نور الدين الهاشمي
لم يكن فاضلٌ سوى ممثل ثانوي (كومبارس) في المسرحية الكوميدية (الدوران في بئر الزمان)، لم يكن دوره سوى مشهد واحد لا يتعدّاه.. يدخل على الجنرال (الممثل) ذي المئة وسام ووسام، يحمل صينية مطلية بذهب زائف، يعلوها كأسُ شراب مليء بخمر محلّى بالعسل، يتقدّم فاضلٌ الكومبارس محنيَّ الظهر من الجنرال الممثل يقف على بعد خطوات من سيده فيصعّرُ الجنرال خده مشمئزاً من رؤية فاضل.
– تفضل يا مولاي، أدامكم الله، إلى أبد الآبدين، آمين.
يتناول الجنرال الكأس بقرف، يحملها بيده المرصّعة بالخواتم، يرفعها إلى شفتيه اللتين تتحكّمان في اللعبة المسرحية بالحياة والموت، يرتشف بسَحنة معوجّة بضع قطرات، يربدّ وجهه غضباً، تختلج أساريره، يبصق الشراب في وجه فاضل، يقذفه بالكأس متبعاً إياها بقطار مشحون بكل أنواع الشتائم، يهوي فاضل على الأرض ساجداً متوسّلا يتساءل بحرقة عما جنت يداه، يرميه الجنرال الثائر بصولجانه وحذائه، يلملم فاضل نفسه وبقايا الكأس، يزحف هاربا تطارده الشتائم وكلُّ ما تطاله يدُ الجنرال، ينفجر الجمهور بالقهقهات الصاخبة طالباً المزيد.
أعوام وأعوام. المسرحية متواصلة وفاضل يقوم بدور الخادم المُهان مضحكِ الجمهور الشهير حتى هرمت روحه وأدمنت هذا الدور. كاد ينسى ما سبق من حياته حتى آمن بأنّ لا شيء قبل ذلك سوى ظلال باهتة لصبيّ كان يهوى فتاة نحيلةً تطلّ كل صباح حين يذهب إلى المدرسة من باب بيت خشبي نقشت في أعلاه عبارة (ما شاء الله) تزين شعرها بقرنفلة بنفسجيّة تبتسم له راسمة غمازتين صغيرتين ملوحة بأصابعها الدقيقة، ثم تتوارى ضاحكة كحلم بعيد، بعيد.
ويذكر أنه عاد في نهار شتائي عابس من المدرسة ليجد سيارة فارهة أمام الباب الخشبي، وثمّة زغاريدُ تتصاعد من بيت الفتاة. وحين دخل البيت سمع أمه تقول لأخته الكبرى بأن الفتاة النحيلة ذاتَ القرنفلة البنفسجية والغمّازتين الصغيرتين سوف تتزوج وترحل بعيداً.
بكى بصمت، سقط مريضا، لأيام ثم مضى يتابع أيامه تقلّبه الحياة على سفودها كما تشاء. ويذكر أيضا أنّ زغاريد أمه بنجاحه في الثانوية لم تدم بهجتها طويلا فقد تلاشت أمام المجموع القليل وأبواب الجامعة الموصدة. عمل في كل ّ شيء إلا فيما يحب أن يعمل فيه، أجير بقال، عامل دهان، موزّع جريدة إعلانية تغري بشراء كلّ شيء، ناقل أنقاض وأدوات ومواد بناء. وفي أحد الأيام كاد قلبه أن يتوقف عن الخفق حين وصل لاهثا إلى الطابق الخامس وهو يحمل حوض استحمام وردي. تمدّد على سفرة الدرج، ممسكاً صدره الخافق متوسّلا إلى قلبه ألا يخذله الآن حتى لا يفقد أجرة النهار. صحا في المشفى على صوت بكاء أمه، وهي تصغي للطبيب العجول:
– قلب ابنك مريض، وعليه أن يختار مهنة أخرى.
بقي أشهرا دون عمل. وجاء الفرج على يد قريب له يعمل قاطع تذاكر في أحد المسارح. سأله المخرج عن ممثل لدور خادم الجنرال فاختار فاضلا، ومنَّ عليه بهذا الصنيع.
أتقن فاضل دور الخادم المُهان حتى الإدمان.
ها هو يأتي كل مساء إلى المسرح يتلقّى من الجنرال الممثل ما يتلقّى مثيراً ضحك الجمهور الذي يطلب المزيد دائماً. ثم يزحف خارج المسرح داعيًا متوسّلا للجنرال بطول الخلود. شاكراً فضله بأن أبقاه إلى الآن على قيد الحياة. وحين كان فاضل يطالب بين الحين والآخر برفع الأجر قليلا كان المخرج يضيف شتائم وحركات مُبتدعة تثير الضحك والتصفيق وصفير الإعجاب. وآخر ابتكارات المخرج المبدع كانت ضربة مفاجئة بصولجان الجنرال على خصيتي فاضل. وبعد أن يهوي فاضل على الأرض ينادي بصوت يكاد يخرج من خصيتيه الموجَعتين.
– سلمت يداك يا مولاي.
ثم يتراجع إلى الخلف مثقل الذنب يئن نادماً وهو يمسك بخصيتيه.
– سامحني يا مولاي لن أستطيع بعد الآن أن جلب لكم إلى الدنيا خادماً يرثني في طاعتك.
في الأشهر الأخيرة فتر ضحك الجمهور، فأضاف المخرج مشهداً فريداً يقتضي أن يمتطيَ الجنرال ظهر فاضل وقيادته في أرجاء المسرح مع اللسع بالصوت على مؤخرته، فاستعاد المخرج من جديد القهقهات ونشاطَ شباك التذاكر.
النهاية.. البداية
كان عرضاً عاديّا كبقية العروض السابقة؛ لكنها ليلة الخميس. الصالة مكتظة تكاد تقيء ما فيها. المخرج المبدع يجلس في شرفته العالية يُتابع بثقة عرضه مخموراً بما أبدع، فكلُّ حركة أو بسمة أو دمعة أو غناء أو صمت أو إحساس هو من صنعه. كان يتساءل مع نفسه بخيلاء.. يا إلهي! أأنا حقّاً قد أبدعتُ كلّ هذه الأفكار المعجزة؟! هل أنا… أستغفر الله.
فوق المسرح كان الجنرال الممثل يتمادى في تحقير فاضل وإذلاله. والجمهور قد استرخى ضاحكاً يطلب المزيد. وأخيراً جاءت ذروة المشهد باعتلاء الجنرال ظهر فاضل، ضربه، لكزه، لدغه بالسوط، ساقه كما يشاء، يميناً، يسارًا، أماماً، توقف فاضل على أربع عند حافة المنصّة مرهقًا حتى النخاع، تجرّأ قليلا، رفع رأسه المثقل يتأمل الناس المتفرجين المُقهقهين في الصفوف الأولى، فوجئ أنهم دون عيون أو آذان أو أنوف. وليس في الوجوه سوى أفواه تقهقه وتصرخ بوحشية طالبة من الجنرال مزيد الإهانة.
لوى الجنرال عنق فاضل ساقه نحو عمق المسرح، لكز خاصرتيه بحذائه المدبّب اللامع فدب فاضل نحو عمق المسرح على أربع مجرجراً جسده تقتحم أنفه رائحة نتنة.فجأة تجمّد حين برز له جرذ من خلال الأخشاب والحطام، تجمّد الجرذ وهو ينظر بدهشة إلى الكائن الضخم الذي يدبّ الآن على أربع أمامه. حدق الكائن الصغير بدهشة إلى فاضل بعينيه السوداوين الصغيرتين ثم استدار عائداً من حيث جاء. لكز الجنرال فاضلا بحذائه كي يستمر في اللعبة، لكن فاضلا بقي جامدا يحدّق إلى الحذاء اللامع، لم يجد خياله في الحذاء؛ بل رأى وجه جرذ ضخم يبكي. صرخ الجنرال الممثل آمراً فاضلاً بالحركة حسب ما رسمه المخرج تمامًا، شدّ لجامه؛ لكن فاضلا بقي جامدًا يحدّق إلى خيال الجرذ الباكي. فجأة غاب كلّ شيء، ثمّة بخار حار يصعد من رماد أعماقه المتفحّمة ينساب في شرايينه يصعد. يصعد بقوة نحو الرأس يحرق عفناً وخيوط عناكب وأنسجة بالية. يستولي البخار الحار القاني على الرأس تمامًا. ثمة شعور غريب جميل مؤلم عنيد يمتلكه الآن يحثه بصلابة على الوقوف يصرخ به (قف الآن.. الآن.. وإلا فلن تقف أبداً) انتفضت عضلات ساقيه، انتصب واقفاً يحمل الجنرال الذي تشبث بعنقه مذعوراً.. صرخ المخرج من برجه يأمر فاضلا بالركوع. لم يسمع، هدّده الجنرال، صرخ عوى، شدّ شعره، لم يأبه فاضل بل مدّ ذراعيه واقتلع بقوة الجنرال المتشبث كالعلق بلحمه، رفعه إلى الأعلى، طاف به في أرجاء المسرح يطلق صرخات وحشية حبسها طويلًا. ثم قذف حمله فهوى الجنرال على أرض المسرح يتلوى.
أطبق الصمت والظلام، لم يعد فاضل يسمع أو يرى شيئاً سوى باب المسرح حيث يتسرّب شعاع ضئيل ينفذ إلى قلبه يناديه إلى الضوء بإلحاح. مشى نحوه يغمره إحساس غريب مؤلم جميل. حين وصل إلى الباب حيث الشعاع توقف، استدار، لم ير أحدا، لقد اختفى المتفرجون الساخرون والمخرج المبدع. لم يكن هناك سوى جثة الجنرال ممددة على أرض المسرح. وقد تناثرت أوسمته المزيفة في كل مكان.