نشرت مجلة «الأدب العالمي اليوم» الأمريكية في عددها المخصص حول الأدب العربي, مقالا حول الشعر في شبه الجزيرة العربي ة, يطل منه الناقد السعودي المعروف على جزء من المشهد الشعري في هذه المنطقة.. هنا ترجمة للأجزاء الأساسية للمقال.
واحدة من أروع تشابهات معاني الكلمات في الشعر العربي هي تلك الكلمة التي تحدد الوحدة الأساسية في القصيدة وهي «البيت» وهي السطر الشعري المقسم إلى شطرين. وبالنسبة للعرب القدماء في الصحراء أو البدو الرحل الذين لا يزالون بيننا, فإن البيت أساسا هو الخيمة وهذه حقيقة توضح لماذا اختار عالم اللغويات الخليل بن أحمد – الذي وضع الأساس لعلم العروض في الشعر العربي – الخيمة كمثال عليه. بعد ذلك قام المثقفون بتجميع هذا النموذج المحلي عن طريق مناقشة تطور الفكرة الرئيسية لشكل الشعر الكلاسيكي و هو العمود (وهو الذي يسند الخيمة). وحتى الآن فإن مصطلح «الشعر العمودي» يشير إلى المقاطع الشعرية التي تكون على شكل عمود, ويطلق ذلك على جميع القصائد التي تعتمد على البيت كنواة للقصيدة.
ولا يمكن حاليا تمييز الأبعاد الدلالية والشعرية للبيت بسهولة, ليس لأن الخيمة القديمة قد اختفت فحسب, بل أيضا لأن القصيدة الحديثة قد استبدلت البيت بسطر شعري ذي جذور ثقافية غربية مختلفة. إن التحول التدريجي في الثقافة العربية منذ القرن الثامن عشر قد خل ف أثرا عميقا في الشعر العربي. ولقد اكتسب هذا التغيير دفعا جديدا عند منتصف القرن العشرين, فحينها شهدت البنية المعهودة للقصيدة الكلاسيكية مرحلة مراجعة شاملة ونهائية مما أوجد نموذجين رئيسيين: أحدهما يحتفظ بالخصائص الأساسية للبنية الكلاسيكية والآخر يكسر ذلك النمط لتشكيل ما يسمى بالشعر الحر. وقد حدث هذا التغيير الأخير تحت تأثير تيار الثقافة الغربية, والذي تم من خلال الشعراء والنقاد الذين إما هاجروا إلى الغرب أو درسوا الأدب الغربي في بلادهم, والذين قاموا بدورهم بنقل معرفتهم الغربية إلى الآخرين.
ولقد بدأت هذه التغيرات الهامة أولا في مصر ولبنان والعراق, ولم يمر وقت طويل حتى تبعتها بقية أجزاء العالم العربي. وبالطبع فإن هذه التغيرات لم تمر دون الكثير من التحديات, فقد رافقها رفض شديد مما أثر بالتغيير والتعديل على المنتج الشعري. كما أن معركة الكتب التي تليت ذلك ركزت بالتأكيد على أكثر من مجرد تفاصيل لعلم العروض, بل كانت معركة حول المفاهيم والقيم الثقافية الأساسية. فقد اعتبر الكثيرون التلاعب بالقصيدة تلاعبا بجوهر الثقافة, وانتهاكا للمقدسات, بمعنى أن التغيير لا يمس بيت الشعر فحسب, بل بيت الثقافة بأكملها. وعلى الرغم من حقيقة أن أوائل الشعراء الحديثين في الأربعينيات والخمسينيات لم يتعدوا على الوزن الشعري, بل أن كل ما كانوا يسعون إليه هو التحرر من البيت كوحدة مستقلة داخل القصيدة, ويستبدلونه بالسطور المتتالية مما يعطي الشاعر فضاء أكثر للحركة, فقد اعتبر الكثيرون هذا تعديا كبيرا على مكون أساسي من مكونات الهوية الثقافية العربية. وفي هذا الإطار تروى قصة مفادها أن عباس محمود العقاد الناقد المصري كان يرأس لجنة الشعراء في مسابقة وطنية في الخمسينيات, فرفض قصيدة كتبت بالشكل الشعري الجديد, حيث أصر على أنها من اختصاص «لجنة النثر» بدلا عن الشعر.
والطريف في موقف العقاد أنه نفسه كان جزءا من موجة سابقة للتحديث أدخلت, من بين أشياء أخرى, نكهة رومانسية غربية في ميدان الأدب العربي. ونتيجة لجهود أشخاص مثل العقاد فقد أصبحت مصر بلادا قيادية في عملية التحديث التي اجتاحت العالم العربي, وهي عملية كانت تعني اعتناق النماذج الغربية كأساس لمجالات متعددة في الحياة الثقافية والاجتماعية. ومقاومة الشكل الشعري, في الوقت الذي يتم فيه قبول أشكال أخرى من الثقافة الغربية, هو من الأمور المدهشة التي تحمل الكثير من الدلالات, وهو أمر ما يزال مستمرا في جوانب حياتية عدة في الدول العربية. وإذا كانت المفارقة واضحة في بلدان مثل مصر والتي كانت قريبة من النماذج الغربية في مجالات ثقافية مختلفة, فإنه يسطع بدرجة أكبر في أماكن مثل شبه الجزيرة العربية والتي ظلت لوقت طويل بعيدة عن التأثير الغربي.
وتعتبر شبه الجزيرة العربية مهد الثقافة العربية من الناحية التاريخية. وعلى مر القرون ظل هذا المكان هو الذي يعطي لكلمة «عربي» أصلها اللغوي ودلالتها. وعندما أخذت الحداثة في هز أركان الحياة الخاملة في شبه الجزيرة عند النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظلت الهوية العربية محتفظة بكل قوتها, وهو أمر ندر وجوده في أي مكان آخر. وإلى يومنا هذا يصعب تغيير العديد من الظواهر الاجتماعية والثقافية في الحياة في الجزيرة العربية التي تستعصي على التغيير الشامل. وان نظر أحد ما إلى المظهر الخارجي التقليدي وهو الزي التقليدي, أو إلى الأنماط التي تميز بشكل كبير الهندسة المعمارية, أو إلى مستوى الثقافة الشفهية الأعمق فإنه يجد أن المشهد يوحي بدفاع, يصاحبه القلق, عن بقايا الهوية العربية. إن الزوار الجدد للمملكة العربية السعودية أو إلى أي من الدول الخليجية الخمس لابد وانه سيندهش من هذه المفارقة التاريخية, والتي يزداد وضوحها وطرافتها حينما يتأمل المرء في الجانب الآخر من العملة, أي الدرجة العالية نسبيا من التحديث التي وصلت إليها هذه البلدان في العديد من قطاعات الحياة الأخرى.
ومن المناظر المألوفة في المدن الحديثة في دول الخليج الأسلوب المعماري اللافت للنظر والذي يدمج أسلوب الفيلا الغربية والخيمة التقليدية في المنتصف. وعادة ما تستخدم الخيمة بشكل رئيسي كقاعة استقبال, تماما كما كان الحال في حياة البداوة. ويخلو هذا المزيج من أي تضارب, كما هو حال الوجود المشتت للأدب الفلكلوري, وعلى الأخص الشعر البدوي الشفهي في برامج التلفاز الحكومي ومحطات الإذاعة. ولا تعد هذه الإبداعات المعمارية والتقنية تهديدا كبيرا للهوية العربية الثقافية, حيث أن روح التسامح ورحابة الصدر لا تشمل تحت عباءتها التغيرات التي قد تمس جوانب كاللغة. ويبدو الأمر وكأن البيت يجب أن يبقى مصانا ليس ذلك الذي يعيش فيه الناس, بل حيث يتبادلون فيه وجهات نظرهم في الحياة.
وعلى أية حال فإن هذه المعارضة الشعبية لم تمنع الشعر في شبه الجزيرة العربية من تبني عدد من الأشكال الحديثة, أو من العثور على جمهور يتقبل ذلك. والمعارضة التي واجهت الشعر الحر أو التفعيلة في بداية أمرها وصلت إلى عداوة ليس لها مثيل في حالة القصيدة النثرية, إلا أن هذا الأسلوب المثير للجدل قد نجح في ضمان موقع بارز في النتاج الشعري في عدة بلدان في المنطقة. والشيء المثير فعلا النجاح الذي وصلت إليه الحداثة لم ينجم عنه تقدما غير مراقب, بل كان في اغلب الأحيان مصحوبا بموقف تعديلي. وبدلا من التمتع بنجاحاتهم, وجدت الشخصيات البارزة في الحركة أنه من الضروري مراجعة مواقفهم, وذلك بتكييف إبداعاتهم لتناسب الثقافة المحلية. وفي أكثر الأحيان لم يحدث هذا لأسباب عملية وواقعية, بل بسبب الارتباط الأصيل بتلك الثقافة المحلية. وهذا الوضع المثير هو الذي سأتحدث عنه في الملاحظات التالية. وهدفي هو رسم صورة للتوترات التي أنتجها التحديث في الشعر المعاصر في شبه الجزيرة العربية. وكالمعتاد فإن طرائق التحديث وتناقضاته قد أملت علي اختياراتها الخاصة, ولا ريب أن الصورة النهائية هي صورة أكثر انتقائية مما كنت أود تقديمه. ولا ريب انه لا يجب اعتبار الأمثلة المختارة هي افضل الموجود, بل أنها تمثيل على النقاط التي أود مناقشتها فحسب.
والشعراء الذين سأشير إليهم هم على وجه العموم الذين ظهروا في السبعينيات. أما من ينتمي إلى أجيال اقدم فلم يواجهوا أي مشاكل في استمرارهم في استخدام الأنماط التقليدية للتحدث عن مواضيع كلاسيكية أو رومانسية. ونستثني من بين هؤلاء الشاعر اليمني عبد الله البردوني (1922-1999), والذي جاء بمزيج نادر من النمط الشعري التقليدي ومواضيع وبنى شفوية حديثة على نحو مذهل. ولكن لا دليل على أن البردوني قد عاش أزمة هوية تشابه تلك التي يعاني منها الشباب من جيل الحداثة قبل أن ينتجوا أفضل أعمالهم.
وهناك حالة مختلفة بعض الشيء هي حالة الشاعر عبد العزيز المقالح الذي ينتمي إلى جيل انتقالي ما يزال يمارس تأثيره في كافة أنحاء شبه الجزيرة العربية. وقد حقق مقاما رفيعا بتبنيه, في ميداني الشعر والنقد, للاتجاه الأدبي الحديث في العالم العربي, وفي اليمن على وجه الخصوص. وقد توقفت حداثته الشعرية على الرغم من ذلك عند الشعر الحر, بعد أن كتب الشعر العمودي في بداياته. أما حداثته النقدية والنظرية فتتضمن مناقشات عن قصيدة النثر, فيدافع عن شرعيتها, باعتبارها جزءا من حرية الشاعر وحقه في التجريب.
وفي مقالة نشرت في المجلد الأول للدورية الأدبية اليمنية (أصوات) في عام 1993 حدد المقالح المرحلة الحالية للشعر العربي بأنها مرحلة الشعر الأحدث, ذلك النوع من الكتابة الذي يحاول تجاوز الأشكال الشعرية, التقليدية والليبرالية,التي قد تعودت عليها اللغة العربية (اصوات31).
وفي كل هذه القصائد تقريبا, أي المبكرة والجديدة, فإن هذا الشاعر اليمني يحركه نفس الدافع: الكفاح اليمني لمجابهة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تواجه جهود البلاد للانضمام إلى العالم الحديث, سواء باستناده إلى الماضي الغني لليمن السعيد نفسه, أو إلى التراث البارز الذي يشترك فيه كل العرب, ويشمل تراث مناطق بعيدة كالأندلس. فيتحدث الشاعر عن واقع مأساوي ليس في اليمن وحدها ولكن في كل مناطق العالم العربي:
طوفان يخرج من جسد الوطن الملتف بأعلام شتى:
هذا علم يتوسطه سيف
علم يتوسطه قبر
علم يتوسطه برميل
علم لا يتوسطه شيء
يا وطن الخيبة: هذي جثتك المسمومة
( مواقف, 129)
ويستدعي هذا التعدد في الشعارات بقوة التعدد المؤلم في الهويات, ومتاهة الولاءات السياسية التي تبعث على الدوار, والتي لا تؤدي الا إلى احباط توق العرب التاريخي للوحدة. وهي حالة تجزئة وضعف حدثت في العصر الحديث نتيجة لتاريخ استعماري غربي طويل. وكانت تجربة الحداثة مرعبة من وجهة النظر هذه. إن الضيق الناتج يلخص على نحو مؤثر, وان يكن من وجهة نظر اخرى في قصيدة شاعر يمني أصغر عمرا هو عبد الودود سيف:
اسألونا عن الشجن المتأله في عرش أشلائنا:
هل سنبقيه في شفة الصمت
حتى انهيار جدار الجليد
– على الأرض –
أم هل سنلقيه في برق أول مرثية
قد تحط على سمعنا?
(أصوات, 26)
وهذه معضلة أمة فقدت ما يميزها من خصائص. هذه الأمة التي تبدو وكأن ليس لها وجود, «اننا ننتمي ربما للذي ليس يشبهنا / ليس نشبه هذا ولا ذا» (أصوات, 27). هذه الأسئلة حول الهوية ليست فلسفية كليا, فالهموم الثقافية والاجتماعية والسياسية تلح بقوة ولا تسمح بترف التأمل الفلسفي.
ويعتبر عبد الودود سيف واحدا من عدد من الشعراء اليمنيين الذين قبلوا مغامرة التجريب بكتابة التفعيلة بالإضافة إلى القصيدة النثرية في بيئة تسودها الصيغ الشعرية المحافظة. وفي هذا لم يكن أمامه إلا أن يواجه هجمات قوية من أولئك الذين طبقا لما يقوله المقالح يعتبرون الشاعر الحداثي زنديقا في دينه ولغته (فاضل, 394). والهجمات على جهود التحديث منتشرة في شبه الجزيرة العربية. وتتفاوت الردود عليهم, مع وجود قاسم مشترك لدى الجميع وهو أنه لا يمكن ببساطة لأحد أن يتحمل النتائج, التي قد تكون خطيرة أحيانا, وتهدد كلا من الأشخاص أنفسهم ومصدر رزقهم. ولكن الضغط السياسي لم يكن الدافع الوحيد وراء مثل هذه الوضع, بل أن التراث الثقافي الذي يحمله كل شاعر كان قوة تدفع مشروع التحديث بالإضافة إلى الحاجة الملحة للوصول إلى جمهور قراء الشعر. وهكذا فإن قضايا التبعثر السياسي وتأثيرها على الهوية التي رأيناها في الشاعرين اليمنيين توجد تقريبا في كل مكان في بلدان شبه الجزيرة العربية, غير أن الردود على تلك القضايا ليست متشابهة أبدا.
ويعتبر علي الدميني أحد شعراء الحركة البارزين, وهو من المنطقة الجنوبية الغربية, وهي منطقة مشابهة في طبيعتها الجغرافية لليمن. وانتقل الدميني في الستينيات إلى المنطقة الشرقية, حيث يتم إنتاج النفط, ليجد نفسه بعد ذلك محاصرا بالهموم والتي لا تختلف عن تلك التي تظهر في شعر عبد الودود سيف في اليمن:
سيدي
سيدي المتخفي بذيل القميص
هل ستخجل أنك أصغر من كل هذي الجراح
أم ستضحك في السر
حين يضمك صدقك
بين الرطوبة في السقف
والوحدة الأبدية في الليل
بين دراهم من يملك الأرض
أو يتسلى ببيعك صوت الريح
حين يجهدك الناس
أو يجهد الناس أمري
أتلمس صدري أفتشه
هل تبقى به نورس أخضر
وبلاد صغيرة
أترى حطت الطير فيه بكارتها بعد?
أم ضرب البدو فيه الخيام?
(رياح المواقف, 51)
وخلف هذا التكتم والألم تكمن جرأة قرار الشاعر لجلب التوتر إلى بيت الشعر. انه «متهم بالعصافير / واللغة النازفة» (رياح, 50).
وفي نفس الوقت فإن مغامرة الشاعر إلى الحداثة ليست تمرينا على الماسوشية, بل تقبل للمسؤولية. وهو واع بأن هناك «شارع يحتمي بك في حمأة الشمس / والريح تلجأ نحو ذراعيك» (رياح, 50). ولهذا يصبح الأمر في غاية الأهمية لديه أن يجد لغة تستطيع الوصول إلى تلك الحقيقة الطبيعية الانسانية بدون أن يضحي بسعيه إلى التحديث. ومن أحد الخيارات هنا أن تخلق قصيدة تحتوي على عناصر الثقافة المحلية من خلال لجوئه إلى الفلكلور والتراث المشترك. فقصيدة الدميني التي اقتبس منها المقطع السابق تحمل على سبيل المثال عنوان « يسألونك عن الساعة», وهو عنوان مستمد من القرآن الكريم يشير إلى يوم القيامة. وبالنسبة للشاعر فهي تعتبر ساعة تحمل آثارا مختلفة ولكن «التغيير» و»الحقيقة» تبدوان بارزتين. وللشاعر مهمة قيادية, ولهذا السبب ي سأل عن الوقت. أن حقيقة أن الزمن ليس زمنا دينيا تظهر في نهاية القصيدة حيث يشير المتكلم إلى نفسه بأنه لم يفقد الطريق ولكنه لم يجد الطريق الصحيح بعد وهذه معضلة حقيقية حديثة.
وهناك استراتيجية أخرى للتعامل مع مثل هذه الحالة تتمثل في استخدام الفلكلور, وهذا يتم باستخدام تعبيرات من اللهجة العامية, وكذلك بحقن النص بنماذج من الشعر الشفهي, أو بمجرد استدعاء حياة البداوة الرعوية في بيوت الصحراء. ونجد هذه الاستراتيجيات في شعر الدميني وعدة شعراء آخرين في السبعينيات والثمانينيات في المملكة العربية السعودية ودول الخليج (على الرغم من أنه يبدو قد اختفى من قصيدة النثر الحديثة المدينية في التسعينيات). ومن بين الشعراء الذين يستعملون هذه الاستراتيجية الكاتب البحريني علي الشرقاوي والشاعرة الكويتية سعدية مفرح والكاتب العماني سيف الرحبي. ويتميز الشرقاوي بشهرته كشاعر ضليع في كل من العربية الفصحى واللهجة البحرينية. وهو بارع في الحالين, ولعله أبرع في اللهجة المحلية, وفيهما يستخدم كثيرا التراث الشفوي الذي يعرفه الجميع, وعلى الاخص الاميين من المستمعين. وتمتد حداثته أحيانا في بعض الأوقات إلى قصائد مرهفة وحيدة الصورة كما في «الصحراء».
تسن القوانين للبحر
تسحب زرقته
وتلوثه بالحصى المشترك
رمال
تعد الشباك
لتصطاد ماء السمك
(مائدة القرمز, 107)
وما يزال ظهور مثل هذه الشطحات في الحداثة, محددا دائما بتركيز دقيق إلى الإيقاع التقليدي وإدراج العبارات العامية والتي أصبح العديد منها أغاني شعبية في منطقة الخليج العربي.
وتعتبر الحداثة الوصفية من الميزات البارزة في أعمال الكويتية سعدية مفرح وخاصة في إصداراتها المبكرة. ومن قصائدها في مجموعتها الأولى « اعترافات امرأة بدوية». وهو نص ركز كليا على تراث مشترك بين الشاعرة وجزء كبير من العامة في مجتمعها. حيث تعلق الاعتراف بإحساس الشاعر بالانشقاق ما بين الحداثة المدنية التي ولدت بها وبين ثقافتها البدوية التي لا تستطيع إنكارها كجزء من ماضيها. و عندما «تعج بصدري رياح التغيير» تقول بأنها تتذكر الخيمة البدوية «والبيت المصنوع من الشعر» كان هو أخر الحالمين,(33) وتفاصيل مثل هذا البيت جميعها متعلقة بالجسد «في لون عيني لونه / تمتد أوتاره ضاربة في ثنايا الفؤاد ساخرة»(33). وفي مثل هذه اللحظات من التعريف تشتاق إلى رائحة لم تزل / رغم كل عطور التحضر / لاصقة بخلايا ثيابي»(34).
وبعد عقد واحد يظهر عمل سعدية مفرح الجديد ليبتعد عن هذه الذكريات الشديدة الألم بشكل جوهري وموضوعي. وبرعت في شكل القصيدة النثرية الذي تبنته لتوضح أمور الحداثة والمدنية, عن طريق سلسلة من الاستعارات المعقدة والتي تشابهت مع ما كتبه الكاتب سابقا. وإلى الآن, فليس من الصعب الإحساس بالاهتمام القديم في قصيدة قصيرة مثل الفورلورينس (في مجموعة مجرد مرآة مستلقية, 1999). وهنا تتجلى حالة تناقض: فالفراغ وترك البيوت والشوارع القديمة والتي ينبغي أن تكون مكتظة, تجبران الشاعر إلى اللجوء إلى الصحراء العميقة الواسعة: «يا لوحشتها في فضاء المدن التي تعرض وتطول شوارعها بسرعة / والطائرات التي تطير على بعد منخفض» (34).
وبتسليط الضوء على مشهد مماثل, ولكن أكثر مباشرة إلى الصحراء, يخاطب الشاعر العماني سيف الرحبي الربع الخالي المجاور, رهبة الصحاري الأكثر توسعا وإلهاما في بلاد العرب:
؛نحدق في ظلامك الغزير
نستجدي هداياك الغامضة
أشلاءك المبعثرة في تخوم بعيدة
كانت مأوى لشريد
وحكمة لضلال محتشد بوعوله.
(يد في آخر العالم 9).
ولم تمنع تجارب الرحبي الحيوية في الشعر, والتي وضعته منذ البداية على الطريق نحو قصيدة النثر, من إطلاق النقد على الحداثة سواء في شعره أو في المقالات التي كان يكتبها كمحرر للمجلة العمانية الأولى «نزوى». وفي قصيدة من مجموعته الحديثة ينظر باتجاه البيت فقط ليجد الناس الذين ينتمي إليهم, الذين هجروا جمل الصحراء, وقد أصبح مباعا بصورة عمياء لـ»جمل التقنية» لأن هذا أصبح مشهورا جدا في الأسواق الاستهلاكية. إن إحباط التقنية هذا هو الحافز وراء البحث عن مأوى في الصحراء. ولكن الشاعر غير ثابت في بحثه. ففي إحدى مقالاته ينظر إلى الربع الخالي ويراه «تغير من منطقة جغرافية محدودة إلى مجتمع رمزي ينشر الوحشية والفراغ والخسارة والتي لم يجد الجيل الجديد ملجأ منها سوى باللغة» (حوار الأمكنة والوجوه, 43). واستياء الشاعر من الثقافة الغربية وتوثيقه لفشل العقل المثقف كدليل على عجز الثقافة, يجعله ليس بعيدا من التذبذب الذي أعلنه نظيره السعودي الدميني بيد أنه لم يفقد الطريق وبيد أنه لم يجد الطريق الصحيح بعد.
وتدخل هذه المعضلات الفكرية اتجاها آخر في حالة الشاعرات النساء والتي ترى بأنها انغمست في أنوثتها ضمن مجتمع يفرض قيودا صارمة من السلوك والتعبير للأنثى. والأمثلة على هذه الحالة كثيرة في بلاد العرب الحديثة: مثل أشجان الهندي من المملكة العربية السعودية وميسون صقر من دولة الإمارات العربية وحمدة خميس من البحرين وسعدية مفرح من الكويت. والذين أشرت إليهم هم فقط أربعة أمثلة من بين العديد من الأسماء التي يمكن إدراجها في هذا السياق.
وفي قصيدة «جريان في مادة الجسد, 1992» في مجموعة تحمل العنوان نفسه تنظم ميسون صقر احتجاجا جريئا ضد البيئة الاجتماعية التي بالكاد تتحمل الحرية النسائية. وتجيء ذروة القصيدة في النص تجاه النهاية. سلسلة من التناقضات تساهم في إضفاء الفرح الجمالي عند قراءة هذا النص.
نصف جسمي مشلول في الحركة
وساكن نصفه الآخر
لا يحلم سوى بالنصف المطفأة فيه دائما
وساوس الانتحار
أشعلت حريقا في غرفتي
علني أنقذ أمومة تسيل
علني أحرق وطنا من الورق المقوى
وأسقط محترقة – فاحمة
النار حميمة بي
شغوفة بلسعها لأناي
والإشارة المتناقضة إلى النار الحميمة تشبه على حد السواء الصحراء العميقة في قصيدة الشاعرة الكويتية سعدية مفرح. وتشكل كل من النار والصحراء حصنا ومأوى كما وضعها الشاعر العماني سيف الرحبي ضد الأعمال الوحشية للسيطرة الاجتماعية المفرطة.
ومن ناحية أخرى فإن هذه الصورة تحمل أهمية لا يمكن للترجمة توضيحها. وإن النتيجة الأكثر وضوحا أن البلاد هشة ولكن وجود الورقة في الأصول العربية يفتح فضاء للكتابة كمخرج للكبت المحلي وهي موجة مشابهة للتي وجدت في شعر سيف الرحبي.
إن البلاد الورقية في قصيدة صقر والبلاد الصغيرة في قصائد الدميني وخيمة الصحراء في أعمال مفرح كلاهما اختلافات لاستمرارية الأمل والأوهام. ويبدو واضحا جدا أنهم كلهم متعلقون ببيت الشعر. وأن الشعر أو الكتابة أو الأدب عموما استمر هكذا في العديد من الثقافات المختلفة. وهو يشكل المدن الخام التي نعتقد ونموت فيها. كما وضعها أودين في مرثيته المشهورة على بيتس. والاختلاف يظهر في الشكل المعين الذي تنتهجه كل ثقافة أو عمل فردي في تنويع التعبيرات والصور والاستعارات..الخ والتي يصاغ فيها.
ومن شعراء الحداثة البارزين في المملكة العربية السعودية محمد الثبيتي, حيث يضع صورة رائعة للمأوى الفني في قصيدته «تغريبات القوافل والمطر». وتظهر الوطن وكأنها شراب قدم إلى مجموعة من المسافرين البدو الذين توقفوا للراحة. وحتى تكتمل هذه الراحة فلابد من صوت الربابة وهي الآلة الوترية المستخدمة من قبل بدو العرب بالدرجة الأولى في خيمهم في الصحراء. ويسأل عراف العشيرة أن يتنبأ حول مستقبل هذه المجموعة وهم يحاولون إيجاد طريقهم في الصحراء اللامتناهية. وهذا العراف يمثل الشاعر نفسه كما هو واضح للقارئ.
أدر مهجة الصبح
صب لنا وطنا في الكؤوس
يدير الرؤوس
وزدنا من الشاذلية حتى تفيء السحابة
أدر مهجة الصبح
واسفح على قلل القوم قهوتك المرة المستطابة.
(التضاريسي, 50- 51)
إن صورة صب الوطن في كأس تعود بنا إلى كأس كاتيس المشهور والذي هو «مملوء بالجنوب الدافئ». غير أنه يختلف عنه اختلافا واحدا كبيرا حيث أن الشاعر العربي يريد أن يشرب الشراب ليفيق بدلا من أن يكون أداة تخدير له. وعموما فإن الشراب هو القهوة «على الرغم من أن الحجة عكس ذلك إذ أن كلمة القهوة في العربية يقال بأن أصلها أوروبي وهي تعني الخمر سابقا. «
سعد البازعي
ترجمة: عيسى الشيباني