إيمان السنانية *
إن دراسة الأبحاث اللسانية في البلاغة العربية تعد من حقل اللسانيات الخاصة، ولا أغلو حين أقول إن أفضل مايمثل البحث اللساني في اللغة العربية هو الاصطلاح في البلاغة العربية، فإن البلاغة العربية منذ نشأتها العلمية لم تزل تنتهج البحث التوصيفي الذي نهجته اللسانيات الحديثة وإن كانت النظرات المعيارية لم تغب في الدرس البلاغي وذلك في بحثهم فصاحة اللفظ والكلام وبلاغة الكلام(1)، ولكن قد غاب عن كثير من الدارسين أن التوصيف البلاغي لشروط بلاغة النص لم يكن نابعاً من التقعيد المعياري فحسب، والمشكلة أن هؤلاء الدارسين نظروا إلى البحث البلاغي من زاوية واحدة بعيداً عن مواصفات الحكم الصحيح القائم على السبر والنظرة الشاملة، وقد أصاب الدكتور سعد مصلوح كبد الحقيقة حين رأى أن البلاغة العربية مابرحت قادرة على أن تقدم للدرس الأسلوبي اللساني زاداً وفيراً من التصورات وطرق التحليل يمكنه بإعادة صياغتها أن يحكم بها وسائله الفنية في مقاربة النصوص(2). ولعل الزاد اللساني الذي تتضمنه البلاغة العربية يبعث في اللغة العربية ديمومة البحث والتطور سواء على مستوى المفاهيم الكلية أو على مستوى الإجراءات والتوصيف، وكلا الأمرين يرجعان إلى تصنيف اللسانيات الخاصة. إن ظهور المصطلح البلاغي في علم البلاغة العربية كان نتاج ظهور منهج للبحث اللساني، فالبلاغة العربية ظهرت من خلال تأسيس منهج بلاغي يعنى بالنص بطريقة تختلف عن منهج البحث النحوي أو الصرفي، وعلى ضوء هذا المنهج تأسس علم البلاغة العربية، وهذه الطريقة في إنتاج العلوم أي طريقة وضع المنهج أولاً ثم ممارسة البحث الموضوعي المؤسس على ذلك المنهج هو منهج شائع عند العلماء المسلمين، كما حصل عند وضع علم أصول الفقه، فلم تقم مسائل أصول الفقه إلا بعد تنظير لمنهج البحث الأصولي، كما فعل علماء أصول الفقه في إنجازهم منهج وضع قواعد أصول الفقه من جزئيات المسائل الفقهية، فتتأسس القاعدة الكلية من جزئياتها المنجزة فعلاً.
اصطلاح مقاصــد البلاغــة وأسالــيب الخطاب
يعد القصد من أهم المعايير الكلية التي يوضع على أساسها الكلام، وقد رأى سيرل وهو من مؤسسي النظرية التداولية أن المقاصد ذات تكوين (بيلوجي) ولها أطر معينة في ذهن المرسِل، ونص سيرل كذلك على أن الصوت أو العلامة المدونة لن تحقق الاتصال اللغوي مالم تتضمن قصد منتج النص ومرسله(3)، كما بحث علماء اللسانيات عن مصطلح القصد باعتباره من معايير النصية السبعة حين ذكروا أن معايير إنتاج النصوص واستعمالها تتلخص في السبك والالتحام(الحبك) والقصد والقبول ورعاية الموقف والتناص والإعلامية(4)، وقد بيّن دي بوجراند المراد بالقصد حين ذكر أنه الذي يتضمن موقف منشيء النص من أن صورة من صور الكلام قد قصد بها أن تكون نصاً، وأن هذه الصورة الكلامية وسيلة لتحقيق غاية معينة(5)، وحين ميز الفيلسـوف الانجــليزي جــون أوستيــن ( JOHN AUSTIN) ثلاثة أنواع من الأفعال الكلامية التي هي فعل التعبير والفعل الإنجازي والفعل الاستلازمي جعل الفعل الإنجازي هو المعبر عن قصد المتكلم في منطوقه والغاية المنجزة من إنتاج اللفظ(6)، بل إن التقسيم اللساني للأفعال الكلامية بني على القصد؛ فصارت الأفعال الكلامية مقسمة على قسمين وهي الأفعال الكلامية المباشرة(القصد المباشر) والأفعال الكلامية غير المباشرة (القصد غير المباشر)، ولا نريد هنا في هذا البحث توصيف مقولات القصد عند اللسانيين أو استقراءها، ولكنها معطيات موجزة لفهم أهمية مصطلح القصد في البحث اللساني. لأن القصد من مسائل هذا المطلب هو فهم مقولات البلاغيين في القصد وبيان أبعادها اللسانية في إنتاج النص وتوصيفه وتحولاته.
المقصد ومعطياته في البلاغة العربية
لقد بيَّن علماء النحو- باعتبار أنّ تأسيس علم النحو سابق على تأسيس علم البلاغة (وأقصد هنا العلم بمعناه الاصطلاحي)- أهمية القصد حين عرفوا الكلام؛ إذ شرطوا حصول القصد في ذهن المتكلم ليتحقق الكلام ويصبح ناجزاً، فالنائم لايسمى متكلماً وإن أصدر كلاماً مفهوماً، وكذا الساهي، ومنه الكلام الصادر من الطيور التي تحاكي كلام الإنسان وصدى كلام المتكلم أيضاً (7)، كما فرق النحاة بين الصناعة النحوية والقصد، فقد يعرف قصد المتكلم، ولكن طريقة أداء النص وترتيبه شاذة لايصح القياس عليها، كما في قولهم فيما حكاه سيبويه: ماجاءت حاجتك؟ أي صارت، فالشاذ من التراكيب اللغوية مما لم يأتِ على وفق الصناعة النحوية يُحكى” ويخبر بماقصد فيه ولايقاس عليه” (8)، وهو واقع في الكلام(9) ومنه ماحكاه النحاة في قول بعض العرب (خرق الثوبُ المسمارَ )(10)، ويسري القصد وأثره في تحديد نوع التركيب وحمله في كثير من مباحث النحو كالمبتدأ والخبر والحال والصفة وغيرها. وأما اصطلاح القصد في البلاغة العربية فقد تنوعت مباحثه من حيث بيان أهميته ووظيفته وأثره في تنوعات إنتاج النص، فقد جُعل القصد من أركان البلاغة حين سئل أحد البلغاء ما البلاغة؟ فقال إصابة المعنى والقصد في الحجة(11)، ونقل ابن رشيق القيرواني قول المتقدمين في بيان وظائف البلاغة فقال” البلاغة الفهم والإفهام وكشف المعاني بالكلام ومعرفة الإعراب والاتساع في اللفظ والسداد في النظم والمعرفة بالقصد والبيان بالأداء وصواب الإشارة وإيضاح الدلالة والمعرفة بالقول والاكتفاء بالاختصار عن الإكثار وإمضار العزم على حكومة الاختصار(12) ، بل إن تأسيس المعاني وإبداعها يقوم على القصد، فقد قال ابن طباطبا” إن من كان قبلنا في الجاهلية الجهلاء وفي صدر الإسلام من الشعراء كانوا يؤسسون أشعارهم في المعاني التي ركبوها على القصد للصدق فيها مديحاً وهجاءً” (13) ، وجعل قدامة بن جعفر مقاصد الكلام علماً فيه تعرف معاني الشعر، فقال” العلم بالشعر ينقسم أقساماً. . . . وقسم ينسب إلى علم معانيه والمقصدية” (14)، والفارق بين توصيف أنواع النصوص هو القصد، وهو ما أشار له نقاد البلاغة والأدب حين عدّوا القصد هو الفارق بين توصيف الكلام بالشعر وغيره بعد تحقق اللفظ الموزون والقافية، فقال ابن رشيق” الشعر يقوم بعد النية من أربعة أشياء وهي اللفظ والوزن والقافية، فهذا هو حد الشعر لأن من الكلام موزونا مقفىً وليس بشعر لعدم القصد والنية كأشياء اتزنت من القرآن ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم” (15) ، وجعل النقاد مصطلح القصد هو المعيار في التفرقة بين الشعر المطبوع والمصنوع(16). إن تنوع أساليب الكلام هو ظاهرة أدبية لغوية، فهو إبداع في البعدين الأدبي والفكري، والتنويع الأسلوبي هو محاولة مهمة للجمع بين الفنون الأدبية والأساليب، ولاشك أن تنوع الفنون الأدبية وأجناسها يتبعه تنوع في الأساليب، والعكس صحيح أيضاً، فلكل أسلوب مقصده، ولكل نوع غرضه، ولكل كلام غايته، ويرى ابن الأثير الموصلي” أنَّ فائدة الكلام الخِطابي هو إثبات الغرض المقصود في نفس السامع بالتخييل والتصوير حتى يكاد ينظر إليه عياناً، ألا ترى أنَّ حقيقة قولنا زيد أسد هو قولنا زيد شجاع، لكن الفرق بين القولين في التصوير والتخييل وإثبات الغرض المقصود في نفس السامع (17)، فالمعنى واحدمن حيث الاعتبار الخارجي في ( زيد أسد) و(زيد شجاع)، ولكن اختلاف الغرض المقصود هو الموصل إلى اختلاف تنوع الأساليب، فهناك فرق بين المدلول(المعنى) و(القصد)، ولاشك أن الأصل في علاقة القصد مع مدلولات الألفاظ أن تكون مطابقية، لأن اللغة وضعت لتعبر عن مقاصد المتكلمين، باعتبار أن القصد أمر خفي وإنما يظهره الدوال التي هي الألفاظ و الكتابة والإشارة والعقد بالأصابع والنصب أي ماينصب في الطرقات، وأهم هذه الدوال وأنفعها هو اللفظ (العناصر اللغوية)، ومع هذا فإن مدلولات الألفاظ ومعانيها ليس بالضرورة أن توافق قصد المتكلم، كما أن القصد يحدد مسار إنتاج النص وطريقة تأليفه، وفي هذا المعنى يقول ابن سنان الخفاجي” الكلام بعد وقوع التواضع يحتاج إلى قصد المتكلم واستعماله فيما قررته المواضعة، ولايلزم على هذا أن تكون المواضعة لاتأثير لها، لأن فائدة المواضعة تمييز الصيغة التي متى أردنا مثلاً أن نأمر قصدناها، وفائدة القصد أن تتعلق العبارة بالمأمور وتؤثر في كونه آمراً له، فالمواضعة تجري مجرى شحذ السكين وتقويم الآلات، والقصد يجري مجرى استعمال الآلات بحسب ذلك الإعداد” (18)، فدلالة الكلام لا يمكن أن تتضح إلا بمعرفة قصد المتكلم، بل قد يخالف مدلولُ الكلام قصدَ المتكلم. لم يكن بحث القصد عند البلاغيين مقتصراً على علاقته بالمواضعات اللغوية بل اتخذ مساراً وظيفياً في تحقيق تنوعات الأجناس الأدبية، وهذا الإنجاز البحثي لم يتمظهر بمعطياته النصية وسماته التركيبية إلا في البلاغة العربية، حتى صار لصيقاً بهم وملازماً لأبحاث البلاغة، فقد عقد العلوي فصلاً في كتابه الطراز لفن المقاصد على اعتبار أن البلاغة بتنوع أساليبها وصورها الفنية هي تبع لمقاصد المتكلمين، قال العلوي” إذا قصدت وصف زيد بالشجاعة من جهة اللوازم بحيث يجوز تطرق الزيادة والنقصان والكمال إليه، فإن أردت طريق الاستعارة قلت رأيت أسداً، وإن أردت طريقة التشبيه فإنك تقول زيد كالأسد، وإن جئت بطريقة الكناية قلت فلان يكفل الأبطال برمحه، وإن أردت أن تصفه بالكرم هو كالبحر بطريق التشبيه، أو فلان تتراكم أمواجه بجعله كناية عن جوده وسخائه” (19)، بل صار القصد معياراً وميزاناً يرجع إليه في تنوع أساليب الفن الأدبي الواحد، فقد جعل العلوي أسلوب التشبيه قائما على ثلاثة مقاصد، وتنوع أساليب التشبيه وصوره البيانية تبع لتنوع هذه المقاصد، ومقاصد التشبيه عنده هي المبالغة والإيجاز والإيضاح والبيان، ثم فصَّل الكلام على كل مقصد(20)، بل جعل السكاكي الغرض (القصد) من التشبيه ركناً من أركان مباحث التشبيه التي أنجزها في كتابه، فقال” إنما المحوج هو تفصيل الكلام في مضمونه وهو طرفا التشبيه ووجه التشبيه والغرض من التشبيه وأحوال التشبيه” (21). وقد تتبعت مقاصد الأساليب البلاغية التي ذكرها علماء البلاغة واستقرأتها في مباحثهم، وبعد تصنيف جزئيات المقاصد وضم بعضها إلى قرينتها تبين أن هناك خمسة مقاصد كلية تندرج فيها كل المقاصد المذكورة في ثنايا بحث أغراض المقولات البلاغية، وهذه المقاصد هي: أولًّا-البيان والإيضاح: ويمكن لمنتج لنص اللغوي أن يستعمل هذا المقصد في أساليب لغوية منها:
1 – أن يذكر المسند والمسند إليه معّرَّفين بالإضمار أو بالعلمية أو بالموصولية أو بالإشارة أوبلام العهد(22)
2 – التشبيه المفصل(23)، ” وبالجملة فإنه كلما كان التفصيل أكثر كان أوضح وأخصر” 40، وإذا كان طرفا التشبيه حسيين، وفي هذا يقول ابن رشيق” ماتقع عليه الحاسة أوضح في الجملة مما لاتقع عليه، والمشاهد أوضح وأقرب من الغائب، فالمحسوس أوضح في العقل من غيره والمشاهد أكبر صورة في الذهن من الغائب” (24).
3 -التشبيه التمثيلي، فإن التشبيه التمثيلي له شأن عند العرب” ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق حتى تريك المتخيَّل في صورة المحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب كأنه مشاهد”(25). ويكمن مقصد الإيضاح أيضاً في أسلوب الكناية بالصفة. ثانيًا- مقصدية المبالغة: ولايقصد بالمبالغة هنا الزيادة المقيدة بل يعني بها الزيادة في المعنى مطلقاً، ويمكن لمنتج النص اللغوي أن يستعمل هذا المقصد في أساليب لغوية منها:
1 – مايتعلق بركني الإسناد، مثل ذكر المسند إليه، فإن ذكره فيه زيادة في الإيضاح والبيان(26)، وتعريفه بالعلمية للتعظيم وبالموصولية لزيادة التقرير والتفخيم وباللام التي للاستغراق(27)، وتنكير المسند للتعظيم والتهويل(28) .
2 – التشبيه البليغ وهو ماحذفت فيه أداة التشبيه ووجه الشبه وبقي المشبه والمشبه به فقط كقولنا هند بدر، وقد جعل علماء البلاغة هذا النوع من التشبيه أقوى مراتب التشبيه وأعلاها مبالغة(29) .
3 – التشبيه باستعمال الأدوات الدالة على المبالغة كقولنا(علمت زيداً أسداً) ” لما في علمت دلالة على تحقق التشبيه وتيقنه” (30)، ومن هذا القبيل استعمال كأنَّ في التشبيه.
4 – التشبيه المقلوب، ولايستعمل المتكلم هذا الأسلوب إلا فيما كان بين المشبه والمشبه به وصف مشترك قوي(31)، ومنه قول الشاعر:
وبدا الصباح كأنه غرته
وجه الخليفة حين يمتدح
فإن الشاعر قصد إيهام أن وجه الخليفة أتم من الصبح في الوضوح والضياء(32).
5 – التشبيه الضمني، والمبالغة في هذا الفن البلاغي تكمن في أن المشبه به في هذا اللون التشبيهي برهان وتعليل للمشبه.
6 – التشبيه التمثيلي، ويقصد به المبالغة لأن وجه الشبه فيه منتزع من أمور عدة، كما يقصد به الإيضاح أيضاً، فهو من قبيل ماأسميناه بـ(تداخل المقاصد).
7 – الاستعارة، فالاستعارة تتضمن المبالغة في المعنى، وذلك بادعاء أن المشبه داخل في حقيقة المشبه به فرداً من أفرادها33، وبحث عبدالقاهر الجرجاني الاستعارة كثيراً في أسرار البلاغة وبيَّن أن الاستعارة قائمة على المبالغة والاختصار(34)، فهي من قبيل تداخل المقاصد كذلك.
8 – المبالغة المذكور في فن البديع وذلك بتأكيد المعنى على طريقة الجمل المترادفة35.
9 – الكناية المطلوب بها النسبة كقول الشاعر:
إن السماحة والمروءة والندى
في قبةٍ ضُربت على ابن الحشرج
فقد أثبت هذه الصفات لابن الحشرج حين جمعها في قبة ضربت عليه(36).
10 – ومن الأساليب الجارية على هذا المقصد قولهم(مثله لايبخل) فقد قصدوا المبالغة حين نفوا البخل عن مثله وهم يريدون نفيه عن ذاته(37).
ثالثًا- مقصدية الجمال والإثارة : قد جمعنا هذين المقصدين في مقصد واحد لتقارب الجمال والإثارة، فإن إثارة المتلقي هي نوع من الجمال، وتتوزع هذه المقصدية فيما يأتي:
1 – أسلوب التشبيه القائم على اللوازم: إن التشبيه إذا نيل بعد الطلب له والاشتياق إليه كان نيله أحلى وموقعه ألطف(38)، وجمالية هذا التشبيه نابعة من بناء ثانٍ على أول، وردِّ تالٍ إلى سابق(39) فالمتكلم يقصد حين ينتج نصًا فيه تشبيه مبني على اللوازم أن يكون وجه الشبه محصَّلاً بدقة نظر، وهل شيءٌ أحلى من تحصيل المقصود بعد طلب وشوق لمعرفته ولاسيما إذا صادف نهجاً قويماً.
2 – أسلوب المجاز المرسل: والمجاز المرسل هو” أن تعدي الكلمة عن مفهومها الأصلي بمعونة القرينة إلى غيره لملاحظة بينهما ونوع تعلق” (40)، أو هو ماكانت العلاقة بين ما استعمل فيه وما وضع له علاقة غير المشابهة(41)، فإن الانتقال من الملزوم إلى اللازم يكون أحلى في النفس وألذ في الفكر وأنشط للروح، كاليد المستعملة في النعمة فهي موضوعة لليد الجارحة المخصوصة لتعلق النعمة والعطية بها من حيث إنها تصدر عن اليد ومنها تصل إلى المقصود.
3 – الجناس: وهو تشابه الكلمتين في اللفظ، وقد وصف السكاكي الجناس بالحسن، وذكر أنواع حسن الجناس وجماله(42)ووجه الجمال في الجناس أنه يأتي بألفاظ تستلذ بها الأسماع وتستدر به الأفكار، فخصوصية جمالية الجناس نابعة من تشابه الالفاظ صوتاً وافتراقها معنى، وجمالية الجناس لاتقتصر على جمالية الجرس الصوتي في الأسماع بل إنه إنما صار له المزية والفضيلة في حسن الإفادة مع أن صورة اللفظ مكررة ومعادة43 .
4 – التشبيه المقصود به التزيين: كما في تشبيه وجه أسود بمقلة الظبي(44) .
5 – الالتفات: بحث السكاكي الالتفات في علم المعاني وعلم البديع، فأما بحثه في علم المعاني فهو باعتبار إفادته معنى يطابق مقتضى الحال، وبحثه في علم البديع باعتبار إفادة المتلقي الإثارة والتشويق(45)، والالتفات أسلوب بلاغي يضفي على النص بلاغة وإثارة بتحول الصيغة أو الزمن فيما هو غير متوقع. فهو ينجز إثارة ذهنية عند المتلقي لأنه يمثل حركة انتقالية في داخل النص. ومن فوائد الالتفات تنشيط السامع وإثارته ليكون أكثر إيقاظاً للإصغاء إليه46، ويرى بالي أن الالتفات يفيد” إضافة ملمح تأثيري على التعبير)(47)، فالالتفات يحمل السامع على الإصغاء إلى النص لما يتضمنه من تلون صيغ الخطاب المثيرة لذهنه.
6 – أسلوب التوجيهه: هو إيراد النص محتملاً لوجهين مختلفين، وقد أورده القزويني(48) مستشهدًا بقول بشار بن برد: خاط لي عمروٌ قباء ليت عينيه سواء
7 – أسلوب إظهار المطلوب: هو أسلوب بياني من أنواع التشبيه وسمه السكاكي بهذا الاسم باعتبار الغرض المقصود، كما إذا أشير إلى وجه القمر في الإشراق والاستدارة وقيل هذا الوجه يشبه ماذا؟ فيقال الرغيف إظهاراً للاهتمام بالرغيف لاغير(49)، فالقصد هو إثارة المتلقي وتوجيهه إلى طلبه ومبتغاه لكون المتكلم جائعاً.
رابعًا- مقصدية الإيجاز: لن نطيل الكلام في هذا المقصد لأن البلاغة قد وضعت للإيجاز مبحثًا خاصاً هو مبحث الإيجاز والإطناب والمساواة ضمن علم المعاني، بل إن بعض البلغاء قد حصروا البلاغة بالإيجاز لأهميته في الكلام، والحذف كله إيجاز والتشبيه البيلغ من الإيجاز كذلك وكذا الاستعارة. وههنا يتبين مفهوم تداخل المقاصد الذي أشرنا له. خامسًا- مقصدية الاستدلال: فقد تضمنت البلاغة في كثير من مباحثها الحجج البيانية من أجل إقناع المتلقي، لأن البلاغة ليست مرتعاً للبحث الجمالي فحسب كما يظن الظانون، بل هي توظيف لساني في الواقع الخارجي لتحقيق مقاصد المتكلم، ولهذا فإن من منجزات البلاغة صوغ الدليل والحجة بلباس لساني موافق لمقتضى الحال ومتناسق مع الاعتبار المناسب للكلام، ولم تقتصر المقاربات الاستدلالية في البلاغة العربية على فن واحد بل توزعت هذه المقاربات في كثير من مباحث البلاغة، وسنقتصر في هذا البحث على بيان هذا المقصد في علم البيان، وقد عرف هذا الفن بأنه علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة بالزيادة في وضوح الدلالة عليه(50)،
مصطلح الانسجام فـي البلاغة العربية
إن مفهوم الانسجام مفهوم دلالي ضمني يحيل إلى العلاقات المعنوية القائمة داخل النص والتي تجعله نصًا، إذ رأت اللسانيات أن عناصر النص هي وحدة متكاملة، ” إذ يتعلق تأويل عنصر من العناصر بتأويل العنصر الآخر، يفترض كل منهما الآخر مسبقًا، إذ لايمكن أن يحل الثاني إلا بالرجوع إلى الأول” (51) ، وقد وضح دي بوجراند مفهوم الانسجام عند اللسانيين بقوله” هو أن يتطلب من الإجراءات ماتنشط به عناصر المعرفة لايجاد الترابط المفهومي واسترجاعه” (52)، فالانسجام النصي هو مجموعة من العلاقات المعنوية التي تجعل النص محققًا لنصيته، وقد أشار دي بوجراند إلى الوسائل التي تحقق الانسجام فقال” وتشتمل وسائل الانسجام على العناصر المنطقية كالسببية والعموم والخصوص، معلومات عن تنظيم الأحداث والأعمال والموضوعات والمواقف، السعي إلى التماسك فيما يتصل بالتجربة الإنسانية، ويتدعم الإلتحام بتفاعل المعلومات التي يعرضها النص مع المعرفة السابقة بالعالم” (53)، وسنكتفي بهذا الإيجاز في بيان مفهوم الانسجام في اللسانيات الحديثة من أجل ذكر مقصد هذا المطلب وهو بيان إنجازات البلاغيين في ضبط قواعد الإنسجام وماانطوى فيها من ذكر وسائل الانسجام والربط الدلالي الضمني. سيقتصر بحث الإنسجام في البلاغة العربية على موضوع الفصل والوصل ، لما يمثله هذا الموضوع من بحث نصي متكامل، ولأنه يجري في كل مباحث البلاغة التي لاتقتصر على إنتاج النص المبهر الجميل في نسقه ونظمه بل قد تقتصر على إنتاج النص المنجِز بشرط الترابط والتعالق الدلالي على وفق مقتضيات النظام النحوي والصرفي-. ومن هذه النصوص التي ذكرها أئمة البلاغة:ذكر الجاحظ أهمية الفصل والوصل حين نقل تعريفات للبلاغة وذكر منها” وقيل للفارسي ما البلاغة؟ قال معرفة الفصل من الوصل” (54) ، ” وقال أبو العباس السفاح لكاتبه: قف عند مقاطع الكلام وحدوده؛ وإيّاك أن تخلط المرعىّ بالهمل ومن حلية البلاغة المعرفة بمواضع الفصل والوصل” (55) ، ” وقال الأحنف بن قيس: ما رأيت رجلا تكلّم فأحسن الوقوف عند مقاطع الكلام، ولا عرف حدوده إلا عمرو بن العاص رضي الله عنه، كان إذا تكلم تفقد مقاطع الكلام، وأعطى حقّ المقام، وغاص فى استخراج المعنى بألطف مخرج؛ حتى كان يقف عند المقطع وقوفا يحول بينه وبين تبيعته من الألفاظ، وما ألطف مانقله أبو هلال العسكري عن المأمون في قوله ” ما أتفحّص من رجل شيئا كتفحّصى عن الفصل والوصل فى كتابه، والتخلّص من المحلول إلى المعقود، فإنّ لكل شيء جمالا، وحلية الكتاب وجماله إيقاع الفصل موقعه، وشحذ الفكرة وإجالتها فى لطف التخلص من المعقود إلى المحلول” (56). وقال عبد القاهر الجرجاني” اعلمْ أنَّ العلمَ بما ينبغي أن يُصْنَعَ في الجملِ من عطفِ بعضها على بعضٍ أو تركِ العطفِ فيها والمجيءَ بها منثورةً تُسْتَأْنَفُ واحدةٌ منها بعد أخرى من أسرارِ البلاغة ومما لا يتأتَّى لتمامِ الصَّوابِ فيه إلاَّ الأعرابُ الخُلَّص والإَّ قَوْمٌ طُبِعُوا على البلاغة وأوتوا فنَّاً مِنَ المعرفة في ذوقِ الكلامِ هم بها أفرادٌ . وقد بلغَ من قوة الأمر في ذلك أنَّهم جعلوهُ حَدّاً للبلاغة فقد جاء عَنْ بعضهم أنه سُئِل عنها فقال : مَعْرِفَةُ الفَصلِ منَ الوصلِ ذاك لغموضِه ودقِة مَسْلكِه وأّنَّه لا يَكْمُلُ لإِحرازِ الفضيلة فيه أحدٌ إلاَّ كَمَلَ لسائِر معاني البلاغة” (57)، وقال الجرجاني أيضا” وأعلمْ أنَّه ما من عِلْمٍ من علومِ البلاغةِ أنتَ تقولُ إنَه فيه خَفيٌّ غامضٌ ودقيقُ صَعْبٌ إلاّ وعِلْمُ هذا البابِ أغمضُ وأخفى وأدقُّ وأصعبُ(58)، وقال الخطيب القزويني” الوصل عطف بعض الجمل على بعض والفصل تركه وتمييز موضع أحدهما من موضع الآخر على ما تقتضيه البلاغة فن منها عظيم الخطر، صعب المسلك دقيق المأخذ لا يعرفه على وجهه، ولا يحيط علمًا بكنهه، إلا من أوتي في فهم كلام العرب طبعًا سليمًا، ورزق في إدراك أسراره ذوقًا صحيحًا، ولهذا قصر بعض العلماء البلاغة على معرفة الفصل من الوصل، وما قصرها عليه؛ لأن الأمر كذلك، إنما حاول بذلك التنبيه على مزيد غموضه وأن أحدًا لا يكمل فيه إلا كمل في سائر فنونها فوجب الاعتناء بتحقيقه على أبلغ وجه في البيان” (59) ، وقال العلوي في الفصل والوصل أيضا” وهو دقيق المجرى، لطيف المغزى، جليل المقدار، كثير الفوائد، غزير الأسرار” (60). عند النظر في مقولات علماء البلاغة ومعطياتهم البلاغية نرى أن الفصل والوصل درس من أجل بحث تحقيق النص اللغوي (نصية النص)، ولايتحقق النص عند علماء البلاغة سواء أكان متضمنًا الفصل بين الجمل أم ربطها بأداة الربط إلا بشروط هي:
1 – وجود الصلة والعلاقة بين الجملة الأولى والثانية وهكذا سائر جمل النص لتحقيق الترابط في النص اللغوي، فتتابع الجمل لايكوِّن النص ما لم توجد صلة معنوية بين الجمل ، وبشرط أن يفهم المتلقي هذه الصلة” بحيث إذا عرفَ السامُع حالَ الأّوَّل عناه أن يعرفَ حالَ الثّاني . يدلُّكَ على ذلكَ أنَّكَ إنْ جئتَ فعطفتَ على الأَوَّل شيئاً ليس منه بسببٍ ولا هُوَ مما يُذْكَرُ بذكرِه ويتَّصِلُ حديثُه بحديِثه لم يستقْم . فلو قلتَ : خرجتُ اليومَ من داري . ثم قلتَ : وأحسنَ الذي يقولُ بيتَ كذا . قلتَ ما يُضْحَكُ منه . ومن هاهُنا عابوا أبا تمامٍ في قوله:
لا والذي هُوَ عالِمٌ أنَّ النَّوَى
صَبِرٌ وأنَّ أبا الحُسَيْنِ كريمُ
وذلك لأنه لا مناسبةَ بينَ كَرَمِ أبي الحسين ومرارِة النَّوى ولا تعلُّقَ لأَحِدهما بالآخرِ وليس يقتضي الحديثُ بهذا الحديثُ بذاك” (61)، فلابد من وجود اقتران وربط تسلسلي بين الجمل المتتابعة في النص الواحد وإن كانت الجمل المتتابعة مختلفة بالشكل ، فالربط بالوصل في الجملتين الاسمية والفعلية لايقع مالم تحضر العلاقة المعنوية بينهما، فإن الربط بهذا النوع بين الجملتين في لسانيات البلاغة العربية يأتي في المتقابلات. يضم الجمل المتتابعة بمجموعها قصد عام، وهو ما بحثناه في المطلب الأول من أن النصوص تتشكل على وفق مقاصد المتكلم، فالجمل المتتابعة في النص الواحد وإن كان يسري فيها نسيج الاقتران التسلسلي بالنظر إلى كل جملتين مقترنتين ولكن لابد من أن يضمها قصد عام يعرف بقصد المتكلم أو غرض النص، فههنا أمران أحدهما تتابع الجمل واقترانها بأن تكون بينها صلة عرفت عند البلاغيين بالجهة الجامعة والثاني أن تندرج هذه الجمل بمجموعها التي نطلق عليه االنص ضمن قصد عام ، وقد لاتمثل كل جملة على حدة قصد المتكلم مطابقة وهو الغالب في النص المطول، بل العبرة في تمثيل النص بمجموعه قصد المتكلم.
3 – وجود المشاكلة بين الأحداث، فإن النص اللغوي يتضمن أحداثًا مع ذوات ومتعلقات زمانية أو مكانية وأحوال متنوعة، والعبرة في ترابط الجمل في النص الواحد أن تكون الأحداث التي هي أخبار متعلقةً فيما بينها بوجود أي ملابسة أو صلة، بحيث يكون الحدث في الجملة الثانية مضامًّا ومناسبًا للحدث في الجملة الأولى، وكذا السبيل أبدا إلى نهاية النص، وقد نرى النص في آخره ليس له علاقة بأوله ظاهرًا ، ولكن لو قرأناه بتسلسل ترابطي أدركنا المناسبة في كل الجمل، ولاشك أن هذه المشاكلة غير منضبطة بشكل معين لأنها متعلقة بوقائع الخطاب وملابسات النص وعلاقة المتكلم بالمتلقي، وقد أشار عبد القاهر الجرجاني إلى هذه المسألة فقال” واعلمْ أنه كما يجبُ أن يكونَ المحدَّثُ عنه في إحدى الجملتين بسببٍ من المحدَّثِ عنه في الأخرى كذلكَ ينبغي أنْ يكونَ الخبرُ عن الثاني مما يَجْرِي مَجْرى الشبيهِ والنظيرِ أو النَّقيضِ للخبر عن الأولِ . فلو قلتَ : زيدٌ طويلُ القامة وعمرٌو شاعرٌ . كان خُلْفاً لأنه لا مُشاكلَةَ ولا تعلُّق بينَ طولِ القامةِ وبين الشعرِ وإنما الواجبُ أن يقالَ : زيدٌ كاتبٌ وعمرٌو شاعرٌ وزيدٌ طويلُ القامة وعمرٌو قصيرٌ . وجملةُ الأمِر أنها لا تجيءُ حتى يكونَ المَعْنى في هذِهِ الجملة لَفْقاً للمعنى في الأخرى ومُضَامَّاً له مثل أن زيداً وعمراً إذا كانا أخوَيْن أو نظيرين أو مُشتبكَيِ الأحوالِ على الجملة كانتِ الحالُ التي يكونُ عليها أحدُهما من قيامٍ أو قعودٍ أو ما شاكَلَ ذَلكَ مضمومةً في النَّفسِ إلى الحالِ التي عليها الآخَرُ من غَير شَكٍ . وكذا السبيلُ أبداً والمعاني في ذلك كالأَشخاصِ . فإنما قلتَ مثلاً : العلمُ حسنُ والجهلُ قبيحٌ . لأنَّ كونَ العلم حَسَناً مضمومٌ في العقولِ إلى كونِ الجهلِ قبيحاً ” (62)، ويمكن التعقيب على كلام عبدالقاهر الجرجاني بأنه لايمكن حصر المشاكلة والتشابه في حال معين ، والمراهنة هنا على وجود مناسبة الربط بين طرفي النص، فإذا تشكلت المناسبة أي مناسبة كانت بين المتكلم والمتلقي صح الربط. فهذه ثلاثة شروط لتحقيق عامة كلية، فإذا كان النص متضمنًا أداة من أدوات الربط فحينئذ يضاف إلى هذه الشروط أمران: أحدهما خصوصية الصلة المعنوية بأن تكون جهة جامعة تجمع الجملتين أي جهة تشرك بين موضوعي الجملتين ومحموليها وهذا ماشرطه القزويني في قوله(والجامع بين الجملتين يجب أن يكون باعتبار المسند إليه في هذه والمسند إليه في هذه وباعتبار المسند في هذه والمسند في هذه جميعًا كقولك يشعر زيد ويكتب ويعطي ويمنع وقولك زيد شاعر وعمرو كاتب وزيد طويل وعمرو قصير إذا كان بينهما مناسبة كأن يكونا أخوين أو نظيرين بخلاف قولنا زيد شاعر وعمرو كاتب إذا لم يكن بينهما مناسبة وقولنا زيد شاعر وعمرو طويل كان بينهما مناسبة أو لا (63)، فإذا قطع الكلام عما قبله بأن يجري الحديث في شأن آخر توجه المتكلم إلى الفصل وقطع الربط ومنه قوله تعالى: ” إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)” [ سورة البقرة ]فقد قطع عن قوله تعالى (الآية 5) ” أُولئِك عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ “، لأن الآية السادسة في شأن الذين كفروا والتي قبلها في شأن القرآن الكريم . الثاني وهو أن تقوم أداة الربط بمدلولها في تحقيق الربط، فالاقتران بالأداة في ترتيب الجمل يكون( بالواو والفاء وثم و أو وإما وأم وبل ولكن ) وقد تدخل (أي) معها في قول بعض النحاة الذين أجازوا عطف الجمل بـ(أي) ، ولايقع الوصل بين الجمل بغير هذه الأدوات، وقد فصَّل علماء البلاغة في بحث الاقتران بالواو لأن الإشكال يقع فيها دون غيرها من الأدوات التي تفيد معنى زائدًا على الجمع والتشريك64، فأما (الفاء وثم وأو وإما وأو) فهي تابعة لمعانيها ودلالاتها النحوية، فكل جملة اقترنت بجملة قبلها بإحدى هذه الأدوات فهي خاضعة لمعنى الأداة الرابطة مع اعتبار أنها قد تخرج إلى معاني مجازية كما فصَّل فيه علماء النحو عند بحثهم معاني الحروف والاداوت، فالاقتران بالفاء مثلا يفيد كون مضمون الجملة الثانية عقب الجملة الأولى من حيث الترتيب الزماني أو الذكر أو المنزلة أو لتفصيل مجمل أو غير ذلك(65)، وأما الاقتران بالواو فقد بحثه علماء البلاغة لأن فيه مزيد بحث وتفصيل لخصوصية الأداة في اللغة العربية. وقد بحث علماء البلاغة علاقات الانسجام في النص الواحد، سواء أكان الاقتران بحسب الشكل وصلًا أم فصلًا وهي:
1 – علاقة التضايف وهي العلة والمعلول والسبب والمسبب والسفل والعلو والأقل والأكثر والأمام والخلف. . ، فيدخل في هذا النوع كل أصناف التقابلات الدلالية. (66)
2 – 2- الاشتراك في المعنى سواء أكان في الواقع الخارجي المطابق لمقتضيات العقل أو في العقل فقط أو في العرف والعادة ، وهذا الأخير هو المعول عليه في تزيين النص وتأثيره في المتلقي، لاختلاف أحوال المتلقين في اقتناص الجامع في النص والرابط فيه” فكم صور تتعانق في خيال وهي في آخر لاتتراءى وكم صورة لاتكاد تلوح في خيال وهي في غيره نار على علم” (67)، فعلماء البلاغة نظروا إلى الاشتراك الحاصل في معاني الجمل باعتبار العرف والعادة بين المتكلم والمتلقي، ولهذا قد يكون رصف الجمل نصًا عند متحدثَيْن لمعرفتهما بوجه الاشتراك وقد لايكون هذا الرصف نصًا عند آخرين إلا بعد توضيح وجه الاشتراك في المعنى. ولهذا نرى أنه كلما ألف المتلقي المتكلمَ زاد ترابط النص وقويت وشائجه ، والعكس صحيح. يلمح هذا المفهوم من قول القزويني” ولصاحب علم المعاني فضل احتياج إلى التنبه لأنواع الجامع ولاسيما الخيالي، فإن جمعه على مجرى العرف والعادة بحسب ماتنعقد الأسباب في ذلك كالجمع بين الإبل والسماء والجبال والأرض في قوله تعالى: ” أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) ” [سورة الغاشية]، بالنسبة إلى أهل الوبر -أي البدو-. . . فإذا فتش البدوي في خياله وجد صور هذه الأشياء حاضرة فيه على الترتيب المذكور بخلاف الحضري، فإذا تلا قبل الوقوف على ماذكرنا ظن النسق لجهله معيباً” (68) .
3 – التفصيل بذكر العام بعد الخاص أو بالعكس.
4 – دفع الوهم واللبس عن المتلقي، وبحث القزويني هذه المسألة(69)، فمثال الفصل في قولنا ( لا وبارك الله فيك) ومثال الفصل قول الله تعالى : ” وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)” [ سورة البقرة ]
نتائج البحث
1 – إن أساليب الكلام في البلاغة العربية لاتخرج عن مقاصدها، فلكل أسلوب مقصده، ومقاصد إنتاج النص في البلاغة العربية كثيرة بجزئياتها ويمكن إيجازها في مقاصد خمسة تعد مقاصد الكلام الكلية في البلاغة العربية وهي مقصدية الإيضاح والبيان ومقصدية المبالغة ومقصدية الجمال والإثارة ومقصدية الإيجاز ومقصدية الاستدلال. 2- قد تتنوع مقصد المتكلم في النص الواحد، فينشأ عندنا ماأسميناه بتداخل المقاصد، بأن ينتج المتكلم نصًا واحدًا على مقاصد متنوعة يريد تحقيقها جميعًا.
2 – لا بد في كل نص لغوي من تضمنه علاقات وصِلات معنوية تسري في جمله بحيث تسلم الأولى إلى الثانية وهكذا ضمن جامع عام يجمعها كلها وهو مقصد النص.
3 – إن كل العلاقات المعنوية المعبرة عن انسجام النص في البلاغة العربية لاتخرج عن التلازم المعنوي، والعبرة في التلازم المعنوي أن يكون بحسب عرف المتكلم والمتلقي، والعرف قد يتغير بطول زمن أو تحول مكان أو ملابسات أخرى، ولاعبرة في لسانيات البلاغة العربية بالاستلزام العقلي الذي بحثه المناطقة٫
الهوامش
1. الإيضاح في علوم البلاغة/78-86
2. في البلاغة العربية والأسلوبية اللسانية/72
3. استراتيجيات الخطاب/183
4. النص والخطاب والإجراء/103-105
5. م، ن/103
6. علم لغة النص بين النظرية والتطبيق/21
7. التذييل والتكميل:1/34-35
8. الإصول في النحو:2/351
9. شرح الكافية لشافية:2/612
10. شرح الرضي على الكافية
11. العمدة في محاسن الشعر:1/245
12. م، ن:1/247
13. عيار الشعر:1/13
14. نقد الشعر:1/3
15. العمدة في محاسن الشعر:1/119
16. م، ن:1/129
17. المثل السائر:1/78-79
18. سر الفصاحة :1/43
19. الطراز/90
20. م، ن/131
21. مفتاح العلوم/332
22. الإيضاح/123-132
23. مفتاح العلوم/339
24. العمدة:1/278
25. الكشاف:1/79
26. الإيضاح /122
27. م، ن/125-132
28. م، ن/137
29. مفتاح العلوم/355//المطول/563
30. المطول/452
31. أسرار البلاغة/220
32. مفتاح العلوم/343//الإيضاح/380
33. مفتاح العلوم/362، 369
34. أسرار البلاغة/240
35. نقد الشعر/50//العمدة:2/52
36. مفتاح العلوم/407//الإيضاح/482
37. الإيضاح/483
38. أسرار لبلاغة/139//الإيضاح/403
39. الإيضاح/404
40. مفتاح العلوم/365
41. الإيضاح/417
42. مفتاح العلوم/429-431
43. أسرار البلاغة/17
44. الإيضاح/377
45. مفتاح العلوم/429
46. الإيضاح/170
47. علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته/86
48. الإيضاح/543
49. مفتاح العلوم/345
50. م، ن/329//الإيضاح/344
51. لسانيات النص/15
52. النص والخطاب والإجراء/103
53. م، نص، ن
54. البيان والتبيين:1/88
55. كتاب الصناعتين ، ص، ن
56. م، ن/441
57. دلائل الغعجاز/174
58. م، ن/180
59. لإيضاح/263
60. الطراز/220
61. دلائل الإعجاز/424-425
62. دلائل الإعجاز/225
63. الإيضاح/280
64. دلائل الإعجاز/224
65. المطول/436
66. الإيضاح /281
67. م، ن /282
68. م، ن/283
69. م، ن/266
المصادر والمراجع
القرآن الكريم
• استراتيجيات الخطاب:عبدالهادي بن ظافر الشهري، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت-لبنان، ط1، 2004
• أسرار البلاغة: عبدالقاهر بن عبدالرحمن الجرجاني (ت471 أو 474هـ) علق عليه محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، مصر ط1، 1991م.
• الأصول في النحو: أبو بكر بن محمد بن سهل بن السراج النحوي البغدادي (ت316هـ)، تحقيق د. عبد الحسين الفتلي، مؤسسة الرسالة-بيروت، ط3، 1417هـ-1996م.
• الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم: إبراهيم بن محمد بن عريشاه عصام الدين الحنفي (ت943هـ)، تحقيق: د. عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، ط1، 1422هـ-2001م
• الإيضاح في علوم البلاغة: جمال الدين أبو المعالي محمد بن عبدالرحمن الخطيب القزويني (ت739هـ)، شرح وتعليق وتحقيق د. عبدالمنعم خفاجي وجماعته، دار الكتاب المصري، القاهرة، ط3، 1999م.
• البديع في البديع: أبو العباس، عبد الله بن محمد المعتز بالله (ت296هـ)، دار الجيل، بيروت، ط1، 1990م.
• البيان والتبيين:أبوعثمان عمرو بن بحر الجاحظ (255هـ)، تحقيق وشرح: عبدالسلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط3
• التذييل والتكميل في شرح التسهيل:أبو حيان الأندلسي(ت745هـ)، تح:د. حسن هنداوي، دار كنوز إشبيليا، الرياض، ط1، 2011م.
• دينامية النص:د. محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط2، 1990
• ديوان بشار بن برد:بشار بن برد العقيلي(167هـ)، شرح وتعليق محمد الطاهر عاشور، راجعه محمد شوقي أمين
• سر الفصاحة: أبو محمد عبد الله بن سنان الخفاجي (ت466هـ) دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1982م
• شرح الكافية الشافية:محمد بن عبدالله بن مالك(ت672هـ)، تح:علي محمد عوض، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2000م.
• صحيح مسلم: مسلم بن الحجاج(ت261هـ)، دار ابن الهيثم، القاهرة، 2001م.
• الطراز المتضمن لأسرار البلاغة: يحيى بن حمزة العلوي اليمني (ت749هـ)، مراجعة محمد عبدالسلام شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1995م
• عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح (ضمن شروح التلخيص): بهاء الدين السبكي (ت763هـ)، دار إحياء الكتب العربية، مصر، 2010، د. ط
• علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته:دكتور صلاح فضل، دار الشروق، مصر، ط1، 1998م.
• علم لغة النص بين النظرية والتطبيق:د. عزة شبل محمد، مكتبة الآداب-القاهرة، ط2، 2009م.
• العمدة في محاسن الشعر:أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني(ت463هـ)، تح:محمد محيي الدين عبدالحميد، دار الجيل ، بيروت، 1981م.
• عيار الشعر:أبو الحسن محمد بن طباطبا(ت322هـ)، تح: عبدالعزيز بن ناصر المانع، مكتبة الخانجي، القاهرة، 2010م.
• في البلاغة العربية والأسلوبية اللسانية: الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح، مجلس النشر الجامعي، جامعة الكويت، 2003م.
• كتاب الصناعتين: أبو هلال الحسن بن عبد الله (ت نحو395هـ)، تحقيق:علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، 1419هـ
• الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل: جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت538هـ) رتبه وضبطه محمد عبدالسلام شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط3، 2002م
• لسانيات النص مدخل إلى انسجام الخطاب:محمد خطابي، الدار البيضا-المغرب، بيروت لبنان، ط2، 2006.
• المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر: أبو الفتح ضياء الدين نصر الدين بن محمد بن الأثير الموصلي (ت637هـ)، المكتبة العصرية، بيروت، 2010م
• المصباح في المعاني والبيان والبديع:بدر الدين بن مالك الشهير بابن النظم(ت 672)، تح:حسني عبد الجليل، ط1 ، 1989م.
• المطول شرح تلخيص مفتاح العلوم: سعد الدين مسعود التفتازاني (ت792هـ)تح عبدالحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 2007م
• مفتاح العلوم:أبويعقوب يوسف بن أبي بكر محمد السكاكي (ت626هـ)، ضبطه نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1983م
• مقدمات ابن رشد:أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي(ت520ه)، تح:محمد حجي، ط1، 1998
• النص والخطاب والإجراء:روبرت دي بوجراند، ترجمة الاستاذ الدكتور تمام حسان، عالم الكتب، القاهرة، ط2، 2007
• نقد الشعر: قدامة بن جعفر بن قدامة البغدادي (ت337هـ)مطبعة الجوائب – قسطنطينية، ط1، 1302هـ.