الشاعر لا يغيب بل يتحول في قصائده والكلمات. يصير الرؤى التي ظلّ يبحث عنها طويلاً. يصير الأفكار. يصير الأشواق. يصير الرمز في القصيدة. وكل ما تطمح اليه الفنون. منذ ولادته في الكفرون (سوريا) وحتى رحيله في بيروت 2011 والشاعر فؤاد رفقة يسعى الى رؤية مختلفة للحياة، الى رؤية كيانية للوجود. مضى الى بيت الشعر ليحتمي به. ومشى الى الحياة ليرى نجمة الشعر تسقط كإشراقة الأبد في حروف القصيدة. على هدى هايدغر سعى الى نجمة الشعر، قنديل الابد، مضى فؤاد رفقة صادقاً، شفافاً، غارقاً في عزلته، بعيداً عن علاقات الزيف والتردّي. كان يكتب تجربته وينظر الى الأفق. كان يهمه من كل ذلك أن تنجو القصيدة. أن تصل الى شعرية الفكر، الى شعرية الشعر، الى تجربة تبلغ فيها الكينونة الانسانية. مداها وحقيقتها.
يتذكر فؤاد رفقة المطر يهمي فوق بيته في الكفرون ويدفعه الى نداء خفي. الى أن يعرف ماذا يجري في عراء هذا الكون. سرّ الاشياء، الاشارات، وماذا تحاول أن تقول عناصر الكون في تلك المخاطبات الغامضة.
وفي الصباح يهبط من الكفرون الى طرابلس، لبنان، ليتابع دراسته منهياً شهادته الثانوية. ثم الى الجامعة الأمريكية في بيروت حيث نال الماجستير في الفلسفة (1956) ومنها الى جامعة توبنغن حيث حاز الدكتوراه في الفلسفة عن أطروحته «نظرية الفن عند هايدغر وأوسكار بيكر». وظلّ السؤال في عينيه: كيف يمكن للشعر أن يشرح كل ذلك؟ كيف يفسر ما لا بدّ منه وما يستحيل؟ في بيروت كان في مجلة «شعر» من المؤسسين مع يوسف الخال وأدونيس ونذير العظمة وشوقي ابي شقرا وأنسي الحاج والماغوط. وظلّت روح مجلة «شعر» التجديدية وعودها الأخضر في صداقاته وفي كتاباته.
مارس فؤاد رفقة التعليم الجامعي في الجامعة الأمريكية في بيروت، وفي الجامعة اللبنانية الأمريكية، وكان استاذاً زائراً في جامعة انديانا. كان يرى التعليم عبوراً الى الآخرين. ولكن لم يمنعه كل ذلك أن يخرج من الصف اذا جاء الربيع فجأة، في عشبة خضراء صغيرة او زهرة تتبرعم. كان دائماً يخاف على الانسان من كل ما ينتقص من انسانية الانسان، من المادة والتقنيات، من الظلم، من وهن الروح.
اعتبر فؤاد رفقة ان الانسان عبارة عن وسيلة لتعبر القصيدة منه الى اللغة. واعتمد على الحدس والرؤيا والطبيعة وجوهر الروح وبياض القلب لتحدّي خواء العالم وتقنيته التي تسلب الانسان مسوغ حضوره في هذا العالم.
تعلّق فؤاد رفقة بفلسفة هايدغر ونقل الى العربية كتاب هايدغر «من تجربة الفكر – طريق الحقل» (2004) وكان يردّد دائماً هذا المقطع من الكتاب:
«الغناء والفكر جذعان متجاوران للشعرية
انهما ينموان من الكينونة
ويبلغان حقيقتها».
وفي مقدمة الكتاب عينه، طرح فؤاد رفقة الأسئلة الصعبة، ما هي هذه الكينونة الهايدغرية؟ ما حقيقة هذه النجمة التي صوبها يغامر أهل الفكر والشعر؟ ما هي هذه الحقيقة الثابتة التي ترافق طريق الحقل وتحاوره؟
كانت فلسفة هايدغر بالنسبة اليه كالمرساة التي تفسر علاقة الكائن بالموت والزمن تقول هم الكائن الانساني وهم الوجود الانساني برمّته.
في شعره كان رفقة يدخل في حالة توفيقية تأليفية بين الباطن والظاهر، بين المرئي واللامرئي، بين الوجود وما وراء الوجود، بين الحقيقة الانسانية والموت. يكتب في إحدى قصائده:
«في الليل
عيناه الى النجوم
في النهار
عيناه الى الشمس
ابداً عيناه
لا تشبعان».
يخترق الشاعر الراحل فؤاد رفقة بشعره الحجب والأسوار الفردية والحضارية. يحمل عناصر الكون الأولى ويمزجها في خلود القصيدة. كأنه الحطّاب او بيدر او الساوي او الصوفي او الشيخ درويش. شجرة طالعة من الأرض في رنين الصدى. على رسله، مشى فؤاد رفقة في طريق الشعر، طريق يشبه دروب القرى المؤنسة والخضراء والمتقشفة والتي تصل الى أعالي الجبال. ومثلما كانت قصائده أنهاراً برّية تجري حتى تتصل بالبحر الكبير.
قبل رحيله بأشهر قليلة سلّمني مخطوطة كتابه الأخير «محدلة الموت وهموم لا تنتهي». قال: «ربما اغمض عيني قبل أن أرى هذا الكتاب».
ولكننا بالحب قدرنا أن نجعله يرى الكتاب ويقرأ فقرات منه، ويسعد قليلاً قلبه الكبير وجسده المتعب. لم يكن كتابه الاخير «محدلة الموت…» مجرّد مرثية غنائية وداعية للموت بقدر ما كان حواراً تواصلياً مع الموت ونشيداً للحياة في التمام العناصر مع الشعر:
«هديل الهواء
هسيس النار
نفس التراب
سقسقة الماء
لغة الشعر
همسة كونية
لغة اللغات».
استمرّ فؤاد رفقة في مساره الشعري، يكتب ويترجم ويفتح الآفاق ويشارك في المؤتمرات حتى آخر لحظة. لم يقعده المرض عن الكتابة حتى الأسابيع الأخيرة. كانت الكتابة مرادفة للحياة، للشوق، للأمل.
لبث على أصالته متواضعاً، نقياً، شفافاً.
همّهُ القصيدة. همّهُ المعنى. همّهُ نقل التجربة. لا أزال أذكر وقفته الأخيرة مع الشعراء المؤسسين لمجلة «شعر» لمناسبة إعادة طبع العدد الأول التذكاري بمناسبة اعلان بيروت عاصمة عالمية للكتاب. تحدث عن الصداقة والغياب والشعر.
كانت زيارتي الأخيرة له في الغرفة 807 في مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت ووجدت على الباب ورقة تقول: «ممنوع الدخول بأمر من الطبيب». كانت تلك الغرفة النقطة الفاصلة بين الحياة والموت. وبين رقدة ورقدة. حياته صارت في القصيدة، في الحروف، في الرؤى. لم أجد ما أقوله أفضل مما قاله هو نفسه شعراً:
«في ربيعه الأخير
من ردائه شعاع يفيض
كما العطر من الورود
كما والأوراق من الجذور».