ليس بالضرورة أن تُقتنص الحكاية من الواقع بحرفيتها، ولكنها قد تتماس معه وتعبر عنه بأساليب فنية جديدة، فيمكن تقريب القصة إلى الواقع باستخدام أشياء تمت بصلة قوية به..حتى وإن كانت الحكاية مخترعة، والشخصيات مبتكرة إلا أنها تتقاطع بشكل أو بآخر مع ما تختزنه أذهاننا عن الواقع.. فهي قصص الحب والفرح والوجع والمفارقات..الخ، قصص بنهايات مفتوحة، وأخرى بنهايات محكمة الإغلاق، وثالثة مفاجئة.. ورابعة.. تماما كالواقع الذي لا نتيقن منه إلا عندما نخوض تجربة الحياة فيه.. قصص برسائل فاضحة أو مواربة أو ناقدة أو محاولة لتغيير الواقع.. كل واحدة منها تقوم على إمكانيات المؤلف لتوليفها، وتقديمها..إما كوجبات «الفاست فود»، أو كالوجبات الدسمة، وبعضها يأتي كالوجبات الباردة..
يمكن ملامسة الواقع حتى عبر عملية التخيل، فيحدث أحيانا أن يقوم التخيل بإعطاء الواقع رصانة وقوة للحدث وللشخوص.. يمكن أن يكون الواقع قريبا لدى استخدام ضمير المتكلم، وتسمية الأماكن والأشخاص والأشهر والسنوات – وإن لم تكن حقيقية- لكي يصبح الحدث مقنعا.. بالرغم من أنّ القصة ليس من المهم أن تكون مقنعة واقعيا بقدر أهمية أن تكون مقنعة فنيا..
لكن السؤال المهم: هل مسؤولية الأدب أن يُقدم الواقع الذي نعيشه.. أن يُفتش في خباياه، وأن يكون له موقف منه..؟ ربما الأغلبية يرفضون أن يكون للأدب وظيفة مباشرة من هذا النوع، ولكن الأمر يحدث بصورة يمكن استشفافها، واستنتاجها، أو حتى تأويلها لصالح ما يحدث على أرض الواقع..
ستحاول هذه الورقة تقصي تماس القاص العُماني مع الواقع المعيش من خلال دراسة عدد من المجموعات القصصية المُمَثِّلة للتجربة القصصية في عُمان .. ولكن قبل أن نشرع في هذا التقصي سنتوقف قليلا مع مسحة تاريخية موجزة عن القصة العمانية :
موجز عن تاريخ القصة في عُمان:
ربما جميع الكتاب العمانيين الذين كانت أعمالهم في طور التأسيس للقصة العمانية،كانت اهتماماتهم تنصب على الاعتناء بالحدث البسيط، ويعزو البعض ذلك إلى عدم وجود تاريخ قصصي عماني يمكن الاستفادة منه أو ما يمكن أن نسميه عدم وجود «أبوية» في القصة العمانية.
يعد عبد الله الطائي المولود عام 1927 من الكتاب الرواد في مجال كتابة القصة القصيرة في عمان، وفي الخليج أيضا، حيث بدأ كتابة القصة منذ الأربعينات من القرن الماضي، ويغلب على موضوعات قصصه الطابع القومي، وحتى موضوعاته المحلية كانت تمثل الأوضاع ما قبل النهضة، وهو بهذا يمثل مرحلة الريادة الأولى والمبكرة جدا في تاريخ الأدب الحديث في سلطنة عمان، وقد جُمِعَتْ قصص الأديب عبد الله الطائي في مجموعة، عنوانها «المغلغل» نُشِرتْ عام 2009، أي بعد وفاة الطائي بست وثلاثين سنة . وكان أسلوب كتابته كما وصفه الناقد شبر الموسوي «أقرب إلى التقارير الإخبارية».. بالرغم من أنّ هذا لا ينفي اكتمال عناصر القصة من البداية والتمهيد للحدث القصصي وبناء الشخصيات، وتحلي النص بالواقعية فـ «المغلغل» موجود في المخيال والحكايات الشعبية العمانية..
أما مجموعة «سور المنايا» لكاتبها أحمد بن بلال والتي صدرت عام 1981 فتُعد فعليا أول كتاب قصصي منشور في عمان. تتفاوت قصص هذه المجموعة بين الشكل القصصي وبين الخاطرة أو المقالة،كما أصدر البلال مجموعة ثانية في عام 1983، بعنوان «وأخرجت الأرض» لكنه في هذه المجموعة يبدو أكثر تمكنا من كتابة القصة القصيرة بحسب ما يرى الموسوي من الناحية الفنية. ثم أصدر في نفس العام مجموعته الثالثة «لا يا غريب». تلتها مجموعة «قلب للبيع»، لـ محمود الخصيبي – 1983، وهو ثاني من أصدر مجموعة قصصية في عمان.
فيما ابتعد الشاعر سيف الرحبي في محاولاته القصصية الأولى عام 1983 ضمن كتابه «الجبل الأخضر»، والتي أسماها «التباسات قصصية» عن الواقعية، إذا لم تقم على حدث قصصي واضح أو سرد لتفاصيل قصصية معينة، وإنما اعتمد على الرؤيا الذاتية، وقد أصبحت لاحقا كتابة رائدة ومجربة في التجارب القصصية، التي قامت على الكتابة السريالية.. أي تلك الكتابة فوق الواقعية.
ثم جاءت مجموعة «انتحار عبيد العماني» لكاتبها أحمد الزبيدي 1985 مختلفة حيث بدأت القصة القصيرة والحدث البسيط بالتطور والانزياح في اتجاه الواقع.. فالمفردة في هذه المجموعة تُلبي احتياج الحدث لا تزيده ولا تنقصه..
بعدها فضلت مجموعة كثيرة من المجموعات القصصية العُمانية الانحياز إلى اللغة، والتحليق في المعنى، والبعد عن الواقع، وإن لم يكن بعدا كُليا.. من مثل توجه القاص محمد القرمطي، القاص محمد البلوشي، والقاص علي المعمري، وغيرها من التجارب.. كما أنّ البعض وقع في فخ الغموض المربك الذي لا تطال منه شيئا.. لاحقا وربما الألفية الجديدة خرجت تجارب جديدة تحاول جاهدة أن تعقد توازنا بين لغتها وشخوصها وأحداثها، وما ترمي إليه من أفكار..
تمهيد:
سأتناول في هذه الدراسة أربع مجموعات قصصية سأتتبعها حسب تسلسلها الزمني في عملية النشر ، وسأبدأ مع القاص سالم آل تويه صاحب مجموعة «حد الشوف» التي صدرت عام 1999م عن مؤسسة الانتشار العربي، ومن ثم مجموعة سليمان المعمري «الأشياء أقرب مما تبدو في المرآة» والتي صدرت عام 2005 عن دار الانتشار العربي ، ومن ثم مجموعة جوخة الحارثي «صبي على السطح» الصادرة عام 2007 عن دار أزمنة، ومجموعة القاص عبدالعزيز الفارسي «وأخيرا استيقظ الدب» التي صدرت عام 2009 .
«حد الشوف».. مرآة لأقصى ما يمكن أن يُرى..
قصص سالم آل تويه في مجموعته الثانية «حد الشوف» تبدأ من الذات ولكنها باتساع الحياة.. نجده يذهب مباشرة إلى الكلمات التي يريدها بدقة ومن دون مواربة.. حتى العنوان العام للمجموعة بدأ من اسم مكان معروف واقعيا بالرغم من أنّه تضمن دلالات إضافية من الأجواء العامّة للنصوص.. أشار في حاشية المجموعة إلى أنّ معنى العنوان: «أقصى ما يمكن أن يُرى، وهو اسم مكان في قرية الدريز الواقعة في شمال شرق عمان». وعلى الرغم من واقعية المكان إلا أنّ طاقة العنوان متدفقة وممتدة بل إنها متباينة بين شخص وآخر من حيث التأويل، كما هو حال تباين نظرتنا إلى الحياة من حولنا.. العنوان يتداخل بذكاء كبير مع قصص المجموعة.. التي تدور بين عالمي الحياة والموت وما بينهما.. ونقرأ له مقطع من نصه «الميت»: «عندما أنام أموت، وتنقطع صلاتي بالعالم.. النوم تمرين للموت.. النوم موت بلا حفرة.. النوم ملتذ به، والميت ليس بنائم لن يستيقظ أبدا، حتى الكوابيس تتخاذل قسوتها أمام اليقظة بعد نوم طويل، ولا أتذكر منها سوى رعب مجرد، وحده الكدر يجمل لي الفرار إلى ناحية الغياب..»
وعلى الرغم من عناية سالم آل تويه بلغته إلا أنها لم تزد على المعنى..ظلت متوهجة وترمي تماما إلى ما تريد.. بمعنى آخر تمكن من التخلص من ما يمكن أن نسميه «عموميات القول».
وهي على الرغم من كونها من الإصدارات المبكرة نسبيا إلا أنها لم تقع في فخ الشعرية المفرطة، أو ما تمّ تسميته لاحقا بالنص المفتوح..
وقد عقب سالم آل تويه في إحدى الحوارات بجملة مهمة قائلا: «الجيل الأول من القاصين الجامعيين لم تكن لديهم تجارب مماثلة يطلعوا عليها. بينما الكتاب الجدد اطلعوا على الجيل المتقدم، وكانت لهم فرصة تجاوزهم..الأمر يتعلق بالتجربة..فالقصة التي لا تنهض على تجربة تفقد الكثير من شروطها»..
في القصة الأولى لـ سالم آل تويه «نعش»..يكمن الواقع في استخدام ضمير المتكلم الذي يجعلنا على تماس تام مع مشهد جنسي متكامل من خلال عين مراقبة عن بعد.. الواقعية تكمن في القدرة على تصوير المشهد لحظة بلحظة لدرجة أن يدخل القارئ فيه، ويشاهده ويقتنع به.. بل قد يتصادم المشهد مع ذاكرة المتلقي ويستفز مشهدا واقعيا تعايش معه..
في قصة «اليوم التالي»:يُسمي الشهر الذي يدور فيه الحدث، شهر رمضان
«والناس يتوافدون بخناجرهم وبواكيرهم، يكتظ بهم المسجد، يهزون فناجين القهوة، قضاء الله وقدره.. «بندوم مايدوم»، نلحظ إدخال مفردات عامية إلى جملة فصيحة بخفة عالية تدفع القارئ – حتى غير العماني- لأن يجد لها معنى قريبا من خلال فهم السياق.
وبالرغم من أنّ آل تويه يترك هامشا توضيحيا لكلمات مُغرقة في محليتها إلا أنّه يمنح القارئ فرصة لإعمال الذهن، إذ يُقطع أوصال الواقع، ويعيد ترتيبه وفق لعبته الفنية الخاصة..
«سنصلي عند السوقمة»، يُسمي هنا الشجرة التي تنمو من تلقاء نفسها في الوديان، الطارقة التي يُحمل عليها الميت، الـ «بجالي»، وهي مصابيح الإضاءة.. يتركها كما هي في نسيج القصة، لتحتفظ بحرارتها، وقربها الحميمي من الحياة ومن واقعها..
الخوف المتخيل هو الخوف في الواقع: «يعلو..صوته..يقتلني الظن بأنّه يعدُ شايا في المطبخ يتناهى إليّ وقع حذائه يجوب الممر، يصفق باب الحمام هل كان ذلك هواء أم يديه؟.. يعود ليحدث نفسه «الموتى لا يسكنون إلا القبور» . حتى في واقعنا كثيرا ما نخاف من أشياء غير حقيقية، أفكار جاهزة نزرعها في رؤوسنا عن فكرة الموت والغياب، وهي كثيرا ما تنجح في إخافتنا..
يكشف آل تويه واقع الميت الذي كان مُصابا بفشل كلوي، ويجري غسيلا ثلاث مرات ويصف لنا هذا الواقع المرير، «الجهاز يمص حياتي وينفخها فيّ من جديد». والمفاجأة تكمن في كونه يستخدم ضمير المتكلم ليحدثنا عن الميت.. إنها مبالغة أن يكون ذلك واقعا، ولكنه واقع ممكن أيضا، لأننا لا نعرف واقع الموت، ولكنه أقرب لما يمكن أن تتصوره أذهاننا «الميت ليس إلا نائم لن يستيقظ أبدا»..
نلحظ أيضا اختلال الزمن في قصة «اليوم التالي»، حيث يبدأ الحدث من السادس عشر من رمضان، وفي اليوم التالي يأتي الثالث من رمضان.. ولكن يبدو هذا الاختلال مبررا، ويشبه اختلال الزمن في أذهاننا ما إن نقع في مصيبة كبيرة فيختل توازن علاقتنا بالوقت والأيام..
«النوم تمرين للموت»..الأفكار التي تحدث في ذهن الميت..هي متخيل عن واقع لا نعلمه، ولكن ثمة احتمال لأن يكون واقعا.. فـ روح الميت في ثقافات كثيرة لا تغادر أحبتها، تبقى حاضرة معهم، تستمع إليهم، وتراقبهم عن بعد.. لذا ليس من الغريب أن يتساءل «علي» الميت عن صديقته إيما: «هل ستبقى رشيقة وفاتنة، تتوقف في محطة أنفاق هامر سميث، تهبط السلالم وتصعدها بخفة …»
ترتيب الحكاية لدى آل تويه يقوم على التقديم والتأخير، فالحدث أحيانا يأتي قبل زمنه الفعلي، وآخر تتأخر معرفتنا به عن موعد زمنه الفعلي، ونكتشفه لاحقا في غير أوانه.. ليبقى المتلقي أسيرا للذة إعادة ترتيب الحكاية.. ولكن أكثر من ذلك الأمر يُحيلنا إلى التفكير في معرفتنا بالواقع الفعلي.. ويطرح علينا أسئلة من قبيل: هل نعرف الأشياء حسب ترتيب حدوثها فعليا؟، كم من الأشياء نعرفها بعد فوات أوان حدوثها؟ ، وكم من الأشياء نكشف أوراقها دونما ترتيب؟.. إذن هذه اللعبة المبتكرة فنيا، لعبة «الفلاش باك».. لها علاقة وطيدة بالواقع أيضا..
في قصة «النزهة الدائرية الصفراء»: الهامش فيها كالحياة.. يشبه الأسرار، أو الأحاديث الجانبية التي ليس بالضرورة أن يعرفها للجميع.. لذا يحشد قصصا ووشايات كاملة، يمكنها أن تكون مشاريع قصصية مستقلة.. تماما كما هو الأمر عندما تبقى الكثير من حكايات واقعنا ملقية على هامش اهتمامنا..
الواقع الذي تدور حوله قصص آل تويه.. هو واقع داخلي جواني عميق.. واقع التفاصيل الصغيرة كتفصيل علاقته بالسيجارة: «فالأشياء التي ألمسها بحب وبساطة وإهمال أشتاق إلى لمسها من جديد».
التنقلات في القصة.. لا تسير حول بؤرة وحدث واحد..بل في عدة اتجاهات تماما كالحياة.. إلى أن نصل إلى النزهة الدائرية الصفراء.
في قصة «البيت: وقت العمل»: يستخدم لعبة الاحتمالات، ومن منّا لم يجرب احتمالات الواقع العديدة.. هكذا عندما نتأمل أشخاصا عن بعد نفترض لهم حياة ما.. «على الأرجح رجل وامرأة قريبا العهد بالحب..كلا مادام البيت كبيرا فهم رجل وامرأة وطفلان، أكبرهما في العاشرة وأخته في السابعة..»، وفي «حمال القيظ»: يضع مجددا الألفاظ المحلية كما هي في سياقها: «أملأ زيلتي، أفرغها في المبدع، أهرع إلى الساقية، ألم منها الأكداس التي رقطتها منذ الصبح، أفرغها في المبدع الثاني حتى يمتلئ».. هكذا يمنح آل تويه معلومات شديدة الخصوصية عن الواقع العماني أيام الصيف: «عندما يكتمل القيظ تهمد العظوق، تطرح النغال والخنيزي والمدلوكي والخصاب والخلاص والزبد والميناز.. يفرشون الحصر والسميم حول النخلة لتلتقط ما يتساقط عند نفض العذوق..»، هنا نجد تفاصيل مكتوبة تماما بالطريقة التي تُعاش وتحس في بعض مناطق السلطنة..
وهنالك فضح لواقع آخر وهو الواقع المقابل لواقع القرى والحارات.. إنه واقع المدينة.. «أغلق الباب الزجاجي بقوة، أسدل الستارة ..يغمرني برد المكيف.. هذه هي المدينة إذن!»
النقلات الزمنية في القصص، وإن كانت تكثيفا للزمن الحقيقي، إلا أنها تمثل واقعها.. سواء تلك التي تندفع إلى الأمام، أو عبر تقنية الفلاش باك.. سواء ذلك الواقع المتدفق من ذاكرة خصبة، أو الواقع كما نظنه ونتخيله.
في قصة: «رسالة من بيمبا:PEMBA» يستخدم ضمير المتكلم، وهو لا يكتفي بأن يجعل الشخصيات تتحدث بالعامية، بل إنه يترك الشخصيات على طبيعتها وتلقائيتها..حتى تلك التي تتحدث بـ «اللغة السواحلية» يتركها تلقي بكلماتها على سجيتها..
قصة من هذا النوع تشعرنا باقترابها من شيء هو أقرب للسيرة الذاتية.. بل تشعر أنّ الكاتب قد كتبها بدرجة عالية من الحميمية والتماهي، وعلى درجة عالية من الفنيات الكتابية في آن، والزمن فيها يقفز إلى الأمام من الطفل الصغير إلى أن يكبر له شاربه..
في «أيام حسينة الواقفة» تقول حسينة: «أنا ما أحبهن وهنه ما يحبني، كل يوم يقوللي انتيه بيساره ونحنه عربياتش..».. هنا فضح صارخ لواقع نعيشه إلى اليوم..التمايز الطبقي بين فئة «البياسر»، وفئة «العربان»..هذه الطبقية التي تكتشفها حسينة وهي صغيرة جدا فتؤلمها وتجرحها..جملة تطلقها حسينة هكذا لتثير رعشة السؤال في نفس القارئ، وأسئلة أخرى..
المجموعة لم تغفل حتى الارتباط ببعض العادات من مثل: «كانت ترتجف وأمي تقرأ القرآن فوق رأسها، عبثا تحاول طرد الجن بروائح نفاذة تدهن بها أنفها وجسدها ثم أرسلتني إلى الباصر.. » حتى الشتائم التي يسوقها في هذه القصة تمر بنفس طزاجتها، وقوتها في الواقع..
لا تكف مجموعة آل تويه عن طرح أسئلتها الخاصة والعميقة، لا تكف عن التحرش بالواقع ولدغه بدلا من أن تستلدغ منه.. هكذا توفر «حد الشوف» مرآة لأقصى ما يمكن أن يُرى من الواقع..
«الأشياء أقرب مما تبدو في المرآة»..الإصابة بالأحلام عند تعذر الإصابة بالواقع:
«نحن نُصاب بالأحلام حين يكون متعذراً أن نُصاب بالحياة».. هكذا يقول القاص سليمان المعمري في قصته «الحياة بدون عصافير»، ويبدو هذا المفتتح حقيقيا وصائبا لحقيقة هذه المجموعة القصصية التي يتعذر فيها وجود الواقع كما نظن وكما نعيش، وإن تواجد فتجده بين السطور، وداخل اللغة المجنحة، و لعبة الأحداث اللامعقولة.. «ماذا يعني هذا ؟! .. أن الموت سهل جدا.. أسهل من شرب كوب شاي حليب بالزنجبيل في مقهى شاطئ الأنس»، فعلى الرغم من غرائبية التشبيه، إلا أنّ الموت في الواقع يأخذ تشبيهات عدّة بين الناس العادية.. أضف إلى ذلك أنّه يُسمي المكان الذي اعتاد أن يشرب فيه الشاي: «شاطئ الأنس»، وفي مكان آخر من المجموعة يدندن بأغنية خليجية لـ عبدالله الرويشد «لمني بشوق واحضنّي، بعادك عني بعثرني».
«أتدري أين كان اللقاء الأول؟.. في قطار مجنون.. كان الوقت صباحا ربيعيا مشبّعا بالرذاذ».. حقيقة، وفي بلد مثل بلدنا عُمان لم نشاهد قطارا حقيقيا، ولا سكة حديد حتى، ولم نعرف فصل الربيع ولا الرذاذ.. إذن هذا أمر لا واقعي إذا ما تمّ قياسه على البقعة الجغرافية التي خرج منها النص، ولكنه أمر يُحيل النص إلى أبعد من محليته.. فقد ابتكر حكايته من واقع عام له علاقة بمشاهدات وقراءات وخبرات حياتية من خارج البقعة التي تخصه.. وهذا لا يعني لا واقعية النص.. بل يدلل على قدرته لأن يكون واقعيا أينما وكيفما قُرِئ النص..
كما يجعل النص يخرج من محليته إلى العالمية.. فكل من سيقرأ النص يمكنه أن يتعاطى معه، وأن لا يشعر بمحدوديته..
«وبينما نحن نهبط بحذر من منعرجات شلال صخري، انزلق حذائي الرياضي بفعل المياه فتدحرجتُ إلى أسفل الشلال..» أيضا الشلالات لا توجد في عُمان إلا في ظروف استثنائية.. لكن هنا كانت إشارة واضحة إلى أنّه في رحلة استجمام..
في قصة: «لأنها لم ترَ الأرض.. فانه لم يرَ السماء».. اللقاء الأول بين حبيبين كان، «على ضفة نهر تتوسد صمت الأشجار الخضراء المحيطة بها»، عينا الحبيبة زرقاوان.. هي أيضا مواصفات لحبيبة وللقاء لا يتحقق كثيرا في واقعنا العماني.. لكنه يتحقق في الواقع العام للحياة.. فهو لم يقل التقيا على كوكب الزهرة مثلا، ولم يقل عينا الحبيبة حمراون، لنردد مع أنفسنا إنه تجاوز الواقعية..
تبرز الأهمية في إحدى القصص إلى وجود عراف فيتم اللجوء إليه، لكن المفاجأة أن يكون العراف يرتدي بدلة رمادية جميلة، بدلا من دشداشة بيضاء، ولحية طويلة، وعلينا أن نلاحظ هنا أنه قال العرّاف ولم يقل الشيخ أو المعلم أو حتى المشعوذ.. يحمل في يده بلورة مستديرة تشبه الجوهرة هي أداة عمله.. ولم يقل لنا إنه يحمل مبخرة كبيرة، ويضع فيها اللبان، وهذا من تأثير ما نقرأه ونشاهده من الشعوذة الأجنبية..
لكن أين مخرج الواقعية في قصة «لماذا ؟..لأن»، والقصة تقوم على رجل يجلس على مقعد الطائرة، ويضع عدّة احتمالات لأسباب وجود رجل آخر معلق بين السماء والأرض على جناح الطائرة؟.. طبعا لا مخرج واقعي لها سوى أن يكون الأمر من بنات أفكار الرجل الجالس داخل الطائرة.. وهنا تقترح علينا هذه القصة سؤالا في غاية الأهمية: ما جدوى أن تكون هنالك مخارج واقعية لقصصنا، بينما جماليات القصة يعلو سقفها فنيا عبر هذا التنويع والابتكار؟
النص مكتمل فنيا.. بل لديه قدرة هائلة على خلق مفارقة ربما لا يتمكن الواقع من فعلها..بل إنّ القصة تحتضن أسئلة كثيرة للواقع عبر لعبة التخييل والاحتمالات التي تطرحها..وهذا ما يبدو أكثر أهمية من كون النص ارتبط بالواقع أم لا…
وفي قصة «رجـل قابـل للكســر يصفي حسابه مع الريح» نجد أنّ «إيما» – وانظر إلى هذا الاسم غير العربي- تركت حبيبها وحيدا، وذهبت لتحتفل بـ «الكريسماس» مع شقيقتها التوأم «مارجريت»، وهذا احتفال لا يقوم في بلدنا لقلة نسبة المسيحيين المقيمين أصلا.. إلا أن القصة تقدم مبرراتها لذلك بوضوح فالقصة تدور أحداثها أصلا في بريطانيا بين مدينتي اكستر وبريستول، وذهاب ايما للاحتفال بالكريسمس مع أختها أمر جد واقعي في واقعها ذاك.. لا في واقعنا نحن..
في أغلب قصص المجموعة كان وجود الأب بشكل طاغ كموجه حقيقي لسلوكيات البطل، وربما هذا ما نلحظه: «بيني وبين أبي الآن بحار ومحيطات، أي أنني لن أسمع صوته يخبرني أن البكاء لا يليق برجل»..
حتى التشبيهات ترسم صورة لا واقعية، وخارجة عن المألوف والمعتاد: «الحزن عود ثقاب من أين له بقداحة مثلي؟»، وكأن يقول أيضا: «إنها غرفة تُعلم القلق كيف يمشي حتى وهو في نومه».
وقصته «كب كُون كراب مس دانج»، يبنيها المعمري على مفارقات لا واقعية.. ويكفيك أن تعرف عن الرجل الذي يحمل القمل في رأسه..
في قصة «الصحراء اسم ممدود .. والراوي منقوص»، يجعل الصحراء والنخلة والحية الرابضة بين العذوق والكلب وعشبة النسيان كائنات قادرة على أن تمسك جانبا من السرد لتتحدث عن واقع حالها بنفسها..
الواقع في مجموعة المعمري ليس سهلا، وليس بسيطا بل هو مركب، وعليك أن تدخل معمل تحليل لتكشف عنه، الواقع هنا معجون بالذات، وبالتخيل والابتكار.. ولو أنّ هنالك أي قارئ من أي دولة في العالم تمكن من قراءة نصوصه لما شعر بخصوصية المكان فيها، ولا بخصوصية الأفكار، ولا بخصوصية الكلمات، أو التعابير.. كما شعرنا في مجموعة «حد الشوف» على سبيل المثال، بل يشعر القارئ أنها مطلقة، ومحلقة، وإن كان آل تويه يراقب الواقع من الداخل من العمق الجواني فإن المعمري يراقب الواقع وهو يحلق عاليا، ويلامسه بخفة، ويعود ليصنع خلطته السحرية الخاصة به.. ونؤكد مجددا أنه لا يكمن امتياز وتفوق النص في قدرته على كشف الواقع من عدم ذلك، وإنما بالقدرة على كتابة حكاية مكتملة في ذاتها، ووفق شروطها الخاصة التي تخطها منذ الأسطر الأولى..
«صبي على السطح»… العب دورك الواحد في الحياة بمهارة ..لا أحد سيبادلك الدور
بعد مجموعتها القصصية الأولى «مقاطع من سيرة لبنى إذ آن الرحيل»2002، صدرت المجموعة الثانية للقاصة جوخة الحارثي، حملت عنوان «صبي عى السطح»، واحتوت على تسعة عشر نصا، عن دار أزمنة عام 2007 شخصياتها بسيطة جدا من الخارج، مُربكة ومعقدة من الداخل..ثمة حديث عن مربي الأسماك، وعن موظف في وزارة الاقتصاد الوطني، عن الصبي على السطح، و عن طفل في «التيمينية»، عن امرأة تزور ستي سنتر.. ثمة حديث عن بعض العادات العمانية ضمن سياق عدة قصص.. ضمير المتكلم تتناوب عليه امرأة ومرّة رجل..كما يتناوبان الأدوار في الحياة ولا يتبادلانها أبدا..
في قصتها «على الكرسي الخشبي في الحديقة جلسنا»، اقتناص تفصيل صغير من حياة شخصيتين يجمعهما مقعد..كان يجلس كل واحد منهما على أقصى طرف من أطرافه، مع الوقت أصبح كل واحد منهما يقترب، والمسافة بينهما تضيق.. كل واحد منهما يحمل الماضي على كتفيه..كما يحدث تماما في العلاقات البشرية.. تلك التي تبدأ من المسافات القصية إلى أن تصل لحدّ التلاصق..
«لا يوجد تبادل أدوار في الحياة الحقيقة، وعلى كل واحد منا أن يلعب دوره الواحد بمهارة».. لا يمكن لهذه الجملة المحلقة في الشعر إلا أن تكون أمرا واقعيا ومعيشا، فمن منّا يمكنه أن يُغير دوره.. من المؤكد أن ذلك يصبح خارج قانون الحياة..
في قصة «مشوار لستي سنتر»، تُسمي البطلة شمسة، وتسمي موقعها، ترتدي العباءة.. لكن الكاتبة وبذكاء تحاول أن ترسم الواقع الجواني العميق أكثر من الصورة الخارجية.. هكذا نجدها ترسم اللحظات، وتكثف الضوء حولها، وتدخل إلى التفاصيل الصغيرة جدا..
الأشياء المادية كانت تُذكر البطلة شمسة بحكاية ما، لا نتعرف عليها، ولكن تضع خطها العام القابل لمساحات شاسعة من التأويل.. خصوصا لذاك الذي يتتبع الإشارات الموحية: «توقفت أمام محل ملابس النوم محدقة.. تجمع ماء قليل في حدقتيها، وتنهدت كأن نصلا مرق في قلبها..لماذا خذلتني».. هكذا تترك لنا الحارثية الباقي لكي نفكر فيه.. تماما كما يفعل الواقع عندما يترك النهايات مفتوحة، لنعيد بناء الحكاية من جديد، وفق رؤى نخترعها… فالواقع إذن ليس كأفلام الأبيض والأسود.. تلك التي تصنع قفلة واحدة وسعيدة غالبا..
قصة «لوحة لماتيس» تدور حول امرأة تقف أمام الباب الخشبي، وتدقه بعنف، ولا رغبة لها سوى أن ترى لوحه ماتيس.. هكذا تقدم لنا تفصيلا صغيرا مُضاء، بينما حياة كاملة لهذه المرأة مُعتمة..
تجري الحارثية حواراً مع السعادة، ومع اللحظة، ومع الحنين أيضا، وتحول الأشياء المجردة إلى أشياء حية .. كما فعل سليمان المعمري في قصته «الصحراء اسم ممدود .. والراوي منقوص»،
قصة «حبة الفاصوليا» تبدأ من لحظة الفرح بالخطوبة بين شخصين والبهجة بموعد العرس، «لكن الحبة الناتئة في قلبها كحبة الفاصوليا تحت فراش الأميرة..حرمتها النوم»، لان هنالك مكان لشخص ثالث في القلب..
تخلق الحارثية حياة كاملة لهذه الحبة..تحركها في القلب: «براعمها وجذورها الدقيقة تحفر في تربة قلبي.. مزقت الفروع النامية جدران القلب وأصبح الكتمان عبئا والأكياس المصقولة المحملة بملابس العروس وعطورها عبئا… مشادات أكثر اشتعلت من جراء تبرعم تلك البذرة بيني وبين أناس كثر..»
هذه الإحالة الذكية إلى البذرة التي تنمو في القلب.. تشير إلى أنّ العروس التي تبدلت مشاعرها تجاه الخطيب، لم يكن ذلك الأمر بيدها «إنها البذرة».. تحويل تلك المشاعر المجردة إلى شيء ملموس.. هكذا نحن تماما في كثير من الأحيان بحاجة إلى «بذرة» أو إلى أي شيء آخر نستند عليه، ونحتمي به، خصوصا عندما نكون أضعف من أن نتخذ قرارا ونقول: «لا»..
وانظر لهذه الصورة، «في يونيو ويوليو جلست في مقعد دوار، وكل من شاء دار بالمقعد دورة أو عشرا نابشا في قلبي عن أصل البذرة».
إنها تقول كل شيء عمّا تكابده امرأة بكل بساطة اكتشفت أنّ يد خطيبها ثقيلة في يدها وأنها تود الانفصال.. وتنهي القصة بخفة عجائبية: «المهر العائد، والهدايا العائدة، والشجارات اللازمة للتسوية، ولم ينته كل شيء بعد».
عوالم الحارثية تبدأ من دواخل المرأة من أعماقها، مما يعتمل فيها ولا يمكن الحديث عنه غالبا.. في قصة «ماء غير آسن» تتحدث عن: الفتاة التي لا تبصر ولم يدخلها والدها مدرسة تلائم احتياجاتها..»لكن عائشة التي لا يراها أحد ترى الكلمات.. تتحرك الكلمات سابحة من تلقاء نفسها، وترقص عائشة وتكون تشكيلات مدهشة»..
وبالرغم من أنها لا تشير إلى مُدرّسة مصرية في قصتها: «نقط خضراء في فستان أبلة فتحية»، إلا أنّ ذلك يُفهم من السياق، كما تُفهم أيضا الإشارة إلى تاريخ التعليم في عُمان الذي بدأ على يد الكثير من الأساتذة المصريين. حتى أن المفردة المصرية تدخل في إيقاع النص بسلاسة: «حبات العرق تُلصق شعري المقصوص بالإيشارب الأبيض، حبات عرق صغيرة متلاحقة تلتمع على جبينها وتختفي..قدماها في الشبشب منفرجتان..تلفحني أنفاسها المشبعة برائحة الحلبة…»
* * *
«رجب العالي أحب البنت القاطنة في البيت الثالث بعد الدكان وقضى مراهقته كلها مرابطا أمام الباب الخشبي للبيت أو ماشيا في حلقات لا نهائية حول جدرانه البيضاء، واليوم بزغت شعرات بيض في رأسه ما تزال صورة البنت محفورة فيه بزيها المدرسي الكحلي وربطة الكتب المطلة من حقيبتها الحمراء، وأشرطة حذائها الأسود، عرف دائما أنها ليست جميلة وبقي معذبا بنظرة الاستعلاء في عينيها «، ورد هذا المقطع في قصة المحبوب، والقصة كلها تدور حول واقع «العجز عن امتلاك المحبوب»، تحديدا العجز عن امتلاك منطقة القلب حتى عندما تزوجها وأنجب منها بنتا فهو لم يمتلكها أبدا..
بينما تصف الحارثية في قصة «العرس» العرس بواقعية كبيرة..الفستان والمكياج والتفاصيل، وتعقد مقارنة ذكية بين عرس اليوم وعرس الأمس، والفارق الذي يكبر بين الأجيال.. بين «سلومة» التي كانت تُزف مغطاة من قمة رأسها إلى أخمص قدميها بشال أخضر ثقيل موشى بخيوط ذهبية أو غير موشى – حسب غنى العريس – .. تزف رأسا من بيتها إلى بيت زوجها..
أيضا تضع الكلمة العامية ضمن سياقها وتضع شرحا في الهامش لها «العكفة» و«البدلة».. وهما من زينة المرأة ، ولا تكتمل المقارنة إلا بوجود فتاة اليوم في فستان أبيض، وباقة ورد طبيعية، وتقف طويلا أمام آلة التصوير.
«وضعت يدها على رأس العروس التي طأطأت قليلا خوفا على تسريحة شعرها وتمتمت سلومة بالفاتحة».
في قصة «الخيول الراكضة «يتغير الوالي، تتغير الوجبات، تتغير السيارات، ودرجة تركيز القهوة، والذي لا يتغير البتة هو حياة ناصر العبد»،
الخيول الراكضة في اللوحة هي المعادل للحرية التي يتمناها ناصر العبد..
والسؤال: إذا كانت الأحداث لا تغير حياة البشر فمن الذي يغيرها ؟ ويكتشف ناصر العبد متأخرا الجواب: «السن» أو العمر .. لذلك وفي تلك اللحظة اكتشف انطفاء الخيول في اللوحة..
وهذه القصة كما نلاحظ تتقاطع مع قصة آل تويه «أيام حسينة الواقفة».. حيث التوق إلى حياة أخرى..يتساوى فيها البشر باسم القانون والعرف الاجتماعي أيضا..
ثمة تفاصيل صغيرة توظفها الحارثية لتدلل على روح المكان، في قصة «صبي على السطح»، تذكر أغنية تردد في الأعراس: «عند العصر يا الكوس هبي والزين روح عني مغرب، ومن بعده ما صفا لي محب»، وفي قصة «ما لن يأتي عبر النافذة» تخمن البطلة أنّ أمها، «منكبة على صواني التمر، تصف الرطب للشمس، وتدخل اليابس المخزن»، وتذكر لنا ما يردد في التيمنية..عندما يختم الصبي قراءة القرآن: «هذا أخوكم قد كتب وقد قرا… وفاق في الحظ على كل الورى».. ولا تغفل الحارثية واقع المرأة وتفصيلاته إلى جوار ذلك: «لا ترفع برقعها المذهب حتى أثناء شربها اللبن بصوت مسموع»، وهذه صورة دقيقة للمرأة البدوية نكاد نراها إلى اليوم..
هكذا تتوغل الحارثية داخل الواقع، بل تتورط فيه، لكنها تخرج لنا من قصصه العادية، قصصا أخرى ليس عبر حياكة المفارقات كما يصنع سليمان المعمري، وليس عبر صدمك بكهرباء الواقع كما يفعل آل تويه، ولكن عبر الكتابة نفسها، حيث تُمكن الحدث العادي من أن يبدو غير عادي.. عبر تغيير مواقع الأشياء.. عبر النهايات التي تطرح أسئلة أكثر من أن تقدم إجابات، وعبر خدع النص الذي يمنحك مستويات عديدة لقراءته.. وهنا تكمن المتعة أن تجد الواقع بطريقة أخرى عبر الكتابة..
«وأخيرا استيقظ الدب» المشي على حبال الواقع.. لتغييره أو للوقوع فـي فخاخه
أما مجموعة عبد العزيز الفارسي «وأخيرا استيقظ الدب» والصادرة عن دار الانتشار عام 2009، تشعرك وكأنك تدخل إلى حارة في ولاية شناص العمانية ، التي وُلد الكاتب فيها وعاش فيها ردحاً كبيرا من حياته ، حيث البيوت المتقاربة والقدرة على الوشاية بالحكايات عالية، ومتنوعة..
وعلى الرغم من شعرية الفارسي في المجموعة الأولى، إلا أنه كان ينقاد وراء متعة السرد أكثر من انقياده وراء اللغة.. وصولا إلى مجموعته الأخيرة «وأخيرا استيقظ الدب» التي تبدو سردا خالصا ومتخلصا من الشعرية لصالح الحدث، والفكرة لصالح الواقعية الحياتية كما يعيشها أهالي شناص..
لذا نلحظ أنه وما إن تختمر التجربة على مستوى الأجيال المتلاحقة، وعلى مستوى التجريب الفردي حتى يصل معظم الكتاب إلى مرحلة التصالح مع أهمية الاعتناء بعناصر القص المختلفة، والدليل على ذلك الكتابات العمانية الأخيرة التي شهدها عام 2009.. إذ نجد أنها أصبحت متكئة على إمكانيات أخرى تتمثل في التكنيك الكتابي، والفكرة ولعبة والزمان والمكان، والاتجاه ناحية الكتابة الواقعية دونما الإخلال بالفنيات.
يعتمد أسلوب الفارسي على تحويل الواقع المؤلم إلى قصص ساخرة من الواقع، نجد العامية ظاهرة في كل الحوارات: « أنا فقير يا جماعة وراس مالي هذا الباص اللي أشل فيه الفريخات».. وهي نفسها اللهجة التي تتعاطاها ولاية شناص، الأحداث تمر بسلاسة..كما يفرش الواقع أحداثه على أرضية الحياة، وبالرغم من البساطة الظاهرة إلا انه يخلق المفارقات من خلال الحدث، فعلى سبيل المثال الرجل الذي قرر أن يحلم بأن يُصبح شيخا، وأن يُغير حياته في قصة «الشيخ الشمسوني»، – ربما يكون هذا الحلم مشروعا لأي واحد منّا- ، إلا أنّ المفارقة تكمن في الطرق والأساليب التي يستخدمها ليصل إلى ذلك..
أغلب حكايات الفارسي تقوم على فكرة تغيير الواقع من الشكل الذي لا تحبه الشخصيات إلى الشكل الذي تطمح إليه.. فالشمسوني أراد التحول من سائق باص إلى شيخ بعد أن ورث مزرعة كبيرة، وباعها بنصف مليون ريال إلا أن الناس لم تقبله بينها بصفته الجديدة، لذا يتساءل «شو ناقصني ؟ مال وجمال؟..أحسن عن الشيوخ والله».كل همه كان البحث عن شيخ واحد يرفع يديه ويبدأ بالسلام عليه..
تسرد لنا قصص الفارسي جُملة من الخطط التي يقوم بها البطل ليغير واقعه ولينسفه، إلا أنّ النهاية كانت في أغلب الأحوال أن يتلقى شتيمة كبرى تذكره بواقعه «اسكت.. يوم تشوف أعمامك الشيوخ يتكلموا ..اسكت..ولم ينطق الشمسوني بعد تلك الحادثة».
قصة «التحدي» تقوم على حكاية الوالي الذي كان يبطش بالعبيد، فيقوم أحدهم بسرقة التمر الذي يخصه، ويتحدى السارق الوالي.. لا تبدو هذه القصة من الواقع إذ أن اللص يتمكن من الهرب في كل مرة حتى بعد رميه بقذيفة مزقت جسده، ولكن يمكن أن تكون القصة من المتخيل الشناصي.. الكاتب لا يدخلنا إلى الكواليس لنرى كيف يهرب اللص ولا إلى أين يذهب فُتات جثته.. وبالرغم من أنّ الحكاية ليست واقعية أو خارج منطقة التصديق على الأقل إلا أن واقعيتها تكمن في كونها تحكي عن «البطش»، ورغبة المخيلة في خلق بطل فولاذي. هذا البطل الذي يشكل نافذة أمل للشعوب..إلا أنّ الكاتب عبدالعزيز الفارسي يشير إلى وجود جذر واقعي لهذه القصة.. عن رجل قاطع طريق هدده السلطان سعيد بن تيمور أو أحد ولاته بأن يضعه في فوهة مدفع إذا لم يتب عن السرقة.. ولذا فإنها ليست بعيدة عمّا يتداول الناس..
قصص المجموعة تحدث في الحياة، ويمكن لها أن تتجاوز شناص بل تتجاوز عُمان لتخرج إلى العالم، حتى وإن كانت رائحتها شناصية خالصة..فالبيت الذي تلتهمه النار في انتظار المطافئ في قصة «حريق» تحيلك إلى صورة كوميدية: «بعض الاتصالات كانت عبارة عن صرخات: حريييق متبوعة بإغلاق الخط، أما أغرب ما تلقاه الضابط فكان اتصالا شبيها بالنقل الحي للحدث إذ اكتفى المتصل بتمرير السماعة أمام أفواه عدد من حاضري الحدث ليسمع صوت الولولة والصراخ مختلطا بالضجيج الناتج عن الحريق..»
وهنالك أيضا تشغيل الواقع لصالح الكوميديا عندما يقول: منطقة «أبو بقرة» في شناص. كما يُسمي الدفاع المدني في صحار.. لنشعر أنّ صديقا يحكي لنا حكاية حصلت بالفعل..
كما أننا نشعر بمحاولة المجموعة للاقتراب من حيوات مهمشة وإضفاء ضوء جديد عليها..
فالشخصيات الأقل أهمية في واقعها الحقيقي، تُصبح أكثر أهمية في واقعها القصصي الجديد..
أما «سعيد المخياط» فقد أراد أن يُغير واقعه بكونه رجلا اقترض من البنك بضغط من والده من أجل الزواج وبناء بيت جديد للزوجة. «كيف أربي أولادي في بيت بنيته بقرض بفائدة من البنك؟»، وهي أفكار تراود أذهان أغلب الشباب الآن.. يتوالى إنجاب زوجته للأبناء وتتوالى المصاريف عليه.. ولأن فكرة الحرام تؤرقه، فهو يرى أنّ بيع البيت بسعر بخس ضروري لكي يسدد للبنك، فتغضب الزوجة وتغادر بيت أهلها.. وما هي النتيجة ؟؟ يتعين أن يشتري الشاب بيته ممن ابتاعه بسعر أعلى ليعوض المشتري، وذلك عبر قرض جديد من البنك.. هكذا يصنع الفارسي حلقات واقعية رصينة، إلا أنها لا تخلو من مفاجأة وقدرة على الإدهاش..
تبرز في مجموعة الفارسي أهمية الشيوخ.. فلا تكاد تخلو قصة منهم، ومن ذكر مكانتهم وتأثيرهم في النظام القبلي العماني، كما يبرز العديد من العادات والتقاليد، ويؤثث بها المجموعة..
في قصة «عمتي تعرف نجيب محفوظ»:العمة توجه حديثها إلى ابن أخيها الغائب تماما من القصة.. فالحوار يُدار من طرف واحد فقط..الثرثرة التي تجر ثرثرة أخرى وثالثة ورابعة.. هنا أيضا تتغير الحكايات وتتطور.. فـ «مريوم بنت الغبيري» التي لا تملك عاملة منزل.. تحيلنا إلى أنّ -واقع أن البيت بدون عاملة منزل في واقعنا الخليجي أصبح أمرا يثير الدهشة- : «قلت: ليس عند مريومة شغالة..الجالسات شهقن في نفس الوقت كما لو أني أخبرتهن عن مصيبة «، لذا أرادت بنت الغبيري أن تُغير هذا الواقع أيضا إلى واقع آخر حتى لو اضطرها الأمر لأن تتمارض.. هنالك نقطة مهمة ينبغي أن ننتبه لها، وهي أن البعض يُغير واقعه ليس لأنه راغب في ذلك، بل لأن من حوله يحثونه على ذلك..هي رغبة في التشابه مع الآخرين.. رغبة في أن لا ينقص عنهم بشيء.. فعندما حصلت مريومة على عاملة سيئة فضلت الصمت.. لكي يبقى وضعها بين نساء شناص منطقيا ومقبولا..
وما هي النتيجة: تذهب العاملة وتأتي أخرى فـ «تحمل» من أحد أفراد الأسرة، وعندما تحاول الإجهاض تنزف إلى الموت.. هكذا تتداعى حكايات العمة، ونصائحها… بينما الطرف الآخر مستمر في الغياب..
يستمر وقوفك أمام الدراما الحياتية الساخرة، ولكن في شكل كتابي. قصة الحشمير – أبو عيون حارة- السرد فيها بأكمله باللهجة العامية، وليس فقط الحوار.. إضافة إلى الكثير من المعتقدات فدواء عين الحسد أن تدهن المكان المتضرر بـ «بول» الحاسد كما يفعل الأولون فتشفى، ويكمن التكنيك الكتابي في كونه يُقسم القصة بين ساردين «شيخوه» الزوجة، و«حشمير» الزوج. الطاسة التي يتبول فيها الحاسد هي المعادل بينهما.. أما المستمع لهما فهو الشيخ عبدالله..
ما يرفع من قيمة القصة التي قد تكون عادية كأي قصة تنتشر في أحاديثنا اليومية هو الأسلوب، وتنوع الساردين، وتوظيف طاقة الإضحاك.. فكل سارد يُكمل الحكاية من وجهة نظره الشخصية..
فيما تكشف قصة «المستثمر» حقيقة واقع «البانيان» الموجودة في أماكن متعددة من عُمان، ويعني بها: الجالية الهندية هندوسية الديانة التي يعمل أفرادها في التجارة.
يحاول البطل أن يستثمر بعض المال لديهم، لكي يمُنح فائدة كل شهر .. تشير القصة أيضا إلى واقع عمل العمانيين سابقا في دول الخليج. يدخل البطل هذه المغامرة بالرغم من نصيحة الزوجة بالابتعاد عنهم، بينما نصيحة الأخ كانت مختلفة: «البانيان عروقهم في شناص ما يطلعوا منها ليوم القيامة».. إذن الاستثمار محاولة لتغيير واقعه الفقير، والطموح إلى الغنى السهل والبسيط..وعندما يدخل في المشروع تبدأ مرحلة الحلم «أول شيء بفصل ثياب جديدة، وبشتري نعال محترمة، وساعة غاوية وبعدين بفرش المجلس.. وبسافر شيراز أعالج الشحمة اللي طالعة في عيني وهناك بتزوج زواج متعة».
يُسمي لنا مطعم «ألطاف»، وهو اسم حقيقي لعامل المطعم : «ألطاف ألطاف جيب واحد شاهي حليب».. ليلصقنا أكثر بواقعية المكان..
مفارقة حياتية مهمة، إذ يصف العمانيين بالصبية، وصاحب المحل الهندي «البانيان» بالنوخذة.. إلا أنّ هذا الواقع المقلوب هو واقع حقيقي..
وكما نلحظ النهايات في كل قصص المجموعة تُقدم مفارقات مأساوية، فهل هي النتيجة الحتمية لمحاولة أحدنا لأن يُغير واقعه الذي لا يحب؟ أم حدث ذلك لأن الشخصيات لم تسلك إلا الطرق السهلة والبسيطة للتغيير..؟؟
تذهب بنا نهاية هذه القصة إلى مكان آخر غير ما توقعنا.. فأسوأ ما قد نتوقعه هو تعرضه للسرقة والخسارة..إلا أنّ ما حدث مختلف تماما حيث أنّ التفكير يجعل صحته تتدهور إلى أن يصاب بالشلل الذي يمنعه من الإفصاح لزوجته بمكان «الشيكات»..هذه النهاية المبتكرة تجعلنا في محطة التأويل حول إن كان البانيان سيقدمون على سرقته أم سيقومون بالوفاء لوعدهم له.. والتأويل إحدى فخاخ الواقع عندما لا يُقدم لنا أوراقه كاملة..
هكذا ببراعة وبأسلوب ساخر وخفة في الروح، وتلاحم مدهش مع حكايات القرى الصغيرة والمنسية أحيانا، يبتكر الفارسي نصه الخاص من دون مواربة، من دون اختباء خلف جمل منمقة، وزائدة.. تنطلق كالسهم لتصيب من أمامها، أما مكمن قوتها الآخر فيكمن في كونها لا تغفل أن تتيح مساحة للتأمل والتأويل..
أما أهميتها الكبرى فهي في كونها تمشي على حبل رقيق للغاية يُمكن القارئ العادي والذي بلا خبرة قرائية له من أن يقرأها ويحبها ويتعاطف معها، كما يُمكن القارئ المتمكن والنخبوي أيضا من أن يجد حصته فيها.. بالرغم من أنّ المشي على هذه الحبال لواقعية في غاية الخطورة..
الخاتمة:
ولا يفوتني هنا أن أقول أنّ هذه المجموعات المختارة ما هي إلا نماذج فقط لتكوين وجهة نظر – قد تكون ناقصة- عن واقع القصة العمانية وما يشغلها في الألفية الجديدة، وكيف تعبر عمّا يشغلها إزاء المحيط الذي تتعايش معه .. إذ أنّه من الصعب، ومن غير الممكن قراءة كل المجموعات واستعراضها في هذا البحث..
هكذا اكتشفنا الواقع الذي تدور حوله قصص آل تويه.. الواقع الداخلي الجواني العميق.. واقع التفاصيل الصغيرة التي لا يكف عن مطارتها ومحاصرتها، وطرح الأسئلة حولها..بينما واقع سليمان المعمري يتجاوز المحلية، ويتعدّاها، فقد ابتكر حكايته من واقع عام له علاقة بمشاهدات وقراءات وخبرات حياتية من خارج البقعة التي تخصه، وهذا لا يعني لا واقعية النص، بل يدلل على قدرته لأن يكون واقعيا أينما وكيفما قُرِئ.. وإن كان آل تويه يراقب الواقع من الداخل من العمق الجواني، فإن المعمري يراقب الواقع وهو يحلق عاليا، ويلامسه بخفة، ويعود ليصنع خلطته السحرية الخاصة به.. فيما عوالم الحارثية تبدأ من دواخل المرأة من أعماقها، مما يعتمل فيها ولا يمكن الحديث عنه غالبا.. هكذا تتوغل الحارثية داخل الواقع، بل تتورط فيه، لكنها تخرج لنا من قصصه العادية، قصصا أخرى ليس عبر حياكة المفارقات كما يصنع سليمان المعمري، وليس عبر صدمك بكهرباء الواقع كما يفعل آل تويه، ولكن عبر الكتابة نفسها، حيث تُمكن الحدث العادي من أن يبدو غير عادي.. عبر تغيير مواقع الأشياء.. عبر النهايات التي تطرح أسئلة أكثر من أن تقدم إجابات، وعبر خدع النص الذي يمنحك مستويات عديدة لقراءته..بينما عبدالعزيز الفارسي يستخدم براعته وأسلوبه الساخر وخفة في روحه في تلاحمه المدهش مع حكايات القرى الصغيرة والمنسية أحيانا، كان يبتكر نصه الخاص من دون مواربة، من دون اختباء خلف جمل منمقة، وزائدة..إلا أنّ هذا لا ينفي انّه يمشي على حبل رقيق للغاية يُمكن القارئ العادي والذي بلا خبرة قرائية له من أن يقرأ نصه ويحبه ويتعاطف معه، كما يُمكن القارئ المتمكن والنخبوي أيضا من أن يجد حصته فيه..
أعود أخيرا لكي أؤكد أنّ امتياز وتفوق النص لا يكمن في قدرته على كشف الواقع من عدم ذلك، وإنما بالقدرة على كتابة حكاية مكتملة في ذاتها، ووفق شروطها الخاصة التي تخطها منذ الأسطر الأولى..