تيتو: الموت السياسي يعدّ أكثر أنواع الموت فظاعةً
ترجمة: هيثـــم فرحـــــت
أكاديمي من سورية .
اسم المؤلّف وعنوان المقال باللغة الإنكليزية:
Keane, John (2009) «Life After Political Death: The Fate of Leaders After Leaving High Office.
الديمقراطية النيابية
إن الديمقراطيات المعاصرة لافتة للنظر في الطريقة التي تتخلص فيها من عبادة الزعماء لأنها مفهومة ضمناً بوصفها أشكالاً من أنظمة حكم وطرائق في العيش لا يحكم فيها أحد، كون السلطة تخضع لانتخابات دورية، بالإضافة إلى قيام العديد من الأطراف بمراقبتها والطعن فيها علناً. فالديمقراطيات، بطبيعة الحال، بحاجة إلى زعماء ومضاعفة أعدادهم واحترامهم والاهتداء بهم والتعلّم منهم، إلاّ أنها لا تجلّهم بوصفهم زعماء موهوبين بسلطات ميتافيزيقية، إذ تتخصص الديمقراطيات في كفّ الزعماء عن شطحات الخيال، وتتمكّن من ذلك من خلال جملة من الطرائق الشكلية والأعراف العادية التي تقتضي من الزعماء التخلّي عن مناصبهم بصورة سلميّة، دون التدبير لعودة غاشمة، الأمر الذي يمكِّن زعماء آخرين من الحلول مكانهم دون أعمال خطف أو إطلاق نار، وتفجيرات أو انتفاضات في الشوارع.
يعود المبدأ القائل بضرورة تغيير الزعماء بصورة دورية من خلال استخدام وسائل سلمية في أصوله إلى ولادة الديمقراطية النيابية في منطقة الأطلسي في أواخر القرن الثامن عشر. فمن المتعارف عليه أن تشكيل هذا النمط الجديد قد تمّ من نظام الحكم من خلال ربط روح الديمقراطية الكلاسيكية ولغتها بالمُثُل الأوروبية في القرون الوسطى وبمؤسسات نظام الحكم التمثيلي، وغيّرت اللغة والمؤسسات الجديدة للديمقراطية النيابية معنى الزعامة السياسية وأهميتها تغييراً جوهرياً، وتبيّن أن الهجين الناجم واحد من ابتكارات الفكر السياسي الحديث الرئيسة [كين، 2009]؛ وعبّرت الديمقراطية النيابية عن نمط من أنظمة الحكم تمتّع الناس فيه، بوصفهم ناخبين يمتلكون خياراً حقيقياً بين بديلين في الحدود الدنيا، بالحرية في اختيار زعمائهم الذين دافعوا عن مصالحهم. لقد أُهرق الكثير من الحبر والدم لتحديد ماهية التمثيل بالضبط، وما يمكن عدّه مصالح، ومَن يحقّ له أن يمثّل مَن، وما ينبغي القيام به عندما يهين النوّاب أو يخذلون الذين من المفترض أن يمثّلوهم، غير أن ما كان مألوفاً بالنسبة إلى عصر الديمقراطية النيابية الحديث التي نضجت في أثناء السنوات الأولى من القرن العشرين تمثّل بالاعتقاد بأن نظام الحكم الصالح هو نظام حكم نواب عن الشعب منتخبين.
لم تكن الديمقراطية النيابية مجرّد استجابة عملية لضرورات إقليمية، كما هو مفترض حالها في الوقت الراهن، أو حلاً عملياً لإشكالية كيفية ممارسة السلطة بشكل مسؤول على مسافات شاسعة، إذ كانت قضية الزعامة الديمقراطية مثار اهتمام أكبر من هذا الأمر؛ تُعدّ ملاحظة توماس بين (Thomas Paine) المثيرة للاهتمام «كان يمكن لأثينا أن تتفوق على ديمقراطيتها الذاتية من خلال التمثيل النيابي» مؤشّراً جوهرياً على مسألة طريفة للغاية تكمن في تفوّق نظام الحكم النيابي على يد صحفيين وصانعي دساتير ومواطنين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وينسحب الأمر عينه على إصرار توماس جيفرسون أنه «عندما يحين الوقت، يتعين على الناس الرحيل، وألاّ يمكثوا مطوّلاً في أرض يحقّ للآخرين الزحف نحوها» [Paine 1791 [1925], 273; Jefferson 1811 [1905], 204; Urbinati 2006]. فعادة ما يُثني مؤيدو الديمقراطية النيابية على معارضتها للمَلَكيّة والاستبداد بوصفها نهجاً أفضل في الحكم من خلال التعبير عن الاختلافات في الرأي علانية، ليس بين الُمُمَثَّلين أنفسهم وحسب، بل بين النوّاب ومنتخبيهم، فتم الترحيب بنظام الحكم النيابي لإعتاقه المواطنين من الخوف من الزعماء الذين أوكلت إليهم السلطة؛ فعُدَّ النيابي المنتخب «وشاغل المنصب» بصورة مؤقتة بديلاً إيجابياً للسلطة المجسّدة في جماعة من الأسياد والطغاة غير المنتخبين، وتمّ الترحيب بنظام الحكم النيابي بوصفه طريقة جديدة وفعّالة لتوزيع اللوم عن أداء فاشل، ونهجاً جديداً لتشجيع تداول الزعامة وفقاً للجدارة والتواضع. كما عُدَّت الديمقراطية النيابية، في تحدٍّ علني للحديث عن عبادة البطل المتأصلة في الوضع الإنساني (على يد توماس كارلايل وآخرين)، سلاحاً جديداً ضد التزلّف للأقوياء، وشكلاً جديداً من أنظمة الحكم المتواضعة، وأسلوباً لخلق مجال للأقليات السياسية المعارضة وتوجيه المنافسة على السلطة؛ بدوره، مكّن هذا الأمر النواب المنتخبين من اختبار كفاءتهم السياسية ومهاراتهم القيادية أمام آخرين يمتلكون صلاحية عزلهم.
لقد كانت شطحة الخيال التي واكبت ابتكار الديمقراطية النيابية مذهلة. مع هذا، كانت لها صفاتها المحيّرة، ومن ضمنها صمت غريب ضمن نظريات الديمقراطية النيابية حيال مصير الزعماء السياسيين بعد انتهاء ولايتهم، أو بعد عزلهم من مناصبهم؛ صحيح أن ثمة مراقبين حذّروا من أن الزعماء السابقين سيصبحون مصدراً للمتاعب، إذ توصّلوا إلى نتيجة مفادها أنه لا يتعين على الديمقراطية النيابية أن تفرض قيوداً زمنية على أعلى المناصب في الدولة؛ ففقدت هذه الحجة غير الديمقراطية على نحو غريب سطوتها في أثناء صراعات القرنين التاسع عشر والعشرين على تمديد الحقوق السياسية، إذ رُفضت هذه الحجة في الولايات المتحدة عام1951 من خلال تصديق التعديل الثاني والعشرين الذي يقضي بتحديد بقاء الرؤساء في مناصبهم لفترتين زمنيتين كحدّ أقصى؛ فلم يأت ذلك الابتكار على ذكر مسألة ماذا سيحل بالزعماء السياسيين بعد ترك مناصبهم، وتبقى مصادر هذا الصمت الغريب حيال الحياة بعد الزعامة مبهمة، فقد يكون مرد ذلك إلى الاعتقاد بأن المَلَكِيّة كانت العدو الرئيس لمبدأ تداول السلطة بين أصحاب المناصب على المستوى التنفيذي. كما أقنعت تجربة ملوك معتوهين مثل جورج الثالث أو الإمبراطور النمساوي فرديناند الأول (الذي عانى من عشرين نوبة صَرْعيَّة يومياً، ممّا جعل الحكم صعباً) الكثيرين بورود الشعار العظيم للوطنيين الهولنديين والثوار الفرنسيين: «الموت للأرستقراطيين، يعيش الديمقراطيون!» وبرز يقين انفعالي في بعض الأوساط الليبرالية في القرن التاسع عشر بإمكانية استبدال روح المَلَكِيَّة بسلطة المنطق المهذّب المتمثل بروح المصلحة العامة التي يمكن تطبيقها على الزعماء والزعماء السابقين على حدّ سواء. شعر جيمز ميل (على حد تعبير ابنه جون ستيوارت) «أنه يمكن كسب كل شيء في حال تم تعليم جميع السكان القراءة، وفي حال تم السماح لجميع أنواع الآراء أن تُطرح عليهم مشافهةً وكتابةً، وفي حال استطاعوا بوساطة حق الاقتراع تعيين سلطة تشريعية تعطي زخماً للآراء التي تبنوها. كما ظنّ أنه عندما لم تعد السلطة التشريعية تمثّل مصلحة طبقة ما، سينصبّ هدفها على المصلحة العامة بصورة شريفة وحكمة مناسبة؛ وطالما أن الناس ستهتدي بطبقة المثقفين على نحو كافٍ للقيام باختيار موفّق للأشخاص الذين سيقومون بتمثيلهم، وعند قيامهم بذلك، يَتركون لأولئك الذين اختاروهم استنساباً ليبرالياً» .[J.S. Mill 1873 (1969), 64-65] فمن المحتمل أن الصمت الغريب حيال الحياة بعد المناصب العليا قام أيضاً على الافتراض بأن الزعماء يتقدّمون في العمر دوماً، وانطلاقاً من أن أنماط متوسط العمر مختلفة اختلافاً واضحاً عمّا هي عليه الآن، سيكون خريف حياتهم بعد المنصب قصيراً (وهو افتراض تم دحضه بحقيقة مفادها أنه تمّت إضافة سنتين ونصف على حياة الناس كل عقد وسطياً خلال العقود الأربعة المنصرمة في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. أو من المحتمل قيام الصمت الغريب على الاعتقاد بأن الرب سيقوم بالإشراف على شغل المناصب وحمايتها، أو أن «الرأي الموضوعي» و«الحصافة المدروسة» و«الضمير المتنوِّر» المواكب لشغل المناصب من الناحية المثالية مجرد «وديعة من العناية الإلهية»، مع اللازمة القائلة بأن الغضب الإلهي سيكون عاقبة من يسيء إلى هذه الخصال من أصحاب المناصب والزعماء السابقين (على حد تعبير إدموند بيرك الشهير في مقطع مهمل من «خطابه للمقترعين في بريستول» [1774].
فمهما تكن الأسباب الموجبة للصمت، إن تخميني الأوليّ أن ثمة أمراً شبيهاً بتحامل إغريقي كلاسيكي يُلقي بظلاله على فهمنا الموروث للديمقراطية النيابية في حقل الفكر السياسي، يمكن تسميته بذهنية التغريب القائمة على افتراض أن الزعماء الذين يتخلّون أو يُعزَلون من مناصبهم تتم تعريتهم ونفيهم إلى أرض النسيان، مثلما حصل في الديمقراطيات الإغريقية القديمة؛ كان نهج التغريب على صلة بعيدة بجهود حديثة لتطبيق ولايات حكم محدودة على أصحاب المناصب، إذ مثّل التغريب انفصالاً واضحاً عن العرف الإغريقي القديم المتمثل بنخبة تدفع بالنخبة المعارِضة نحو المنفى، فشكّل بذلك نمطاً جديداً ونهجاً ذكياً من تسوية ديمقراطية تحت سيطرة المواطنين لتغيير رياضة مطاردة الأعداء الدموية البشعة إلى ممارسة ألطف في التعامل مع المعارضين بوصفهم مجرد منافسين على السلطة. كما عدَّ المواطنون الإغريق التغريب علاجاً ناجعاً لمرض خاص بالديمقراطية: قد يغوي الحكم الذاتي «للشعب» الشعب لاختيار زعماء لا اهتمام لهم سوى الإساءة «للشعب». تمثّل التغريب، استناداً إلى مبدأ رجل واحد، صوت واحد، ضحية واحدة، بطرد سنوي غير لائق لزعماء شعبيين من مدينة ما لعشر سنوات، في حال فضّل الحد الأدنى من المقترعين طردهم. فتم مَنْح الذين تمّ فصلهم في اختبار عدم الحظوة عند الناس مهلة عشرة أيام للرحيل عن المدينة، تاركين مجلس الشعب يمضي قدماً في عملية الحكم الذاتي.
ليس من المهم هنا تعليل سبب إخفاق سلاح التغريب والتخلّي عنه لاحقاً (إذ كان له الأثر في إثارة أعمال ثأر سياسية وأُسيء استخدامه على يد شخصيات سياسية متنافسة ومصمِّمة على الإطاحة بمعارضيها عن المسرح السياسي). أما جوهر الأمر فهو أن الوقائع المعاصرة على خلاف كليّ مع الذهنية التي صاغت النظرية اليونانية في التغريب وممارسته. فقاعدة تارك لمنصبه، بعيد عن العين، بعيد عن الذهن لم تعد تنطبق على الديمقراطيات القائمة فعلياً؛ «تبوء جميع الحيوات السياسية بالإخفاق ما لم يُوضَع حدّ لها في منتصفها وعند منعطف سارّ، ومردّ ذلك إلى طبيعة السياسة والشؤون الإنسانية»، هذا ما اعتاد إينوك باول البوح به سراً وعلانيةً [Powell 1977, 151]. لم يعد هذا الأمر صحيحاً، فالحياة بعد المنصب أصبحت أمراً اعتيادياً لأسباب عديدة؛ ففي ظل ظروف ديمقراطية، لم يُفرض على زعماء سابقين الرحيل إلى المنفى، على الرغم من أن هذه الممارسة لم تتوقف كليّاً [Roniger and Sznajder]. وبالاستعانة بقليل من الحظ والتدريب المنتظم في صالة الألعاب الرياضية أو المسبح، يحيا زعماء سياسيون سابقون رفيعو المستوى أعماراً أطول وأكثر صحة، فعندما يتركون مناصبهم يجدون أن العديد من السنين الإضافية ما تزال في جعبتهم؛ تكرّس الديمقراطيات التي تفرض ولايات حكم محددة للمنصب التوجّه نحو الحياة بعد المنصب، إما لأنه يغلب على الزعماء السابقين صغر السّن، أو لأن ولايات الحكم المحددة للمنصب غالباً ما تفرز زعماء يتحولون إلى مستضعفين (ابتكر صيرفيو القرن الثامن عشر هذا التعبير، وطُبِّق لاحقاً على النواب المنتخبين) في المرحلة الأخيرة من مناصبهم. فلهذه الأسباب وغيرها، ليس من عادة الزعماء السابقين أن يمشوا الهوينى، فلا يُطاح بهم إلى مصافّ النكرات، ولا يتم نسياهم، بل يتمتعون بشهرة عامة متزايدة؛ فهم يشكّلون مصدر أزمة متنامية، وربما مصدر ثروة، للديمقراطيات القائمة فعلياً.
نظراً لأسباب تتعلق بالمجال والدقة، سأُركِّز حصرياً على الشخصيات السياسية التي سبق لها أن شغلت أعلى المناصب في الدولة، وأنا على دراية بوجود أنماط مختلفة أخرى من الحياة بعد شغل المناصب على مستويات أدنى من الحكم والمجتمع المدني داخل حدود الدولة الإقليمية وخارجها. مع هذا، ليس التركيز على أصحاب المناصب التنفيذية مجرد وسيلة تحليلية، وما يبرر هذا يكمن في السلطات المعتبرة التي يتمتعون بها عادة في أثناء تولّيهم المناصب، (وبذلك أزعم) وفي الفرص المتزايدة لممارسة صلاحيات الزعامة بعد رحيلهم عن المناصب أو عزلهم منها. بعبارة أخرى، ثمة أسباب تجريبية واستراتيجية ومعيارية للتفكير بطرائق جديدة، بجدية وعمق، في جدلية الحياة بعد شغل المناصب السياسية على أعلى المستويات. أما موضوع أصحاب المناصب السابقة، فلم يُبَتّ فيه ولم تُجر حوله أبحاث واستُخِِفَّ به، وفي مجمل الحالات، افتقر للتنسيق. أقدم لكم فيما يأتي عجالة تقريبية لحقل بحثي جديد غير مستَثمَر وذي أهمية متنامية في رسم مستقبل الديمقراطيات المعاصرة.
الاتكال على المناصب
تكمن نقطة انطلاق هذا البحث في أن تجربة شغل المناصب السياسية على أعلى المستويات تولِّد عادات يصعب التخلص منها بعد التخلي عن المناصب، فتجربة العزل من المنصب شبيهة غالباً بانهيار عالَم شخصيّ؛ «أنت تعرف صعوبة هذا الأمر، لقد وهبتُ حياتي كلّها للسياسة»، تقول الشخصية الرئيسة في مسرحية فاسلاف هافِل الرحيل (2008) المليئة بإحالات إلى كلّ من مسرحيتي تشيخوف بستان الكرز The Cherry Orchardوشيكسبير الملك لير King Lear، فكلاهما يعالج موضوع التكاليف الشخصية المؤلمة الناجمة عن فقدان السلطة. إن الاتكال على المناصب، كما يمكن تسميته، يبلغ أشدّه فتكاً بين الرؤساء ورؤساء الحكومات وأصحاب المناصب العليا السابقين على نحو خاص، إلاّ أن المرض قد يصيب شغل المناصب على المستويات كافة.
ما الذي يولِّد الاتكال على المناصب؟ لا يتعلق الأمر، جدلاً، بامتيازات المناصب وحسب- أي راتب مضمون وميزانيات استنسابية ودعم إداري وإدارة الوقت بوساطة السائقين ووجبات غداء فاخرة وموارد بشرية ورشاوى محتملة- بل بالرضا الشخصي العميق بكسب العرفان الجماهيري ( أو ذكريات حنونة «لشهر العسل»)، فكلاهما يعمل بوصفه نوعاً من تنشيقة([) ليس من السهولة بمكان التخلي عن تعاطيها عند نهاية ولاية المرء، إذ تأسر شؤون المنصب الزعماء السياسيين، فيقعون بذلك ضحية لما يُعرف بالصّلف؛ ويتوقون للأوسمة (مثل ألقاب الأشراف والفروسية ووسام ربطة السّاق، وجوائز أخرى طالما تاق إليها رؤساء حكومات بريطانية السابقين). كما تبرز عادة أسباب تحليل نفسيّ في التعلق الجنوني والنرجسي بالمناصب (على حدّ تعبير آنغس ماكنتاير [1988]). سبق لتيتو أن أشار إلى أنّ «الموت السياسي يعدّ أكثر أنواع الموت فظاعةً»، إذ يبين هذا التعليق أنه لم يصبغ شعره وحسب، بل تباهى بأسنانه الصناعية ناصعة البياض، واستخدم مصباحاً شمسياً لزيادة اسمراره، وكأنه أراد بناء ذات متعاظمة لا تعترف بالموت؛ فقَرَن تيتو بذلك الرحيل عن المنصب بالموت الجسدي، فمن هنا ضَمنَ ولاية للمنصب أبدية، وأمَرَ بتغيير دستوري للقيادة الجماعية، فبعد استمراره (هكذا ظنّ) لا يستطيع أحد أن يصادر شهرته ويقاومها، أو أن يشوّه سمعته.
بعبارة أخرى، يمكن توصيف وجهة نظري بالاتكال على المنصب على النحو الآتي: إن القدرة على التخلي عن المنصب للآخرين بصورة حضارية- أي «سياسة الانسحاب» بوصفها مصطلحاً ابتكرته لتحليل الحالات المختلفة من إصلاحات ما بعد عام 1985 التي قام بها غورباتشوف في الاتحاد السوفييتي، والولايات الرئاسية القاسية التي عانى فيها فاسلاف هافل في تشيكوسلوفاكيا – ليست هبة «طبيعية» أو إلهية [Keane 1990; Keane 1999]. فثمة استثناءات بالطبع لشكل أصحاب المناصب السياسية الملتزمين قلباً وقالباً باحترام ولايات حكم محدِّدة لسلطتهم، حيث يدركون أن تداول السلطة بين أصحاب المناصب صلاح ديمقراطي مطلق، ويستوعبون مطبات ضمن وهْم «لزومٍ لا غنى عنه»، ولديهم موهبة الحكمة القائلة بأن العبقرية السياسية تكمن في معرفة زمن التوقّف (أي أن المعلِّم ينتصر من خلال الانسحاب، على حد تعبير غوته)؛ لكن التخلّي عن المنصب قدرة تم الاهتداء بها على مضض، وبصعوبة بالغة في ظروف قاهرة عادة؛ إنها موهبة تفتقر لنماذج أدوار ثانوية، ولمعلّمين رصينين، ولدليل سياسي مطبوع.
إن المخاطر الملموسة من فقدان السلطة معروفة تماماً، فرهبة الهزيمة ليست مرتبطة بالتخلي القسري عن السياسات التي تمّ النضال من أجلها بزخم وهدف كبيرين وحسب، بل ارتبط الخوف من الموت السياسي بفقدان عمل التحدّي المستمر، وبالنوح على تطويل الأيام، إذ قُسِّمت الدقائق بصورة دقيقة، وبالمذكّرات اليومية الفارغة والهواتف الصامتة، وبالعجز عن تعويض الوقت الضائع بصحبة العائلات والأحبّة، وبالصعوبة العاطفية والمخاوف من اكتئاب مطبق (عانى منه ليندن جونسون، على سبيل المثال) سبّبه عالم رجوليّ أصبحت فيه البلادة متطلباً للتوظيف، وعُدت الإقرارات بالضعف فيه عبئاً. ومما لاشك فيه أن «عارض الحرمان الملازم للمقام» (عبارة نحتها رئيس الوزراء الأسترالي الأسبق غاريث إيفانز) الناجمة تزيد من عدم الرغبة في التخلّي عن المناصب، فلهذا يعجّ تاريخ الديمقراطية النيابية بمساع ملموسة لإرغام الجنود ذوي الفكر السياسي السامي على امتشاق السلاح لمنع الصّلف من خلال وضع ضوابط دستورية وسياسية على الزعماء. ويمكن عدّ ابتكار الدور الشكلي «لزعيم المعارضة» [Kaiser, 2008; Michaud, 2000] في منتصف القرن التاسع عشر (في مقاطعة نوفا سكوشيا الكندية) محاولة أوّلية لضبط الصّلف من خلال توفير حافز للمتنافسين على المناصب، وفي الوقت عينه، تأمين دور شكلي للزعماء الذين يجدون أنفسهم مخلوعين من مناصبهم، إذ تتضمن أحدث الطرائق لتنظيم الاتكال على المناصب قيوداً عادية مثل التشهير العلني من خلال الصحافة الاستقصائية أو الفضائحية، والالتزام بقواعد الاحتشام فيما يتعلق بالمداعبات الغزلية السريّة. وثمة قواعد شكلية أيضاً مثل قوانين تمنع قبول الرشاوى والدُّفعات، وآليات الاستعادة وروح المبادرة، والمحاكمة البرلمانية، وضوابط زمنية على شغل المناصب، وصرف الرواتب التقاعدية، وتأمين السياحة المجانية والعلاوات الصحية، وتكييف المناصب، والحماية الأمنية، وقيود على عضوية المجالس الاستشارية أو إدارة الشركات لقاء الحصول على عقود من الدولة ( من المفترض أن هذه الطقوس مصمَّمة لتيسير الانتقال إلى دور زعيم أسبق لا سبيل إلى رشوته).
إعادة تدوير النخب السياسية
إن الحدّ الذي يتم فيه وضع هذه الضوابط على الزعماء حيّز التنفيذ، أو تكون فيه فعّالة من الناحية العملية، متغيّر بطبيعته إلى حد كبير ومتوقّف على السياق في ديمقراطيات اليوم. مع هذا، ثمة أدلة كافية بأن ازدياد إطلاق أي نظام سياسي ديمقراطي العنان لزعمائه السياسيين الكبار، يترافق مع ازدياد غض طرف ذاك النظام عن تصرّفات وارتكابات أصحاب المناصب السابقين. وهذا بدوره يقلل من الاختلاف بين شغل مناصب منتخبة عليا والحياة بعد الزعامة السياسية أو يُتخلّص منه تخلّصاً باتاً، فهذا التغاضي لا يصبّ عادةً في مصلحة الديمقراطية.
تُعدّ المهارة السياسية في مراقبة الزعماء وتطبيق الاختلاف بين شغل المنصب وتركه مؤشِّراً رئيساً على اعتبار نظام حكم ما ديمقراطياً أم لا؛ إن التباين بين أنظمة الحكم المناهضة للديمقراطية، وأنظمة الحكم الملكيّة الأوروبية في القرن الثامن عشر، وأنظمة الحكم الشمولية، يكشف عن حقيقة الأمر. تأمّلوا ولو لبرهة كيف جسّدت أنظمة الحكم الملكية الرئيسة مزاولتها للسلطة على رعاياها بصورة رمزية، فتم تجسيد الجسد المادي لملوك مثل تشارلز الأول وبطرس العظيم على هيئة كلّ من الرب الأب والمسيح الابن، فكان جسد الملك إلهياً، وعليه خالداً وغير قابل للانتهاك؛ فلا يمكن الإقرار بأن الملوك ماتوا، بل عاشوا إلى الأبد، وأجسادهم جسّدت الكمال، فالملوك، شأنهم شأن الرب وابنه، لا يأتيهم الباطل، وهذا يعلل العقوبة الصارمة بحق من ينتهك حرمة أجسادهم من رعاياهم من خلال تصرفات آثمة بدءاً من لمسٍ لم يُسْعَ إليه وانتهاءً بالشروع بقتل المَلِك. كما رمَز جسد الملوك إلى خصلة «الدولة» غير القابلة للانتهاك التي يحكمونها؛ إن الملوك، شأنهم شأن الرب، دائمو الحضور، وأجسادهم مؤتلفة مع نظام الحكم ذاته، فيُعدّ الملوك مانحين للقوانين من عند الرب، إلاّ أنهم يشبهون الرب الابن، إذ امتلك الملوك جسداً فطرياً(body natural)– علامة الرب في العالم – ودولةً (body politic) أيضاً لأن الرب بعث بهم لخلاص البشرية. فالجسدان، بالإضافة إلى السلطة التي أوجدوها، خالدان وصنوان لا تنفصم عراهما، شأنهما في ذلك شأن أقانيم الثالوث المقدّس.
إنها لحقيقة تاريخية غريبة بأن شمولية القرن العشرين ازدهرت على أنموذج من الرواية ذاتها لدولة موحّدة «نقية نقاء الألماس»، على حد تعبير الزعيم العظيم السفاح بول بوت (Pol Pot) في كرّاسة ليست واسعة الشهرة عام 1949 بعنوان: الملَكِيَّة أم الديمقراطية. فباسم «الشعب»، سجّت الشمولية، شأنها شأن أنظمة الحكم الملَكِيّة الغابرة، جسد الزعيم العظيم على قاعدة ضخمة لهدف أهم يتمثّل بتأليهه بوصفه مصدر الحكمة والقوة والمعرفة والسلطة النهائية، فعُدَّ تحنيط جثمان لينين وعرضه علانية في الاتحاد السوفييتي عام 1924 تجربة سابقة لهذه الطقوس التي بلغت ذروتها في بناء صَرْح هائل لمبنى النصب التذكاري في ميدان تيانامين إحياء لذكرى ماو تسي تونغ، الموجّه العظيم للشعب الصيني. فالذين شاهدوه سيقرّون بأنه ليس ضريحاً عادياً لجثمان عادي، إذ يفوق بكثير الأضرحة الملكيّة المخصصة لأبناء الرب الذين كانوا في يوم من الأيام أشخاصاً على درجة عالية من السموّ والقدسية توقّفت عجلة الزمن في أجسادهم إلى الأبد مجازياً. فصَرْح تيانامين يصون هذا العرف لقديس ثوري، إذ يحتوي على تمثال من الرخام وتابوت مغطّى بالكريستال يحتوي على رفات ماو المحنّطة، بالإضافة إلى نقش في الرخام الأخضر على واجهته الجنوبية: عبارة بليغة مهداة إحياء لذكرى «معلمنا وزعيمنا العظيم الرئيس ماو تسي تونغ: خالدٌ إلى الأبد دونما تفسّخ.»
يُعدّ هذا النوع من عبادة الزعماء لعنة للديمقراطية، وهذا يعلل أن الديمقراطيات التي تسمح لزعمائها البقاء في الحكم إلى ما لانهاية- للتنصل من أمر عسير للغاية – تساوم بالديمقراطية عينها. وتكمن الأهمية المحورية لمثال إيجابي يخطر على البال يُعنى في الفصل بين شغل المناصب من عدمه بالنسبة للديمقراطية، تكمن في الطريقة التي أصبح فيها النظام البرلماني البريطاني أقل تسامحاً تدريجياً مع رؤساء الحكومات الذين يتشبثون بمناصبهم العليا؛ فعلى الرغم من عدم غياب طوني بلير وجون ميجر ومارغريت تاتشر وجيمز كالاهان وإدوارد هيث وهارولد ويلسون عن المشهد العام على الإطلاق بعد عزلهم من السلطة، لم يسعوا إلى العودة سراً إلى أعلى المناصب؛ يعدّ هذا النهج مميّزاً وجديداً في تاريخ منصب رئيس الحكومة الذي يعود إلى روبرت وولبول في القرن الثامن عشر. ويتباين هذا الأمر تبايناً لافتاً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر عندما تولى تسعة رؤساء حكومات مقاليد الحكم في ظل حكومات متعاقبة يرأسها رؤساء حكومات آخرون، وشهد القرن العشرين قبيل انتخاب هارولد ويلسون خمسة رؤساء حكومات ليس إلاّ (دوغلاس هوم وشامبرلين وماكدونالد وبلدوين وبلفور) تمكّنوا من القيام بالأمر ذاته. على الرغم من تبرير تحركاتهم لمنح الحكومات تحت الضغط قوة أكبر تقوم على الخبرة، وفقاً لمحاججة هاميلتون القائلة بأن الاستمرارية تتمركز في زوايا قائمة بالنسبة لمبدأ تداول السلطة في الديمقراطية النيابية؛ فيا لها من مفاجأة مستحبّة، وفقاً لشروط الديمقراطية، بأنه قد تمت الإطاحة بما يُعرف بمتلازمة بلفور خلال أواسط القرن المنصرم، فغير وارد في واقع الأمر الآن أن يُسمح لرئيس حكومة ما أن يسلك سلوك آرثر جيمز بلفور، صاحب الشخصية السياسية المتقلبة، الذي تفوّق بتوليه رئاسة الحكومة لثلاثة سنوات (1905-1902)، في لعب دور سياسي محنّك عظيم الشأن بخدمته إحدى عشرة سنة في مناصب وزارية عليا مثل وزير الخارجية (19-1916) ورئيس المجلس بصلاحيات سلطة عليا (29-1925/22-1919) في ظل حكومتين ليبرالية ومحافظة.
تُعدّ حالة إيطاليا المعاصرة مثالاً سلبياً للمخاطر السياسية المحدقة بالديمقراطية من خلال تشويه الخط الفاصل بين شغل المناصب والتخلّي عنها، فنظامها السياسي بالطبع حالة «طفرة» داخل عالم الديمقراطية المعاصرة، «فما أن تمتلك نواصي الأمر في ذلك البلد حتى يقودك ذلك إلى فوضى مشوّهة من جماعات سلطة متشابكة»، على حدّ توصيف الكاتب الأسود كارلو لوكاريللي [Povoledo, 2007; Rizzo and Stella, 2007]. لكن يجب دراسة خصالها الاستثنائية وعيوبها في القضايا المتعلقة بشغل المناصب العليا دراسة متأنية لمجرد أن إيطاليا تُقدّم أمثلة مناسبة عن الغش والاحتيال بما فيها درجة عالية غير معهودة من إعادة تدوير الزعماء السياسيين المرموقين؛ فليس مستغرباً غياب أية دراسة تفصيلية عن الحياة بعد شغل المناصب السياسية في تلك البلد؛ يبدو كأن الموضوع محرّم بين العلماء السياسيين، فيصبح بذلك رؤساء الجمهورية الإيطالية كافة سيناتورات مدى الحياة بعد رحيلهم عن مناصبهم (المادة 59,1 من الدستور)، إذ يتمتع الرؤساء أنفسهم بصلاحية تعيين سيناتورات مدى الحياة؛ فمنذ عام 1948، كان الرؤساء الأحد عشر إما رؤساء حكومات أو رؤساء لمجلس النواب أو الشيوخ، أو ناشطون بوصفهم رؤساء أحزاب سياسية أو مؤسِّسيها؛ إن نمط إعادة التدوير عينه جليّ بين رؤساء الحكومات، فمعظمهم يرحل عن المناصب السياسية العليا ليعودوا إليها بسرعة؛ في واقع الأمر، لقد بقي رؤساء الحكومات الإثنا والعشرون منذ عام 1948 في الحياة السياسية بعد انتهاء ولاياتهم، إما بوصفهم رؤساء، ونواب رؤساء حكومات، ووزراء أو سيناتورات. تتبلور عملية التدوير هذه في أنماط رعاية الحزب السياسية، ويترسخ هذا الأمر بقوة في الحقيقة القائلة بأنه يتم انتخاب النواب في كلا المجلسين – مجلس النواب ومجلس الشيوخ- لمدة خمس سنوات في المنصب دون تحديد عدد ولايات حكم للنواب أو الوزراء أو رؤساء الحكومات.
والخلاصة أن الزعماء السياسيين في إيطاليا على مرّ الزمن، ماضياً وحاضراً، قد شكّلوا نخبة حاكمة متقوقعة تنجو بسهولة من تغييرات الحكومة المتكررة برتابة منتظمة. ويهيمن على النخبة جملة من الذكور المعمّرين والأثرياء بصورة غير معهودة، فتتجاوز أعمار حوالي 60% من سياسيي إيطاليا السبعين (أما الرقم في فرنسا فهو 20%، وفي الديمقراطيات الاسكندينافية حوالي 38%)؛ تمتلك إيطاليا، من بين دول العضوية الرئيسة في الاتحاد الأوروبي، أدنى رقم من السياسيات؛ ويتنقل السياسيون الإيطاليون في سيارات مع سائقين، ويتمتعون برحلات في القطارات والطائرات وبهواتف محمولة مجّانية، ويحق لهم تقاضي معاش تقاعدي مُعتَبر بعد قضائهم فترتين في المنصب فحسب، متقاضين ما يزيد عن ضعف ما يتقاضاه النوّاب في الولايات المتحدة، رغم أن العديد منهم يشغل وظائف خارجية، وغالباً لا يداومون في السلطة التشريعية؛ فعندما يُخفق السياسيون الإيطاليون المعروفون في إعادة انتخابهم، يُعاد تدويرهم، كما هو معهود، في وظائف حكومية أو تجارية تحت حماية زعماء كبار من خلال أنظمة الأبواب الدوارة في الرعاية؛ وتقاوم النخبة السياسية الإيطالية، بطبيعة الحال، أي مسعى لفرض قيود عامة على إعادة تدوير أصحاب المناصب، وهذا يعلل فضح درجة غياب مسؤوليتهم العامة في أوقات الشدّة، فكانت فضيحة تانجينتوبولي (Tangentopoli) في أوائل التسعينيات من أكثر الفضائح ضخامة وكشفاً عن بواطن الأمر (حتى الآن). لقد أُرغمت الطبقة العليا من النخبة السياسية إمّا على الاستقالة أوالانتحار أوالنفي، أو التواري إلى الظّل السياسي، فانهار الحزبان السياسيان المسيطران، الديمقراطي المسيحي والاشتراكي، تحت وطأة المحاكم والصحافة الاستقصائية، واهتز زعيماهما المعنيان أشدّ اهتزاز؛ وواجه جوليو أندريوتي، رئيس الحكومة لسبع مرّات، وبعد زعامة أربعة عقود، محاكمة لمدة عشر سنوات تتعلق بتورّطاته المافياوية المزعومة، فباء حُلمه في أن يصبح رئيساً للجمهورية بالفشل (من هنا يأتي لقبه الساخر والشهير، الرئيس أندريوتي)، إلاّ أنه بقي متمرّداً؛ فعندما ذكّره أحد الصحفيين بأن للسلطة تأثيرات مضنية على الشعب، ردّ عليه مستشهداً بـ تاليراند (Talleyrand): السلطة تُنهك من لا يُمسكون بناصيتها. ولم يُبل نظيره في الحزب الاشتراكي، بيتينو كراكسي، بلاءً حسناً؛ وفي اليوم الذي حَرَم فيه البرلمان القضاة المقيمين في ميلانو من صلاحية متابعة التحقيقات في أنشطته الإجرامية المزعومة، تجمهر حشد كبير أمام فندق رافائيل، مكان إقامته في روما. ففي تلك الأمسية، هتف الحشد بازدراء في أثناء مغادرته للفندق: «بيتينو، هل تريد هذه أيضاً؟» و«أيها اللّص، أيها اللّص!»، ثم رموا آلاف القطع النقدية ولوّحوا بأوراق نقدية من فئة الألف لير؛ ولم يتعاف من تلك اللحظة من الإذلال، فاختار الابتعاد، وبقي في المنفى السياسي إلى أن وافته المنية.
تحتوي الحالتان المتباينتان في بريطانيا وإيطاليا على العديد من العِبَر، إلاّ أن هذه العبرة بالغة الأهمية: إن الزعماء السياسيين الكبار الذين يتخلّون عن المناصب لا يقومون بذلك على الإطلاق بسبب انعدام القيود القانونية الصارمة والقوانين العادية الناظمة لشغل المناصب والتخلّي عنها؛ في الواقع، يبقون في مناصبهم، مثل سيلفيو بيرلسكوني، أو يأملون في البقاء فيها إذا لزم الأمر، من خلال التشكيك بنتائج الانتخابات والتذمّر الدائم من الضوابط المفرطة على من يريدون ممارسة السلطة من أعلى الهَرَم؛ فالخلاصة تكمن في تشكيل طبقة سياسية تخلّد ذاتها تتناقض سلطتها المفرطة مع بعض مبادئ الديمقراطية النيابية الرئيسة، وتُدخل مع مرور الأيام قدراً من التصلّب إلى نظام الحكم برمّته. إن حالة إيطاليا على وجه الخصوص تفترض مبدأ أخلاقياً جديداً: يعمل التحكم الرسمي العام بأصحاب المناصب السياسية العليا السابقين، ودرجة الوعي الكلّي للحاجة الفعلية لمراقبة واجباتهم وسلطاتهم والحدّ منها، وكبح جماحهم دورياً، بوصفه قرينة جوهرية لقوة الضوابط الديمقراطية أو ضعفها المفروضة على النواب في أي نظام حكم. يمكن لهذا التأكيد غير المباشر للمبدأ الأخلاقي هذا السياسي القائل بأنه يُستحسن من الديمقراطيات ألاّ تقوم بتمجيد أصحاب المناصب العليا السابقين، يمكن أن يوجد في أنظمة حكم لا تتوافر فيها هذه الضوابط. ويُقابل غياب ضوابط شكلية على أصحاب المناصب السابقين غياب ضوابط شكلية على الزعماء المسؤولين، الأمر الذي يعلل أن مطالبة الجماهير بأيّ منها يسبب زعزعة كبيرة لأنظمة الحكم القمعية (كما حصل في الصين خلال السبعينيات عندما استغلت صحف غير رسمية مثل بيكين سبرنغ، في سابقة فريدة، تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة للمطالبة بولاية حكم محددة للرؤساء وفقاً للأنموذج الأمريكي).
الأبواب الدوّارة
وحتى عندما تكون القيود على الزعماء السياسيين الكبار صارمة، يبقى أصحاب المناصب السابقين شخصيات قوية ضمناً، فليس الأمر مجرد صحة جيدة وزيادة في متوسط العمر، مع أنه في بعض الأوساط (على سبيل المثال، «ديمقراطية اليابان الفضية») يعد انخفاض متوسط عمر الرحيل عن المناصب، والمعروف أحياناً «بحيوية السياسة»، نهجاً هاماً. مع هذا، لقد أطفأ كل من إشباع الكبرياء الذاتي، وأحلام الإدارة أو الحكم، والاستمالة إلى وهم العودة إلى المنصب الحكومي «من الباب الخلفي» من خلال إعادة انتشار ترسانة من المهارات والعلاقات المستمدة من فترة تولي المناصب، تعطش أصحاب المناصب السابقين للسلطة. ويُعد تدخّل هيربرت هوفر في سياسة البيت الأبيض في أثناء الفترة الثالثة غير المسبوقة لتولي فرانكلن روزفلت للمنصب بمثابة مثال على ذلك؛ وتلك هي حال حملة بيل كلنتون المشحونة عام 2008 لدعم حملة هيلاري رودام كلينتون الرئاسية، وهي حملة أطلقت تنبيهاً في أذهان بعض المصوّتين بأن السلالة الحاكمة لن تأتي بالنفع على الديمقراطية، خصوصاً عندما حاول الرئيس الأسبق أن يقدم توضيحات عن دوره المستقبلي، إذ عبّر في إحدى المناسبات بصورة غير متقنة: «لن أكون في وزارتها لأن هذا الأمر غير شرعي، وليس من الحكمة بمكان أن أكون متفرغاً في وظيفة في هيئة العاملين، لكن في حال وجود شيء محدد يمكن أن أقدمه لهيلاري، سأقوم به بنبضة قلب.» (Luce 2008).
ثمة أوقات تُغلق فيها إرادة العودة إلى المناصب بوصفها وسيطاً للسلطة الحكومية غير منتخب مسامات التمثيل التداوليّ المفتوحة كونها محورية لسلامة الديمقراطية النيابية، فيُعدّ انغماس الزعماء السياسيين الكبار السابقين المتزايد في الحكم بوصفه عملاً إضافياً مسألة عويصة واردة، خصوصاً في لوبيات الصناعات الإعلامية المزدهرة التي أضحت الحكومات الديمقراطية كافة تتّكل عليها بصورة خفية. وتُبيِّن دراسة كين سيلفرشتاين النادرة عن تورط الزعماء السياسيين السابقين في محاولة التأثير على أعضاء هيئة تشريعية في واشنطن، تُبيِّن حظوة أصحاب المناصب السابقة في توفير ما يدعى أحياناً «بالمصافحة السرية التي تقودك إلى المحفل الماسوني» (Silverstein 2007) ؛ لم يحظ هذا الموضوع بكثير من الكتابة، لكن في الوقت الذي اكتشف فيه صائغو قانون المحاسبة الفيدرالي الكندي (2006) والضاغطون من أجل تطبيقه بصرامة هذا الأمر اكتشافاً صائباً، يُعدّ التنظيم القانوني لانغماس أصحاب المناصب السابقين في السلطة الحكومية بصورة مستترة محورياً لرعاية أخلاق وعادات وإجراءات حكومة مكشوفة خاضعة لمراقبة عامة بصورة دورية – أي إغلاق الأبواب الدّوارة التي يتمكّن المسؤولون الحكوميون من خلالها من تسويق خبراتهم ومعارفهم المطّلعة عند رحيلهم عن مناصبهم الحكومية. وهذا يعلل تواجد مناشدات في كندا والعديد من الديمقراطيات الأخرى لتطبيق حزمة جديدة من الإصلاحات، ومن ضمنها سجلّ حكومي يرصد تفصيلات نشاطات أصحاب الجماعات الضاغطة كافة؛ وموانع صارمة على هداياهم وتبرعاتهم السياسية؛ وحظر لسنوات عدة على أصحاب المناصب السياسية العليا السابقين الذي يقبلون العمل بوظائف يترأسون فيها جماعات ضاغطة؛ وتشكيل هيئة مستقلّة مسؤولة عن مراقبة النظام برمّته، وتطبيق أصول مزاولة الإدارة، وفرض عقوبات على أصحاب الجماعات الضاغطة الذين يتسترون على أنشطتهم أو يُخفقون في تسجيلها.
مسارات المجتمع المدني
وراح أصحاب المناصب السياسية السابقون يتأقلمون مع الحياة بعد وجودهم في القِّمة من خلال رعاية أدوار قيادية جديدة ضمن كلّ ركن من المجتمع المدني، فالسياسة، بالنسبة إلى عدد متزايد من الزعماء السياسيين المتمتعين بحيوية الشباب، أصبحت وظيفة ومن ثم حِرْفَه. فعلى سبيل المثال، تبيِّن دراسة متأنية لرؤساء الولايات المتحدة السابقين أن هذا الأمر كان منذ بداية الجمهورية خَيَاراً قد يحظى باحترام خاص، وشهرة عامة، لكن نادراً ما يؤمّن دولارات للرؤساء السابقين (وتشمل الأمثلة التزامات توماس جيفرسون ببناء جامعة فيرجينيا، وكتابات ثيودور روزفلت الغزيرة، بما فيها سيرته الذاتية، وتأسيس ليندن جونسون لمكتبة عامة ومتحف). مع هذا، يمكن الشعور في عصرنا الراهن بهذا التصوّر الكامل لإمكانية اعتبار المجتمع المدني مرتعاً خصباً لأصحاب المناصب السابقين؛ فيُعد إغراق المجتمعات المعاصرة إعلامياً من العوامل المؤثّرة التي تُمكِّن الزعماء السابقين الكبار من التمتّع بالحياة بعد الموت السياسي من خلال تحولّهم إلى شخصيات مشهورة، إذ ولّى الزمن الذي كان الزعماء السابقون يهوون فيه إلى الحضيض (أي الزمن الذي أمضوه في «تعاطي الأدوية وإهداء المكتبات»، على حد تعبير هيربرت هوفر)، أو تمتّعوا فيه بخصوصية طليقة، غارقين بالترحّم على النفس أحياناً («ماذا يمكن للمرء القيام به سوى تعاطي المشروبات الروحية بعد الرحيل عن البيت الأبيض؟»، على حدّ تعبير فرانكلن بيرس؛ فيجد زعماء الحكومات ورؤساء الدول السابقين شبه استحالة في البقاء في الظّل، أو في البقاء صامتين بصورة خفية.
وهذا يعلل اكتشاف أعداد متزايدة من الزعماء السياسيين الكبار المبهورين بجاذبية النجومية أن ثمة حياة مديدة يمكن عيشها بعد تولي مناصب عليا، فيدركون أن عدم تجانس مجتمعاتهم المدنية المشبعة إعلامياً يؤمِّن لهم خيارات واحتمالات قيادتهم للآخرين بطرائق جديدة خارج إطار الحكم، ويصادقون الشهرة من خلال البحث عن أدوار نجومية في سلسلة محاضرات عالمية على سبيل المثال، وإنشاء مؤسسات خيرية، وعرض خدماتهم على المصالح التجارية، وتوقيع عقود كتب مربحة (فمذكرات مارغريت تاتشر أتت عليها برَيْع مقدَّم قيمته ثلاثة ملايين ونصف جنيه إسترليني، ووقّع توني بلير، وفقاً للشائعات، عقداً بلغ خمسة ملايين جنيه إسترليني، وحصل بيل كلنتون على ريع مقدم قياسي قيمته 12 مليون دولار أمريكي عن كتابه بعنوان حياتي). فلا اعتراض، من حيث المبدأ، على أيّ من هذه الأعمال (فثمة عدد لا بأس به ممن يتركون مناصبهم يرزح تحت ديون طائلة يتوجب عليهم سدادها)، ويتعين على الديمقراطيات القائمة فعلياً، إذا أخذنا كل شيء بالحسبان، الترحيب بهذا النهج ولو بحذر. فيعمل انغماس أصحاب المناصب السابقين في زعامة المجتمع المدني بوصفه تذكيراً هاماً بأنه تم تسييس كلمة زعامة باطراد في أثناء القرن المنصرم إلى حدٍّ وصلنا فيه إلى نسيان أن لفظتي زعيم وزعيمة، منذ فترة استخدامهما الأولى في اللغة الإنكليزية، تنطبقان على الذين نسّقوا جماعات مثل الجوقات الغنائية، وفرق الموسيقيين والراقصين، والتجمّعات الدينية.
يعمل انفتاح المسارات المؤدية إلى مجتمع مدني بوصفه تصحيحاً هاماً للهيمنة المفرطة لتعريفات سيطرة الدولة على الزعامة؛ وينبغي ألا نصرف النظر بصورة فورية عن انغماس أصحاب المناصب السياسية السابقين في المجتمع المدني من خلال ندب مرٍّ لغياب الجاذبية الحقيقية (كما فعل فيليب ريف [2007])، على سبيل المثال. أو بإدانة السعي وراء الشهرة وكأنها مجرد وسيلة ماكرة لجني الأموال، أو بمحاكاة الاحتفاظ بالمنصب مطوّلاً بعد الرحيل عن المنصب الحقيقي؛ يشير الدليل إلى أن أصحاب المناصب العليا السابقين يحاولون في سعيهم لسبر الأدوار القيادية المختلفة للمجتمع المدني، التي غالباً ما يكون جوهرها وأسلوبها متوترين، وعلى طرفي نقيض أحياناً، أولاً الطعن في تعريفات الزعامة (الصالحة) وتعدديتها من خلال تخليصها من ذنب الشراكة بالحكم، من ناحية؛ وثانياً، توسيع حدود التمثيل السياسي ومعناه من خلال وضع الأحزاب والبرلمانات والمسؤولين الحكوميين على أهبة اليقظة؛ وثالثاً، الإسهام في نمو عصري لأشكال «مراقِبة» للديمقراطية من خلال لفت انتباه الجماهير لقيام الحكومات بخرق المعايير، وإخفاقاتها في خطط العمل، وافتقارها المخيلة السياسية لمعالجة ما يُعرف بمشكلات «ظالمة» تفتقر لتعريف متفق عليه، فضلاً عن حلولٍ مباشرة [Keane 2009]. ورابعاً، وعموماً مساعدة الحكومات والمجتمعات المدنية على حدّ سواء لعقلنة التعقيد المتنامي لصناعة القرار الديمقراطي وفق شروط السلطة الموزّعة، مضفيةً بذلك معياراً أكبر من الفوارق الدقيقة والتناغم على رسم السياسة وإدارتها (Mishra 2007).
بطبيعة الحال، إن الزعامة في المجال غير الحكومي عمل شاق؛ ويواجه أصحاب المناصب العليا السابقين هذا الأمر عند محاولتهم التلاعب بأدوار مختلفة تكون في بعض الأحيان على علاقة متوترة مع مبادئ المساواة والانفتاح العام على الطرائق الديمقراطية في إنجاز الأمور. كذلك هي الحال بالنسبة إلى إثارة زعامة منظمات المجتمع المدني أسئلة صعبة وهامة من الناحية السياسية ومثيرة للاهتمام من الناحية الفكرية حيال المجال الشرعي للامتيازات البرلمانية وصلاحيات الأحزاب السياسية والمسؤولين الحكوميين في الديمقراطيات النيابية. مع هذا، ثمة توجّه لا لبس فيه: إننا نعيش (كما بيّن [2008] Michael Saward [2009] Frank Ankersmit وآخرون) في عصر يتّسم بتعدد معايير التمثيل المختلفة والمتناقضة وتنوّعها والتي تواجهنا بمشكلات مجهولة بالنسبة إلى روّاد الديمقراطية النيابية ومهندسيها الأوائل (فيما إذا كان بالإمكان محاسبة الزعماء غير المنتخبين محاسبة علنية لتصرفاتهم باستخدام أساليب غير الانتخابات).
المسؤولية الأخلاقية
ما هو حجم الخَيارات المتاحة لأصحاب المناصب السابقين في مجال المجتمع المدني؟ يسعى بعض الزعماء السابقين لتنمية نهج المسؤولية الأخلاقية ورسالتها؛ تتضمن الأمثلة المعاصرة آل غور ونيلسون مانديلا وآدم ميخنيك وماري روبنسون، إلا أن هذا التوجّه آخذ في التطور منذ فترة لا بأس بها؛ إن قضية بيير ترودو مفيدة: لقد التحق بعد رحيله عن منصبه بفترة وجيزة بمؤسسة هينان بليك (Heenan Blaikie) القضائية في مونتريال بوصفه مستشاراً؛ ورغم أنه نادراً ما قام بإلقاء خطابات عامة أو بمخاطبة الصحافة، كان لتدخلات ترودو في النقاش العام وقعاً مميزاً عندما كتب واعترض على مقترحيّ كلّ من اتفاقيتي ميخ ليك (Meech Lake) وشارلوت تاون (Charlottetown) لتعديل الدستور الكندي استناداً إلى أن تطبيقها سيُضعف الفيدرالية وميثاق الحقوق على حدّ سواء، فبرهنت معارضته عن جوهريتها في إلحاق الهزيمة بكلا المقترحين.
قدّم سلوك ترودو أنموذجاً للزعامة المسؤولة أخلاقياً بعد توليها المناصب؛ فيُفضّل الذين حذو حذوه أن يوصفوا بالحكماء المحنّكين، والشهود العامّين على المعاناة والظلم، والمؤيّدين للزعماء الجدد المنتَظرين، ودعاة سياسات وطرائق تفكير لم تحظ بدعم الأغلبية بعد؛ يتسامى أصحاب المناصب الأخلاقيون السابقون في مهاراتهم القيادية السياسية إلى فنون التواصل مع الجماهير حول نقاط القوة والضعف في السياسات الحكومية وهيكليتها. بإمكاننا أن نطرح جانباً، في هذا المقام، الأسئلة المتعلقة بحسنات قضاياهم، لأن ما هو لافت يكمن في الطريقة التي لا يستخدم فيها الزعماء الأخلاقيون السابقون منبر الظالم (مصطلح أمريكي خاص نحته ثيودور روزفلت لوصف استخدام الزعماء لمنصة «رائعة» و«بديعة» للدفاع عن قضايا وأجندات ما). إن لتجارب الزعماء السابقين في لعب أدوار الزعامة غير الحكومية أو في المجتمع المدني تأثيرات تحويلية للغاية في معنى الزعامة عينها‘ فلم تعد الزعامة تعني التحكّم والقوة المدعومة بالمكر وبقبضة اليد، وبوسائل سلطة الدولة الأخرى (وهذا ما قصده التحليل التقليدي لمركزية الدولة عند ماكس ويبر) _ أي تفاهم سياسة واقعية للزعامة ينزلق نحو سلطوية سياسية (فقد أصبحت لفظة فوهرر في الوقت الراهن سبّة في بلدان مثل ألمانيا)؛ راحت الزعامة، بدلاً من ذلك، تعني القدرة على تعبئة «سلطة الإقناع» (على حدّ تعبير البطريرك ديزموند توتو)؛ إنها القدرة على تحفيز المواطنين على القيام بالأمور لمصلحتهم، والقدرة العلمية على كسب الاحترام العام من خلال تنمية «الإدراك السردي» [Denning 2007]، أي الإدراك الذي يتضمن خليطاً من الخصال الشكلية مثل التركيز المتّزن، والهدوء الداخلي، واللباقة، ورفض الخضوع للمزايدة، والقدرة على الإنصات للآخرين، والسخرية من الذات، وتألّق معيّن في الأسلوب (إذ شرح لي أحد كاتميّ أسرار نيلسون مانديلا قدرته الخارقة على خلق «نيلسون مانديلات عديدة من حوله»؛ كما أُشيع الأمر عينه حول جواهر لال نهرو). كما تتضمن هذه الخصال القدرة، ومن غير عناء من الناحية الظاهرية، على جمع صفات متناقضة (القوة والضعف، والتفرّد والنمطية، وإلى ما هنالك) في آن معاً، وكأن الزعامة تجسيد لتبديل الصورة النمطية، وعلاوة على ذلك، وعي بأن الزعماء يتّكلون دوماً على الشعب المعروف بوصفه منقاداً، أي أن الزعماء الحقيقيين يقودون لأنهم يتمكنون من جعل الشعب يحترمهم، بدلاً من تطويعه من حيث لا يدري.
ثروة طائلة
لقد ولّى الزمن الذي قضى فيه زعماء سابقون نحبهم في فقر مدقع؛ فمن المستغرب التفكير بأن ذاك كان مصير جيمز ماديسون الذي رحل عن الرئاسة أفقر مما كان عليه عندما تولاّها نتيجة للانهيار المالي المطّرد الذي حلّ بمزرعته؛ أو أنه تم الاستشهاد بحديث هاري ترومان عام 1957 مع جون ماكورماك، زعيم الأغلبية النيابية حينها: «لو لم يكن بمقدوري بيع عقار ما ورثناه، أنا وأخي وأختي، عن والدتنا، لكنت عملياً متلقٍّ لإعانة البطالة، إلاّ أن بيع ذاك العقار أنقذني من أي إرباك ماليّ»؛ أما الآن، فتُفضِّل أعداد متزايدة من أصحاب المناصب العليا السابقين كسب الأموال على شكل قضايا خيّرة عادة، لكن أحياناً بطرائق حماسية تثير موضع استنكار عالم التجارة والأعمال عينه، عند قياسها وفق أنموذج تويوتا التجاري حديث الساعة، على سبيل المثال، الذي تم فيه تشجيع مسؤوليها التنفيذيين على العيش وفقاً لقيم التقتير، والتركيز على الزبون، والتواضع، أو عند قياسها وفق الحديث الراهن في الولايات المتحدة عن النموذج CEO 3.0، حيث لا يكون المدراء الأكفياء بالنسبة إليه مؤسسي إمبراطوريات من أصحاب الأنا المتورّمة ولا حتى مختصّي أعمال تنظيف ضيّقي الأفق، بل فريق عمل مبدع مزوّد بإحساس عالٍ بالمسؤولية الشخصية.
(يتبع البقية بموقع المجلة على الانترنت)
ثمة أوقات يتحول فيها أصحاب المناصب السابقون الطامعون في الثراء إلى صورة ممسوخة مخزية لجامعي أموال سوقيين، فكان جيرالد فورد واحداً من أوائل الزعماء السابقين الذين جمعوا مبالغ ضخمة من المال (مليون دولار سنوياً في الحدود الدنيا) مما أسموه «جولة البطاطا المهروسة» المتمثلة بمهمات خطابية، ومن إدارة وظائف تضامنية. كما تشمل أمثلة حديثة العهد كسب غيرهارد شرودر لمبالغ هائلة لم يُكشف عنها من وراء الكواليس بعد الموافقة على تعيين غازبروم رئيساً للجنة المساهمين في شركة نورد ستريم إي جي بوصفها مشروعاً تجارياً لأنابيب الغاز كان قد صدّق عليه قبل أسابيع من رحيله عن المنصب؛ كما أُشيع أن زيارة توني بلير إلى إقليم غواندونغ (Guangdong) الجنوبي في الصين لمدة ثلاث ساعات الممولة من مجموعة غوانغدا (Guangda) للمقاولين التي، وفقاً للشائعات، قدّمت لرئيس الحكومة البريطانية الأسبق دفعة نقدية صافية بلغت 330,000 دولار أمريكي، وأهدته فيلا فاخرة قيمتها 5،39 مليون دولار أمريكي (فمن غير المعلوم إن كان قَبِل العرض الأخير، إلاً أن فحوى قراره الغريب في الاستقالة من مقعده النيابي، الموجز في الموقع الالكتروني الآتي: http://washingtonspeakers.com) يكمن إلى حدّ ما في التهرّب من كشف إيراداته الخارجية ودوره الجديد بوصفه معلقاً متنقّلاً على الشؤون السياسية وبرواتب عالية تصل إلى نصف مليون جنيه إسترليني شهرياً. (ولتبيان أن الأمر متعلق بحزبَيْن)، قامت شركة التبغ الأمريكية العملاقة، فيليب موريس، بدفع مليون جنيه إسترليني لمارغريت تاتشر لقاء رسم استشاري. ويميل الطمع في الثراء بهذا الحجم المشار إليه في أوقات متعددة «بثروات طائلة بعد وجبات الغداء» و«سلسلة مطاعم الربر تشيكن»، أو «مشروع بلير الثري»، في حالة بلير، جدلاً لإحداث الامتعاض وإثارة الشكوك حول السياسيين في الديمقراطيات القائمة. كما أنه يغذي، في بعض الأوساط، إحساساً بالسخط السياسي، والشعور بوجود أفّاقين سياسيين، والاعتقاد بأن أسلوب حياة الزعماء السابقين المُسرف يبرهن على أن أصحاب المناصب السياسية السابقين كافة يسيئون استخدام المناصب من خلال ضرب عرض الحائط بسلالم الانتخاب بغية تسلق قمم جديدة من الثروات الطائلة، وما تحمله معها من سلطة.
زعامة عابرة للحدود
ثمة تطور هام ولافت آخر في الفكر السياسي المعاصر للحياة بعد تولّي المناصب، دونما مبالغة، تأثيرات بعيدة المنال، ألا وهو انغماس أصحاب المناصب العليا السابقين الممنهج في الدوائر الحكومية وغير الحكومية العاملة على المستويين الإقليمي والعالمي، بطرائق لم يسبق لها أن حدثت في تاريخ الديمقراطية. ولقد سعيت في مواقع أخرى إلى تحليل النمو المعاصر السريع لشبكات مجتمع مدني عابرة للحدود وأسس متشابكة جديدة من القوانين وأنظمة الحكم («كوسمُقراطية») تتحدى الاعتبارات السابقة جميعها المتمثلة في مركزية الإمبراطورية أو الدولة لسلطة المؤسسات [Keane, 2004]. إلا أن الأمر اللافت يكمن في الأعداد المتزايدة من أصحاب المناصب السابقة الذين يستغلون التوجهات الإقليمية والعالمية من خلال الانخراط في أنظمة حكم، ومصالح تجارية، ولجان دراسة ومشورة، وجمعيات خيرية، وقضايا إعلامية وعامة، عابرة للحدود. فمن الصعوبة بمكان تفسير قابلية هذا النهج للتطبيق طويلة الأمد وفحواه، فهو الآن صفة راسخة للحياة السياسية داخل الاتحاد الأوروبي وبين دوله الأعضاء، إذ يمكن النظر إلى المنطقة الأوروبية بوصفها مختبراً تُعدّ فيه التجارب على فنون صياغة المستقبل السياسي لأصحاب المناصب العليا السابقين، نظراً إلى الكثافة المتزايدة للمؤسسات العابرة للحدود؛ فتُعدّ المناصب التي شغلها بادي آشداون بوصفه ممثلاً أعلى للبوسنة والهرسك، وبطرس مانديلسون بوصفه مفوضاً للتجارة الأوروبية أنموذجاً لهذا النهج؛ وتلك كانت حال التزام جاك ديلور الفعال بأوروبا موحّدة مبنية على الفكر والحوار أسهم في إنشائها (بوصفه السياسي الوحيد الذي شغل منصب رئيس المفوضية الأوروبية لولايتين)؛ ودور كارل بيلت (Carl Bildt) بوصفه مبعوثاً خاصاً للاتحاد الأوروبي إلى يوغسلافيا السابقة؛ ومسيرة حياة كارل فان ميرت (Karel Van Miert) الذي تعاقب على شغل مناصب عديدة بدءاً من شغل منصب رئيس الحزب الاشتراكي الفلمنكي (Flemish) وانتهاء بمناصب من قبيل المفوّض الأوروبي المسؤول عن النقل، والتسليف والاستثمار، والسياسة البيئية وشؤون المستهلكين، ونائب رئيس المفوضية الأوروبية المسؤول عن سياسة المزاحمة (من عام 1993 إلى عام 1999).
هل يُعدّ هذا النهج شكلاً جديداً من نظام وظائف برواتب من غير عمل بالنسبة إلى أصحاب المناصب القيادية السابقين (وخير مثال على ذلك قيام إدوارد هيث بحملة دعائية لعقدين نيابة عن النظام الصيني لقاء مبالغ لم يكشف عنها)؟ وهل يمكن عده أنموذجاً جديداً ومعدّلاً للطريقة الإغريقية القديمة المتمثلة بنفي الزعماء السابقين الخطرين والمشينين؟ وهل هذا النهج حلاًّ لمبدأ بطرس بوصفه أسلوباً للتخلّص من غير الأكفياء الذين تمكّنوا من الارتقاء إلى قمة الفكر السياسي المحلّي؟ وهل يمكن عدّ الزعماء السابقين المنخرطين في أوساط عابرة للحدود مجرد شخصيات مشهورة عابرة، وطفرات لن تُكتب لها الحياة في خضم التناقضات المعقّدة والأعمال العدائية للجولة الراهنة من العولمة؟ أم هل يمكن عدّ انخراطهم نواة لأشكال جديدة من التمثيل السياسي وصياغة الرأي العام العابرين للحدود؟ ليست الأدلة قاطعة؛ تأمّلوا ولو لبرهة الدور الذي لعبه المستشار الألماني هيلموت شميت في إنشاء مجلس العمل البينيّ (عام 1983)، وهو مجموعة تضم ما يزيد عن ثلاثين من أصحاب المناصب العليا السابقين؛ وتعليقات ميخائيل غورباتشوف ونيلسون مانديلا على الشؤون العالمية في حينها؛ وحملة آل غور الدعائية تحت شعار الحقيقة المؤلمة؛ وهيئة الارتقاء بأفريقيا، ومساعي كوفي عنان في مفاوضات السلام (في كينيا)؛ أو إن إعادة إحياء جيمي كارتر لذاته بوصفه مناصراً لحقوق الإنسان تجعل منه أول رئيس أسبق للولايات المتحدة يُدرك أن العالم آخذ بالانكماش، ومحتاج إلى طرائق جديدة من العمل السياسي تقوم على أساليب منفتحة وذات مبادئ سامية ترعاها هيئات مثل الشيوخ التي أسهم في إنشائها عام 2007. أم أن هذا النهج مجرد محاولة من الزعماء السياسيين القياديين السابقين من خلال تصرّفاتهم إطلاع العالم أنه يشبه شرنقة قادرة على تفريخ فراشة الديمقراطية العابرة للحدود، رغم أننا لا نملك في الوقت الراهن توصيفاً وافياً لما يعنيه التمثيل الديمقراطي «الإقليمي» أو «العالمي» أو «العابر للحدود» على أرض الواقع؟.
بعض الدلالات
لقد أشارت هذه الدراسة إلى جانب غير مطروق من مسألة الزعامة الموزّعة المتمثلة بالأهمية الاجتماعية والسياسية المتزايدة للزعماء السياسيين السابقين المنخرطين في نشاطات عدّة بعد رحيلهم عن مناصبهم العليا. إن هذا التوجه متواجد في كل مكان نسبياً، إلا أنه ليس واضحاً على الإطلاق. فثمة إقرار عام متزايد بوجود حياة بعد الموت السياسي، وبإمكانية الزعماء السياسيين السابقين العودة من خلال طرائق تشكك بقدرتهم على إعادة الدخول إلى نظام الحكم والتدخل في هيكلياته وسياساته، وميلهم لتشويه سمعة السياسيين من خلال تورطهم في قضايا مثيرة للريبة، أو من خلال ظلم جائر؛ مما لاشك فيه أن هذا الأمر جديد في تاريخ الديمقراطية. ومن الواضح، من الناحية الأكثر إيجابية، أن الحياة بعد الموت السياسي تؤمّن فرصاً للديمقراطيات؛ يمكن للزعماء السياسيين السابقين القيام من خلالها بأعمال طيبة تجاه الديمقراطية، فيكونون بذلك ملهمين لزملائهم ومواطنيهم على حدّ سواء؛ ويمكن للزعماء السابقين وضع معايير جديدة وسامية لشغل المناصب العامّة، خصوصاً في الأوقات التي يعاني فيها السياسيون، بوصفهم نواباً، (بلا مبالغة) من هوة مصداقية متزايدة؛ كما يمكنهم بعد رحيلهم عن المناصب أن يوضّحوا لملايين البشر ماهية شغل المناصب بصورة مثالية.
ثمة أمر غير مسبوق تماماً حيال هذا النهج لأنه يطعن بالتصورات الثابتة عن الزعامة من خلال تولي المناصب، فيُعدّ مفهوم المنصب أو تولي المناصب واحداً من الابتكارات العظيمة لأوروبا القرون الوسطى [Keane 2009]، إذ ترسّخ مبدأ أساسي عن الديمقراطية النيابية داخل الكنيسة على وجه الخصوص، أي القاعدة التي حددت أن تولي المناصب يقتضي ضمناً أداء مخلصاً لجملة محددة من الواجبات؛ فبيت القصيد هنا أن تولي المناصب حمل معه واجبات وآمالا معينة، وهذا بدوره يعني أن منصباً ما يشبه دوراً «بلا روح» ولا شخصية، فلا يتطابق مع شاغله، إذ ليس هناك تشابه بين الوظائف والأشخاص الذين يتولونها؛ فتولّي منصب ما لا يعني «امتلاك» ذاك المنصب، حتى عندما يتم تولّي المنصب إلى الأبد. على العكس من ذلك، كان تولّي المناصب مسألة طارئة لأنها اقتضت ضمناً الإمكانية الدائمة للعزل من المنصب وفقاً لإجراءات معينة؛ فكانت قاعدة العزل، إذا جاز التعبير، عنصراً أساسياً لما أُطلق عليه بيروقراطية لاحقاً. مع هذا، كان لقاعدة العزل صلات وثيقة بنظرية الديمقراطية النيابية الحديثة وتطبيقها (خلافاً لماكس ويبر والمتأثّرين به)؛ تأمّلوا ولو لبرهة عمدات المدن المنتخبين، أو نواب البرلمان المنتخبين لولاية في المناصب محددة، أو الرؤساء أو رؤساء الحكومات المرغمين على الاستقالة، إذ يقوم كلّ من الأدوار السياسية هذه على الافتراض المسيحي القديم بأن أصحاب المناصب لا يتطابقون مع مناصبهم، ولا «يملكون» وظائفهم ملكية خاصة، وأن كل صاحب منصب، بدءاً من أشدهم تواضعاً وانتهاء بأشدهم سطوةً، يشغل وظيفته لفترة زمنية محددة ليس إلا، لدرجة أنه في ديمقراطية نيابية ما يُضطرّ حتى رؤساء أعتى الديمقراطيات على وجه الأرض الوقوف عراة أمام مواطنيهم والعالم برمته بصورة دوريّة (من خلال إعادة صياغة كلمات أغنية بوب ديلان الشهيرة: الأمور على ما يرام،يا أمّي (إنني أنزف، ليس إلاّ).
يكمن المغزى المعياري الحقيقي لتنامي سلطة الزعماء السياسيين السابقين في أنهم يرغمون الديمقراطيات القائمة على التفكير بتروٍ وعمق حيال ما يُعدّ زعامة سياسية صالحة؛ إن المثل المأثور المفضَّل عند هاري ترومان في أثناء بُعدِه عن المنصب بأن المال واشتهاء السلطة والجنس أمور ثلاثة كفيلة بالقضاء على الزعماء السياسيين ينطبق الآن، وبزخمٍ حقيقي أيضاً، على الزعماء بعد رحيلهم عن المناصب؛ عندها يمكن للزعماء السابقين الواعين سياسياً أن يضربوا مثلاً إيجابياً بالتنويه إلى ضرورة تحديث وصياغة معايير جديدة للنزاهة العامة‘ فقد ولّى الزمن الذي تمكن فيه الزعماء السابقون من اختزال وظيفتهم الجديدة باستخدام الكلمات الرصينة ذاتها التي استخدمها كالفن كووليدج عندما طُلب إليه أن يملأ استمارة انتساب لنادي واشنطن للصحافة: «متقاعد، ومسرور من ذلك.» لقد أضحت الحياة بعد الزعامة أكثر تعقيداً وتحدياً وأكثر قدرة على وضع معايير للآخرين الذين ما يزالون على رأس عملهم؛ تُعدّ الملاحظة الحكيمة لسياسي برتغالي أسبق مرموق قام لاحقاً بإدارة مؤسسة غير حكومية شهيرة رياديةً بالمعايير العالمية من خلال دعمها الفعال للمساءلة العلنية والتعددية في مسائل تتراوح بين السلطة السياسية والذائقة الجمالية؛ وعندما طُلِب إليه تحديد الخصال المثالية للحياة بعد الزعامة في ديمقراطية ما، أجاب بأنها الخصال عينها المتوخاة من زعماء سياسيين مسؤولين، أي «تصميم على التحلّي بالشجاعة، وقدرة على استشراف الظروف، وميل لتهويل التأثيرات السياسية بغية تحذير المواطنين من مشكلات فعلية أو محتملة، وقبل كل شيء، إرادة الاعتراف بارتكاب الأخطاء والسعي لتصويبها، دون الخوف بتاتاً من ارتكاب المزيد من الأخطاء.»
Bibliography
Ankersmit, Frank, ‘On The Future of Representative Democracy’, manuscript (Groningen 2008)
Burke, Edmund, ‘Speech to the Electors of Bristol [3 November 1774]’, The Works of The Right Honourable Edmund Burke (London 1899) pp. 89-98
Denning, Stephen, The Secret Language of Leadership (London and New York, 2007)
Jefferson, Thomas, ‘Thomas Jefferson to Benjamin Rush [17 August 1811]’, in William B. Parker and Jonas Viles (ed.), Letters and Addresses of Thomas Jefferson (New York 1905)
Kaiser, A., ‘Parliamentary Opposition in Westminster Democracies’, Journal of Legislative Studies, 14, 1-2 (2008)
Keane, John, ‘The Politics of Retreat’, The Political Quarterly 61, 3 (1990), pp. 340-352.
Keane, John, V?clav Havel: A Political Tragedy in Six Acts (London and New York 1999)
Keane, John, Global Civil Society? (Cambridge and New York 2004)
Keane, John, The Life and Death of Democracy (London, New York and Madrid 2009)
Luce, Edward, ‘Bad cop Bill gives Hillary deniability’, Financial Times (London), January 25, 2008, p. 7.
McIntyre, Angus, Aging and Political Leadership (Melbourne and Oxford 1988)
Michaud, N, ‘Designating the Official Opposition in a Westminster Parliamentary System’, Journal of Legislative Studies, 6, 1 (2000)
Mill John Stuart, Autobiography (London 1873 (1969).
Mishra, Vandita, ‘Nuclear Nehru’, Indian Express (Delhi), November 1, 2007.
Paine, Thomas, ‘Rights of Man, Part Second [1792]’, in William M. Van der Weyde (ed.), The Life and Works of Thomas Paine (New Rochelle, 1925)
Povoledo, Elisabetta, ‘Unsolved crimes a novelist’s fodder’, International Herald Tribune, October 24 2007, p. 19 Powell, Enoch Joseph Chamberlain (London 1977) Rieff, Philip, Charisma: The Gift of Grace, and How It Has Been Taken Away From Us (New York 2007)
Rizzo, Sergio and Stella, Gian Antonio, La casta: cos? i politici italiani sono diventati intoccabili (Milan 2007)
Roniger, Luis and Sznajder, Mario, The Politics of Exile: Latin America, forthcoming
Saward, Michael, ‘Representative Claims’, in Sonia Alonso, John Keane and Wolfgang Merkel (eds.), The Future of Representative Democracy (Cambridge and New York 2009)
Silverstein, Ken, ‘Their Men in Washington: Undercover With DC’s Lobbyists for Hire’, Harpers, July 2007, pp. 53-61.
Urbinati, Nadia, Representative Democracy: Principles and Genealogy (Chicago and London (2006)
[ اسم المؤلّف وعنوان المقال باللغة الإنكليزية
Keane, John (2009) «Life After Political Death: The Fate of Leaders After Leaving High Office».
[[ تُستخدم هذه اللفظة عند الإشارة إلى حالة الإدمان على أمر ما. [المترجم]