يفرد إصبعه ليتدلى خيط الصوف , يزر عينيه أمام المغزل الدائر في حركته الرتيبة , يلمح حفيده قادما اليه بطاولة خشبية قديمة ولم يلبث أن يركنها على المصطبة أمام الجد الذي ينهي لف المغزل وينحيه جانبا , يشرع في تناول الخبز بالجبن القريش , بأصابعه العجفاء يتناول كوب الشاي الساخن فيشعر بالدفء يسري في كفيه , تتوالى رشفاته إلى أن ينهي ما في الكوب فينهض مستندا على عقصة عكازه المتين ويدخل البيت , يطالعه ابنه سيد وهو يفتح باب الحوش للغنم والتيوس التي تكسل عن الخروج فيدلف بينها وينهرها بصوته الأجش وجريدته الناشفة تضرب الظهور الضامرة وتهش المتأخر منها ومع آخر سخل خرج من الحظيرة يغلق بابها الخشبي المتهالك , بعتاب يرمق كلبه الهزيل ويضرب مؤخرته مستحثا إياه على اللحاق به ..
يسير سيد بجوار أبيه العجوز و الغنم أمامهما تثير زوبعة من غبار وبدون أن يلتفت إلى أبيه يكز أسنانه ويحادثه بصوت جهد لكي يخرج هادئا ..
– نبيع الغنم , غرضي أسقف البيت الجديد بالمسلح ..
يهز العجوز رأسه في حسرة وهو يواصل خطواته الوئيدة..
– ونقعد من غير شغل ..
لا يبالي سيد بالرد الذي اعتاده من أبيه ففرد عصاه الطويلة على منكبيه ولف حولها ذراعيه القويتين وواصلا السير إلى خارج القرية ومنصور الغنام تدور عيناه بين الأعمدة الأسمنتية المدقوقة في الأرض فتغتم نفسه للبوار الذي ضرب بأطنابة الأرض الخضراء وهاجمتها جحافل البيوت حتى اختنق من ضيق البلدة , يظلان سائرين إلى الطريق الأسفلتي والعربات تمرق من حولهما فاقتنصا خلو الطريق وعبرت الغنم تهشها عصا سيد إلى الناحية الأخرى وفي فضاء ضيق بين بيتين انتشرت الغنم ترعى الحشائش القليلة المتناثرة هنا وهناك ..
يقبل عليهما الولد محسون بن سيد يركب الحمارة , يقترب من أبيه وجده فينزل , يسحب من على ظهرها المفرش الصوف المرقع ويفرده على الأرض , يجلس منصور الغنام يجاوره محسون بينما يذهب سيد إلى السقيفة المنصوبة في الناحية المقابلة من الجسر المسفلت , يراه أبوه يمسك مبسم الشيشة ويتناهى لمسامعه قرقرة مياهها الساخنة , يدير وجهه إلى غنمه التي تبعثرت في كل مكان والكلب يلاحق الشارد منها , يصمت الغنام فيحترم حفيده صمته , يقضي الوقت في مراقبة الغنم , يقبل عليهما أحد المعارف يسحب جديا من قرنه , يقترب من الغنام فيلقي السلام عليه ويجلس قبالته ..
– غرضي أخصي الجدي يا عم منصور ..
يلتفت العجوز إلى حفيده محسون و يأمره :
– اطلع النخلة واقطع جريدة واحذر السل ..
يهرول محسون فرحا للهواية التي يحبها , عينا جده تراقبان ظهره ثم لوى عنقه إلى جاره وعض شفته النحيلة..
– بعت الفدان يا مخلص ؟!؟
تفتر شفتا الشاب عن ابتسامة صفراء جهد لتكون مرضية..
– غصب يا عم منصور, الولد غرضه يسافر إيطاليا ..
– بعت الأرض لأجل تغرّب ولدك , كان زرعها بدل سفره وغربته في بلاد الله ..
يهم الرجل أن يدافع فيتلعثم لسانه وينقذه من مشقة الرد قدوم محسون وبيده جريدة , يخرج الغنام العجوز من بين طيات ملابسه شرشرة(1) صغيرة يصلح بها شبرا من الجريدة , يقرّب مخلص الجدي المستكين ويرفع فخذه كاشفا عنه فيضع الغنّام كيس الخصيتين بين فكي الجريدة ويطبق على الجلد فيطلق الجدي الصغير مأمأة مألومة ويعافر بضعف كي يتخلص من ذلك الشيء لكن أصابع الغنام التي عركتها الدربة تربط الجريدة القصيرة بحبل ليفي رفيع ثم يترك الجدي يركض متعثرا نحو الغنم , يتمتم منصور بصوت مسموع وهو يتحسس جرحا قديما أسفل عينه ..
– حتى الغنم أصبحت باردة , زمان أنا وأبوك خصينا جديا ومن شدة قوته ومعافرته, قرنه انغرز في خدي ..
يصمت منصور, يريح رأسه إلى الوراء حتى تلامس الجدار وكأنه يحادث نفسه ..
– سنة ستة وخمسين كنت أرعى خمسمائة رأس غنم وتزيد وأبوك يا مخلص كان يزرع عشرة فدادين .. آه .. الله يرحم الدنيا الجميلة , بعد أيام الدميرة (2) كنا نزرع ونقلع ونرعى السنة بطولها واليوم لا زرع ولا قلع , الحال أصبح غير الحال , الكل غرضه يرحل ويترك الأرض للبوار ..
يضيق مخلص من كلام الغنام العجوز فينهض مستئذنا ويأتيه محسون بالجدي فيجره مبتعدا ..
يشعر الغنام بألم ظهره فيتمدد على المفرش الصوف متوسدا ذراعه والأخرى يضعها على عينيه اتقاء الشمس ولا يدري كم انقضى من ساعات النهار حتى تناهى لمسامعه ارتجاعات صوت الآذان فنهض متثاقلا يتلفت يمنة ويسرة فلم يجد الغنم , يرسل نظراته إلى السقيفة فلم ير ابنه سيد أو حفيده محسون , يسحب عكازه ويطلع الجسر , يفرد كفه أمام عينيه التي يزرها في قوة فيرى الأغنام من بعيد , يسير متوكئا على العكاز حتى وصل إلى الغنم التي رآها ترعى في كوم كبير من القمامة ولأول مرة يلحظ هزال أغنامه وجفاف ضروعها وصوفها العفن قد علقت به أشياء غريبة فعافت نفسه رؤية الغنم تقتات القمامة بعد أن كان يسوقها قديما في فضاء المراعي الخضراء الممتدة ..
يشعر بانقباض قلبه فيهمّ بجمع الغنم ويعود بها فيلمح ابنه سيد يفترش الأرض ويلعب مع صاحبه الدومينو فنادى عليه وانتظر حتى جاءه فأمره بأن يعود معه إلى البيت , بتأفف يهش سيد بعصاه على الغنم ويعودون إلى البيت , يوجه القطيع القليل إلى الحظيرة ويغيب داخل البيت فيقعي الغنام على الدكة التي تئز كلما مال عليها , يقبل محسون على جده بصينية العشاء فيرى دمعة تتعرج بين أخاديد خده الثمانيني لم يلبث أن يمسحها , يضع الصغير الطعام على الدكة وعيناه لا تفارقان قسمات وجه جده الجهمة , بصمت يقترب, يحادثه بصوت حنون ليطيّب خاطره ..
– أنا أحب الغنم يا جدي ..
– والغنم تحبك وتعطيك خيرها ما دمت ترعاها وتحافظ عليها , احذر يا محسون أن تفرّط في الغنم ..
– حاضر يا جدي , لكن أبي قال أنه لا فائدة من رعي الغنم.
– أبوك طول عمره يكره الرعي , قبل ولادتك باع من الغنم وسافر العراق أيام الحرب وعاد بعد غزو الكويت بطوله لا يملك أبيض ولا أسود ..
يصمت العجوز ولم يهتم بطعام العشاء , يقبض على المغزل ويفرد خيط الصوف الرفيع وطفق يغزل ..
– ماذا تصنع يا جدي ؟
– أعمل لك طاقية صوف تحميك من البرد . .
– أحبك يا جدي ..
– وأنا أحبك يا محسون وربنا يرجع الخير على أيديكم يا ولدي
ينهض الولد ويقبل خد جده ثم يقف هنيهة أمامه ولم يلبث أن يدخل البيت بينما يثبت الغنام عينيه على المغزل الدائر في حركته اللولبية .
هوامش:
(1) الشرشرة : المنجل الصغير
(2) الدميرة : فيضان النيل .
أيمن رجب طاهر/ قاص من مصر