ترجمة خالد النجار
كانت للشاعرة والرسامة إيتل عدنان حوارات مع معاصريها وخاصة من الكتاب والفنانين الفرنسيين والأمريكان؛ حوارات تبادل رؤى ثقافية فهي التي تكتب بالانجليزية والفرنسية ويا للمفارقة كانت الأكثر نقدا للخطاب الغربي سياسيا وفكريا، والأكثر اعتزازا بثقافتها وإرثها الحضاري العربي الإسلامي. لقد تخلصت إيتل عدنان مبكرا من عقدة الخواجة السائدة في الثقافة العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر، من لحظة الانبهار الأولى بالمدنية الغربية لحظة قال الخديوي إسماعيل أريد أن أجعل من مصر قطعة من أوروبا.
كانت إيتل الاستثناء، كانت في مجالسها تنتقد أولئك الشعراء العرب الباريسيين الذين لا يتركون فرصة للانتقاص من العرب والمسلمين إلا واقتنصوها بحثا عن اعتراف الآخر بهم. وتحت شعار الحداثة تراهم يجلدون الذات وينتقصون من ثقافة وعقائد شعوبهم ركوبا لموجة شيطنة العرب والمسلمين التي دشنتها الرسوم الهولندية. شعراء وكتاب ينوؤون تحت إحساس عميق بالهوان إزاء الغرب، كتاب هم نموذج حي لشخصية المستعمَر -بفتح الميم- النمطية كما صورها فرانز فانون وألبرت ممي؛ إنه نفس بورتريه المثقف المسلم المستلب بالغرب الذي يتكرر باستمرار كلازمة في كتابات ف. س. نايبول والذي يمتدحه ويمجده.
نايبول الهندي المتحدر من جزر الترينيداد هو أيضا نموذج فاضح للكاتب الملون المستلَب -بفتح الباء-… نايبول معادٍ لفلسطين معادٍ للحضارة العربية الإسلامية. نايبول نقيض غارسيا ماركيز.
إيتل عدنان نموذج مفرد بين مجايليها من الشعراء العرب. إيتل نقيض هؤلاء ولعل ملحمتها الحديثة قيامة عربية التي سبرت فيها هوية العربي وتحولاتها عبر الأحقاب وكأن هذا النشيد الملحمي دعوة للنهوض والبعث؛ مؤمنة أن هذا العربي سينهض من رماده؛ العربي الذي صهرته النيران وأعادت صياغته…
مبكرا وهي طالبة في السوربون في تلك الخمسينيات البعيدة ارتبطت إيتل عدنان بعلاقة مع الكاتب الفرنسي الكبير أندريه جيد الذي كان أيضا صديقا لطه حسين وهو الذي رشحه سنة 1948 لنيل جائزة نوبل للآداب، كما كانت على علاقة بالفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، وبإيتيان سوريو فيلسوف الجماليات. هذه الحوارات جعلتها على تماس بأسئلة عصرها وتياراته الفلسفية والجمالية الكبرى..
هكذا اندفعت بكليتها في مغامرة كتابة ورسم استمرت حوالي سبعين سنة
هنا تروي في هذا النص التأبيني بعض ذكرياتها مع مارغريت يورسنار.
«المترجم»
أن تتذكر يورسنار
المرأة التي كتبت: «جزء كبير من حياتي كان علي أن أقضيه في محاولة تحديد، ثم رسم ذاك الرجل المنعزل والذي كان مرتبطًا بكل شيء»، ماتت للتو، كما عاشت، انتقلت من هنا والآن إلى عالم الأدب والمجد والخلود.
توفيت مارغريت يورسنار في ولاية ماين الأمريكية، وهي امرأة بلجيكية وفرنسية متجنسة بالجنسية الأمريكية ذائعة الصيت في أوروبا ونكرة على وجه التقريب في هذه القارة ، أمريكا، حيث قيض لها أن تقضي أكثر من نصف السنوات الأربع والثمانين من عمرها.
ربما، يتحتم علينا أن نسرع في قراءة كتبها ، وإلا فإننا سوف نقطع أنفسنا نهائيا عن العصر الكلاسيكي إلى الأبد، العصر الذي أعادت إحياءه.
كانت مارغريت يورسنار (أكبر مثقف كلاسيكي) في هذا القرن، إن لم تكن الوحيدة. كانت تقرأ اللغة اليونانية القديمة واللاتينية كما نقرأ نحن اليوم الصحيفة الصباحية، عرفت كل حجر من الآثار في اليونان وإيطاليا وإسبانيا، و جعلت منها إطارًا مرجعيًا معاصرًا جدا لدرجة أنها كانت الكاتبة الوحيدة القادرة على رؤية -على سبيل المثال- كيف كان الشاعر كافافي الإسكندري أكثر كلاسيكية من بيزنطة وأكثر وجودية من سارتر. كانت أيضا قادرة على أن تضع في منظور تاريخي غناء البلوز والأهازيج الروحية الزنجية، وأن تجد فيها، وفيها فقط، طرازا خاصا من اليأس الغنائي الصادر عن إرادة قوية للحياة. لقد ترجمت قسطنطين كفافيس وشعر الزنوج المعروف بـ the Spirituals إلى الفرنسية، واضعة في كل مناسبة واحدة من تلك المقدمات الرائعة التي هي أطول بكثير من العمل المقدم، والتي جعلت بعض الكتاب الفرنسيين مشهورين بشكل خاص.
بحثت في الأدب والموسيقى المعاصرة عن ذاك المزيج من الألم والعزلة والحب الحارق الذي قرأته في الشعر اليوناني القديم؛ الشعر الذي انتقت مختارات منه وترجمتها ونشرتها في أنطولوجيا أخذت مكانها إلى جانب أعمالها الروائية ومقالاتها ومسرحياتها. أقامت يورسنار في مناخ روحي كوسموبوليتي ومتمرد في الآن حيث حرية الفكر وأنماط تعبيرها هي القيمة العليا، لأنها تعتقد أنه من خلال ممارسة هذه الحرية يمكن تحقيق الطموح الكلاسيكي الذي يهدف إلى الحفاظ على توازن ديناميكي بين غرائز الإنسان العقلانية وغير العقلانية. كتب نيتشه «الإنسان جسر». وبهذا المعنى، قامت يورسنار بتشييد جسرها الخاص.
كانت تعد من طرف أقرانها ومعجبيها كشخص بارد. بل قل صارمة أكثر منها باردة. وفي الواقع، كانت يورسنار رومانسية، على سفر دائم، تكتب في القطارات وفي البواخر، تقرأ الأبراج في خرائط السماء، مدافعة عن البيئة تتأمل نيران الغابات بسرور ورعب وخزي، تتمعن ولساعات طويلة في التماثيل اليونانية الرومانية وتكرس حياتها بشغف لدراسة النوازع الإنسانية. بيد أنها كانت متحفظة للغاية، على الرغم من أن هذا لم يعد هو القاعدة المعمول بها اليوم.، كما اختارت شخصيات رواياتها من أثينا أو روما، ومن قلب اضطرابات أوروبا الشمالية قبل عدة قرون، وقد اعتقد الكثيرون أنها كانت تعيش حياة مكرسة للبحث في جزيرتها الباردة مونت ديزير في ولاية ماين الأميركية حيث قضت قسما كبيرا من حياتها.
أكيد أن يورسنار أوروبية أكثر منها فرنسية كأبيها أو بلجيكية كأمها. هي ككاتبة أقرب إلى توماس مان وراينر ماريا ريلكه من زملائها في الأكاديمية الفرنسية التي كانت هي المرأة الأولى التي تدخلها، تدخل هذه الحلقة المرموقة والمملة في كثير من الأحيان. قد يكون هذا أيضًا سبب إخراج اثنين من رواياتها ، Coup de grace و L’Oeuvre au noir، إلى السينما بشكل رائع من قبل مخرجين غير فرنسيين هما شلوندورف ودالفو Schloendorff و Delvaux.
وأنا إن كنت أشعر بألم عميق لفقدها فذلك لأن يورسنار تمثل بالنسبة لي كل ما أعتبره متوسطيا وحضاريا ومأساويا.
حملت يورسنار في روحها كامل طيف التاريخ الأوروبي. والتاريخ لا يعني لديها الحروب والأحداث الكبرى والمعالم الأثرية فقط، وإنما يعني إضافة إلى ذلك الولادة والصدام وأحيانًا موت الأفكار، الأفكار التي كانت ممتزجة بما نسميه النوازع. هذا هو السبب في أن عالمها الأدبي الذي خلقته يدور حول علمين بارزين. شخصيتان كليتان وهما هادريان الروماني الإمبراطور والبناء والانسان والعاشق، والحبيب. والثاني زينو، الطبيب الشمال أوروبي غير الفاوستي، والإنسان الذي انطلق في معركة العقل. بين هادريان وزينون تجدون كل القيم والنوازع التي شكلت ما نسميه إشكالية الحداثة.
لقد ولدت -إذا ما استعدنا تعبيرها بلفظه الخيال من الأركيولوجيا-. لكن سر الفن هو أنها وأثناء عمليتها الإبداعية، كتبت ضمنًا وباطراد سيرة ذاتية، لا صلة لها على الورق بالتفاصيل الحميمة لحياتها. وهي في هذا لم تقدم لنا أسفارها ولا أحلامها وتجاربها، ولكن قدمت صدى روحها العميق، ونبرة كتبها هي خفقات قلبها الحقيقية؛ وهذه النبرة هي الرسالة الأساسية الثانية وغير اللفظية التي ترشح من الشخصيات التي أعطتها الحياة.
أدري أن بعض مناضلات الحركة النسوية يكرهن يورسنار، وهن ينتقدنها لغياب الشخصيات النسائية الرئيسة عن عملها. حتى أني سمعت من يقول إنها تتجاهل أنوثتها وتتماهى مع بطلها هادريان. إنها طريقة مؤسفة للغاية في النظر إليها. فقد نشأت مارغريت يورسنار في منزل مع مدرسين خصوصيين في البيت بما أن أمها ماتت بعد عشرة أيام من ولادتها. لذلك كانت بطبيعة الحال ابنة أبيها الوحيدة، الأب الذي أحبته أكثر من أي شيء آخر. وباستثناء الشاعرة سافو، كانت نماذجها الكلاسيكية من الرجال. رجال عمل أو رجال فكر. لهذا السبب كان عالمها الفكري ذكوريًا. وهكذا، أو ربما لأنها كانت امرأة، تصرفت وفقا لمبادئ نساء بيئتها الارستقراطية وتربيتها. إن المكاسب النسوية الحديثة هي التي مكنت المرأة اليوم من تأكيد ذاتها ومكنتها حتى أن تكون استفزازية دون اتهامها بعدم اللياقة. لكن العالم الذي نشأت فيه مارغريت يورسنار، والذي انتصرت عليه بعبقريتها ، لم يكن يشجع في شيء تفوق المرأة. استخدمت يورسنار كل تلك المحرمات وتلك القيود بشكل إيجابي، نائية بنفسها عن فوضى العالم لترى كيف سيصير هذا العالم إلى ما هو عليه اليوم، أفضل أو أسوأ. وكتبت أن «حياة النساء إمّا محدودة للغاية أو سرية للغاية. وإن امرأة كتبت قصتها فإن أول نقد سيوجه لها أنها فقدت أنوثتها. كان من الصعب بما فيه الكفاية وضع بعض الحقائق على لسان الرجل»، صحيح إنه نوع من الدفاع المتخبط ضد اللوم الذي كانت تسمعه أو تتخيله. ونحن لسنا مطالبين بأخذه على وجه التسليم.
أعتقد أن الإجابة تكمن في مكان آخر. في الواقع فإن معظم الأبطال النسائية الكبرى ظهرت في أعمال أدبية كتبها رجال. من بين الأمثلة الأكثر بروزا: مدام بوفاري، آنا كارينينا ، دوقة لانغيا. وأرى أن مارغريت يورسنار كانت على وعي تام برغبتها لأن تثبت ، من خلال حياتها، أن ذهن المرأة قادر على استيعاب حياة وأفكار وأعمال أحد أعظم الأباطرة. في عملها -وفي ذهنها- عرفت كيفية الجمع بين هذه الثنائية الغامضة للذكورية والأنثوية، كما لو أنهما لم يكونا متوازيين يفترض ألا يلتقيان أبدًا، بل هما قطبا الواقع المستمر الذي يمكننا تسميته الطبيعة البشرية أو الوجود أو الروح أو الكون. في الرابعة والعشرين من عمرها شرعت في دراسة وكتابة مصير رجل استثنائي. صارت امرأة بكل معنى الكلمة وهي تسبر رؤية أدريان كندٍّ له، وفي المقابل تأكد لديها أنها تمتلك الحجم الداخلي الكافي لمواجهته.
لابد أن ذلك كان منذ حوالي ثلاثين سنة وكنت خارجة لتوي من هزة عاطفية، وإصابة كبيرة في الظهر، ومن عملية جراحية، ولكن مع إحساس بأن العالم جديد وغامض وهش ومؤلم وأيضا غارق في ضوء متلألئ. في مكتبة الكلية، وجدت رواية فرجينيا وولف «الأمواج» في ترجمتها الفرنسية. أثناء القراءة، كان عليّ أن أتعرف على أجواء الكتاب، وحساسيته المتفاقمة، لدرجة أنني اتخذته درعًا، ضممته إلى قلبي، في شوارع بيروت وفي الترامواي. كانت الترجمة من وضع مارغريت يورسنار . لقد جعلت هذا النص الإنجليزي تحفة فنية فرنسية. كما كتبت أيضا مقدمة ذكرت فيها لقاءها مع الروائية الإنجليزية الكبيرة. كانت رواية الأمواج مفاجأة بالنسبة لي. عندما قرأت أن مؤلفتها قد ماتت شعرت بالحاجة العاجلة للكتابة إلى يورسنار، متحمسة لفكرة أن أشاهد يوما العينين التي رأت فرجينيا وولف والتحدث مع شخص بدا لي أن حساسيته قابلة للمقارنة مع تلك التي لفرجينيا وولف.
لم نكن آنذاك من صنف الطلاب الذين يكتبون بسهولة للناشرين والمؤلفين، ولكنني فعلا كتبت إلى يورسنار، عن طريق دار النشر التي أصدرت الكتاب، وفي أحد الأيام تلقيت رسالة بعثتها من ألمانيا تقول إنها تلقي سلسلة من المحاضرات. وأضافت أنها ستأتي إلى باريس في يوم معين وإلى مكان معين، ويمكنني بعد ذلك مقابلتها. وإذ كنت سأعود إلى باريس في غضون أشهر قليلة، فقد احتفظت بهذا العنوان في ذاكرتي، سعيدة بمجرد التفكير في لقاء «شاعرة كبيرة». كانت رواية الأمواج شعرًا بالنسبة لي، والشخص الذي كان قادرًا على تقديم ترجمة معادلة لها كان أيضًا شاعرًا يُحب.
بمجرد وصولي إلى باريس، اشتريت كتابها مذكرات هادريان وانغمست في قراءته. ذهلت. كان فيه البحر المتوسط الذي أعرفه و أحمله في أعماقي، وأنقله معي وأقاسمه أسرارا، وأشياء مشتركة وأساطيري الشخصية. وفي هذا الكتاب رأيت امرأة تحب هذا البحر بنفس الشكل، وبنفس النوع من الشغف الجسدي الكلي الذي لدي. كنت مثل كثيرين من قرائها قد اكتشفتها في وقت متأخر، وخلطت تقريبا بينها وبين هادريان. وبالطبع، كان هناك أكثر من مجرد لمسة من الحقيقة في كل هذا. عندما قمت بزيارتها في باريس، وبعدها بسنوات عندما قضيت أسبوعًا في بيتها «Petite Plaisance»، الواقع في جزيرة مونت ديزير، أدركت أهمية التناغم بين الإمبراطور الروماني والمرأة التي أحيت بطلها الأساسي وجزءا كاملا من التاريخ. «في الحقيقة»، أسرت لي بعد ظهر أحد الأيام، وبصيص مكر في عينيها الزرقاوين اللازورديتين: لقد كتب يوليوس قيصر ولورانس مذكراتهما، أنا كتبت مذكرات هادريان! «
كان من الرائع رؤيتها في إطارها مع صديقتها ومترجمتها الأمريكية غريس فريك. كان مكانًا مليئا بالصمت، مريحا وهادئا. أطلعتني على صور النجوم والأبراج، مع ذكر أسمائها اليونانية والعربية، صورة لساحل المحيط الأطلسي، وغابة. أرتني باهتمام خاص صور أنطونيو وتماثيله ونجومه التي وضعتها في كل مكان، وأغطية مصابيح نقشت عليها «ANIMULA VAGULA BLANDULA»، وهو البيت الأول من قصيدة كتبها هادريان وصدر بها مقدمة الفصل الأول من المذكرات. كما هو الحال مع فرجينيا وولف ، قيل القليل جدا. فيورسنار تعتقد أن فرجينيا كانت في إحدى فترات اكتئابها عندما زارتها، ثم قالت لي إنها لا تستطيع أن تصف لي تلك الزيارة، إذ عندما استقبلتها، كانت فيرجينيا في غرفة غارقة في الظلام.
كانت يورسنار معلمة الحب لجيل أو جيلين، كانت المرأة التي تدري أن مشاعر الحب يجب أن تكون مستحيلة وغير مشبعة لكي تصير الرفيق الأروع في حياتنا. في أعمالها مذكرات هادريان وأليكسيس وكفافي قاسم مشترك مع موت في البندقية يتمثل في ذاك الإحساس بالخسارة. لكن مأساة هادريان ربما تم تقديمها بشكل أكثر حدّة ونموذجيّة، بحكم أنه لم يمت بالطريقة التي مات بها أنطونيو، بيد أنه استمر في العيش، مهووسًا وعلى ما يبدو مظفرًا. كتب توماس مان إلى يورسنار للتعبير لها عن مدى تقديره لمذكراتها. أرتني الرسالة وقرأتها بإحساس من الارتياح الهادئ.
كتبت يورسنار كتبها، وكتبها خطت حياتها. وذلك بطريقة مباشرة، على ما يبدو. لقد كتبت في الملاحظات التي أعقبت مذكرات هادريان: «في 26 ديسمبر 1950، وذات ليلة جليدية، على ساحل المحيط الأطلسي، في الصمت شبه القطبي لجزيرة مونت ديزير في الولايات المتحدة، حاولت استعادة حرارة وقيظ يوم من شهر يوليو سنة 138 في مدينة باياس، وثقل شرشف على أرجل ثقيلة ومتعبة، والضجيج الذي لا يكاد يسمع لذاك البحر الذي بلا مدّ يبلغ من أماكن متفرقة إلى رجل مشغول بشائعات عن احتضاره. لقد حاولت أن أمضي إلى آخر جرعة من الماء شربها، وإلى آخر وعكة، وآخر صورة. ولم يعد للإمبراطور سوى أن يسلم النفس الأخير».
وفي كانون الأول أيضًا توفيت يورسنار عام 1987، ليس الشهر الحقيقي الذي مات فيه هادريان، ولكنه شهر الكتابة عن موته، في نفس المكان، وفي نفس التوقيت، ووحيدة ، عندما كانت تكتب مذكراتها الخاصة التي تركتها غير مكتملة.
كانون الثاني 1988
عودة هادريان
حلمت أو قل حلمت أو تمنيت؟ أن يعود هادريان لزيارة العالم الذي غادره قبل حوالي عشرين قرنًا. لم أقل يورسنار، لأنها عرفت عالمنا جيدًا وقد أضحكها وأبكاها.
لنفرض عاد هادريان، ولكن أين؟ بطبيعة الحال إلى إمبراطوريته.
ولكن قد يقول لنفسه أين هي إمبراطوريتي؟ لا أرى سوى دول صغيرة وكيانات ليست ذات أهميّة. وإذ أتفحصها عن قرب أجدها غير مستقلة ولا حتى مكتفية بذاتها. دول تعتقد أنها مستقلة أو تتظاهر بذلك.
الإمبراطورية، تعني بوضوح وبشكل ما أن هناك إمبراطورًا قد يستمر المدة التي يستمرها. ولكن الإمبراطورية، حتى وهي ممتدة جدًا في المساحة، كان لديها قوة موحدة، أو كانت تريد أن يكون لديها قوة موحدة، وكانت تحاول وتحاول باستمرار.
أرى جنوب المتوسط من أدناه إلى أقصاه بلدانا غارقة في الدم. ولكن لماذا إذن؟ لماذا كل هذا البؤس وكل هذه القساوة.
أعتقد أن الجواب سهل. يترأسهم قادة سيئون لا يديرون شيئا، حقيقة لا شيء؛ قادة مصابون بنوع من جنون العظمة حتى أن نيرون نفسه لم يعرفه أبدا.. ولماذا وصلوا إلى هذا الحدّ؟
شعوب هذه المنطقة الشاسعة تثور. إنهم ليسوا جبناء ولكن أشكال القمع رهيبة. من أين تأتي الأسلحة المستخدمة في عمليات القمع هذه؟ سأذهب إلى هناك لأرى.
ثمة حشود في جنوب البحر الذي أحب. ثمة أناس في كل مكان وخاصة في دور العبادة. ملاعب كرة القدم هي أيضًا أماكن للعبادة ولكن هذه قصة أخرى.
ستقولون لي إن هؤلاء الناس ليسوا سوى نصف متحضرين. من المحتمل، يتوقف الأمر على تعريفكم للحضارة. ولكن من أنتم بالضبط؟ إلى من أنا أتوجه بالكلام؟
بصفتي إمبراطورًا رومانيًا في الماضي، أخاطب أولئك الذين تشيعوا لي في هذا الجزء من العالم، العالم الغربي كما تقولون، وغربه المضاف: الولايات المتحدة.
أخاطبكم أنتم ورثة اللسانين الإغريقي واللاتيني. مثل كاتبة سيرتي مارغريت يورسنار وريثة هذه اللغات نفسها. ووريثة تاريخ البلدان التي عاشت فيها هاتان اللغتان.
إنني مندهش من عالم اليوم هذا مع عالم من سبقوني. نفس الفشل للثورات الصم أو العلنية ، ونفس الإصرار على الاحتفالات العظيمة، ونفس النفاق في المجال العام. ولكن هناك أيضًا فوارق كبيرة.
لقد وضعت كل هذا. وقد أدركت مارغريت أنني لم أكن مجرد عاشق فحسب، بل كنت أيضًا محبا للسلام. وقد أدركت كما لم يدرك أي إنسان آخر أن السلام هو السيادة، وأنه كان أكثر تحديا من الحرب، وأكثر شرفًا.
ما الذي أراه أو بالأحرى ما الذي أسمعه؟ أصغي إلى الحط من فكرة الإمبراطورية لصالح ما يسمى الديمقراطية. وأنا لا أعني ديمقراطية الإغريق التي كنت على دراية كبيرة بها، أواه.لا!
لقد أنشأ الإغريق لبعض الوقت أمة، هي الأمة اليونانية. كان الشعب يقرر فيها تطهير شارع ما أو بناء مسرح، ويقرر مصير مسرحية. و هو الذي يعلن الحرب والذي يوقع السلام. لم تدم هذه الديمقراطية طويلا؛ ولكنها وجدت.
إن ديمقراطيات اليوم تعمل بشكل جيد. حسنا عظيم. ولست أنا من سيأسف لرفاهية أي إنسان. أو للشواطئ التي يغطيها المصطافون، هذا لا يضر أيًا كان. أنا، لم يكن لدي بتاتا الوقت للذهاب والسباحة في البحر، ولكن بعض جنرالاتي كانوا يفعلون ذلك.
هل يمكن قياس الديمقراطية بالترفيه التي تسمح به؟ بالنسبة للبعض، هذا أمر مؤكد. واليوم، وبالنظر إلى عولمة معينة، يجب أن يوجد الترفيه أيضًا على نطاق عالمي. ولكن هذا بعيد كل البعد عن الواقع بل إنه نقيض ما نشهده.
ما الذي حصل؟ حدث شيء ذو بساطة نادرة، يمكنني أن أقول مهولة، فالبلدان التي تتمتع بإنسانية معينة سجنت هذه الإنسانية داخل أسوارها من أجل نفسها. وصفوا بقية العالم خارج المجال الأخلاقي.
أنا لا أقرأ الفرنسية جيدًا، لكني قرأت للتو كتابًا عن ألكسيس دي توكفيل حول الجزائر. هذا المعجب العظيم بالديمقراطية الأمريكية ترك كتابات مذهلة عن إقامته في الجزائر في بداية غزو هذا البلد.
ماذا قال بالضبط؟ قال بكل بساطة وبشكل جلي: إن هذا الشعب مكون من الهمج. وشبهه بسلالة من الحيوانات. ونصح بإبادته.
أجل! يعلم الله أن معظم الأباطرة الرومان كانوا قساة للغاية، ولكنهم لم يخططوا لعمليات إبادة جماعية بالحجم الذي تم. دعونا نقول في الأمريكتين الشمالية والجنوبية، ومن بعد في الكونغو وفي أفريقيا وآسيا، أو على سبيل المثال في أوروبا نفسها أو آخرها في العراق وليبيا.
إذا كان ثمن إرساء ونجاح الديمقراطية في ما يسمى ببلدان العرق الأبيض هو اغتصاب بلدان أخرى، أريد أن أشير إلى أن هناك بقعة حمراء كبيرة على شهادة ميلاد هذا النظام المثير للإعجاب.
كنت إمبراطورًا رومانيًا وأنا سعيد أنني كنت أمبراطورًا. بل أنا فخور بذلك، حتى لو كان ذلك لا يهم في هذه الأيام سوى قلة من الناس. مع ذلك أتساءل أليست هذه الإمبراطورية ما تزال تمثل بعض النفع لعالم اليوم.
كانت الإمبراطوريات مخيطة يدويًا بشكل ما، لقد قاتلنا على رأس قواتنا. وكانت هناك على الأقل شجاعة على المحك، كنا نوزع الغنائم على الجنود. وكنا نخاطر بحياتنا في أي لحظة. وكنا بناة كبارا.
تأملوا جيدا: الأقوام الهندية الأمريكية العظيمة لقد شيدوا بالحجارة وبالذهب. وأنتم قتلتم ودمرتم. أبدتم في الشمال وفي الجنوب، دمرتم حتى أفكار هذه الأقوام. لقد استولينا على آلهة جميع الشعوب التي غزوناها.
ماذا يمكنني أن أقول بدءا من هذا البحر المتوسط الذي كان بحري أيضًا؟ ليس كثيرا. لقد بنينا وشيدنا، مثل معظم الإمبراطوريات، واليوم يقصفون حتى الآثار التاريخية نقطة الصفر في القصف هي كلمة السرّ.
سأقول لكم: خلقت الإمبراطوريات مزيجًا من البشر، وبالتالي مزيجا من الأفكار. قام السوريون بتزويد الإمبراطورية بأربعة أباطرة. أنا جئت من أسبانيا. تمكن الأباطرة المسلمون فيما بعد من إدارة بلاد الهند بحكمة. الأباطرة الصينيون هيمنوا على مناطق وشعوب حرفيين ومعتقدات ذات تنوع مذهل… الإمبراطورية العثمانية كانت تسمح حتى الأمس للأمم «التي تعيش داخلها بإدارة شؤونها وفقًا لتقاليدها الخاصة…
كان الاستعمار على نقيض هذه الروحية. بنى الجدران؛ جدرانا من الحجر والخرسانة، وحيطانا داخلية أشد رعبًا. لا، أنتم لم تمضوا بعيدًا عن هذا.
و مع ذلك أعتقد أن اعتباراتي تجاوزها الزمن. حقيقة.. نحن لم نعد حتى في الديمقراطية هنا، في الاستعمار أو الديكتاتورية هناك. نحن تحت حكم طبقة التكنوقراط.
سوف نعطي مفاتيح المنزل للروبوتات، ونعتمد على ذكائهم الاصطناعي، أولًا لخدمتنا، ثم ليتكاثروا دون تدخلنا.
سأعود إلى إمبراطوريتي، لا يمكنني أن أفعل شيئا من أجلكم. وإمبراطوريتي لم تعد سوى مجرد ذكرى، هذا صحيح. مارغريت يورسنار وأنا نفسي كلانا ميت. وعلى كل حال أحببنا وانتصرنا، ومنحنا الكثير…
أنظمة حكمكم مفلسة. استيقظوا. وما أدراكم؟ فلربما ستكون لديكم وعلى خلاف ما أرى، فرص للبقاء… ربما يكون جيدا من بعض النواحي، ألا نعرف، وأن نحلم ضد التيار بعيون مفتوحة على اتساعها.
مايو 2018
ملاحظة المحرر
ظهر النص الأول لهذا العمل في العدد 179 من مجلة Poetry Flash فبراير 1988. وفي The Bay Area’s Poetry Review & Literary Calendar، المنشورة في بيركلي، كاليفورنيا (تأسست في عام 1972، لا تزال المجلة موجودة، الآن مع العنوان الفرعي: المراجعة الأدبية والتقويم للغرب). كان النص يستهدف جمهورًا من أمريكا الشمالية الذين لا يزالون يعرفون Marguerite مارغريت يورسنار القليلين جدًا. هاهو هنا لأول مرة باللغة الفرنسية، نقله عن الإنجليزية باتريس كوتينسين.
النص الثاني لم يسبق نشره وقد كتب بالفرنسية لهذا الكتاب، من قبل Etel Adnan ، يتخيل هادريان يكتشف الحالة الراهنة لعالم البحر المتوسط.