تراجع خطوتين قبل أن يدوس الأرض الرخوة.. المكان كان يبدو وكأنما وجد من قبضة تراب تساقطت كذرات خفيفة من يد مرتجفة قليلا، ومن حفنة التراب تلك تناثرت أشياء كثيرة على رقعة البسيطة الواسعة فشكلت كل ذلك الاختلاف الكبيرة في الأشياء التي تآلف معها السكان هنا منذ زمن غاب تقدير عمره الحقيقي، وبعد كل تلك السنوات مازالت تلك الذرات تفرض وجودها بشدة هنا، ليست الذرة الواحدة هي ما يحدث الفرق وإنما في الحقيقة كان يجب أن تكون مجتمعة مع بعضها البعض بأعداد كبيرة حتى يمكن مشاهدتها بوضوح تام، كانت تلتصق بهم، فيجدونها عالقة على جدران البيوت، وبين أوراق الأشجار وبالقرب من البحر وفي جباه أبنائهم وشعورهم وحتى بين أصابع أقدامهم وهم يتوضئون استعدادا لأداء الصلاة، التراب هو من يتكلم وهم يسمعون طوال تلك السنوات .
في النهاية كان عليه أن يمر على المكان، كل ذلك التراب الهائل أمامه هو ما جعله يحضر وهو ما بقى في أعماقه الآن .
ورغم أن صياحات الأطفال في لعبهم ومسيرتهم ورجوعهم من المدرسة التي كانت تنتشر كرائحة أشجار الشريش في الهواء إلا أن سكونا كان يغشى المكان في أوقات الظهيرة الكبرى والمساء المظلم مما يعطي للمكان سمة الصمت المطبق الذي لا يكسره إلا احتكاك أقدام العائدين من الرجال بعد انتهاء سهرات المجالس وكلمات الأغنيات التي يطردون بها الهواجس التي تقبع في داخلهم، أو أصوات القطط المتشابكة مع بعضها البعض في عراك حام، ونباح الكلاب التي داهمها الليل والحجارة المقذوفة من يدي «مسلم بن صالح» دون أن ترجع إلى أوكارها بين أطراف أشجار النخيل في المزارع.
منذ متى خالجهم شعور بالتوجس تجاه كل ما يحيط بهم ؟! كان شعورا يبدأ صغيرا في نفوس بعضهم ثم يكبر بتمهل ومن ثم يختفي كما ظهر دون أن يتخذ شكلا يستطيعون وصفه للآخرين، ولكنه مع كل شيء كان شعورا مقلقا يملأهم بالضيق، والصمت، وفي وقتها تخرج عبارة من فم أحدهم لا يلقي لها الآخرون بالا وان كانت تظهر في نفوسهم جلية في بعض الليالي
– متى نخرج من هنا ؟
السؤال لم يكن بحاجة إلى إجابة، كانت الرياح تذروه وتشتته في كل اتجاه إلى أن يجدوا صداه مرة أخرى في قلب أحدهم، كانت لعبة طويلة في تلقي الأسئلة من أحدهم ومن ثم انتظار طرحها من جديد من وجه آخر وفي وقت لا يتوقعونه فيه . كان رهانهم على الوقت كبيرا، كان لديهم اعتقاد لا يلين أن الزمان سيمضغ كل الأمور في حياتهم ويدور بها في أعماقه التي لا يصلون إليها وفي سنة ما سيخرجها لهم صافية ودون شوائب، ستكون الحلول أمامهم، قد تكون مؤلمة ولكنها ناجعة لأنها ستوقف سيل الأسئلة الخالية من معنى الإجابة وستكون فيصلا لا يجادل فيه .
من حبات الرمل المتساقطة منذ زمن غابر لا يعرفونه ظهرت في وسط أرضهم بقعة رملية لم تطوع من بعد لأقدام الناس، كانوا يشعرون دائما أنها تحدق فيهم بتحد كبير، ومن الشمال ينظر إليهم البحر مادا مياهه في استرخاء تام، مطوقا تلك الحدود التي أنسوا إليها وسكنوا بقربها، المنظر الذي كان يريحهم تتطاول أشجار النخيل حتى تظهر قممها من بعيد لم تكن تخيفهم كما كان البحر يفعل في الأيام التي يهيج فيه ويرتفع موجه إلى أطول من قامة الرجل البالغ منهم، ولم تكن تتطاول عليهم كحبات التراب التي تملأ مع الرياح وجوههم وتشعرهم بالعجز التام إذا ساروا فيها في وقت الظهيرة الحارقة . أما هي، البقعة الخضراء فقد كانت تبعث فيهم طمأنينة كبيرة، من أن لهم أصلا يعودون إليه، ليسوا نكره، كان لهم أجداد أشداء قدروا على أن يغيروا شكل الأرض التي رمها الزمن دوت تهذيب، وكثيرا ما كانوا يحكون بكثير من الفخر، أنه في ليلة هدر فيها المطر وأيقظ فيها الوديان من سبات طويل، خرج كل أجداد السكان هنا من بيوت السعف، ورفع كل منهم إزاره إلى أعلى ركبته، وعضوا على شفاههم وحملوا فسائل النخيل وزرعوها، بقي كل منهم ممسكا، بالفسيلة الخاصة به وكأنها يغرس نبتة للعائلة التي سيكتب لها اسم عريض، وكلما هاجت السماء وقذفت بالماء الذي احتفظت به في سنين الجدب، سمعوا هدير الوادي وكأنه الطوفان الذي سمعوا به في حياة أحد الأنبياء، سمعوا أصواتا تنادي علي بعضها البعض حتى يثبتوا في مكانهم، ويزيدوا من تثبيت الفسيلة، وعندما عادوا إلى بيتهم كانت قد تحطمت وبقي نساؤهم وأبناؤهم ومواشيهم عرضة للمطر والريح والبحر، ولكنهم كانوا مسورين بابتسامة كبيرة وتناقلت الأخبار بينهم أنهم أصبحوا أصحاب أرض- من يزرع نخلة في وجه الوادي تكون الأرض ملك له .
من الفسائل ظهرت تلك الأرض المزروعة، طالت الأشجار وتجمعت طيور مختلفة غير تلك الطيور التي يرونها على البحر . سمعوا أصوات الغربان تنتقل إلى هنالك، وشاهدوا الجري السريع لطيور «الصفرد»، كما استطاعوا في مواسم التزاوج أن يلاحظوا الحنو التي تتعامل العصافير الصغيرة بها مع البعض، والأعشاش التي بنيت بهمة ذلك الحب في كل مكان، و بعدما أضاف إلى أشجار النخيل أشجارا أخرى كأشجار المانجو والليمون، والزيتون والشجيرات الصغيرات وأعلاف الماشية أصبحت الطيور أكثر عددا وأكثر استيطانا لذلك المكان كما وأصبح أحدهم قادرا على قطف عذوق النخيل دون أن يشعر أن مصدر قوته مرتبط بالبحر ولاشيء غيره .
ذلك التوسط بين البقعة الرملية والبحر وظلال الأشجار لم يرح قلب «سعادة»، كانت تشعر أنها محاصرة، شيء ما يطبق على قلبها كلما حركت الريح، البحر والرمال واهتزت بها فروع الأشجار، تشعر أن كل شيء متآمر عليهم، سيفنى البشر، وتبقى الأرض، لأنها موجود خالد، ليس عليه أن يفنى أبدا، ذات مرة كادت أن تصرخ لتوضح للريح أن صوت البشر أكبر منها، تصورت أن البحر فقد عقله، وأن الرمل يغطيهم و أن قبرا من الماء والرمل حفر للناس هنا عن غفلة منهم . ولكنها عادت وصمتت وأدخلت لسانها إلى أقصى حلقها .
كالخبزة الأولى المحروقة بسهو غير متعمد تظهر تلك المنطقة، لا يعرف أي لهب هب عليها فأحال الرمل فيها إلى السمار الذي يكسوها الآن، التفاسير السائد التي يعددها «ود حمود» على أصابع يده تزيد على الأمر الواحد، ليس هنالك عامل واحد من عوامل الطبيعة هو ما جعل تلك الأرض هكذا وإنما أربعة عوامل، فالشمس الحارقة التي كانت ما تطل عليها منذ الصباح الباكر ولا تغادرها إلا والتراب يحرق نفسه بهدوء وسكون تام، ثم الرياح التي كانت تنخل الرمال فتغير التضاريس المعروفة وتنقل ما استطاعت نقله وتجمد كل ما يستعصى عليها، وفي الأمر الثالث يمد «ود حمود» أصبعه إلى الشمال، جهة المياه المالحة، التي تسربت على مهل لتغير الطبقات من حولها وتقتل الأشجار النابتة هنالك، في الأمر الرابع يظهر شيء ما غير مرئي ولكنه يركض في داخلهم، يطبع على كل الأشياء من حولهم علامات لا تنتهي، العمر، الزمن الذي يمضي دون أن يكلفهم ساعة للرد على الأسئلة الكثيرة التي يطرحها .
لكن وفي هذه الأيام كان الشعور السائد أن المساحة المربعة المترامية الأطراف من الأرض العارية إلا من الرمال أصبحت تتقلص تحت زحف البيوت الجديدة، وكأن الحجر الذي طمره (أحمد الساقي) في قلبها –قبل عامين – قد جعلها أرضا تفقد عذرية التوحد والتفرد الذي امتازت به طوال تلك السنوات فأصبحت تستقبل كل شيء وأي شيء. والشعور الذي تبعثه الريح والإنسان يسير في وسط تلك الأرض اختفى فجأة، كان إحساسا عميقا أن الرياح تناغي جسد السائر عليها، من جهتين، يبدأ ذلك الشعور من ملمس الرمال الذي يتحرك متعلقا في بالأقدام ويستمر إلى أن ترتفع حبات الرمال إلى الساقين ومن بعدها تشعر أن الرياح تغزو جميع الجسد، حتى تصبح وكأنها ذئاب مخفية تركض وراءه لوحده . يكاد السائر عليها أن يسقط في كل خطوة ينقلها من الارتفاع والانخفاض الناتئ فيها، وربما طارت الرياح في أشكال دائرية مصحوبا بتداخل أصوات غريبة آتية من مكان غير معروف إلى أعلى رأسه عندها يتملكه الخوف، تكون آثار أقدامه قد محيت، ولم يبق منها غير حفرة كغرز السكين ما تلبث أن تختفي وما يدهشه أكثر ذلك التلون في شكل الرمال، فيبدو أحيانا كلون القهوة المحروقة، وتخلله في أوقات أخرى ألوان الشمس والأصيل . الآن حتى الرياح التي كانت قريبة من المكان انسلت منه وكفت عن تقليب رماله حتى أصبح الناس يشاهدون السحالي الصغيرة تتبعها سحالي أكبر منها حجما تخرج رؤوسها من خلال الرمال وتنظر إليهم بشك وريبة.أحدهم قال ذات مرة
– الرمال تحولت إلى سحالي . بكرة تكبر وتقتلنا .
قديما كانت هنالك أشجار الأشخر والغاف والقرط والشجيرات الصغيرة مثل الحنظل ولسان كلب والأسحى والهرم الرطب التي كانت مرعى للماشية التي تساق إليها من الأحياء القريبة، كانوا يضرب بها المثل في الاتساع وكأنها ميدان لسباق الخيول، وفي اتساع تلك الأرض كانت بعض الحكايات تخرج غضة وشهية وخيالية، لأن البشر الذي ساروا على دربه قالوا ان رماله كانت حية وقادرة على شفاء أي مرض يعرض لبني آدم بشرط أن يدفن جسده فيها لثلاثة أيام أن يبقى مستيقظا دون أن تذوق طعم النوم وأكثر ما كان يثار عنها أنها كانت ملاعب للجن، إذ منع القريبون منها أبناءهم وأنفسهم من السير عليها من بعد صلاة العشاء لأن لكل مخلوق وقت وذلك الوقت ليس لهم والبيت الواقف هنالك ليس بيتا يمكنك أن تعيش فيه بسلام تام .
البيت المصبوغ باللون الأبيض الباهت كان هو الدليل بالنسبة للبيوت الأخرى يتربع على تلال المنطقة الفسيحة دون أن يجاوره حتى ظل شجرة، يقال أن من بناه كان يحمل في داخله روح شيطان، وكأنه بناه بدافع للإغراء أكثر من بناه بدافع السكنى، لأن العيون التي أصبحت تطالعه وأغفلنه سنوات بل واعتبرته خروجا عن العادة التي سارت عليها الأجيال، أتت بعدها عيون أكثر جرأة وأصبحت قادرة على الدخول إليه وملامسة جدرانه الداخلية، بل والتفكير ببناء مشابهة له في أقرب وقت ممكن . من يشاهده أكثر من مرة ينغرس فيه احساس أن صاحبه أراد أن ينفض من رأسه كل البشر ولا يبقي طريقا للروائح التي تحاصر الإنسان في وجوده في محيط البشر، والمشرف على الحي من جميع الجهات يراه كنصب كبير موضوع على قاعة الطريق ومن حوله كثبان رمال كثيرة، ولا يستطيع من يقود سيارته على الطريق الفرعي الذي أصبح يشق الأحياء الساحلية أن يتبين غيره إذا مر في طريق مستقيم دون أن يلتفت ذات اليمين وذات اليسار، ومن كانوا يعيشون في الحي كانوا يشاهدونه كعلامة فارقة تميز الأماكن المرتفعة عن بيوتهم التي تآكلت جدرانها بفعل الملح الذي كان يغسلها كل لحظة ممتدا إليها كذراع عملاقة من البحر المقابل لهم إلى التربة التي أصبحت تكشف لهم عن وجه كالح من سنوات مضت، ورغم أن بيوت كانت تبدو من بعيد وكأنها رؤوس البشر المتراصة بقرب بعضها البعض أوكأنها توائم لا يعلو أحدها عن الآخر إلا بمقدار صغير، ولا يختلف الألوان عن بعضها إلا بدرجات غير ملحوظة إلا أنها كانت تبدو ككتلة واحدة للناظر إليها من جهة البحر، وأن المكان لوحده دون ذاكرة سوى ذاكرة البحر، وفي أي وقت أراد صاحب أحد البيوت أن يضيف غرفة إلى البيت كانت تلك الغرفة أو التغيير المرتقب لا يمر عليه إلا فترة وجيزة حتى يمتزج مع الشكل العام للمكان، حتى تمحى من الرؤوس أشكال التغيير التي مرت بها المباني طوال تلك السنوات، فالسنوات والأفكار كانت دائما ما تصبغ شكل الحي في فكرة واحدة لا تتغير ويزيد من رتابة المكان وجود تلك السكك الضيقة بين البيوت، سكك اعتادوا السير فيها دون أن يختلط عليهم الأمر أو يضيعوا مكانا بعينه، فكل سكة تؤدي إلى بيت يعرفونه، أو تختصر سكة أخرى إلى بيت فلان، وهم يعرفون أن لتلك السكك أسرارا كثيرة، تضيق أحيانا حتى يسمع الجار صوت نفس جاره هو نائم، وتتسع أحيانا حتى تشاهد قطيعا من الماشية يسير فيها أو ترى أن النساء قد وقفن في إحداها تناقلن الأخبار الصغيرة التي تناثرت في الحي ويطول بهن الوقوف حتى تتسمع إحداهن بخيال سمعها صوت أحمد الساقي يقول
– يا نساء الطريق له حق .
أو تنظرن (عائشة ) قادمة من البعيد وهي تقلده في مشيته التي أصبحت صلبة .
– النساء لا تقف خارج البيت .
تصمت بعدها النساء، يصخن السمع، يشفهن أن تكون الكلمات قد وصلت إلى أذن «مريم»، عادت (عائشة ) لتسأل:
– وين توقف الحريم؟ ليش ما خبرنا قبل ما يروح؟
ورغم أن الطريق الترابي الكبير الذي عهدوه منذ سنوات كثيرة كان يقسم الحي إلى فرعين كبيرين شرق وغرب إلا أن شخصا من خارج الحي إذا دخل إليه تخالجه فكرة أن هذا الطريق ذاته ما هو إلا وجهة للبحر، ففي نهاية الطريق الذي يصل إلى نهاية الحي ذاته يكون الطريق فاتحا ذراعيه للبحر، وكأن من وضع لبنة الحي، جعل البحر حارسا كبيرا عليه ونظر إلى البحر فرأى أن فسحة الطريق الترابي ما هي إلا مجال واسع ليشاهدوا البحر ويشاهدهم طوال تلك السنوات، باب الأسرار المشرعة لم يغلق إلا أمام البيت الصغير الذي بني بعيدا عن تلك الفرجة، يضاف إليها شجرة «الرول» العظيمة التي كبرت مع كل جيل عاش هنا، تلك الشجرة كانت على عكس الناس والبيوت والطريق الترابي، تشرف على البحر من مكان مرتفع، تبسط سيطرتها على المكان، هامتها تمتد إلى أكثر من الظل الذي كان يظلهم في أوقات صلاة العيد وقت الصلاة الوحيدة التي صلوها ذات سنة ضنت بها السماء من إسقاط أي قطرة ماء .
لكن البحر إذا ذكر لدى جماعة كثيرة من الناس سمعت عنهم صوت آه ممزوجة بالعشق أردفوا بعدها كلمات منها
– ذاك البحر، فيه شيء مثل البحر في ها الدنيا.
قيل لأنهم ينسجون من ماء البحر حكايات لا تضمها البيوت الكثيرة بقدر ما تضمها صدورهم، لا يستنكر أحدهم أن يراه الناس ميمما وجه إلى البحر، وأن يستغرق ذلك التحديق إلى البحر وقتا غير محسوب، هنالك سر غير مفهوم يسير كتيار بينهم وبين البحر، منذ سنوات عديدة تناقلوا الأخبار عن جماعة من البحارة غادروا الحي في رحلة صيد، ولم يعودوا إلا بعد مرور شهر، بعد أسبوع من رحلتهم اعتبروهم في عداد الموتى، ولكنهم عادوا، بأجساد أكثر صحة وشبابا، وبوجوه باسمة ومضيئة، لم تكن السفن هي ذاتها التي خرجوا بها، وإنما كانت عبارة عن أربع سفن صغيرة ومصنوعة بإتقان ومن مواد تختلف عن جريد النخيل الذي اعتادوا صنع سفنهم به، في ذلك الصباح كانت السفن ترسو بالقرب من الشاطئ تحمل الأسماك، ولم يكن هم الأربعة الذين خرجوا وإنما رجعوا برجال آخرين لم يعرفوهم معهم، الفرحة سحابة من الصياح تغشى المكان تناسوا كل شيء إلا العودة المحمودة لهؤلاء البحارة، أياد كثيرة تغزو المكان، البعض يشد على المراكب لإخراجها من البحر والبعض يفاصل مبكرا على الأسماك الكبيرة والبديعة التي جاءوا بها، فيما تمد أيادي الأطفال تطالب بحصتها من الأسماك نظير المساعدة الصغيرة التي قدموها، ولكن أحد البحارة من المركب اختار أفضل وأكبر سمكة لديه ورماها في البحر وصرخ بأعلى صوته
– هذي للبحر وحده، البحر يستاهل .
ساد صمت كبير المكان، وبعد برهة فعلت المراكب نفس فعله، كثر هرج بينهم وكأنهم يتذكرون شيئا قديما نسوه أو دينا لم يسدد، أنصت إليهم الأطفال، طارت افكارهم كطيور النورس الكثيرة الحائمة، قذفت أسماك كثيرة في البحر ذاك اليوم، كان شعورا غريبا أن كلا منهم، لديه سبب وجيه ليطعم البحر، هذا الكبير الواسع أطعمه فكيف لا يطعمونه؟!، من يومها كانت إذا ضاقت عليهم أمواج البحر ومنعتهم من بدء رحلة اليومية، أخذ كل منهم حفنة مائه وشربها وهو يبتسم، وكلما تخلل جوفه ملوحة الماء شعر أنه أصبح بحرا، وأنه ما بينه وبين البحر شيئا يصل إلى الدم وهم لا ينسون أن (محمد المطوع) أمرهم أن يتوضأوا من ماء البحر في عام المحل، في يومها شعروا أنهم قريبون من البحر حدا لم يفهموه أبدا وعندما اعترض أحدهم على صحة الوضوء، أسكته بصوت قريب:
– ما سمعت أن البحر الطاهر ماؤه والحل ميته. ما تعرفون حتى الأرض اللي تسيرون عليها.
ولكنهم لم يجدوا ردا مناسبا لأحمد الساقي عندما قال لهم .
– أنتم تحسبون البحر مثل ربكم وهذا سبب خسارتكم.
ذلك البحر ذاته مد إليهم لسانا مستمرا فشكل أرضا أكثر انخفاضا من الأراضي الأخرى القريبة منه، فأصبح لديهم ما يسمونه «خور سلمان»، والذي أصبح مزارهم المفضل في حاجة تطرأ على حياتهم . ففي كل مرة يفيض فيها الخور سيتذكر الأهالي هنا «سلمان» كما سيتذكرن أن البحر قريب منهم وأنه يمد إليهم يديه بالشفاء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
j فصل من رواية قيد الكتابة..
رحمة المغيزوي
كاتبة من عُمان