلاقة بين مكوناته، ودفعت بعض المفكرين والفلاسفة لمحاولة إيجاد بدائل للأفكار التي تم التراجع عنها بعد نهاية الصراع الأيديولوجي بين الشرق والغرب في العقد الأخير من القرن المنصرم. وبرز مصطلح “التعددية الثقافية” على يد عدد من الفلاسفة أبرزهم تشارلز تايلور وويل كميليكا وغيرهما الذين سخروا الكثير من كتاباتهم للتنظير للمصطلح وتبيان أهمية تطبيقه في عالم اختلف عن سابقه. وإذا نظرنا لمصادر التعدد الثقافي في المجتمعات الحديثة سنجد هناك ثقافات تقوم على أسس عرقية وأخرى ذات طبيعة اجتماعية وثقافات ناتجة عن البيئة الجغرافية وبعضها إلى حد ما ذات بعد ديني أو مذهبي، بمعنى أن التعدد الثقافي الموجود في المجتمعات المدنية الحديثة تأتي أغلبيته الساحقة من واقع مجتمعات ما قبل الحضارة المدنية الحديثة.
المجتمع والدولة المدنية
كان للتحولات الكبرى في أوروبا، ومن ثم العالم، من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي المعتمد على الإنتاج الاقتصادي الصناعي في المدن التي توسعت بشكل كبير وأخذت تمثل الثقل الاقتصادي والسياسي وتمخض عنها الدولة المدنية الحديثة. ومجتمع المدينة هو مركز استقطاب لفئات مختلفة للعمل في المؤسسات الاقتصادية الحديثة كالمصانع والمعامل والمؤسسات التجارية والبنوك وغيرها فأصبحت المدينة مركزًا للتنوع العرقي والديني والثقافي والاجتماعي واستدعى ذلك العمل خلق بيئة تندمج فيها مكونات المدينة المختلفة تتجاوز فيها اختلافاتهم العرقية والدينية والثقافية وتخلق حالة من التعايش واحترام الآخر. وبرز نمطان لتحقيق هذا الاندماج الأول ثقافي والآخر فكري. فبالنسبة للأول، فهجرة الجماعات المختلفة إلى المدينة حملت معها ثقافاتها الخاصة ذات الطابع الفئوي ولا تجوز سيادة ثقافة معينة على البقية فذلك سيقود إلى الإقصاء وإلغاء الآخر، واستدعى الأمر أن تكون هناك ثقافة مختلفة لسببين، الأول يتعلق بوجود بيئة جديدة ومختلفة عن البيئات التي كان الإنسان يعتمد فيها على الطبيعة حيث تقلصت علاقة إنسان المدينة المباشرة بها إلى حد كبير جدًا، وأصبح هو الذي يصنع حاجياته ويطور مستلزمات واقعه، ووجود نمط اقتصادي جديد لا بد وأن تكون له ثقافته وهي من صنع الإنسان بالدرجة الأولى. والسبب الثاني هو لا بد أن تكون هناك ثقافة عامة تعمل كعامل توحيد للمكونات الثقافية المختلفة على الأقل في الأمور الأساسية المتعلقة بكرامة الإنسان والمساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص وتكريس مبدأ المواطنة الحقة بين جميع مكونات المجتمع وغيرها. برزت الثقافة المدنية، أي ثقافة المدينة، كمظلة جديدة تجمع تحت إطارها كافة مكونات المجتمع. ولعل الميزة الفريدة في هذه الثقافة أنها وحدت مكونات المجتمع المختلفة وفق قيم عليا سامية تحترم الفرد وكرامته وفي الوقت نفسه حافظت على الهويات والمعتقدات الدينية والمذهبية والقيم الاجتماعية لتلك المكونات التي تمارس شعائرها وطقوسها وتحفظ التعددية والاختلاف بين الجميع. وبذلك أصبح للثقافة المدنية اليد العليا في تنظيم المجتمع وقيمه ومفاهيمه وممارساته العامة.
أما العنصر الثاني الذي ساهم في تقليص الاختلافات الثقافية والعرقية والدينية فهو الجانب الفكري المتمثل في الأيديولوجيا. إذ شهد العصر الحديث ظهور الأيديولوجيا التي كانت عاملًا مهمًا في توحيد فئات مختلفة من شرائح المجتمع ومكوناته وتجاوزت فروقاتها الثقافية التقليدية ووحدت من ينتمي إليها على رؤية فلسفية معينة لتفسير الواقع والنظر في مشكلاته والعمل على تقديم الحلول لها وفقا لإطارها الأيديولوجي، وساهمت في خلق هوية سياسية تجاوزت في بعض الأحيان الهويات التقليدية. واستمرت الأمور منذ العصر الحديث وحتى نهاية القرن العشرين على هذا المنوال إلى أن انتهى الصراع الأيديولوجي العالمي بانهيار المعسكر الاشتراكي والدخول في العولمة، فتهاوت الأيديولوجيا كعامل فاعل في الربط بين مكونات المجتمع المختلفة. وتهاوي الأيديولوجيا وانحسارها بشكل كبير من الساحة السياسية والفكرية العالمية ساهم في إحياء الثقافات التقليدية والعرقية وعودة بعضها الآخر للأديان خصوصًا في الدول الشيوعية السابقة، فنجد دولًا تفككت على أسس عرقية كما حدث في تشيكوسلوفاكيا، أو عرقية ودينية كما حدث في يوغوسلافيا. في المقابل صمدت الثقافة المدنية في بداية الأمر لكن أخذت هي الأخرى بالترنح مؤخرًا نتيجة لأمور أخرى من أبرزها ظهور الاتجاهات الشعبوية والانغلاق الثقافي والمذهبي وتراجع الفكر السياسي والإنساني بشكل عام. في هذه البيئة ازدهرت أطروحات التعددية الثقافية وشرعت بعض الدول والمجتمعات بتطبيقها بينما وقفت أخرى ضد ذلك.
هل التعددية الثقافية مسألة جديدة؟
يقدم بعض من منظري التعددية الثقافية أفكارهم بطريقة وكأن لم يكن هناك تعدد ثقافي في الغالبية الساحقة من المجتمعات والدول، فالتعددية الثقافية أمر واقع وموجود منذ فترات طويلة. صحيح أن هناك مجتمعات أو دولًا يغلب على مجتمعاتها هيمنة عرقية أو ثقافة معينة على حساب الأطراف الأخرى تكون بحاجة إلى طرح التعددية الثقافية لكن معظم دول العالم أصبحت اليوم تقوم على الديمقراطية والتعددية وتعيش فيها الأقليات بشكل كبير، وأصبحت تتمتع باكتساب الجنسية وحقوق المواطنة والمساواة والمشاركة السياسية وتمارس طقوسها واحتفالاتها الثقافية والدينية ولم تفرض عليها ممارسات معينة قسرًا، بل يحق لمن ينتمي لتلك الأقليات، في الدول الغربية مثلا، ممارسة ما يشاء مثل الالتزام بما تمليه معتقداتها وقيمها شريطة أن لا يخالف ذلك القانون السائد في المجتمع والمطبق على الجميع، بمعنى أنه يوجد هناك حضور فعلي للتعددية الثقافية في تلك الدول لكنها كانت تمثل ثقافات فرعية مقابل الثقافة العامة السائدة في المجتمع والدولة وهي الثقافة المدنية. والدفع نحو تعزيز التعددية الثقافية وفق الأطروحات الجديدة التي تتجاوز وضعية التعددية الموجودة سابقًا يثير بعض التساؤلات مثل: هل التعددية الثقافية في معظم مجتمعات العالم القائمة على الحقوق المدنية والعامة لا تعطي الأقليات حقوقًا كافية للحفاظ على ثقافاتهم وهوياتهم؟ وهل الأطروحات الجديدة تشير إلى عدم قدرة الأقليات على الاندماج في المجتمع المدني ومؤسساته وتبنيّ ثقافته؟ هل المشكلة في بعض السياسيين والقوى السياسية أم الدساتير تجاه الأقليات؟ ماذا عن المواطنة في ظل مجتمع متعدد الثقافات؟ وغيرها من تساؤلات.
المشكلة في الدول التي تعيش فيها الأقليات، خصوصًا الغربية، ليست في النظم والدساتير، بل في القوى والأطراف السياسية التي تحاول الهيمنة على المجتمع لدوافع سياسية واقتصادية وعنصرية وتستخدم كافة الوسائل لتحقيق ذلك أبرزها الاعلامية. كمثال على ذلك ظاهرة الإسلاموفوبيا التي تتبناها الكثير من الوسائل الإعلامية التي تعبر عن موقف مضاد للإسلام والمسلمين عبر تعميم أية ممارسات فردية وإسقاطها على جميع المسلمين، وينسحب هذا الأمر على أية معتقدات أو أقليات أخرى. فالمشكلة بالدرجة الأولى سياسية وليست حقوقية أو قانونية ومعالجتها تقتضي تفعيل تطبيق القانون والحد من مظاهر التعسف والغبن والعنصرية ضد الأقليات وتعزيز قيم التسامح والتعايش واحترام الآخر. أما الدفع بمعالجة هذه المشكلة بطرح التعددية الثقافية الداعية لإحياء ثقافات الفئات المختلفة من مكونات المجتمع وتكريسها بشكل مؤسسي قد يأتي بمشكلات أخرى ويجذر في الوقت نفسه التفرقة والانقسام والعنصرية. فمن بين أبرز المشكلات، تسييس الأقليات، وقد أشرت إلى ذلك في مقالة سابقة، فباختصار شديد تتحول الأقليات إلى كتل تصويتية يتم استمالتها بمطالبها الخاصة وينتج عن ذلك تفاوت في مطالبها حسب ثقافاتها ومعتقداتها مما يؤدي إلى عزلها وعدم اندماجها في المجتمع المدني وانغلاقها ثقافيا وحتى اجتماعيًا مما يخلق ردات فعل من الفئات الأخرى المختلفة.
ثقافة في مواجهة ثقافات
المقصود من هذا العنوان الجانبي هو وجود ثقافة في أكثر دول العالم تقدمًا وهي الثقافة المدنية تسود بشكل عام في مجتمعاتها مقابل ثقافات في الأغلب تمثل ما قبل الحضارة المدنية الحديثة. وهناك تضاد في عدد من الموضوعات الجوهرية بين تلك الثقافة والثقافات الأخرى قد تسبب بعض الإشكاليات في التعامل مع الواقع وقضاياه والتعامل مع مكونات المجتمع الأخرى. ومن بين أبرز موضوعات التضاد، طريقة التفكير التي تعد مفصلية وتميز إلى حد كبير بين الثقافات. فطريقة تفكير الثقافة المدنية العامة تتسم بالواقعية والعلمية والعقلانية والموضوعية وتخضع كل شيء للبحث العقلي والعلمي وتتناول الموضوعات بطريقة موضوعية وتعمل على إيجاد الحلول العلمية والواقعية لها. في المقابل تختلف طرق التفكير السائدة في الثقافات التقليدية عن ذلك، فهي إما تستند إلى معتقدات معينة أو تعكس علاقة الإنسان بالطبيعة وتتميز بكونها سكونية وغير قابلة إلى حد كبير للتطور وتتسم بالغائية وتعبر عن الجوانب الذاتية وتفتقر للموضوعية وتنحاز إلى الشريحة التي تمثلها.
والتضاد الثاني يتمثل في طبيعة القيم التي تسود في الثقافة المدنية وما يقابلها في الغالبية الساحقة من الثقافات الأخرى. إذ تدعو القيم المدنية إلى التسامح والتعايش واحترام الآخر وتدعو إلى المساواة في الحقوق والواجبات والنظرة للإنسان وغيرها وهي ليست قيما فئوية أو تنحاز لفئة دون غيرها، بل هي قيم محايدة وتقبل التطبيق على الجميع، بينما تأخذ القيم في الثقافات التقليدية طابعًا فئويًا وتشكل منظومة مترابطة ومنغلقة يلتزم بها من ينتمي إليها ولا مجال يذكر للاختلاف بينهم، وتكاد أن تشكل، إن جاز التعبير، شخصية واحدة لكل المنتمين إليها. أما التضاد الثالث فيتمثل في طبيعة الحضارة المدنية الحديثة المادية، لكونها تقوم على العلم الذي يتعامل مع المادة وتطويعها، والقائمة على الإنتاج الاقتصادي الصناعي، والإنسان هو الذي يبدع ويطور وسائل الإنتاج ويبتكر ويخترع ويراكم المعرفة بشتى أنماطها. إذًا العلم والمادة والإنسان هم مصدر الثقافة المدنية التي تتميز بالديناميكية والتجدد المستمر. في المقابل نجد أن مصدر الثقافات التقليدية القديمة في الأغلب هو البيئة الجغرافية التي عاشت بها التجمعات السكانية المختلفة وشكلت لدى البعض عقائدهم وقيمهم وعاداتهم الاجتماعية وثقافاتهم بشكل عام. ومع التحول للعيش في المدينة لم يعد هناك وجود للعلاقة بين تلك الجماعات والطبيعة، وما تبقى من العلاقة هو مظاهر للعادات والقيم الأخلاقية والاجتماعية، ولم يعد مصدر الثقافة هو العلاقة المباشرة مع الطبيعة، بل الجماعة التي ينتمي إليها الفرد، أي مصدر اجتماعي فئوي تتوراث قيمه وعاداته.
ينتج عن أنماط التضاد السابق بشكل عام اختلافات جوهرية في النظر للواقع ومشكلاته وكيفية معالجتها وما هو شكل المجتمع والعلاقة بين أفراده. فطريقة تعامل من يتبنى الثقافة المدنية وطريقة الحياة الحديثة تختلف عن الثقافات الأخرى، إذ يتم استخدام الأساليب والأدوات العلمية في تفسير الواقع ومظاهره ومشكلاته وتقديم الحلول العلمية لها والتي عادة ما تتميز بالموضوعية والعمومية والتجرد ولا تقتصر على فئة معينة. فمشكلات مجتمع المدينة عادة ما تكون عامة وتتجاوز الثقافات والعقائد والأعراف المختلفة، فإذا كان هناك مثلا أزمة اقتصادية أو في النظام التعليمي أو في الأمن المجتمعي ستمس تلك الأزمات الجميع، والحلول لها لن تكون فئوية، بل عامة. وعلى الجانب الآخر يتم تناول المشكلات وتفسير الواقع ومظاهره وغيرها في الثقافات التقليدية بطريقة تفكير مختلفة، وتختلف في الوقت نفسه من ثقافة إلى أخرى، وتقدم حلولا فئوية لبعض المشكلات وتتميز باليقين الذاتي المفتقر للموضوعية، أو الأدلة والبراهين، وتقولب بطابع ثقافي معين لا يقبل التعددية أو الاختلاف. وهذه الطريقة لا تساهم في تقديم الحلول الفعلية للمشكلات لعدم وجود إجماع عليها خصوصا إذا كانت ناتجة عن رؤى وطرق تفكير تقليدية لا تعبر عن الحاضر ولا تستطيع التعامل مع المشكلات الكبرى الناتجة عن التقدم العلمي الحديث.
تساؤلات مشروعة
هنالك العديد من التساؤلات التي يمكن أن تثار حول مصطلح “التعددية الثقافية” والذي قد يأتي بنتائج سلبية بعكس التوقعات ربما للرؤية المثالية والمجردة لبعض الفلاسفة والمفكرين، وسيتم هنا استعراض عدد من التساؤلات حول المصطلح.
أول ما تجدر الإشارة إليه هو تساؤل جوهري حول طبيعة الثقافات التقليدية التي سادت في مراحل تاريخية سابقة تتعلق باستمراريتها والحفاظ على مكوناتها. فهل لا زالت الثقافات القديمة حاضرة كما هي وبشكل نقي أم أصابها الوهن وتغير العديد من قيمها وعاداتها؟ وهل الأفراد الذين يعملون على استمراريتها سيكونون كما كان أسلافهم تماما أم لا؟ الثقافة بما تحمله من مكونات تعبر عن بيئة معينة تنشأ وتزدهر بها قيم وممارسات وعادات معينة، وفي حال تبدل البيئة سيصعب إحياء تلك الثقافات تماما كما هي وبالتالي سيكون الإنسان مختلفًا أيضا عما كان عليه أبناء الثقافة السابقين، ومن يعتقد بأن إحياء تلك الثقافات يعيدها كما كانت فهو واهم. فهناك أفراد اندمجوا في الواقع الجديد الذي يعيشون به ولم تعد لهم صلة تذكر بثقافاتهم السابقة، بمعنى أن من تعود جذورهم إلى الثقافات القديمة لم يعودوا كتلة واحدة متجانسة كما كان الحال سابقًا، وما محاولة بعض الفئات للعودة لماضيهم الثقافي كما كان إلا نظرة رومانسية حالمة أو لرد الاعتبار للشعوب القديمة التي تعرضت للقمع والإبادة من قبل المستعمر لكن للأسف بعد فوات الأوان. وفي أحسن الأحوال سيتحول إحياء الثقافات السابقة إلى طقوس احتفالية تعيد ذكرى الأسلاف، وما إن تنتهي يعود الأفراد إلى واقعهم الحالي المعيش.
والتمسك بالقيم الثقافية القديمة أو إعادة إحيائها سيخلق حالة من الازدواجية لأن القيم الثقافية تعبر عن طريقة الحياة القديمة وتستمد قوتها من البيئة المادية التي أوجدتها والممارسات الاجتماعية الناتجة عنها، وفي حال قيام فئات أو شرائح بمحاولة إحياء طريقة الحياة التي اندثرت فستصطدم بالواقع الجديد وستكون هناك ازدواجية بين الواقع الذي يعيشونه والممارسات والقيم التي يحملونها، وستصطدم بشكل أو بآخر مع الفئات الثقافية الأخرى. ولنأخذ كمثال المهاجرين إلى المجتمعات الغربية، فعادة ما يتمسك الجيل الأول من المهاجرين بثقافته وبجوانب عدة من جذوره وربما يمتد الأمر إلى حد ما للجيل الثاني، لكن سنجد مع الجيل الثالث تغيرات قد تكون جذرية وتتلاشى إلى حد كبير الجذور الثقافية، في مقابل ذلك، وهو أسوأ ما يمكن أن ينتج عن التمسك الأعمى بالثقافات القديمة، ستتحول المسألة إلى نوع من العصبية، فالتمسك بقيم وممارسات لم تعد تتناسب أو يطبق معظمها في الواقع، هو نوع من التعصب لتلك القيم ومنظومتها الثقافية بشكل عام، وهذا سيؤدي إلى إقصاء الآخر والانعزال عن المجتمع. وللأسف نجد أحيانًا قليلة أفرادًا من الجيل الثالث من المهاجرين، أو ربما الرابع، يظهر بينهم التعصب لجذورهم الثقافية والعرقية بسبب ذلك، وتصل الدرجة أحيانا للقيام بأعمال عنف ضد من يعارضهم.
ويقدم بعض فلاسفة التعددية الثقافية طرحًا راديكاليًا يحدث انقلابًا في عملية الصراع التقليدي بين القوى المختلفة في المجتمعات الحديثة القائم على أسس التعددية الفكرية والأيديولوجية إلى صراع قائم على الاختلاف الثقافي، وشجع هذا التحول على التراجع الكبير للأيديولوجيا والفكر اللذين يتجاوزان الفروقات الثقافية والعقائدية والعرقية ويندمج في مكوناتهما الكثير من الأفراد الذين ينتمون إلى خلفيات اجتماعية مختلفة. في المقابل نجد أن الثقافات التقليدية ذات طابع فئوي وغالبيتها انعزالي ومنغلق على نفسه، والكثير من مضمونها، إن لم يكن كله، غير قابل للتغيير أو التحديث لأن التغيير سيقضي عليها والتحديث قد يفقدها جوانب كثيرة من جوهرها. وتحول الصراع من فكري إلى ثقافي فئوي سيترك آثارًا سلبية جدًا على المجتمع وأحيانًا كيان الدولة. فالأفكار من صنع الإنسان الفرد وتجديدها أو تغييرها أو التخلي عنها وارد في مراحل تاريخ البشرية المختلفة، بينما الثقافات جاءت بشكل جماعي وكنتاج لعلاقات اجتماعية مشتركة، وساهمت البيئة الجغرافية مثلا في تكوين الكثير منها. وعلى الرغم من طول المدة الزمنية التي نشأت بها تلك الثقافات إلا أن بعضها لا يزال فاعلًا في بيئته كالثقافة الريفية والقبلية وبعض الثقافات العرقية. وتحول الصراع والاختلاف من فكري إلى ثقافي سيؤثر سلبا على جوانب عدة منها المواطنة التي ستخضع لعدد من جوانب التمييز لبعض الفئات وتدفع إلى تشظي، وحتى تفتيت المجتمع، وتدفع بتعدد الهويات التي قد تخلق صراعات على الهوية، وتقود أيضا إلى تفشي ظاهرة الشعبوية المنتشرة حاليًا في العديد من البلدان الغربية وحولت الصراعات السياسية إلى ثقافية وعرقية ودينية تتعلق بالمهاجرين.
ولعل الأمر الأخطر للتعددية الثقافية الراديكالية في بعض الدول هو تحول التجمعات الثقافية إلى دولة داخل دولة. فهناك بعض الدول المتكونة حديثًا أعطت السكان الأصليين -تكفيرًا على ما اقترفته من فظائع وإبادة في حقهم- أشبه ما يكون بالحكم المستقل حيث سمحت بتشريع القوانين المستمدة من قيمهم وعاداتهم وثقافتهم في الأقاليم التي يتواجد بها أعداد كبيرة منهم، فأصبحنا أمام مجتمعين متوازيين، أو أكثر، تختلف القيم والقوانين لا على أسس مدروسة أو موضوعية أو مصالح عامة، بل تتحول إلى أقاليم فئوية قد تنعزل عن بقية الدولة.
وهناك مسألة أخرى تتعارض مع روح الثقافة الإنسانية التي جاءت منذ عصر النهضة وتبلورت في العصر الحديث وهي الثقافة القائمة على الفرد، وتعد على النقيض من طابع الثقافات السابقة عليها التي كانت تقدم الجماعة على الفرد. فإحياء الثقافات التقليدية سيعيد إلى حد كبير جوانب عدة من هيمنة الجماعة على الفرد وتحد من استقلاليته. إذ إن الاندماج في الجماعة يحتم على الفرد الخضوع لمنظومة قيمها الثقافية ورأيها الجماعي والعمل في إطارها وتكريس اهتماماته ونشاطاته لها والنظر لمشكلات الواقع من منظورها الثقافي. وقد ينعكس ذلك على الموقف من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية حيث تتخذ الجماعة موقفًا موحدًا في أغلب الأحيان مما يعيدنا إلى سياسة القطيع التي تخضع الفرد لسلطة الجماعة، أو لسلطة فئة منها، وهذا ما يتعارض مع التقدم الحضاري الذي قام على استقلالية الفرد واحترام كيانه وحقوقه وحريته.
ما الحل ؟
يجب أن لا يفهم من العرض السابق بأن كاتب المقال معارض للتعددية الثقافية لسبب مهم وهو، أنها أمرٌ واقعٌ منذ فجر العصر الحديث، لكن ما يتم الاعتراض عليه هو تحولها إلى بديل عن الثقافة والفكر اللذين جاء بهما عصر النهضة والعصر الحديث، مما قد يحول المجتمع والدولة إلى قطع فسيفسائية لا يوجد ما هو مشترك بينها. فالتعددية الثقافية تدفع إلى التساؤل حول موضوع الانتماء، أي لمن ينتمي الإنسان؟ للوطن وكيانه أم إلى شريحة اجتماعية أو عرقية أو مذهبية؟ لا بد أن تكون هناك مظلة تجمع المواطنين تحت عباءتها يتجسد فيها انتماء الإنسان الأول لوطنه، ومن ثم تأتي الانتماءات الفرعية بالدرجة الثانية أو الثالثة. فلقد قامت الحضارات القديمة على أسس عرقية أو دينية بحيث يطغى الجانب العرقي أو العقائدي على أية انتماءات أخرى. لكن الحضارة الحديثة جاءت بكيان مختلف للدولة الوطنية الحديثة ذات البعد المدني وهو كيان محايد وموضوعي لا يهيمن عليه طرف تحت أية ذريعة ويستدعي وجود ثقافة ينتمي إليها المواطنون وتوحدهم وهي ذات قيم محايدة وغير منحازة لأحد ويتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات وتتضمن طرق تفكير خالية من التعصب وتستند على العلم والعقل، ولا شك بأن الثقافة المدنية هي ثقافة كيان الدولة والمجتمع الحديث التي تعد الرابط الذي يوحد الجميع ويكرس الانتماء الوطني ويعزز من قوة المجتمع والدولة، فالانتماء للوطن هو الأصل.
وهنا يمكن وضع حد للتعددية الثقافية التي لا بد وأن تقتصر على الجانب الاجتماعي فقط ولا تتجاوزه إلى جوانب سياسية واقتصادية وإدارية ومؤسساتية وقانونية، فالجانب الاجتماعي هو الذي يحدد ثقافة فئة ما وإذا امتدت خارج هذا الإطار ستحدث تشظيًا في المجتمع. كما يجب الأخذ بالاعتبار ضرورة تحديث الثقافات التقليدية عبر إخضاعها للتفكير العقلاني والنقدي من أجل استبعاد ما هو غير مناسب ولا يتماشى مع الواقع الثقافي المعاصر، والإبقاء على ما هو إيجابي منها، وتحديث ما يمكن أن يتحدث فيها. بهذه الطريقة يمكن حماية الثقافات المختلفة عبر تطويرها، أما إحياؤها كما هي، فذلك لن يتحقق على الإطلاق خصوصا إذا كانت ثقافاتٍ قديمة، فهذا ما سارت عليه البشرية، وستستمر مسيرة التحديث والتجديد مستقبلا.