ما هو الجيل؟ سؤال يتواتر عادة في حقول التاريخ والثقافة والنقد الأدبي حين يتعلق الأمر بمقاربة قضايا التغير والاستمرار، اعتباراً من أن تتابع الأجيال أدعى إلى فرز التراث وابتداع الجديد، ما يشي بتعاظم الحاجة إلى أجوبة متجددة حوله.
وفي محاولة لمقاربة هذا المفهوم تطمح المساهمة هنا أن تستجليه، بما يتيح تعميق التفكير نحو تأصيله، وهو ما يعني مباشرة حوار معه لا يكتفي بالنقل الناسخ، بل يستدعي الإبداع والإنشاء، ويتطلب وعيا نقدياً بالخلفيات والمرجعيات والمنظورات التي تواصلت معه.
ومع الإقرار بأن أي تعريف للمفهوم يعد ضمنياً حصراً وتقليصا لدلالته، بالنظر إلى أن هذه الدلالة هي بالضرورة نتاج تاريخي، وبالتالي فهي نسبية تختلف باختلاف الملابسات والمناهج والأيديولوجيات، فلعله في المستطاع ترجمة هذا الشرط بصورة أجلى، عبر التماس الجواب عن تساؤلات ضمنية من قبيل: ما هي الظروف التاريخية التي أطرت صوغ واستعمال هذا المفهوم؟ وكيف يكون الموقف بإزائه؟ وماذا عن المنظورات التي سلكتها مقاربته؟ وهل من تصور يمكن أن يكْتنه مختلف أبعاده، تلك التي تضج بالسجال والتفاوض؟ وفيم يتميز مفهوم الجيل الأدبي عن مفاهيم أخرى متداخلة معه؟ ووفق أية معايير يمكن معاينة تعاقب موجاته؟ وما السبيل إلى تحديد ملامحه؟
عبر هذه التساؤلات، تتحدد أهداف المساهمة في تأسيس مدخل سوسيولوجي منظم لفهم ظاهرة الأجيال الأدبية، وطبيعة علاقتها مع سياقها الاجتماعي، والتعرف استتباعا على كفاءة مفهوم الجيل كأداة تحليلية منهجية.
على أن محاولة تحقيق هذه الأهداف، تقتضي الإحاطة بالأولويات المتضافرة التالية:
أولها: أن اتجاهات دراسة الأجيال الأدبية هي في الواقع اتجاهات تعكس ثقافة دارسيها أنفسهم، ما يوجب عدم أخذها دون اختبار أو فحص سواء في أطرها النظرية، أو محدداتها المنهجية، أو تطبيقاتها العيانية، وان كان هذا لا يعني عدم دراستها أو الإطلاع عليها، قدر ما يجب أن نكون على دراية بمرجعيتها، وآليات توجهها، ومن ثم تقييمها.
وثانيها: أن تصنيف الأجيال الأدبية، وتحديد معطيات وملامح كل جيل منها، أمر يلفه التعقيد والصعوبة، ومع ذلك ورغمه، فإن القيام بمثل هذا التصنيف لا يعدّ عملا اعتباطيا، خاصة مع عدم كفاية الإحالات البيوجرافية والبيلوجرافية للإشارة إلى تعاقب هذه الأجيال، كي ندعي إمكان مقاربتها.
وثالثها: أن المعطيات الاجتماعية والتوجهات الفكرية والتيارات الأدبية، التي تشارك في صوغ ملامح كل جيل وحساسيته الأيديولوجية والجمالية، يكاد لا يمكن حصرها بين ما هو قديم منها وما هو جديد، بين ما خلفته الأجيال السابقة، وجديد اللاحقة، بين ما هو موروث وما هو مجلوب، إضافة إلى تعدد مصادر التأثير من فلسفة وفنون وتاريخ وأعمال أدبية ونقدية وفكر سياسي.
ورابعها: أن السياق الاجتماعي، واللغة، والتقنيات البلاغية، وجمهور القراء والجماعات الوسيطة، ونمط البناء الجيلي، تمثل في كليتها مؤشرات لتصنيف رؤية كل جيل أدبي، وهي التي تتفاعل مع أذهان مبدعيه ووجدانا تهم، ومع نوعية وعيهم بظروف حياتهم العامة والشخصية، لكي تتخلق في النهاية فرادة حساسيتهم الخاصة، أي طريقتهم في الإدراك، وفي التعبير، وفي البناء.
وطبيعي هنا الاعتراف بصعوبات واجهت هذه المساهمة، وحدّت من تحقيق أهدافها بصورة مرضية، حيث من ناحية، مثّل عدم التمدد وضوح المفاهيم والمصطلحات الخاصة بموضوعة الأجيال الأدبية صعوبة حقيقية، بالنظر إلى أنها ما زالت مثار مناقشات فائضة في أوساط دارسيها، فضلا عما يتكشف من منظورات تخطيطية مختزلة حولها، مع نقص جلي في الدراسات المتعلقة بها، خلا دراسات عربية عجلى تعد على أصابع اليد الواحدة، إضافة إلى صعوبات منهجية حول تصنيفها، ومدى صدق المحكات والأسس المرتبطة بهذا التصنيف، مع قصور في البيانات المتاحة المتصلة بتاريخ الأدب والمشتغلين به، ما يترك مجالا للظن والتقدير في أحيان.
إضاءة تاريخية :
ومن منظور بيولوجي، يبدو تاريخ البشرية كتدفق متواصل لملايين الأفراد، ممن لا يجمعهم تحقيب جمعي يمكن أن يفرض تقاطعات بعينها لهذا التدفق. وعلى النقيض، مثّل تاريخ الإنتاج الاجتماعي مسوّغا لتحديد هذه التقاطعات، ما أدى إلى صوغ مفهوم الجيل، لبلورة عملية تواصل النوع البشري وبناء تاريخه.
وهكذا اعتمدت الأجيال في الحضارات القديمة، خصوصا في المجتمعات ذات التقاليد الشفاهية، كأداة لقياس الزمن التاريخي وتفسير حركاته، ومثلت في الأعم محور التفكير في الحياة والموت والزمن، وكمبدأ تفسيري لفهم التناقضات بين الكبار والصغار، الآباء والأبناء، اعتبارا من ارتباطها بتصور العلاقة بين الأصل واستمراره(1).
ويذكر جاستون بوتول G.Buthoul أن المطارحات بين الأجيال في هذه الحضارات كانت ترتكز على الشيوخ والشباب، وأن العلاقات بينهم كانت صراعية، فيما كان الشيوخ يشعرون بالقلق والتوجس من جموح الشباب وطموحاته، ولا يطمئنون إلى خيانتهم لما خططوه لهم، وغالبا ما كانوا يتحينون الفرصة لكي يتخلصوا ممن يهددون سلطتهم ونفوذهم منهم، بواسطة إقناع الجماعة بأن الكوارث والنوائب التي تقع عليها إنما هي نتاج غضب الآلهة. وبوصف الشيوخ أكثر أعضاء الجماعة قدرة على مخاطبة الآلهة وتهدئة ثورتها، فقد كانوا يزعمون أن الآلهة تطالب بنفْي أو قتل هذا الشاب أو ذاك، أو تقديمه قربانا مقابل عودة الأمور إلى طبيعتها.
أما الشباب، فكانوا بدورهم يعلنون تمردهم على الشيوخ، حيث: «يقوم الذكور الذين هم في سن البلوغ بطرد الذكور المسنين، بعد أن تنشب بينهم معارك مثيرة.ويجد هؤلاء الذكور المسنون المطرودون من مجتمع الإناث أنفسهم ممنوعين من متابعة التناسل، فيعيشون معزولين مفصولين عن المجموع كالخنازير البّرية المسنة، أو كذكر الفقْمة الذي يدور حول أسرته القديمة دون أن يكون بمقدوره الاقتراب منها، حيث من تعاقبوا بعده يقومون بالحراسة الجيدة»(2).
ومع انتظام الحياة رويدا، تم تقعيد علاقات الأجيال بواسطة صوغ قواعد غايتها منع خروج الأبناء على التقاليد، عبر أخذ المواثيق والعهود العلنية أثناء حفلات التنصيب، بعدم الحنث بها، مضافا إليها تنظيم الانتقال بين المراحل العمرية.
ويتحدث الأنثروبولوجي البريطاني ايفانز ريتشارد E. Pritchard عن نظام طبقات العمر في مجتمع النوير Nuer بجنوب السودان قائلا: ان كل فرد من الذكور في هذا المجتمع، لكي ينتقل من مرحلة الصبا Boyhood إلى مرحلة الرجولة Manhood، عليه أن يمر بما يطلق عليه (شعائر التكريس) Ritual Rites، حيث يتم قطع جبهته من الأذن اليمنى لليسرى ست مرات بواسطة سكين صغير. ومرور الفتى بهذه الشعائر يعني أنه صار رجلا، يحق له الاشتراك في الحروب ورعاية الماشية ومغازلة الفتيات وغشيان حفلات الرقص، والزواج، كما أن سلوكه يتحدد تجاه زملائه من أفراد طبقة العمر، وكذلك تجاه غيره من أفراد الطبقات الأخرى(3).
على أنه، ورغم المحاولات الدائبة لتقعيد العلاقات بين الأجيال، ظلت الحدود بين الشباب والشيوخ دائما رهان صراع، وهو ما يتجلي في العلاقة التي كانت قائمة بين الوجهاء النبلاء والشباب في مدينة فلورنسا الايطالية خلال القرن الرابع عشر، والتي حكمتها ثقافة تربط الشباب بقيم الفحولة والرجولة والعنف والقوة، على حين ظلت قيم الحكمة والرصانة من شيم الشيوخ، مما يؤهلهم بالتالي للانفراد بامتلاك الثروة والنفوذ.
وبالمثل يدلل جورج دوبي Duby G. كيف أنه في العصر الوسيط كان أصحاب الثروات يحرصون على أن يظل من هم مؤهلون لخلافتهم في حالة شباب، أي في حالة لا مسؤولية، وبالتالي غير مؤهلين للجاه والسلطة. ويتعلق الأمر هنا بتصور للحدود بين الشباب والشيوخ يعطي حقوقاً لمن هم أصغر سنّا، ويترك حقوقا لمن يكبرونهم، وبالتالي فان كل تقسيم بين الأجيال يرتبط بعاملين: النفوذ والنظام(4).
وراهنا، تشكل العلاقة بين الأجيال تحديا كبيراً للمجتمعات الصناعية، حيث يرى أنطـوني جيدنــز A. Giddens عالم الاجتماع البريطاني، أن امتداد أعمار السكان في هذه المجتمعات، يخلق سلسلة من التوترات والتحديات والانشقاقات بين الأجيال، قد تهدد النظام الاجتماعي. «ويمكننا أن نفهم جانبا من هذه التحديات اذا نظرنا إلى ظاهرة محددة هي ارتفاع معدل الإعالة، أي العلاقة بين عدد الأطفال والأشخاص المتقاعدين من جهة، والسكان العاملين المنتجين من جهة أخرى. ومع تصاعد نسبة السكان المسنّين اعتباراً من مطالع القرن الحادي والعشرين، ستتزايد بصورة ملموسة المطالبة بالمزيد من الخدمات التي تقدمها المرافق الاجتماعية والصحية. وامتداد العمر والعمر المتوقع، سيزيد بصورة لافتة ما ينبغي دفعه كرواتب تقاعدية للمتقدمين في السن»(5).
* درس الأجيال:
ومع الاهتمام المتنامي للأجيال كضابط لإيقاع الحياة البشرية، مثلث دراستها واحدة من المسائل التي فرضت نفسها، بدءا مما قدمه المؤرخ الإغريقي هيرودوت Herodotus، وانتهاء باتجاهاتها النظرية المعاصرة، وكلها طرحت العديد من القضايا حولها.
ولأن هذه الدراسة لم تترك تاريخاً لمسيرة خطية جلية، تسمح بضبط وقائعها وتصوراتها، فقد لا يكون من الملائم هنا تتبع تفاصيلها منذ ظهورها، وحتى تعاظم الحديث عنها حاضرا وخاصة في الصين بأكثر من أي بلد آخر، وان حازت الإشارة إلى خطوط لها عريضة، تمثلها مراحل ثلاث أساسية قطعتها، نترك المجال لمعاينتها:
أولاً: الأنساق النظرية للرواد:
وتعني مجموعة الأفكار النظرية التي قدمها المهتمون الأوائل بظاهرة الجيل، ممن لم يستهدفوا يناء نظرية متكاملة حولها، بل معالجتها كاحدى آليات تحقيب الزمن وتواتر عمليات التغير الاجتماعي.
وكلمة جيل ذات أصل إغريقي، وتمثل مصطلحاً أساسياً في الفلسفة اليونانية، فيما كان الإغريق القدامى واعين بأن العلاقة بين الأعمار ليست متناغمة بالضرورة، وبالتالي كانوا متنبهين إلى النتائج الاجتماعية والسياسية للتعارض بين الأجيال. فقد تحدث هيرودوت عن القرن كفترة زمنية تشمل ثلاثة أجيال بشرية، وظلت هذه الفكرة سارية على هذا النحو حتى القرن التاسع عشر، ومنها صدر تصور أن الوقت دائري، أو بمعنى آخر أن هناك نظام شبه عضوي يحكم التاريخ ويحدد حياة الأفراد.
ووردت الكلمة كذلك عند أفلاطون Plato الذي رأى في الصراع بين الأجيال قوة محركة للتغيير الاجتماعي، وأرسطو Aristote الذي فسر الثورات بالصراع بين الآباء والأبناء، واستخدمها هزيود Hesiod في أشعاره(6).
وفي القرن الرابع عشر الميلادي، أشار عبد الرحمن بن خلدون في مقدمتة إلى أن المجتمع يستمر ثلاثة أجيال، وكل جيل يستغرق أربعين سنة. فالمجتمع يعيش بين مرحلتي البداوة والتحضر مائة وعشرين سنة، يبدأ بعدها دورة أخرى تمر بنفس المراحل.
وينبغي ألا يظن هنا أن مفهوم الجيل يقع على هامش النص الخلدوني، فهو يشكل أحد المفاهيم الأساسية التي بنى عليها فهمه للسياسة والتاريخ، ويرتبط بنظريته في الدولة، ويتصل بجملة المفاهيم التي دار حولها تفكيره (البداوة، الحضارة، الملك، العصبية….).
وعلى ما يرى، تتغلّب الصفة الجبلية (البيولوجية) لتعريف الجيل عنده، حيث هو: «عمر شخص واحد من العمر المتوسط، فيكون سن الأربعين الذي هو انتهاء النمو والنشوء إلى غايته»(7). فعند الأربعين، يبلغ الفرد أشده وفقا للآية القرآنية، وفي مدى هذه السنوات يتحقق فناء جيل ونشوء آخر، كما يستدل ابن خلدون من واقعة التيه لدى بني إسرائيل التي دامت أربعين سنة.
وطبقاً لصاحب المقدمة، فإذا كان المدى الزمني للجيل يتحدد باعتبارات بيولوجية تتعلق بالمرحلة التي يتوقف عندها نمو الفرد، فإن لكل جيل خصائص أخلاقية وعقلية تميزه عن غيره، اعتباراً من أنه يمثل طورا من أطوار العمران، وحالة من حالات الاجتماع، ومرحلة في سيرورة العصبية والقوة. وأنه جزء من الدورة المغلقة التي يتبعها تطور المجتمع، ومحطة في الوجهة التي تسلكها الدولة في منشئها ومآلها.
وإذا كان ثمة تعاقب بين الأجيال، فإنه لا يعقل إلا من خلال هذه الوجهة وتلك الدورة، أو بالأحرى كتعبير عن حركة المجتمع ذاته، وهو ما ذكره ابن خلدون بقوله: «اعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم، إنما هو في اختلاف نحلتهم من المعاش»(8)، لذا فإن مفهومه للجيل يتضح في معرض حديثه عن مصير الحسب وعمر الدولة وأطوارها:
بالنسبة إلى الحسب والمجد، فإن نهايتهما في أربعة آباء أو أجيال، هي بمثابة وصف خلال عقلية وخلقية أربع: فالجيل الأول هو باني المجد، ومن صفاته العلم والحفاظ على الفضائل الأصلية. ذلك أن: « باني المجد عالم بما عاناه في بنائه، ومحافظ على الخلال التي هي أسباب كونه وبقائه»(9). والجيل الثاني مباشر للأول، ومقصّر عنه تقصير السامع بالشيء عن المعاني له. والثالث مقلد للثاني، ومقصر عنه « تقصير المقلد عن المجتهد». والرابع يقصر عن السابقين بالكلية، ومن صفاته الإضاعة والتوهم، حيث : « إذا جاء الجيل الرابع أضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها، وتوهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلف»(10).
وبالنسبة إلى عمر الدولة، فتستغرقها أجيال أربعة تصف حالات اجتماعية وخلقية أربع: جيل البداوة، ويتميز بالشظف والبسالة وسورة العصبية والاشتراك في المجد، وجيل الانتقال من البداوة إلى الحضارة، ويتصف بالترف والاستكانة وانكسار سورة العصبية والخضوع، إلا أنه: «يبقي لهم الكثير من ذلك بما أدركوا الجيل الأول، وباشروا أموالهم وشاهدوا اعتزازهم وسعيهم إلى المجد». والجيل الثالث هو جيل الحضارة الخالصة، ويتميز بالتفنين في الترف وسقوط العصبية ونسيان الحميّة والتلبيس والتمويه والاستظهار بالموالي، فيما الجيل الرابع هو جيل انقراض الدولة(11).
وبالنسبة إلى أطوار الدولة، يعرض ابن خلدون أطواراً خمسة، تصف خمسة أدوار قيمية واجتماعية وبالأخص سياسية،: الأول، هو طور الظفر والمساواة في اكتساب المجد والمدافعة وجباية الأموال. والثاني، هو طور الاستبداد والانفراد بالملك وكبح العصبية وفعاليتها. والثالث، هو طور الفراغ والدّعة لتحصيل ثمرات الملك من تحصيل المال وتخليد الآثار». وفي هذه الأطوار الثلاثة كلها، يتميز أصحاب الدولة باستقلال الرأي وبناء العزّ وتوضيح السبل لمن سيأتي بعدهم. والرابع، هو طور القناعة والمسالمة، ويتغلب فيه تقليد الماضين واتباع آثارهم واقتفاء طرقهم. والخامس، هو طور الإسراف والتبذير، ويتميز فيه صاحب الدولة بالإتلاف والاعتماد على البطانة والتخاذل وتخريب ما أسسه السلف وهدم ما بنوه(12).
وهكذا فإن تناول ابن خلدون للجيل، سواء تم من زاوية معرفية أو اجتماعية أو سياسية أو قيمية، فإن تعاقب الأجيال لديه، يعكس في المحصلة حالات مختلفة يمر بها المجتمع، وفقاً لحركة تبدأ إلى الأمام ثم تنتهي إلى التخلف والتأخر والانحلال والتفكك، وذلك على نمط حركة الأجسام الحية.
ثانيا: التصورات العاملية:
وهنا ليس في المستطاع أن نتجاوز محاولات رأت في الجيل الأدبي متغيرا ثابتا لفاعلية متغيرات مستقلة، بيولوجية وتربوية وثقافية ولغوية، تواكبت مع الاهتمام بظاهرة تتابع الأجيال التي عبّرت عن نفسها مع بداية القرن التاسع عشر، اعتباراً من احتمال تواتر تسارع التغير التاريخي في هذا القرن.
ويمكن ان تلمح باكورة هذه التصورات العالمية، في أعمال وردت متفرقة منتصف القرن الثامن عشر، لدى الفرنسي الأب ساباتيه دوكاستر S.de Castres. والإيطالي جيرو لاموتيرا بوسكي G.Tiraboschi. والألماني يوهان هيردر J. Herder. وان جاز القول بتبلورها على يدي الناقد الفرنسي تشارلز أوجستين سانت بيف Ch.A. Saint Boeuf منتصف القرن التاسع عشر، والمفكر الألماني جوليو بيترسن J. Petersen منتصف القرن العشرين.
ففي عام 1835، تصدى سانت بيف لدراسة الأجيال الأدبية، وقام بتصنيفهم طبقاً لسنة مولد أعضائها. ولم يكتف بذلك، بل ركز على دراسة صفاتهم الجسمية، ومشاعرهم، وحياتهم المادية والعقلية والخلقية والعائلية، وأذواقهم وعاداتهم، وآرائهم، ليخلص إلى ترتيبهم في « فصائل» و«أجيال»، ترتبط كل منها بملامح مشتركة، كي يفهم، على حد قوله، ما أنتجوه من آداب.
وكان من رأيه أنه لا ينبغي لدارس الأدب والمشتغلين به أن يكون أديبا وحسب، بل أديباً وعالما على نحو ما يفعل علماء الطبيعة، وزاد حين اعتبر الدرس الأدبي نوعاً من التحقيق الأقرب إلى التاريخ الطبيعي للآدب، وهو ما عبّر عنه بقوله: «إنني أحلل وأدرس البيانات دراسة علمية.. لأن ما أود تأسيسه هو تاريخ طبيعي للأدب»(13).
أما بيترسن، فيدفع بهذه التصورات العاملة إلى نوع من الحتمية الجبرية، حين يشير إلى عوامل عديدة تسهم في تشكيل الجيل الأدبي، وهو ما طبقه على تاريخ الأدب الألماني في القرنين السادس عشر والثامن عشر.
من هذه العوامل ما يتصل بالموطن الإقليمي، وتاريخ الميلاد، وأسلوب التنشئة، ونوعية اللغة التي يبدع بها أعضاء الجيل الواحد، والعلاقة الشخصية بينهم، والأحداث والتجارب التي يمّر بها (14).
والأمر في المجمل يتعلق بأن هذه التصورات العاملية، ورغم مقاربتها لحقائق من الواقع الاجتماعية للجيل، إلا أنها بالغت في دور العوامل الذاتية، ومن ثم أنكرت القوانين الموضوعية لتكوين الأجيال.
ثالثا: الطروحات النظرية:
وراهنا، يواجه المتتبع لدرس الأجيال موقفا نظريا تتسع وتتشابك مداخله، لدرجة قد يتعذر معها التعرف على حدود هذه المداخل وأبعادها، بالنظر إلى ما يضطرب فيها من تصورات متباينة، وكفايات متفاوتة، انعكست تنوعاً واختلافاً من حيث المنظور والمعالجة.
ويمثل النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين في أوروبا، الفترة التي تبلور فيها مفهوم الجيل، وهو ما توضحه الأعمال التي قدمها مؤرخ الموسيقى ألفريد لورنز A. Lorenz، والمؤرخ هانز مولر H. Muller. واللغوي ادوارد فيشلر E. Weshler. والبيولوجي فالترشيت W.Scheidt. وفيلسوف الثقافة الأسباني خوزيه أورتيجا أي جازيت J.O. Y Gasset. ومؤرخ الفنون فيلهلهم بيندر W.Pinder. وعالم الاجتماع الألماني كارل ما نهايم K. Mann heim. ونقاد الأدب: فر دريك كومر F. Kummer. وريتشارد الوين R. Alewyn. وجوليوبيترسن، وفرانسوا منتري F.Mentré. وأغلبهم من الألمان.
وتم ذلك نتيجة للتحولات التاريخية التي شهدتها القارة، مع التصنيع السريع ومواجهة متطلبات التكوين المهني، وتصاعد الحركات الاجتماعية، إضافة إلى التيارات المتنامية التي بدأت تبحث عن نهج علمي لفهم التاريخ، ما حدا بها أن تطرح مفهوم الجيل كأداة منهجية لمقاربة قضايا التغير والاستمرار.
وخلال ستينات القرن العشرين، ساهمت انتفاضات الطلبة في أوروبا والصين والولايات المتحدة في تزايد الاهتمام بموضوع الأجيال، ما أثمر اتجاهات نظرية عديدة، ينوه عنها كالتالي:
(1) المنظور البيولوجي:
إذْ مع تقدم علوم البيولوجيا والفسيولوجيا والكيمياء الحيوية، تكرست فرضية تذهب إلى أن القدرات الإبداعية الخاصة بالجيل، إنما هي نتاج طبيعي للعناصر الحيوية والصفات التكوينية الوراثية لأعضائه، الصادرة عن التقسيم الكرونولوجي (الزمني) لتتابع الأجيال، وهو ما يتضح لدى البير تيبوديه A. Thibaudet. وهنري بير H.Peyre الذي حاول تصنيف أدباء فرنسا بحسب الأجيال التي ينتمون إليها عبر هذا التقسيم، بهدف البحث عن القوانين التي تحكم عملية تعاقبها(15)، اعتباراً من أن تواريخ ميلاد الأدباء تتجمع في « حزم» حول تواريخ معينة، ما يوحي بوجود إيقاع منتظم للأجيال في تاريخ كل ثقافة وكل أدب، وهي الفكرة التي أفضت إلى اثارة التساؤلات حول المدة الزمنية التي تستغرقها فعالية كل جيل.
ويجد هذا المنظور تعبيره بالأوضح لدي فيلهلم بيندر، حين حاول تطبيق فكرة الجيل بهذا المعنى على تاريخ الفن الأوروبي عام 1926، ورأى أن كل جيل يتميز بقصدية طبيعية فطرية، تعد تعبيراً عن وحدة هدف الجيل، وطريقته في خبرة الحياة والعالم، مفترضاً أن هذه القصدية أمر يولد مع الجيل، ومن فعل الأسرار الغامضة للطبيعة. وأن قوتها تفوق تأثير العوامل الاجتماعية، بل أنها التي تحدد مصير كل جيل.
(2) المنظور الثقافي:
ويصدر هذا المنظور عن فكرة «روح العصر» التي راجت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ونصيب كل جيل منها.
واهتم بهذه الفكرة الفيلسوف الألماني فيلهلم ديلتاي Dilthehy W. المشهور بنقد المعرفة التاريخية، والممثل الأهم لنظرية الفهم والتأويل، حين عاين مفهوم الجيل كأداة تصورية مهمة، يمكن من خلالها فهم مسيرة الحركات الفكرية والانجازات العلمية. وأضاف ديلتاي بعداً مهما إلى المفهوم، حين رآه ينطوي على شراكة بين أفراد يعيشون فترة زمنية معينة، مذكراً: « أن الأشخاص الذين ينشأون معاً في فترات زمنية متقاربة، ويخبرون معاً التطورات المهمة للأحداث الكبرى، يتميزون بنوع من التقارب فيما بينهم، ما يصيّرهم جيلاً، وأن الإنجازات الفكرية لكل جيل تتأثر بالأوضاع الثقافية القائمة. ولما كانت تلك الأوضاع تختلف من جيل لآخر، فإن ذلك يؤدي إلى نوع من التجانس داخل الجيل الواحد»(16).
وبهذا التعريف، درس ديلتاي الحركة الرومانسية الألمانية، واكتشف أن أغلب وأهم ممثّليها ولدوا في سنوات متقاربة، وقادته هذه الملاحظة إلى صوغ مصطلح « جيل نوفاليس» كممثل لصفوة شعراء عصره (شليجل. شليماخر، هولدرلين، تيك…).
(3) منظور النخبة:
وثم من الباحثين من عاين مفهوم الجيل بمنظور النخبة Elite. فصوّر كل جيل بما تقدمه مجموعة محدودة العدد من أفراده، ممن يحصلون على اعتراف بتميزهم في مجالات أنشطتهم.
ومنطلقهم في ذلك،اختلاف أعضاء الجيل الواحد من حيث الوسط الذي يعيشون فيه، أو الانحدار الاثني، أو التوزيع الجغرافي، أو تكافؤ الفرص التعليمية، ما ينتج عنه اصطفاء قلة بخصال ابداعية فريدة، تسوّغ لها تزعم جيلها، وأخرى تابعة ليس لها تأثير يذكر في الجيل الذي تنتمي إليه.
ويبدو هذا المنظور جلياًَ لدى أورتيجا أي جازيت، الذي تحدث عن مفهوم الجيل في عديد من كتاباته، وكانت لآرائه حول طبيعة وأدوار الأجيال تأثيرها لدى علماء الاجتماع والمؤرخين ونقاد الأدب.
ويحدد جازيت عمر الجيل بثلاثين سنة، يسعى خلال الخمس عشرة سنة الأولى منها إلى صوغ آرائه وانتماءاته، لكي يقدمه بقوة خلال الخمس عشر سنة التالية.
وفي محاولة منه لتطوير منظور حول «الأجيال المبدعة»، طالب بتخلي بلده أسبانيا عن معتقداتها وأساطيرها القديمة، وعني بها الراق الثقافي العربي الأندلسي، ومناخ «مجتمع الحشد والدهماء» السائد. وبعد أن يتم التخلص من هذا التراث الذي رآه علّة تخلف بلده، وجد المخرج في خلق نخبة أرستقراطية جديدة، من أصحاب النزعات الطبيعية التي تصوغ روح المجتمع، وتبني له تمثلاته(17).
(4) المنظور السوسيولوجي:
وخلال القرن العشرين، ازدحم متن علم الاجتماع بمقاربات عديدة حول الجيل، على معنى أن الزمر من العمر نفسه لا تشكل جيلاً متميزاً، إلا إذا تشاركت في أحداث اجتماعية وتاريخية، بالنظر إلى أن المقومات الدالة للجيل لا تنبثق إلا من سياق هذه الأحداث، وفي ظل خبرات أعضائه بها، وردود أفعالهم عليها، بأكثر من الاعتبارات البيولوجية، التي تمثل في أحسن الأحوال أداة لرسم حدود الجيل.
وقدم هذا المنظور أسهامه بتأكيده على علاقة الأجيال بالتغيرات الاجتماعية، وان جاء اهتمامه المبكر بالأجيال مضمناً، وغلب عليه ربطها بأساليب التنشئة الاجتماعية Socialization والحراك الاجتماعي Social Mobility.
وكان أوجست كونت A. Comte أول من بدأ دراسة علمية للأجيال، وقدم تصوراً وضعياً حولها، يتميز بطابع تركيبي يركز على إدراك الأجيال كعناصر أو أجزاء في البناء الاجتماعي الأشمل، على غرار تناول العلوم الطبيعية لمادتها، وفحص انتظام تتابع الأجيال كقوة محركة في التقدم الاجتماعي، اعتباراً من أن طابع هذا التقدم مرهون بالتغير الجيلي.
وتندرج محاولة كونت في إطار الأسس التي وضعها لفلسفة التاريخ ونظرية العلوم، حيث تاريخ المجتمعات، عنده، قائم على قوانين مرتبطة أساساً بالطبيعة البشرية، وشروط تطورها، وهو ما جعله يرهن تعاقب الأجيال في مشروعه النظري عبر علاقة تناغم بين التاريخ العام للمجتمعات وتاريخ الأفكار والعلوم. وعلى هذا الأساس، تتطابق مراحل حياة كل جيل مع مراحل التطور الاجتماعي، ما حدا به إلى المماثلة بين الطفولة والإقطاع، والمراهقة والثورة، والنضج والوضعية(18).
ومع تنامي الدرس السوسيولوجي، تبدت اتجاهات نظرية متعددة ومتناقضة في إطاره، لا تتمثل تبايناتها في اختلاف الأساليب البحثية أو المنهجية، بقدر ما تكمن في طبيعة أطرها التصورية.
فعبر توجه جدلي، وفي إطار التفتيش عن القوى المحركة للمصير الاجتماعي، تتقدم دراسة عالم الاجتماع الألماني كارل مانهايم، رغم أنها لم تجد الذيوع والانتشار إلا في أعقاب تنامي حركة الاحتجاج الطلابي في ستينات القرن الماضي.
ويعد مانهايم صاحب أشهر تعريف لمفهوم الجيل، والأبرز في استيضاح» تأثير الوسط الاجتماعي Effect of the social Milieu» عليه، والأكثر تعاملاً معه من خلال تطور مناهج العلوم الاجتماعية في عصره، حيث قدم عام 1920 أوضح وأدق تعريف له، باعتباره زمر من الشرائح العمرية المتقاربة، تشغل وضعية متجانسة في العملية التاريخية والاجتماعية، يتحدد وفقها مصيرهم الجمعي، ولا يمكن لهم الخروج من هذه الوضعية إلا عبر تحول اجتماعي، وان تبدت ظروف تبعد البعض من المعاصرين لهم من الاندماج فيه، ما يعني أن المعاصرة ليست وحدها، وفي حد ذاتها، هي التي تنتج وضعية متجانسة للجيل»(19).
وجديد هذا التعريف أنه قارب بين مفهوم الجيل ومفهوم الطبقة الاجتماعية Social class. مع تشاركهم في العملية التاريخية والاجتماعية، وإن ارتكز الجيل على موقعه الرمزي، والطبقة على موقعها الاقتصادي.
وجديده كذلك، أنه خلص المفهوم من الطابع البيولوجي، أو تعريفه بمحددات آلية وناجزة، كما لجأ المفكرون الوضعيون مثل أوجست كونت، ولكنه موصول بالخبرة الموضوعية للوقت، حين أشار إلى أن مقياس عمر جيل لا يمكن تحديده بدورة بيولوجية، ولكن بحركة التغير الاجتماعي في الأساس، وهو ما جعله يستخلص عدم وجود قاعدة كلية يمكن أن تعين في تحديد عمر جيل معين، مشيراً إلى أن مؤلفين كثيرين حاولوا ذلك وفشلوا.
ونحو مزيد من تأصيل مفهومه، ميّز مانهايم بين مفاهيم ثلاثة. افترض أنها تنظم بشكل متسع العلاقات بين الأحياء وجماعات عمرية معينة: الراق الجيلي Generational Stratum ويعني به المؤثرات الثقافية والأحداث الاجتماعية التي يشترك فيها أعضاء الجيل، رافضاً منها خضوعهم لتنشئة اجتماعية مشتركة أثناء سنوات تشكلهم، والسياق الجيلي Generational Context ويمثل وحدة زمنية أوّلية تشير إلى نوع من التقارب بينهم في مجال مجتمعي تاريخي بعينه، يجعلهم يتعرضون لذات المؤثرات والأحداث والخبرات، بما يخلق إمكانية للتقارب في أفكارهم، والوحدات الجيلية Generational unities ويقصد بها أن هذا التشابه لا يلغي وجود استجابات مختلفة بين أعضاء الجيل الواحد(20).
ويشير مانهايم إلى أن تتابع الأجيال يقود إلى جدلية للعملية التاريخية، ما دام الظهور المستمر لفاعلين جدد واختفاء القدامى، لمما يتيح إعادة النظر فيما هو موجود، والرغبة في التجديد. بما يضمن استمرارية المجتمع، بالنظر إلى عدم التوافق بين الأجيال حول الإرث الثقافي والبدائل المقترحة.
ويجد التوجه البنائي الوظيفي للأجيال شاهده لدى عالم الاجتماع الأمريكي المعاصر تالكوت بارسونز T. Parsons. حين يعاينها عبر رابطة من البناء الاجتماعي والشخصية، بهدف استيضاح الفروق الاجتماعية بين الأجيال، وملاحظة مدى أثر جيل الآباء على جيل الأبناء، ومدى تغير المكونات الاجتماعية لشخصية كل جيل، وتباين السلوك بين الأجيال لإثبات اختلاف السلوك الاجتماعي من طور لآخر، ومن جيل لجيل داخل البناء الواحد، ومن بناء لبناء(21)، مستخلصا من ذلك تعريفا لمفهوم الجيل، حدده بأنه: «نسق اجتماعي متميز، يتضمن مجموعة من الأشخاص تربطهم علاقات اجتماعية، ويشغلون مراكز بعينها، ويتبادلون أداء أدوار محددة في المواقف الاجتماعية المختلفة» (22).
ومكمن ضعف هذا التوجه، هو اتسامه برؤية سكونية جامدة لواقع الأجيال، حيث لا يرى فيها سوى مقوّم للتكامل والتوازن والاستقرار الاجتماعي، ينسجم مع أهدافه.
(5) المنظور الكوني:
وفي محاولة لإكساب مفهوم الجيل بعداً كوزموبوليتيا، دعت الناقدة جوليـا كريستيفـا J. Kristeva إلى التحريض على جيل أدبي، قادر على تكوين هويته الكونية، والذي تراه، برغم حمله لسمات محلية من مختلف مناطق المعمورة، إلا إنه يمكن أن يكشف عن تضامنه مع كافة الأجيال الأدبية المعاصرة له، ويندرج في عين موقعها الرمزي، بما يجعله عاكسا لسمات عالمية.
ولدى كريستيفا، لا يتعلق أمر هذا الجيل الأدبي الكوني بتناقض بين انتساب أعضائه المخلص لمجتمعاتهم وثقافاتهم، أو بانفصالهم عن أدوارهم القومية ومصالحهم الوطنية وإطارهم الثقافي والحضاري الخاص، بل عبر احتضان قيم جمالية مشتركة، والعمل على هدى منها، ومسوّغها في ذلك تواتر التأثير المتبادل بين الشعوب راهناً في ظروف تصاعد الزخم العولمي، وتنامي ظاهرة التنافذ الأدبي Literal Penetration كأحد تجليات المثاقفة الحضارية السائدة، بفضل جهود ترجمة الإبداعات الأدبية التي تقرع أبواباًَ كانت موصدة على مختلف الآداب، وتزايد أعداد الكتّاب الذين يبدعون أدبا بلغات أجنبية، وهو أدب لا يقتصر دوره على تشكيل رافد في التيارات الثقافية السائدة، بل يكمن أساساً، برأي كريستيفا، في مواجهة مراكز الهيمنة الثقافية بخطابها الأحادي المفتقر إلى مبدأ الحوار واحترام الآخر، ناهيك عن تنامي آداب المهاجرين والنساء، والتدفق اللافت لأدب الانترنت وإبداعات المدوّنين، مع ظهور آلية النشر الإلكتروني، وتزايد روابط الآداب الدولية(23).
وللوهلة، قد يبدو تراود فكرة كريستيفا حول الجيل الأدبي الكوني مع مفهوم «الأدب العالمي»، الذي صاغه الشاعر الألماني جوته
Goethe W. في العقد الثالث من القرن التاسع عشر، كمفهوم مضاد لمصطلح «الأدب القومي». ذلك أن انقسام ألمانيا وقنذاك إلى دويلات إقطاعية متنافسة حدت به إلى صرف النظر عن فكرة الأدب القومي في ألمانيا، من حيث أنها لا تمتلك أدبا يندرج تحت هذا المصطلح، ما هداه إلى المناداة « بحقبة الأدب العالمي»، كمؤشر على التطور التاريخي والاجتماعي والإنساني العام.
أما كريستيفا، فتعاين الجيل الأدبي الكوني ككتلة إنسانية من مختلف الثقافات والمجتمعات، يشعر أعضاؤها بالانتساب إلى الوحدة الأنثروبولوجية للأشكال التخيلية، وحيث في القلب من هذا الجيل، تقوم تجمعات وطنية وإقليمية وعالمية تعمل في مجال الأدب، وتشترك في الأهداف العامة والرموز وتبادل المعلومات والإحساس بالتضامن، وتوسيع نطاق المبادلات والتدفقات العالمية للإبداع، عن طريق ترجمته ونشره، موردة اطراد حجم ونفوذ هذا الجيل وتعدد أدواره وقنواته، من مثل حماية الموروث الأدبي، وضمان القواعد المنظمة لحقوق الملكية، وكفالة حرية التعبير في الاشتغال بالأدب، والمشاركة في تنظيم المعارض الدولية(24).
ويشار هنا إلى أنه، ومهما كانت الانتقادات التي يمكن أن توجّه إلى هذه المنظورات التي قاربت مفهوم الجيل، فإنها فتحت مجالات للبحث، ونجحت بهذا القدر أو ذاك في سد الفجوة التصورية لتفسير ظاهرة الأجيال، وإن جاز هنا تقييمها:
فالمنظور البيولوجي يتصف بالجبر والحتمية، بما قد يفضي إلى ضرب من التبسيط المخلّ لقضية الأجيال، وإلى صوغ تعميمات خاطئة حول سلم المواهب الطبيعية، وهو ما أسهم في وضع المهاد النظري للفاشية الألمانية، وتاليا للحديث عن « جيل الهولوكوست « Holocaust Generation كمواصلة للتذكير بمذابح اليهود.
ويقرّ عالم الاجتماع الفرنسي بييربور ديو P. Bourdieu بصحة فرضية تذهب إلى التدليل على أن العمر كمعطي بيولوجي، يجري التحكم أو التلاعب فيه، وأنه نتاج اجتماعي يتطور عبر التاريخ، ويتخذ أشكالا متنوعة حسب الأحوال الاجتماعية، بما يعني أن الحدود بين الأعمار أو الشرائح العمرية اعتباطية، «فنحن لا نعرف في أي سن تبدأ الشيخوخة، مثلما لا يمكننا تقدير متى يبدأ الثراء وينتهي الفقر»(25).
ويبدو تركيز المنظور الثقافي على حيثيات روح العصر التي تشكل الجيل، قائماً على حساب عدم إبلاء أهمية واجبة للمعطيات الاجتماعية المؤثرة فيه.
أما منظور النخبة، فالملاحظ تباين وجهات النظر حوله: بين من يراه يتعارض مع الفلسفة الديمقراطية، ومن يعتبره أمراً مرغوبا بسبب المزايا الوظيفية التي يفترض أن تحققها النخبة للمجتمع، ما يعني امكان اتخاذه كحجة في رفض أية مبادرات جمعية.
وفيما يخص المنظور السوسيولوجي، فرغم تعدد وتباين اتجاهاته، ومحاولته كشف العلاقة بين الأجيال وتعبيرات مرحلته التاريخية الاجتماعية، فإن أطره النظرية ومحدّداته المنهجية لم تستوف، بعد، لياقتها.
أما المنظور الكوني لدى كريستيفا، فيقترب مما أطلق عليه جورج ريتزر G. Ritzer « المكْدلة» Macdonalidization. وعني بها الأخذ بأسلوب الحياة الأمريكية، القائم على التوحيد القياسي لكافة الأنشطة والمنتجات، بوصفه ترشيداً لمختلف مجالات الحياة في المجتمع الحديث(26).
والخشية هنا أن يسهم مفهوم كريستيفا عن الجيل الأدبي الكوني في فرض أنماط وصيغ وتقنيات بلاغية بعينها، وممارسة التوحيد القياسي عليها، مع انتقالها من محطة النشوء إلى مواقع أخرى، وهو ما رفضه الناقد الروسي ميخائيل باختين M. Bakhtine. حين ذكر: «أن فكرة اقتباس أي نوع أدبي من أدب إلى آخر، دون الأخذ في الاعتبار خصائص ودور التقاليد المحلية، وإمكاناتها في احتضان النوع الجديد، وتقبلها له أو رفضها تطبيقه، من شأنها أن تثير شكوكا جدّية»(27).
ومع ذلك ورغمه، يظل توجه الكونية الذي أطلقته كريستيفا، يعني أن مفهوم الجيل الأدبي، لا يتوقف عند حدّ معين، بل هو ماض إلى آفاق جديدة في ظروف عالم المعرفة.
* إشكالية التعريف:
وفي المعجم العربي، يتحدد مفهوم الجيل ليشمل صنفاً من الناس، أو القرن من الزمان أو ثلث القرن. أو الأمة تختص بلغة معينة، واستخدمه ابن خلدون في أحيان بمعنى «الشعب». وهو ما نتبينه من عناوين فصول له في المقدمة: «فصل في أن أجيال البدو والحضر طبيعية»، و« فصل في أن جيل العرب في الخلقة طبيعي». وانتقلت الكلمة من الدلالة على أجناس البشر، لتشير إلى جماعات العمر المتقارب في فترة زمنية محددة، وهو ما اعتبر نقله اصطلاحية ترتبط بفلسفة التاريخ وتصوراته الحديثة.
أما مفهوم «الجيل الأدبي»، فقد برز كمؤشر بسهم في فهم وتفسير نشوء وتطور واضمحلال التيارات الإبداعية في سياقات تاريخية واجتماعية معينة، وللتعرف على علاقات الجماعات المبدعة في استمراريتها وتغيرها.
ورغم شيوع استخدامه، فإن تعدد واختلاف المعاني التي أضفيت عليه، جعل منه مفهوماً ملتبساً وغامضاً، ما حدا بباحثين إلى المجاهرة باستبعاده، باعتباره أداة لتسطيح الظاهرة الأدبية، وعدم دقة مقاربة سيرورتها.
وفي هذا الصدد، يرى زكي نجيب محمود أن :» في مصر بدعة أدبية لا أعرف لها نظيراً في الآداب الأوربية، وهو أن يقسموا الأدباء إلى شيوخ وشباب على أساس الأعمار.. وكان الأمر يستقيم بين أيدينا لوْ فهمنا الشباب والشيخوخة في الأدب بمعنى آخر، فشيوخ الأدب هم من ساروا على نهج معين في فهمهم للأدب، وفي معيارهم للإبداع الفني والأدبي، حين يكون ذلك النهج قد استقرت به القواعد منذ حين، ولا فرق عندئذ فيمن ينهج هذا النهج، بين من تقدمت بهم السن أو تأخرت، فكلهم (شيوخ) في الأدب لأنهم يلاحقون الزمن من قفاه أو يتأثرون بالسلف في الأهداف والوسائل، وشباب الأدب هم من خلقوا مدرسة جديدة، بها يناهضون النهج القديم السائد، ولا فرق عندئذ بين من تقدمت بهم السن أو تأخرت، فكلهم (شباب) في الأدب، أو نبات جديد تتفتح أكمامه للشمس والهواء. ان أدباء الابتداع في الأدب الإنجليزي خلال القرن التاسع – مثلاً كانوا في مجرى الأدب شباباً نضراً، تتفجر الحياة الجديدة من سطورهم، ولسنا نسأل بعد ذلك كم كان عمر وردز ورث حينئذ. أو عمر كولردج – فليكن عمره ما يكون في حساب السنين، لكنه شباب في خلقه وإنتاجه»(28).
على أن ما أطلق عليه زكي نجيب محمود هنا «بدعة»، قد يوعز إلى سيطرة نمط خاص من العلاقات العائلية، يسود ولم يزل في المجتمع العربي، ويتخذ شكل عرفان من الصغار نحو الكبار، كوسيلة أساسية تلجأ إليها الثقافة التقليدية لضبط وقائر التغيير، والمحافظة على استقرار النظام الاجتماعي القائم على النمط السائد في تركيب الأسرة وتوزيع الثروة والسلطة والمكانة، ومن ثم، فلأن هذا النمط غير موجود في المجتمعات الأوروبية، «فبدعة» تقسيم الأدباء إلى شباب وشيوخ قد تكون غير متوافرة في آدابها.
ومع زكي نجيب محمود، رفض الفيلسوف المجري جورج لوكاتش G. Lukacs مفهوم الجيل. معتبراً أن محاولات دراسة تاريخ الأدب عبره تعمد إلى التمويه وإخفاء مقولة ارتباط هذا التاريخ بالطبقات الاجتماعية، ومن ثم اخترعت ما اصطلح عليه بالجيل، وهو مصطلح يرفضه العلم أصلا لأنه مبهم، ولأنه يمثل أداة انطباعية ممزوجة بانتقاء نظري وخداع زمني، ومن ثم فإن معقولية الصدق فيه نسبية ومشروطة في آن معاً، مما ينبو بها عن العلمية(29).
كذلك يلاحظ تلميذه لوسيان جولدمان L. Goldmann أن تفسير وتعليل الظاهرة الأدبية بحياة جيل ما، على مستوى المجتمع ككل، هو تفسير شائع وشديد الغموض. وقد أوضح جولدمان أنه كلما تعلق الأمر بالبحث عن بناء تحتي لتيار أدبي، وصلنا، لا إلى جيل أو أمة، بل إلى طبقة اجتماعية، ومالها من علاقات مع المجتمع(30).
وعلى الجانب الآخر، هناك من يؤكد أهمية مفهوم الجيل، وإمكانه الإسهام في فهم الحركات التجديدية في تاريخنا الثقافي والأدبي المعاصر(31)، ما حدا بمانهايم إلى التنبيه على ضرورة أن تؤخذ مسالة الأجيال مأخذ الجد، باعتبارها نقطة انطلاق أساسية في فهمنا للحركة الاجتماعية والفكرية، واستيعاب التحولات المتسارعة في المجتمع(32).
ويتضح هذا الاهتمام جلياً في تواتر الحديث عنه عبر تاريخ الآداب المختلفة، من مثل الحديث عن «جيل الكارثة» أو «جيل 98 «Generation 98 الذي مثل حركة أدبية لمن ولدوا بين عامي 1865 و1880 في الأدب الأسباني، و« الجيل الضائع « Lost Generation و« الجيل المتعب» Beat Generation في أدب أمريكا الشمالية، و«جيل الستينات» في الأدب المصري المعاصر، و« جيل الهيب هوب « Hip – Hop Generation الذي تكون في ثمانينات القرن الماضي بالولايات المتحدة من الشباب الأمريكي ذي الأصل الأفريقي واهتم بأدب السود، ومؤخراً رواج ما يطلق عليه « جيل المدوّنين» Net Generation (33).
وإلى جوار المواقف المتباينة حول مفهوم الجيل الأدبي، ثمة التباسات أخرى أدعى إلى الحدّ من دلالته، تتصل بتداخل مصطلحات عديدة معه، وبالكيفية التي تحكم تتابع موجاته، ما يستدعي هنا تفصيلها:
أولا: مصطلحات متداخلة:
فمع الجيل، تتساكن قائمة مصطلحية معبرة عن بعض من تجلياته، وتتراوح بين تسميات من قبيل الطبقات والجماعات والمدارس والموجات، بل هناك من علماء الاجتماع المحدثين من اقترح مصطلح «الفيلق» أو «الكتيبة» Cohort المستخدم في النظم العسكرية(34).
وفي درس النقد الأدبي العربي القديم، تبلور مصطلح «الطبقات» كإحدى فعاليات التراجم، وتم بواسطته التمييز بين مستويات الشعراء والكتاب، وتصنيفهم من حيث أعمالهم وأخبارهم وألقابهم ونابغيهم في طبقات (طبقات الشعراء. طبقات كتّاب المقامات، طبقات أصحاب النوادر….)، أو تغليب عنصر الزمن في هذا التقسيم كما فعل ابن سلام.
ومع انشغال عـالم الاجتماع الفرنسـي روبيرسكـاربيت R. Escarpit بتنمية مبحث «سوسيولوجيا الكاتب» كفرع من علم اجتماع الأدب، أثناء عمله في معهد الأدب والتقنيات الفنية الجماهيرية (ILTRM) التابع لجامعة بوردو، لاحظ صعوبة تواتر قياس ثابت في تعاقب الأجيال الأدبية، وخلص إلى أن فكرة الجيل يعوزها الصقل والوضوح، فاقترح الاستعاضة عنها بفكرة «الفريق الأدبي «Equipe Littraire». كمجموعة من الكتاب من مختلف الأعمار ولوْ كان بينهم ثمة عمر غالب، تتصدر المشهد الأدبي، وتتصل ببروز أحداث سياسية واجتماعية جديدة، تقوم بصوغها وبلورتها(35).
ويأخذ محمد بدوي على سكاربيت ايلاءه أهمية لتباين أعضاء هذا الفريق الأدبي بإزاء الأحداث، ما يجعلها ساحة للتمايز الأيديولوجي الذي يتبدى في كيفيات التشكيل النصّي لما يكتبه(36)، وإن جاز القول باختلاف التوجهات الفكرية بين أبناء الجيل الأدبي الواحد، بدليل أن الجيل الأدبي في مصر بين الحربين العامليتين ضم أصواتاً متباينة: فالعقاد كان يمثل التيار الوجداني، ومحمد حسين هيكل روح العصر، وطه حسين الثقافة الليبرالية، وسلامة موسى أدب الشعب. لهذا يبدو ضروريا التحرز في التعامل مع أعضاء الجيل الأدبي الواحد على قاعدة التماثل، مهما بدا من مرجعية مشتركة أو توجه عام يهيمن على اهتماماتهم، ويكتسب قدرته على فرض تقاليده.
ويقترح بدوي مصطلح «الجماعة» لا كبديل للفريق، وإنما كمصطلح يمكن حال إضافته لمصطلح الفريق أن ينطوي على بعض الجدوى. ويعرف هذه الجماعة كمجموعة تتميز بوجود تقارب في الموقف الأيديولوجي والهواجس الأدبية، ما يجعل منها معطى عينياً مجسدا(37).
ويلقي أمجد ريان مزيداً من الضوء على مفهوم الجماعة الأدبية، حين يراها ترتبط بالحداثة والديمقراطية والمجتمع المدني الحي متعدد الأصوات، وأنها بمثابة أكثر الأشكال تعبيراً عن جوهر نشاط المجتمع، اعتباراً من أن عملها يتصل بقضايا الفكر ومجالاته الفلسفية والعملية قوية التأثير في صياغة الموقف الكلي للمجتمع، وهي تتكون لتعبر في الغالب عن تيار أدبي لا تقبله الاتجاهات الأدبية السائدة(38).
ولعل (جماعة شعر) التي ظهرت في لبنان منتصف خمسينات القرن الماضي تعد مثالاً جلياً لهذه الجماعات، حين جعلت من الشعر قضيتها، وبحثت فيه عن قصيدة جديدة، وأقامت جسراً بين الحركة الشعرية العربية ونظيراتها في الغرب، وكرّست لخلق نقد شعري حديث، وبلْورت قصيدة النثر، وان تخلق عبرها تيارات فيما يتعلق بمسألة التعامل مع التراث: تيار تزعمه يوسف الخال يرد الثورة الشعرية الجديدة في الشعر العربي إلى نماذج التمرد في التاريخ القومي، وآخر قادة أدونيس يأخذ بالتراث على أنه الحاضر العربي في تناقضاته.
عموماً، يلاحظ انتشار هذه الجماعات على نحو لافت في السنوات الأخيرة، كبديل، ربما. عن ضعف فعاليات التنظيمات الحزبية والنقابية والمدنية، وأغلبها يقوم على فكرة التجمع، أكثر من كونه يتأسس على وحدة المنطلقات الإبداعية، وتقارب الميول الأدبية، فضلاً عن أنها مازالت في طور التخلق، لم تتضح لها بعد سماتها الأسلوبية المائزة وتقنياتها اللغوية الفارقة.
وقد تتخذ هذه الجماعات طابعاً مؤسسياً وحيثية قانونية، فيما يعرف باسم الجمعيات الأدبية، وتضم مبدعين ونقادا وهواة، وتتميز بمرونة بنيتها، على معنى طوعية شبكة عضويتها، وعدم انضباطها على نحو محكم. وغالباً ما تقوم هذه الجمعيات في مواجهة الأشكال المؤسسية الرسمية القائمة، والتي تضم مجموعات تكنوقراطية مهيمنة على إنتاج ونشر وتوزيع الإبداعات الأدبية وتشكيل معاييرها. وتعتمد تلك الجمعيات على منظمين ينهضون بها، ويوفرون أسباب بقائها وتوطيد أركانها وتقديم أنشطتها.
وفي مشهد الإبداع المصري المعاصر، عرفت المدرسة الأدبية كجماعة تنطوي على قدر مشترك في النظر إلى مفهوم الأدب ووظيفته وتقنياته البلاغية، بما يجعلها أقدر على تحقيق منجزات جمالية مغايرة تكفل شرعية الاعتراف بها، وتقترن عادة بمثال يحتذى يمتلك أكثر من غيره قوة التبليغ، ويعد بمثابة الأب الروحي، والناطق بلسانها، اعتباراً من أن إبداعه يكثف الرأسمال الرمزي الذي تقدمه، وهو ما نجده بالأوضح لدي مدارس شعرية معاصرة (مدرسة المهجر، مدرسة الديوان، مدرسة أبو للو….)
أما مصطلح « الموجة الأدبية»، فيشير إلى ملمح من الحساسية الأدبية المتميزة، يتبدى عند مجموعة من الأدباء في مدي زمني يتراوح بين خمس إلى عشر سنوات، واستخدمه سليمان فياض للدلالة على خطأ الأخذ بمعيار المرحلة الزمنية الواحدة للتعبير عن الجيل، مذكرا أنه: « من التعسف هنا أن نطلق كلمة جيل على مجموعة من الأدباء في مدى زمني يتراوح بين خمس سنوات وعشر سنوات، وربما كان من الأصدق أن نقول أنهم مجموعات أو موجات في جيل واحد»(39).
ثانيا: التوزيع الجيلي:
ولعل ما يزيد من صعوبة مقاربة مفهوم الجيل، بجانب هذه المصطلحات المتداخلة، ما يخص ظاهرة تعاقب الأجيال الأدبية، بالنظر إلى توزّع هذه المقاربة على مستويين متضافرين: الأول يتمثل في دراسة كل جيل على حدة وفي مستواه الآني التزامني، ما يتيح امكانية التحدث عما يميزه، والثاني دراسة تعاقب هذه الأجيال، والكيفية التي تحكم تواترها، ما يطرح أسئلة من قبيل: كيف يتم هذا التعاقب؟ ووفق أية صيغة تتقدم حركته عبر الزمن؟ وهل من منطق خفي يحكمه؟
وفي درس النقد الأدبي، أثير جدال فائض حول تحقيب الأجيال الأدبية، حين وجد نفسه، في غمار محاولة إيجاد تمايز مرحلي لكل منها، مضطراً للقيام بتعيين زمني بدء ونهاية، وصك تسمية لكل جيل، ما أدى إلى تعدد وتباين المعايير التي اتخذها لهذا التحقيب، ما بين معيار سياسي (جيل الثورة، جيل النكسة، جيل العبور…)، أو حضاري (جيل التلفزيون، جيل المدونين…)، أو عمري (الجيل الشاب، الجيل الوسيط، جيل الشيوخ).
وقد يلجأ بعض من الباحثين إلى الوقوف عند دلالات فترية ناجزة، تقوم غالباً على النظام العشري أو نظام العقد، وتوظيفه لإسباغ طابع الهوية النوعية على ما يطلق عليه جيل الأربعينات والخمسينات والستينات، فيما العقد قد يلائم الشؤون البشرية من الناحية العملية والمخططات التطبيقية، لكنه في حال الإبداع الأدبي أقصر من أن تدون منجزاته تاريخياً. قد يصحّ أن عقداًَ ما كرّس نتاجاً أدبياً مميزاً يرتبط بجيل معين، كالحال لدى جيل الستينات في مصر، لكن الأمر ليس بهذه الكيفية في تتابع العقود السابقة أو اللاحقة.
من هنا يبدو التباس النظر إلى موجات الأجيال الأدبية، وهو ما بدا جليا لدى صلاح فضل، حين اقترح توزيع موجات الأدب المصري في القرن العشرين إلى أجيال أربعة رئيسية: جيل طه حسين ويضم المشاركين فيه بين الحربين العالميتين، وجيل نجيب محفوظ الذي بلغ أوْج نضجه خلال الحرب العالمية الثانية، وجيل الشعر الحر الذي ولد في العشرينات، وجيل الستينات، وان جاز القول أن ما قدمه فضل، وباعترافه، يمثل خطاطه أولية منقوصة، تحتاج لمزيد من الصقل والتعديل(40).
ولهذا السبب، على كل تحقيب أن يتأسس بالضرورة على قاعدة أن يدفع إلى تطوير كل مرحلة، بالمعنى الأقرب إلى الأنطولوجيا منه إلى التسجيل، بحيث يتم تتابع الأجيال وظيفيا، بما يشي بتأكيد النظر إلى هذا التحقيب بمنطق التجادل لا التلاغي، وبقيمة التواصل لا الفرادة.
* تصور مقترح:
والبادي أن محاولات تعريف الجيل الأدبي لا تزال تلفّها صعوبات عدة تتصل بقوامه ورهاناته، وبخاصة ما يتعلق باستيضاح ملامحه العامة، تلك التي توزعت بين أعطاء امتياز للبعض منها على حساب الأخرى، فلم تفلح سوى في الكشف عن ملامح منعزلة لها، أو معاينتها عبر تداخلها وتدامجها.
وفي هذا الصدد، يقترح سامي خشبة جوانب أربعة أساسية تسهم في تحديد هذه الملامح: الزاوية الاجتماعية على ضوء الواقع الاجتماعي الذي يعيشه الجيل مع الأجيال المعاصرة له، والمناخ الفكري والعقلي ويشمل الديناميات الثقافية التي تؤثر عليه، والزاوية الإنسانية وتعني علاقته بالأجيال السابقة وموقفه منها وموقفها منه، وأخيراً زاوية العمل والعلاقة بالمؤسسات ذات الصلة بنوع الإنتاج الذي يمارسه(41).
عموماً، يجوز هنا الحديث عن مكونات بعينها، تسهم، بتلاحمها، في صوغ تركيبة حوارية معبرة عن ملامح الجيل الأدبي، تتراءى كالتالي:
أولا: نمط البناء الجيلي:
ذلك أن كل جيل أدبي يندرج في إطار بناء جيلي أشمل Generational Structure. من كون أن فعالياته الإبداعية تضيف معطيات جديدة على الجيل السابق له، وتسلط أضواء على ما يليه.
وإضافة إلى هذه الفعاليات الإبداعية، هناك كذلك طبيعة النظرة التي ينظر بها جيل ما إلى الأجيال السابقة واللاحقة، والتي يراها البعض علاقات قطع، ويعاينها آخرون كعلاقات موصولة متنامية، عبّر عنها الروائي عبد الحكيم قاسم بقوله: «ان حركة الأدب المصري سائرة نحو اكتشاف حقائق الحياة المصرية، ومع كل جيل يزداد وعي الكاتب بحقائق هذه الحياة.. قد نختلف حول عظمة التعبير عن التجربة عند هذا الكاتب أو ذاك، ولكنا نظل على يقين بأن جيلا ما دون شك أعظم وعياً بالحياة من الجيل الذي يسبقه»(42).
الفيصل هنا، على أية حال، هو إيقاع الحياة الأدبية في المجتمع، وتفاعلها، وتبادلها الخبرات، بما يتيح مدى مشاركة الأجيال في الحركة الإبداعية، ومن ثم مدى تواصلها.
هذا على المستوى الرأسي للبناء الجيلي، أما على المستوى الأفقي، فثمة في كل حقبة زمنية أجيال ثلاثة هم: جيل القدامى، وجيل الوسط، والجيل الجديد، يحددهم يوسف الشاروني زمنيا بجيل ما فوق الخمسين، وجيل ما بين الأربعين والخمسين، ثم جيل من هم أقل من الأربعين. الجيل الأول تحددت معامله واستقرت تقاليده وأصبح له جمهوره المتذوق، والجيل الوسط يستمد شيئاً من وقار القدامى وبعضاً من ثورة الجديد، وهو بحكم طبيعته حلقة اتصال بين الجيلين، أما الجيل الثالث فلا يزال في مرحلته السديمية التي لم تتحدد بعد، وهذا سرّ قوته وسر ضعفه أيضاً(43).
وقد تزداد هذه المسألة وضوحاً، مع مطالعتنا لرؤية الأنثروبولوجية الأمريكية المعاصرة مرجريت ميد M. Meed. والتي ترى أن كل عصر يوجد به ثلاثة أجيال: أولهم: جيل لاحق الصورة Post Figuratif. ويتميز بالتقيد بتقاليد السلف، والارتداد إلى الماضي، وسطوة الآباء، وتربية بطريركية، وشعور باللازمنية، وتفوق الأعراف والوفاء لها، والابتعاد عن نفس النمط من الأجيال السابقة أو اللاحقة، وهو ما يسود عادة في المجتمعات البدائية والريفية. وثانيهم، جيل متلازم الصورة Configuratif، ويتميز بسطوة الكبار ممن يقررون الطراز ويعينون الحدود التي يمكن لثقافة هذا الجيل أن تعبر ضمنها عن نفسها، فهو جيل يستلزم فيه أي سلوك جديد تأييد الكبار، وينتشر هذا الجيل عادة في ظروف التحول الثقافي، ويتميز بقصر عمره، وان كان في هذه الظروف يمكن أن يتخذ أسلوب التمرد على الكبار.
وثالثهم، جيل سابق الصورة Prefiguratif. ويتميز بالرؤية المستقبلية، وعدم وقوعه تحت تأثيرات الجيل السابق، وممارسة التمرد، ورفض التقاليد، والتهوين من التراث، واتساع معرفته التكنولوجية(44).
ولدينا، أشار الناقد العربي القديم أبو بكر الصولي إلى هذه المسالة، حيث قسّم جيل المحدثين أو المتأخرين إلى قسمين: قسم يتابع جيل المتقدمين ويقلدهم، «إذْ يجرون بريح المتقدمين، ويصبّون على قوالبهم، وينتجعون كلامهم». وقسم يبتكر معاني لم يعرفها المتأخرون، وهذا عائد إلى ارتباطهم بالوسط الذي يعيشون فيه ويصدرون عنه(45).
ثانيا: المناخ الثقافي:
والملاحظ هنا عدم تماثل الخلفيات الثقافية بين الأجيال الأدبية، بالنظر إلى أن كل جيل منها يعكس حيثياته الثقافية التي تؤثر في تشكيله، وتطرأ على مواضع التأكيد، أو التركيز على الملامح العامة للبناء الاجتماعي والفكري السائدين.
ولعل مصطلحات مثل ميكانيزمات التراث والمعاصرة، والتفاعل مع إبداعات أدبية بعينها، ورصد الظروف الاجتماعية والسياسية، وإيقاع الفترة ومزاجيتها، هي تعابير ليست بالتحديد القاطع للدلالة على التأثيرات الثقافية لنتاج الأجيال الأدبية، وان بدت ضرورية لتأكيد بصمات كل جيل، واستيضاح حساسيته الجمالية والفكرية المتميزة.
والمثال الأوضح، في هذا الصدد، يبدو في كيفية تعامل كل جيل مع الآداب الأجنبية، حيث هناك من تلقى من هذه الآداب لُمعا جانبية عارضة، وتوقف عند سطوحها، وامتنع عليه السّبرْ والإفادة، وأجيال أخرى وقفت على كفاياتها وفعاليتها. بما تجاوز نقلها إلى الدراسة الناقدة، فالهوية المتجددة المحرضة على الإبداع، بتعبير جون راشمان J. Raichman (46).
بل انه يمكن ملاحظة تباين الإفادة من روافد هذه الآداب الأجنبية في الجيل الأدبي الواحد، وهو ما عبّر عنه ذلك التناظر الذي جرى بداية ثلاثينات القرن الماضي في مصر على صفحات الأعداد الأولي من مجلة (الرسالة)، بين طه حسين ممثل الذائقة الأدبية الفرنسية، وبين عباس العقاد ممثل الذائقة الأنجلو سكسونية، تحت عنوان (لاتينيون وسكسونيون).
والأمر هنا يتعلق بالبحث عن علامات تؤكد تمايز كل جيل، والتي تبدو خاضعة لواحدة أو أكثر من هذه الخلفيات الثقافية، وتعقب مصادرها ونشوئها وتأثيراتها.
وقد تجد التساؤلات المعتمدة حول خلفيات الأجيال الأدبية الثقافية ما يعمق فهمنا لتمايز هذه الأجيال وحركة تتابعها، لو استرشدنا بنموذج الناقد البريطاني رايموند ويليامز R. Willimas حول تعاقب التشكيلات الثقافية Cultural Configurations. التي عاينها عبر أنساق ثقافية ثلاثة: النسق المهيمن Dominant. والمتخلف أو المتبقي Residual. والطارئ Emergent. محاولا بواسطتها تقديم تصور متماسك لطبيعة التغيرات الاجتماعية والتحولات الثقافية، على مستوى ظهور تشكيلات جديدة واختفاء أخرى، وعلى مستوى نشوء أو تخلف أو اندحار تجارب ومعان وقيم وعلاقات وتأويلات بعينها في لحظة محددة.
فلدى يليامز، ثمة نسق ثقافي مهيمن ومؤثر، هو الذي يحدد طبيعة كل مجتمع وكل حقبة زمنية في تاريخه. وإلى جوار هذا النسق المهيمن، يتواجد نسقان آخران: نسق متخلف ينتمي إلى ثقافة ماضية، لكنه يمتلك تأثيراً في العملية الثقافية حاضراً، اعتباراً من أن: « أية ثقافة تشتمل على رواسب من ماضيها، لكن مكانها في العملية الثقافية المعاصرة موجود بعمق»(47)، وهو ما يجعله بعيداً عن النسق المهجور الذي ينتمي إلى ثقافة ماضية ومنقرضة. أما النسق الثاني الطارئ، فيتبدى كمعارضة للمهيمن أو كبديل عنه، ما يصيّره مظهراً لمقاومة أي نسق ثقافي في حقبة محددة من تاريخ مجتمعه. وقد يتمكن من مواجهة السائد المهيمن، ليتحول بدوره في لحظة لاحقة إلى نسق ثقافي مهيمن.
ثالثا: اللغــــة:
ذلك أن المعجم الذي يستخدمه المبدع يمثل أبرز الخواص الدالة عليه، ما يشي بأن فحص هذا المعجم عند كل جيل يمكن أن يسهم في استبانة الملامح العامة المميزة لإبداعه (نوعية اللغة من فصحى وعامية وهجين، استخدام المفردات، إيقاع الجملة، التشخيص، الدلالات الرمزية والأسطورية، عملية التقطيع الفني، علامات الوقف، التداخل بين الفنون الكتابية، التضمينات، الخلط بين الأزمنة في تصريف الأفعال…)، وكلها مؤشرات يلزم التوقف عندها لدى كل جيل، وما قدمه من مستجدات حولها.
ومع ذلك ورغمه، فالأمر أبعد من مجرد النظر إلى تمايز الأجيال الأدبية على أنه نوع من النزاع حول الألفاظ وتراكيبها، من حيث إلغاء تعابير كانت سائدة وإحلال أخرى جديدة محلها، بل من خلال الحيوية الفاعلة للغة نفسها المرتبطة بحيوية استخدامها. مثال ذلك، أن الكلمة الواحدة قد تعني دلالات أخرى بالنسبة لأجيال مختلفة، ما يشي بأن عمر الكلمات هو عمر الاتجاهات التي يفرزها عصر وتقاليد أدبية، تتحدد عبر الأجيال والمناهج، فيما لا يمكن أن تكون ناجزة، بل تخضع دوماً للتحوير والتعديل.
على أن هذا التغيير ليس مقصودا منه تلبية لنزوة، أو مرد رغبة غائية، بل هو ضرورة تمليها التحولات الاجتماعية والحضارية، تلك التحولات التي تؤدي بدورها إلى تغير أساس في التفكير، ومن ثم تلح الحاجة إلى معجم جديد يستوعب الأفكار الجديدة، وينتج تواصلاً أيسر. وبهذا الفهم، تضحى اللغة احدى قواعد اشارات الفرادة في الإبداع الأدبي لكل جيل، وليست بناء مفروضاً من الخارج.
رابعا: جمهور القراء:
وتتراءى أهمية هذا الجمهور بالنظر إلى أن معاينة الجيل الأدبي لا تكتمل فيما لوْ قصرناه على مبدعيه ونصوصه، دون متلقّيه وقرائه ممن تحركهم هواجس بلاغية متقاربة، وأعراف تأويل مشتركة، رغم جواز القول بعدم تزامن العلاقة بين المبدعين وجمهور القراء في كل الأحوال(48).
وثمة افتراضات ثلاثة أساسية، تزكي اندراج هذا الجمهور لدى الجيل الأدبي:
الأول، أن إبداعات كل جيل لا تنفصل عن تاريخ تلقيها وقراءتها التي نتجت عنها، فيما تاريخ هذه الإبداعات هو، على وجه الدقة، تاريخ تلقِّيها وتجسيداتها المتلاحقة عبر التاريخ، حيث الإبداعات لا تفهم دون أخذ تحققاتها وتجسداتها بعين الاعتبار.
والثاني، أن تحليل تاريخ التلقي والقراءات يفلت من مزاعم النزعة الفردية الذاتية، حيث أنماط التلقي ليست ذاتية تماماً، بل تنشأ عن أفق جماعي عام، مادامت جماعة القراء تصدر عن أفق تاريخي واحد، وتحركها هواجس بلاغية مثيلة، واستراتيجيات للقراءة، ما يسمح بالوصول إلى نتائج مشتركة وتأويل متشابه.
والثالث، أن فعل التلقي والقراءة في كل جيل لا يتحقق من خلال التفاعل بين نصوصه وقرائه فحسب. بل من خلال التفاعل بين جماعات القراء وأنماط التلقي المتعاقبة، أي أنه يتحقق من خلال التفاعل بين النصوص والقراء، سواء منهم اللاحقين أو السابقين أو المعاصرين(49).
وهنا يجد جمهور القراء مشروعية اندراجه كمكوّن أساسي للجيل الأدبي، بجانب مبدعيه ونصوصه، بحيثية أن الجمهور، من ناحية، هو الذي يحدد مدى أهمية النصوص، وهو ما عاينه الناقد الفرنسي ألبيرميمي A. Mémmi حين ذكر أن استقبال القراء للنص يمكن أن يشكل دالة واضحة على مستوى أهميته. وأن العلاقة بين النص وقرائه تمثل أحد الاعتبارات المهمة التي يضعها المؤلف في اعتباره، ومن ثم فهي تحدد مصيره بطريقة موضوعية، بل وتسهم في تحديد موقعه على خرائط الإبداع(50).
ومن ناحية أخرى، فإن فعل القراءة يعد بمثابة احتمال من بين احتمالات النص الكثيرة والمختلفة، مادام النص يشكل كوناً من العلامات والإشارات، بما يجعله دوما قابلاً للتفسير والتأويل، وان اتصل اختلاف القراءات بتباين الفضاءات الثقافية والأنظمة المعرفية، وذائقة القارئ وخبرته ومعايير وقيم قراءته، بما يعني امكان استبانة مدي حرية القراء في كل جيل، والتعرف على أجواء الديموقراطية أو الاستبداد السائدة.
خامساً: الوسائط الفنّية:
والأمر هنا يتعلق بعدم امكان تواجد إبداعات أي جيل أدبي، خارج إطار تطوير وسائل للطباعة والنشر والتوزيع والتوثيق، تتولاها دور الطباعة والنشر والمكتبات، وهي وسائل تدخل ضمن الانجازات الحضارية للمجتمع، وتمارس فعالياتها وفقاً للقواعد المشكلة لأنشطتها، وتعمل على رصد النتاج الأدبي.
وتزداد أهميتها بالنسبة للأجيال الأدبية القادمة، وبخاصة مع تواتر النشر الالكتروني وعالم الكتاب الدينامي Dynamic Book. الذي يقوم على تحريك الأنواع الأدبية ومفرداتها على نحو غير مسبوق، ومن زوايا مختلفة، وبأساليب لا حصر لها تعتمد مزْج ومواءمة نصوصها.
كذلك فإن من أبرز هذه الوسائط، وجود أعمال ببليوجرافية ومعاجم للتراجم ترصد هذا النتاج، وتسجله، وتصنّفه، بما ييسّر على الباحثين في دراسة الأجيال الأدبية مهمتهم، ويختصر وقتهم وجهدهم، ويقدم صورة دقيقة لإبداعات كل جيل.
سادسا: الجماعات الوسيطة:
وفي ميدان علم اجتماع الاتصال الجماهيري، يستخدم مفهوم «حراس المنافذ» Gate Keepers. للدلالة على من يقومون باختيار أنواع الاتصالات التي يستقبلها الجمهور، وهو ما يمكن هنا الإفادة منه. إذ تتوسط بين الجيل الأدبي والمجتمع الذي ينتمي إليه جماعات وسيطة Intermediate Groups. تتكون من النقاد، ومحرري الأبواب الأدبية ومقدمي البرامج الإعلامية، وأعضاء الجمعيات الأدبية، واللجان المهتمة، والأكاديميين المتخصصين في الأدب، والناشرين والموزعين، ومؤسسات الدراسات والبحوث، وأجهزة الرقابة، ومسؤولي المؤتمرات والندوات، وكلها جماعات تلعب أدواراً مهمة بالنسبة لعملية الإبداع الأدبي، من حيث تزويدها للمبدع بتقييم عمله وتقبله، وخصائص المبتكر منه وتبنّيه، ما يترتب على آرائها تزويد الموهوبين بالمؤازرة والاعتراف.
وبهذه الكيفية. يتضح تأثير هذه الجماعات في تكوين الرأي العام القارئ، وهو ما يمكن أن يشكل أحد معايير تحديد الهوية الفنية والفكرية لدي الأجيال الأدبية.
وفي المجمل، فإن هذه المكونات يمكن أن تمثل سويّة تصورا يكفل رؤية شاملة غير مجتزأة لمفهوم الجيل الآدبي، وتكشف عن علاقته مع الظروف الكلية التي يعيش في إطارها، ناهيك عن امكان الإسهام في مقاربة تتابع الأجيال وتواصلها.
ها نحن نتقدم في مساءلة مفهوم الجيل الأدبي، ونتحدث عن قوامه ورهاناته، بما قد ييسر الانتقال من مستوى الحديث النظري إلى المعاينة التطبيقية، عن طريق اختباره كمؤشر في التعبير عن وجوده، وكمجال يمارس من خلاله فعالياته في الدرس الأدبي، وكوسيلة يستطاع بها الكشف عن إمكانات هذا الدرس، بما قد يتيح فرصة فهم أكثر جدة لمقاربة المسيرة الأدبية، ولا شك في أننا نكون بهذا أمام بحث آخر، واشكال جديد.
المراجــــع
1- Attias, D.: Sociologie des Générations – L’ Emperient du temps, Paris, PuF, 1998, PP. 17-18.
2- Bouthoul, G.:Avoir La Paix, Paris, Grasset, 1987, P.101.
3- Evans – Pritchard, E.: The Nuer, Oxford University press, 1981, PP. 249- 266.
4- Bourdieu, P. : La Question de Sociologie, Paris, Minuit, 1984, P. 142.
5- أنتوني غدنز: علم الاجتماع، ترجمة وتقديم فايز الصيّاغ، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2005، ص 245.
6- Braungart, R.: Générations & Politique, Paris, Economica, 1989, PP. 11-12.
7- عبد الرحمن بن خلدون: مقدمة ابن خلدون، تحقيق درويش الجويدي، بيروت، المكتبة العصرية، 2000، ص 170.
8- المصدر السابق، ص 120.
9- المصدر نفسه، ص 137
10- المصدر نفسه، ص 138.
11- المصدر نفسه، ص ص 170 – 171.
12- المصدر نفسه، ص ص 175- 176.
13- Bate, W.: Preface to criticism, New York, Doubleday Anchor, 1979, P. 98.
14- Attias, D., op. Cit., P. 101.
15- Peyre, H.: Les Générations Litteraires, Paris, Editions Contemporaines, 1948, PP. 214-217.
16- Dilthey, W.: Selected Works (Vol. 1), Introduction to the Human Sciences, Princeton University press, 1991, P. 78.
17- Ortega Y Gasset, J.: The Dehumanization of Art and other Essays on Art – Culture and literature, Princeton University press, 1968, PP. 33-36.
18- Attias, D., Op. Cit., P. 25.
19- Mannheim, K.: « What is a social Generation?» in (The Youth Revolution – The conflict of Generation in Modern History), Edited by A. Esler, New York, Heath and Company, 1974, PP. 7-8.
20- Mannheim, K.: « The Problems of Generations «in K. Mannheim (Essays on the Sociology of knowledge), London, Routledge and kegan paul, 1952, P. 338.
21- Parsons, T.: Social Structure and Personality, London, The Free press, 1965, P. 140.
22- Ibid., P. 145.
23- Kristeva, J.: Les Nouvelles Maladies de L’Ame, Paris, Fayard, 1993, Pp. 249- 250.
24- Ibid., P. 271.
25- Bourdieu, P., Op. Cit., P. 143.
26- Ritzer, G.: The Macdonaldization – Thesiss Explorations and Extensions, London, Sage Publications, 1998, PP. 17- 19.
27- Bakhtine, M.: The Dialogical Imaginations – Four Essays, Edited by M. Holquist and C. Emerson, Austin, University of Texas Press, 1981, P. 78.
28- زكي نجيب محمود: في فلسفة النقد، القاهرة، دار الشرق، 1979، ص 233.
29- Lukacs, G.: Essays on the Sociology of Knowledge, London, Routledge and kegan paul, 1981, P. 61.
30- Goldmann, L.: Sciences Humaines et Philosophie, Paris, Gouthier, 1987, PP. 109 – 110.
31- فتحي أبو العنين: « مفهوم الجيل والإبداع» في مجلة (الهلال)، يناير 1998، القاهرة، دار الهلال، ص 41.
32- Mannheim, K., What is a social Generation?, Op. Cit., P. 6.
33- مع تعاظم آليات الدينامية والترابط والهندسة الرقمية واللغات البرمجية والتفاعلية والشبكية والتشجير الالكتروني، حدث تدافع لافت لانتشار المدونات الأدبية، فيما يسمى بأدب الإنترنت أو مرادفاته (أدب الشبكة العنكبوتية، الأدب الالكتروني، الأدب التفاعلي، الإبداع الرقمي..)، ما نتج عنه أشكال أدبية طارئة كالرواية الترابطية Hyper Fiction والشعر الالكتروني Electric Poetry. وكلها أشكال مازالت في طور التجريب، لم تتضح بعد سماتها الأسلوبية المائزة وتقنياتها اللغوية الفارقة. يراجع:
Tapscott, D.: Growing up Digital – The Rise of Net Generation, New York, Mc Graw- Hill Books, 1998.
34- Glenn, N.:Cohort Analysis, Beverly Hills, Sage, 1977.
35- روبيرسكاربيت: سوسيولوجيا الأدب، ترجمة أمال عرموني، بيروت- باريس، منشورات عويدات، 1975، ص ص 64-66.
36- محمد بدوي : الرواية الحديثة في مصر- دراسة في التشكيل والأيديولوجيا، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 2006، ص 252.
37- المرجع السابق، ص 253.
38- أمجد ريان :» الجماعات الأدبية – تكوينها ودورها التاريخي «في (الأدب وأسئلة الواقع المعاصر)، البحر الأحمر، مؤتمر أدباء مصر، الدورة (22)، نوفمبر 2007، ص ص 404 – 412.
39- سليمان فياض: «من تحقيق حول القصة القصيرة بين جيلين»، اعداد محمد بركات، مجلة (الهلال)، أغسطس 1970، ص 161.
40- صلاح فضل: «مفهوم الأجيال في تاريخ الأدب» في مجلة (الكتب – وجهات نظر في الثقافة والسياسة والفكر)، العدد (45)، القاهرة، أكتوبر 2002، ص ص 70-71.
41- سامي خشبة: « جيلنا – النقد والحرية والمشاكل « في مجلة (الطليعة)، سبتمبر 1969، القاهرة، مؤسسة الأهرام، ص 61.
42- عبد الحكيم قاسم، من تحقيق حول القصة القصيرة بين جيلين، مرجع سابق، ص 157.
43- يوسف الشاروني، المرجع السابق، ص 194.
44- Meed, M.: «National Character» in (Anthropology to – day), Edited by A. Kroeber, Chicago University press, 1953, P. 121.
45- أبو بكر محمد بن يحيى الصولي: أخبار أبي تمام، تحقيق خليل محمد عساكر ومحمد عبده عزام ونظير الإسلام الهندي، بيروت، المكتب التجاري، بدون تاريخ، ص 53.
46- Raichman, J. (ed.): The Identity in Question, London, Routledge and kegan Paul, 1996, P. 41.
47- Williams, R.: « Dominant, Residual and Emergent» in (Twentieth – century Literary Theory, London, Macmillan, 1989, P. 243.
48- يبدو عدم تزامن العلاقة بين المبدعين وجمهور القراء وارداً: فستندال لم يصل فعليا إلى الجمهور، ولم يصبح مؤلفاً مشهوراً إلا بعد مرور أكثر من نصف قرن على وفاته مع أنه لم يكن مجهولاً في زمنه، ولم يضع الجمهور سكوت فيتزجرالد في موضعه الصحيح إلا بعد مرور قرابة عقدين على رحيله، وكذلك الأمر مع تنظيرات الناقد الروسي ميخائيل باختين التي لم يستطيع الجمهور أن يتعرف عليها إلا بعد مضي خمسين سنة على ظهورها. وقد يتغير اتجاه الجمهور خلال حياة المبدع، مثلماً حدث للروائية الفرنسية المعاصرة مرجريت دوراً، التي أدى نيل روايتها (العاشق) لجائزة جونكور، وطبع قراءة المليون نسخة منها، إلى اتساع دائرة جمهورها.
ويضرب جابر عصفور مثالا على ذلك بالروائي المصري ادوار الخراط حين يراه : «ينتمي عمريا وفكريا إلى جبل أسبق من جيل الستينات. لكنه لم يجد الفرصة للتعبير الأرحب عن تجربته الخاصة. وصياغة رؤيته المائزة إبداعيا. ومن ثم الوصول إلى دوائر واسعة من القراء. الا ضمن السياق المتجرد لجيل الستينات». يراجع : جابر عصفور: زمن الرواية. القاهرة. مكتبة الأسرة , 1999، ص ص35- 35.
49- نادر كاظم : المقامات والتلقي – بحث في أنماط التلقي لمقامات الهمداني في النقد العربي الحديث. بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2003، ص 23.
50- Memmi, A.: Problémes de la Sociologie de la litérature, Paris, PUF, 1983, P. 301.
محمــد حــافظ ديــاب
ناقد وأكاديمي من مصر