إعداد وتقديم: منير مويتش
ترجمة: منير مويتش – ميرزا سرايكييتش
حَدثَ ذاتَ مرَّةٍ أنْ سأَل أحدًا سائلٌ حاذقٌ:
وَمَنْ هِيَ وَمَا هِيَ، سَامِحْنِي
أينَ هِيَ
من أينَ هِيَ
إلى أينَ هِيَ
البُوسْنَة
قُلْ أَنْتَ.
فَفِي الْحين ذاتِه أجاب المسؤولُ علَى سؤاله:
البُوسْنَة ، سَامِحْنِي ، أرضٌ
عَجْفَاءُ هِيَ وحافِيَةٌ هِيَ ، سامحني
باردةٌ هِيَ وجائعة هِيَ
وإلى ذَلِكَ
سَامِحْنِي
جرَّأَهَا
نَومُها.
(ماك ديزدار، سِجِلُّ الأرْض، من مجموعته “النائم الحجري”)
لم أكن أتخيل أنني سأحظى بفرصة الكتابة عن الشعر البوسني لبعض المجلات العربية. لا أعتبر نفسي خبيرا في الشعر البوسني ، أو على الأصح أنا لست خبيرا في الشعر البوسني. أدرّس الأدب العربي في جامعة سراييفو، لكن من الطبيعي أنني كبوسنوي المولد والمنشأ، أجد هذا الشعر شيئا أليفا لي، بل شيئا يجري في عروقي. قد يبدو قول مثل هذا مثيرًا للشفقة بلا داعٍ ، لذا سأتوقف عند هذه النقطة.
عن المكان والزمان؟ نعم، كل شيء يحدث في المكان والزمان. نتحدث عن الشعر البوسني المعاصر أي شعر موطنه هي البوسنة والهرسك والدول المجاورة في البلقان ودول عديدة يعيش فيها البوسنيون خارج البوسنة والهرسك في الفترة المعاصرة. وعادة يستخدم اسم “البوسنة” على التغليب لـ “البوسنة والهرسك”. حقيقة.. البوسنة هو الاسم التاريخي العريق للدولة ولم تتم التسمية الرسمية للدولة بالبوسنة والهرسك إلا بدءا من نهاية القرن التاسع عشر. إضافة إلى ذلك يبدو أن النظام الاشتقاقي في اللغة العربية لا يقبل اسم المنسوب من البوسنة والهرسك، ويبدو غريبا بعض الشيء لو قلنا الشعر البوسني والهرسكي. (نأخذ هنا قليلا من المجال لملاحظة استطرادية اقتضاها السياق عن طريق غير مباشر، دعنا نتأكد من كيفية الكتابة: البوسني أم البسنوي أم البوسني ؟ نجد كلا من هذه الأشكال الثلاثة في الاستخدام. البوسني أو البسنوي هو الصحيح، أنا الناطق بغير الضاد أجرؤ على تشكيل هذه الكلمة. فإن تعليلي هو في الحقيقة الاعتماد على التراث المكتوب باللغة العربية عبر القرون حيث نجد دائما «البوسني» أو “البوسنوي” أو “البسنوي”، أما “البُسني” فهو شكل لا نجده إلا في الوقت الحديث. فهناك عدد غفير من الأشخاص في التاريخ يوجد بجانب أسمائهم نسبة “البوسنوي” أو “البسنوي”.)
يقول البعض إن البوسنة هي قلب أوروبا (البوسنيون أنفسهم لا يأخذون هذه إلا مبالغة فارغة عن المعنى). إذا نظرنا إلى خريطة أوروبا ، فسنرى أن البوسنة تشبه القلب في الشكل، لا أكثر. إن “قلبها” هذا كان ينزف ليس فقط في التاريخ الحديث، ومع ذلك ظلّ قويًا وحيويًا. البوسنة منذ أن ذُكرت لأول مرة في القرن العاشر كانت كلا من مملكة مستقلة في القرون الوسطى وولاية ضمن الدولة العثمانية، ولاية ضمن الإمبراطورية النمساوية، المجرية ومنطقة ضمن المملكة اليوغوسلافية وجمهورية ضمن يوغسلافيا الاشتراكية، وأخيرا دولة مستقلة منذ عام 1992. عادة يقولون إن البوسنة تمثل جسرا بين الشرق والغرب، كما تعتبر دول وشعوب غير قليلة أنفسها جسرا بين شيء و آخر. ولكنها حقا هي ملتقى عوالم الغرب والشرق والإسلام والمسيحية الأرثوذكسية والكاثوليكية، ويجب ألا ننسى عالم اليهودية، لأن اليهود استوطنوا في البوسنة بعد طردهم من الأندلس. وعلى الرغم من التحديات التاريخية المختلفة ، لا تزال الثقافات المختلفة تعيش وتتشابك في البوسنة.
إن أهل البوسنة لا يرقُّون شعرهم مثلما يفعل العرب ولا يسمُّونه بـ”ديوانهم” مثلما يفعل العرب، إلا أن في شعرهم، بطبيعة الحال، ينعكس مصيرهم وماضيهم وحاضرهم، لهذا فإن كتب التاريخ عامة – وطبعا كتب التاريخ البوسني- تعاني من فجوات، إذ إن تاريخ الحروب في الحقيقة لا يحدثنا عن آمال الإنسان وسروره ومخاوفه، وهذه الفجوات يمليها الأدب، وبوجه الخصوص الشعر. فالتاريخ يمكن أن يكون صادقا وكاذبا، أما الأدب فمع أنه يُعتبر وليدَ الخيال فلا يسمَّى أبدا بالكاذب. بل ليس هناك شعر كاذب على الإطلاق، هو دائما يصدق، إما بطريق مباشر أو غير مباشر. فالشعر البوسني ليس استثناءً في هذا السبيل، هو مرجع ثمين ومورد “لا تكدره الدلاء”.
اتخذ الشعر البوسني -كما هو الحال مع جميع الآداب- مسارين رئيسين في نشأته وتطوره: الشعر الشفهي والشعر المكتوب. يزخر الأدب البوسني بالشعر الشفهي، الغنائي والملحمي، وعلى سبيل المثال فإن عبدو مجيدوفيتش (1953) عازف وشاعر ملحمي كان قادرا على إنشاد ملحمة شعبية يبلغ طولها أكثر من اثني عشر ألف بيت عن ظهر قلب.
البوسنة بلد صغير ولا عجب في عدم معرفة بعض الحقائق عن هذا البلد الصغير، وبالتالي عن أدبه. المنطقة التي يعيش فيها الشعر البوسني ليست فقط البوسنة والهرسك، ولكن أيضًا الدول المجاورة لها في جنوب شرق أوروبا والتي أصبحت مستقلة بعد انحلال يوغوسلافيا الاشتراكية: صربيا وكرواتيا والجبل الأسود ومقدونيا، وإضافة إلى ذلك المهجر البوسني في أوروبا الغربية وأمريكا وأستراليا حيث يعيش عدد كبير من البوسنيين. يمكننا بسهولة مواجهة قوالب نمطية مختلفة عن البوسنة. ومن أكثرها انتشارا أن مسلمي البوسنة من أصل تركي وأن اللغة البوسنية قريبة من اللغة التركية. والحقيقة هي أن سكان البوسنة والهرسك ينتمون إلى شعب من الشعوب الثلاث: البوشناق والصرب والكروات، وأنهم ينتمون إلى الإسلام والمسيحية الأرثوذكسية والمسيحية الكاثوليكية. وتنتمي هذه الشعوب على اختلاف قومياتهم وأديانهم إلى نفس الأسرة أي أسرة الشعوب السلافية الجنوبية. أما لغات هذه الشعوب فهي شبيهة تماما بعضها ببعض وعلى الأغلب لا يكاد يمكن ملاحظة أي فرق بين البوسنية والصربية والكرواتية. الفرق الحقيقي بينها هي التسمية. وبهذه الميزات تختلف البوسنة والهرسك عن دول أخرى في منطقة جنوب شرق أوروبا. إضافة إلى هذه اللغات كان الشعر البوسني يُكتب بالتركية والعربية والفارسية، وهذا أثناء سيطرة العثمانيين على البوسنة وأيضا باللادينو (لغة يهود البوسنة المطرودين من الأندلس). أما أنواع حروف الهجاء فتجد الشعر البوسني عبر العصور مكتوبا بالحروف السيريالية البوسنية، والعربية المهيأة لكتابة اللغة البوسنية، والسيريالية، واللاتينية.
يَعرف الشعر المعاصر للبوسنة والهرسك شعراء ينتمون إلى مختلف القوميات والأديان، وتوجهات فكرية وفلسفية، واتجاهات فنية، وكذلك أولئك الذين يقولون إنهم لا يريدون الانتماء إلى أي شيء. يكتب الشعر -أي الأدب البوسني المعاصر- البشناق والصرب والكروات واليهود والمسلمون والأرثوذكس والكاثوليك والملحدون والعلمانيون، اللاأدريون والشيوعيون والتقليديون والنسويات والمتصوفون والوجوديون وما بعد الحداثيين، والمتفائلون والمتشائمون … إذن، شهد الشعر البوسني مثل البوسنة نفسها مختلف التعدديات عبر التاريخ. إن الوحدة الشعرية للأدب البوسني، التي تجمع بين الممارسات الشعرية المختلفة وتوجهات الشعراء، تشهد على الوحدة الثقافية والروحية للبوسنه والهرسك. نعم، الشعر هو ديوان البوسنة!
الشرط الأساسي لفهم الهُوية الثقافية للبوسنه والهرسك هو احترام كون هذه الهوية بين مفردة ومركَّبة. ترتبط التقاليد الثقافية لشعوب البوسنة والهرسك بتذبذب مستمر ومثمر في نفس الوقت بين وحدة البوسنة والهرسك وتفرُّد شعوبها. ومع ذلك، حتى في أوقات تفاقم الأوضاع السياسية والمأساة الحربية المصحوبة بالانعزالية الثقافية، لم يتم قمع روح الوحدة أبدًا. وعلى هذا الأساس، فإن السياق الثقافي المعاصر يوفر لشعر شعوب البوسنة والهرسك اتساعًا يتجاوز الأطر والحدود الموهومة.
عن الزمن
وفقًا للتقسيمات المعتادة، تبدأ فترة الشعر البوسني المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية. أما السمات الأساسية للشعر البوسني المعاصر فتتمثل في التعددية الأسلوبية، ويمكن ملاحظة استنفاد الأنماط الشعرية الجامدة التي سادت في فترات من مسيره، وهذا بحكم ظروف سياسية وأذواق جمالية معينة. فإن جماليات المحاكاة التي كانت سائدة على الشعر في إطارها وظيفة براغماتية متمثلة في خدمة أفكار وأيديولوجيات مباشرةً بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت تضعف في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية. اتخذت تعددية الأساليب في الشعر خلال النصف الثاني من القرن العشرين أبعادًا جعلت من الصعب تصنيف الإنتاج الشعري المعاصر في البوسنة والهرسك. ويمكن مع ذلك وكما يشير الأستاذ وداد سباحيتش، التمييز بين الأنواع التالية من الخطاب الشعري ـ وهذا مع الاحتراز من الزعم بدقة هذا التمييز: الشعر الحميم ، والشعر الفكري الطليعي، وشعر الرمزية الأسطورية، والشعر الواقعي الساخر. ولم يستمر إلا عدد قليل من الشعراء في كتابة نوع واحد من الشعر، بل توجد أنواع مختلفة من الشعر في أغلب المجموعات.
أما الشعر الحميم فهو في الحقيقة شعر الرومانسية الجديدة، والدوافع الرئيسة لهذا الشعر هي ذكريات الطفولة، والحب المؤلم والمخلص، والتمتع بصمت الطبيعة والوحدة. وقد لوحظ أن هذا الشعر يبني جزر فردوس للاستراحة من الموضوعات الكبيرة. ولذلك يسمى “بشعر النغمات الخفيفة” و”شعر المرض العاطفي”. ظل عزت سارايليتش مخلصًا لهذا الشعر طوال حياته، وهذا من خلال الخطاب الشعري البسيط الذي يقصد جميع طبقات الناس وموضوعات الواقع العادي. الحميمية الشعرية لبيسيرا أليكاديتش أكثر أصالة منها في شعر سارايليتش. تحمل أبياتها شدة استفزاز غير معهود في الفهم التقليدي لما يسمى الكتابة الأنثوية.
من ناحية أخرى، يسعى الشعر الفكري الطليعي إلى تبني تجارب الأدب الأوروبي الغربي الحديث، وخاصة السريالية والتعبيرية. وبدلًا من العواطف والتمجيد، يعتمد هذا الشعر على التفكير، والشك في وجود المعنى الثابت، والمفارقة، والسخرية. من الناحية الفكرية والفلسفية، يعود الفضل في هذا الشعر إلى الفلسفة الوجودية الحديثة ومبادئها مثل السخافة والرواقية القائمة على الاعتقاد بأن كل شيء لا معنى له، وقد كُتبت أول كتب ماك دزدار في إطار هذه الشعرية.
يصل شعر الحداثة الجديدة في البوسنة والهرسك إلى ذروته في تأليفات الشعراء الذين يثرون تجارب الحداثة من ينابيع المناخ المحلي وتقاليده الروحية. واستبدل الشعراء انشغالات وجودية بعدم الرضا عن الحياة الحديثة بالشعر الذي يميل أسلوبه إلى الحِكَم الشعبية والشعر الشعبي الشفوي وبمزاج موطني وريفي. ومن خصائص الشعر الفكري الطليعي استخدام المفردات المحلية، وابتكار كلمات جديدة، ومحاكاة صوتية، وما إلى ذلك، ولهذا أحيانًا يكاد يكون من المستحيل ترجمة هذا الشعر إلى لغة أخرى. هذا هو الحال مع شعر ماك ديزدار، خاصة مع مجموعته “النائم الحجري” التي تعتبر بحقٍّ أثمنَ إنجاز شعري للأدب البوسني. وجد ديزدار باعثا ومصدر إلهام في نقوش شواهد القبور الحجرية (ستيشاك) التي تزخر بها البوسنة والتي يرجع تاريخها إلى العصور الوسطى. هذه النقوش تمثل غالبا ذكرى أبدية لأولئك الذين عاشوا من قبل وهي في نفس الوقت تذكير بأننا في يوم من الأيام سنختبر نهايتنا. هذه المجموعة الشعرية هي نقطة تحول في الشعر البوسني المعاصر، لأنه مع نشره في عام 1966، بدأ الشعر البوسني يتقدم بجرأة نحو الموضوعات والأساليب الشعرية الحديثة والمعاصرة.
إذن، يبدو أنه يصح القول لبدايات الشعر البوسني المعاصر أن الشعر يعيد نفسه. بدأ شفويا و”محجَّرا” على الشواهد، وبعد سيره عبر العصور ظهر في مرحلته المعاصرة مكسوّا بشفويته و”حجريته”.
وبالتزامن مع استيقاظ “نائم حجري” لديزدار، أي بدءا من منتصف الستينيات من القرن العشرين، بدأ الشعراء البوسنيون -من بينهم إيليا لدين- بمعالجة الموضوعات اليومية، معتمدين على السخرية وطريقة واقعية لتصوير الحياة. إنهم لا يريدون النظر إلى الواقع من منظور شعري تقليدي، بل يرسمون تفاصيل غير متوقعة من الحياة اليومية.
يعكس الشعر المعاصر للبوسنة والهرسك تعقيد الممارسات الأدبية ، خاصة أثناء العدوان على البوسنة والهرسك في أوائل التسعينيات وبعد ذلك العدوان، عندما نواجه واقعية جديدة وحساسيات جديدة. من المقبول عمومًا أن سيدران هو شاعر قانوني للأدب البوسني المعاصر. ونلتقي في شعره بسراييفو كموضوع وجودي يتحدث الشاعر ضمنها عن الحب والقلق، علاوة على ذلك، فهو يكتب الشعر كمناقشات شعرية على خلفية تاريخية. ينعكس في شعره الماضي والحاضر في الصورة نفسها. وفي أشعاره تتلاقى الإيقاعات الشعرية والسرد ولقطات الأفلام. فسيدران شاعر وكاتب سيناريو وكاتب نثر. وأدواره هذه متشابكة دائما. وماركو فشوفيتش يقف إلى جانبه من حيث الشهرة.
بطبيعة الحال، لم تكن هناك مساحة كافية في هذا الملف لترجمة شعر جميع شعراء الفترة المذكورة، لذلك اخترنا بعض شعرائها من السنوات الأخيرة. كان هدفنا أن نعرض أبيات شعراء كتبوا الشعر قبل الحرب ضد البوسنة والهرسك (1992-1995) وبعدها، لنرى كيف تأثر شعر هؤلاء “المخضرمين” بما حدث في البوسنة، وكيف احتفظ الشعر بروح البوسنة.
قائمة الشعراء الذين يجب ذكرهم ليست قصيرة، وسنقوم بسرد أسماء بعض منهم: عبد الله سيدران، ماركو فيشوفيتش، حسين هاسكوفتش، هاجم حيدريفيتش، إيليا لدين، فيريدة دوراكوفيتش، بيسيرا أليكاديتش، زلهاد كليوتشانن، وجمال الدين لاتيتش، وستيفان تونتيتش، و آمر بيركا، وميله ستويتش، وأسمير كويوفيتش…
أما بالنسبة لترجمة الأشعار المدرجة في هذا الملف، فنحن نتفق تماما مع الجاحظ على أن الشعر العربي “لا يُستطَاع أن يُترجَم” إلى لغة أخرى. ونعتقد أنه يتفق معنا على أنه من الصعب أيضًا ترجمة الشعر البوسني إلى اللغة العربية لأسباب لا ينبغي ذكرها.
نأمل أن نكون قد نقلنا صدى الشعر البوسني الذي “سنأخذ من خلاله القارئ إلى موطن لم يكن فيه من قبل”.