محمد آيت لعميم
باحث وناقد مغربي
يبدأ بورخيس “قصيدة الهبات” بنغمة ملؤها الرضى، والاستسلام للإرادة الإلهية، ولليد التي تقوده إلى المكان الصّحيح، ثم يردف قائلا:
وبتدبير بارع، وحيلة باهرة وهبني الكتب والظلام في آن معًا1.
يا لها من مفارقة! الكتب والعمى جملة واحدة. بورخيس الذي تخيل الأرض الموعودة أو الفردوس مكتبة لا نهائية، سيعين مديرا للمكتبة الوطنية في العاصمة بيونس آيرس وقد انطفأت عيناه. هو القارئ النهم الذي لم يكن يضيع الوقت من أجل القراءة. يقرأ في الترام حين كان يقطع الطريق ليصل إلى تلك المكتبة الصغيرة التي كان يشتغل فيها في بداية حياته. كان يختار من الطعام ما يؤكل بسهولة، حتى لا يضيع الوقت، لأنه كان يتحدث عن الأدب في كل وقت وحين، ولم يكن يحب أن يتناول شيئا يضطره للمضغ طويلا، ليتفرغ فمه للحديث عن الأدب. سيصير مديرا لأكبر مكتبة في بلده، بعد أن كان النظام الأرجنتيني في عهد الديكتاتور بيرون، قد سعى لإهانته بتعيينه مفتشا للدجاج والأرانب في الأسواق. ها هو في الأخير يتوج حارسا لمملكة الكتب. لم يكن هذا الحلم يخطر بباله، ولم يصدق حين عين أن هذا الأمر حصل. فكيف لكفيف أن يدير مكتبة بآلاف الكتب التي حرم من قراءتها؟
لقد توج مسار بورخيس بهذه المهمة، أي العيش وسط جنة الكتب، وهو الحالم بفردوس الكتب التي لا تعد ولا تحصى. يذكرنا هذا الحلم، بمنام رواه ابن الجوزي في كتابه “المنتظم” قال في ترجمة الإمام أبي العلاء الهمذاني الحافظ: “بلغني أنه رُئي في المنام، في مدينة جميع جدرانها من الكتب، وحوله كتب لا تحد وهو منشغل بمطالعتها، فقيل له: “ما هذه الكتب؟!” قال: “سألت الله أن يشغلني بما كنت أشتغل به في الدنيا، فأعطاني.”2
فلو عثر بورخيس على هذا المنام الذي رواه ابن الجوزي حول أبي العلاء الهمذاني، وقد رئي في مدينة الكتب يقرأ مكتبة لا تنتهي، لاتخذه شعارا. وإن شئنا القول، على عادة بورخيس، فإن منام الهمذاني سرق فكرة بورخيس بطريقة استباقية، لأنه في الحقيقة ذو مذاق بورخيسي.
إن صورة الأعمى الذي يحرس مكتبة، لم يتفرد بها بورخيس لوحده، فقد لاحظ، بشكل غريب، أن المديرَين اللذين تعاقبا على إدارة المكتبة الوطنية في بيونس آيرس قبله، كانا من العميان. ففي محاضرته “العمى” يذكر أن غروساك وخوصي مارمول، المديرين السابقين مثلهما مثل بورخيس مصابان بالعمى، ويتخيل أن ” قصيدة الهبات” حيث “الكتب لا حصر لها والليل وعدم القدرة عن القراءة” ربما كان كاتبها هو غروساك “لأن غروساك كان مديرا للمكتبة وكان أعمى أيضا. كان أكثر شجاعة مني: لقد لزم صمته. لكنني كنت أدرك أن ثمة لحظات تقاطعت فيها حياتنا. بما أن كلينا أصبح أعمى وكلينا كنا نحب الكتب” “لقد شرف الأدب بكتب أسمى بكثير من كتبي. لكن كلانا كان رجل أدب، وكلانا مر على مكتبة من الكتب الممنوعة على عيوننا المدلهمة”3
كان بورخيس يتردد في مصير مثل هذا، مصير العميان الذين يحرسون الكتب. حتى اكتشف أن أعمى آخر مر من هذه المكتبة “هنا يظهر أن الرقم ثلاثة، الذي يختم كل شيء، العدد اثنان مجرد مصادفة، ثلاثة يعني التأكيد. تأكيد نظام ثالوثي، تأكيد إلهي ولاهوتي” 2 (نفسه، ص 145). وكأن قدر بورخيس لإنجاز هذه المهمة كان حتميا لتبرير هذا الرقم الثلاثي الذي يفيد تأكيد الإرادة الإلهية. ثلاثة عميان يتعاقبون على حراسة الكتب. حتى أضحى متخيل الأعمى حارس المكتبة نمطا أصليا. وقد وظف هذا النمط الأصلي بمهارة فائقة أمبرطو إيكو في رائعته “اسم الوردة”. حيث اختار حارسا لمكتبة الدير في صورة شيخ أعمى، يحمل اسما مشابها لبورخيس، وهو جورجي دو بركوس.
ففي هذه الملامح المتعلقة بالهيئة والاسم دلالة عميقة على أن الصورة النمطية للأعمى حارس الكتب أضحت صورة لبورخيس وحكرا عليه، رغم أن الكثير من العميان حرسوا مكتبات أو ارتبطوا بالكتب، ولكن هذه الصورة النموذجية تكرست مع بورخيس، فحتى عندما نجد سلفا لبورخيس سرعان ما تهيمن الصورة البورخيسية على المشهد. هذا الأمر يذكرنا بلزوميات المعري، حيث ارتبط هذا الشكل في الكتابة بصورة المعري، وهو المسبوق لهذا الشكل من قبل شعراء آخرين. لكن لماذا أصبحت اللزوميات معرية، كما صارت المكتبة بورخيسية؟
لقد تجاوزت لزوميات المعري اللعب الشكلي، وصارت مسكنا للوجود، وقد سماها في مقدمة الديوان “أبنية أوراق”، فالشاعر الأعمى، رهين المحبسين، جسد في حياته هذه اللزوميات، فلزم بيته، وغرق في عماه وفي ذاكرته، ولزم الصمت، وتخيل نفسه سجينة الجسد الطيني. هذه الحجب المسدولة انعكست في كتابته الشعرية، وألزم نفسه شيئا ليس يلزمها -على حد تعبير المتنبي- والذي بالمناسبة هو شاعر المعري الأثير، ولذلك أصبحت لصيقة به، بخلاف الذين سبقوه لكتابة اللزوميات مثل الشاعر كثير الذي يعد رائدا لهذه الكتابة. غير أن الريادة لا تكفي لتصبح تأسيسا، بل يصير المتأخر سابقا، كما هو الحال هنا، وقد تطمس اللحظات البدئية، ويصير اللاحق سابقا، ومستأنفا جديدا.
الأمر شبيه بالأعمى حارس الكتب، فقد عرفت الأزمنة الماضية عميانا لهم صلات بمكتبات عامة أو لديهم مكتباتهم الخاصة، ولم تتحقق فيهم الصورة النموذجية لهذا النمط، بل انتظروا حتى جاء بورخيس، فسلطت عليهم الأضواء، وقد كان بورخيس مدركا أن الخلف يصنع السلف. فهو حين كتب مقالته العميقة “كافكا وأسلافه” برهن، على أن اللاحق يبتكر السابق، وأن قيمة الأشياء الماضية المنسية تظهر حين يأتي شخص، عبر صيغة معينة في الكتابة، ليبعث هذا الماضي المنسي. فاليوم لم نعد نتخيل المكتبة والكتب بعيدا عن صورة بورخيس، وكأنه يخترق الأزمنة من الماضي إلى المستقبل، وما ذلك إلا لأنه تخيل المكتبة بوصفها صورة للعالم، فالعالم مكتبة لا نهائية، وقد جسد الفكرة في قصته المشهورة “مكتبة بابل”. كذلك بورخيس لم يغادر مكتبة والده منذ رأى النور حتى أخريات حياته.
إضافة إلى أنه يمجد القراءة ويفضلها على الكتابة، لأن المرء يقرأ ما يريد ولا يكتب إلا ما يستطيع. لذلك فالسعادة توجد في فعل القراءة الحر.
لما أوقف بورخيس حياته على الكتب والمكتبات أصبح نمطا أصليا تنعكس فيه تاريخية الكتب والمكتبات. وتحضر هذه العناصر في أعماله القصصية بوصفها شخصيات متخيلة. نجد لهذا النمط شبيها في شخصية المعري. فهو وإن لم يكن خازن مكتبة، فإنه غادر بلدته باتجاه بغداد، في رحلة شاقة، وحين وصل إليها توجه مباشرة إلى دار الكتب فيها، وفيها أقام ليطلع على نفائس المخطوطات. في رسالة إلى خاله أبي القاسم يقول: “والذي أقدمني تلك البلاد مكان دار الكتب فيها” وأرسل الى أهل المعرة وقد عزم على الرجوع: “وأحلف ما سافرت استكثر من النشب، ولا أتكثر بلقاء الرجال، ولكني آثرت الإقامة بدار العلم فشاهدت أنفس مكان، لم يسعف الزمن بإقامتي فيه”.
وقال ابن العديم: “إنه أقام ببغداد يتفقد خزائن الكتب فيها”. وعقد صداقات مع خازني الكتب من أمثال “الواجكا”، وعبد السلام البصري، و«توفيق السوداء»، المرأة التي كانت تخدم في دار العلوم على زمان محمد بن علي الخازن. وكانت تخرج الكتب إلى النساخ.4
وعناية بهذه المرأة أدخلها الجنة في رسالة الغفران، والتقى بها في صورة بهية. فالذين صاحبوا الكتب في الفانية يقتعدون أماكن خلابة في الفردوس. مكث المعري بدار الكتب يقرؤون عليه نفائسها، وكلما قرئ عليه كتاب حفظه. فذاكرته العملاقة أضحت شبيهة بمكتبة، يحملها معه ويحرسها، في هذه الذاكرة يعيد قراءة الكتب، ولم يعد في حاجة للرجوع إلى الأوراق، فهو يتصفح كتب الذاكرة، ويعيد قراءتها وترتيبها وتأويلها. بورخيس كان يتحدث كثيرا أنه كان يكتب في دماغه، ثم يملي ما كتب. لذلك كان يحب الاستطرادات، والكتابة بالقفز، لأن الذاكرة بالنسبة إليه ليست تراكما وتخزينا بل هي عبارة عن فوضى تسمح بخلق ترابطات عجيبة.
لقد أحب المعري كتب دار العلوم، التي أنشأها الوزير أبو نصر سابور بالكرخ، لسبب وجيه، وهو أنها خزانة تحتوي على كتب بخطوط أصحابها، وبخطوط العلماء المنسوبة، فهي بذلك تقوم مقام الشيخ، فكأنه قرأها على أصحابها، فالمعري كما بورخيس، بعيدا عن بعض الشخصيات التي أثرت فيهما في بداية حياتهما، فهما يعتبران مشيخة الكتب الموثوقة والأصلية كافية. يشير بورخيس في سيرته، أنه كان قرأ كتابا في طفولته، بلون أحمر مذهب، وافتقد الكتاب، ولما قرأه في طبعة أخرى لم يجد مذاق القراءة الأولى، فطلب النسخة التي قرأ فيها الكتاب أول مرة.
كان بورخيس يعرف الكتب بعناوينها في مكتبته، يكفي أن يلمس الكتاب، وكان يدس الأوراق النقدية داخل الكتب، ويهتدي إليها كلما احتاج إليها. يذكر “ابن أيبك الصفدي” في كتابه ” نكت الهميان في نكت العميان”، حين ترجم لشافع بن علي العسقلاني، لما عمي ولزم بيته:” كان جماعة للكتب. وله النظم الكثير، والنثر الكبير، خلف ثماني عشرة خزانة كتبا أدبية نفيسة، وكانت زوجته تعرف ثمن كل كتاب، وبقيت تبيع منها مدة طويلة. كان إذا لمس الكتاب وجسه قال: هذا الكتاب الفلاني، ملكته في الوقت الفلاني، وكان إذا أراد أي مجلد، كان يقوم إلى الخزانة التي هو فيها ويتناوله منها كأنه الآن وضعه”.5
إن مصائر العميان المتيمين بالكتب تتلاقى. حتى ليخيل إلى دارس هذه الظواهر أن بورخيس هو المعري، أو أي أعمى امتلك مكتبة أو اشتغل خازنا لها أو مديرا فيها. كثيرة هي أوجه التشابه بينهما. فرغم أن بورخيس لم يذكر المعري بالاسم في كتاباته، ولربما لم تتح له فرصة التعرف عليه، ولكن في كتابات بورخيس إشارات وكأنها تتحدث عن حكيم المعرة. فبصدفة سعيدة، وأنا أعيد قراءة مجموعة من قصص بورخيس، متأملا في معان جديدة، عثرت على هذا المقطع في قصة “تقرير برودي”، تنبني القصة على إجراء مفضل لدى بورخيس، وهو الكتابة عبر وسيط الترجمة، سواء أكانت حقيقية أو متخيلة، بورخيس يشتغل في أغلب قصصه بالترجمة، إنها عمل خفي لديه في الكتابة. أغلب شخصياته إما باعة مخطوطات، أو كتاب أو قراء أو مترجمون. تتأسس هذه القصة على ترجمة تقرير صاغه برودي بإنجليزية رتيبة. وسيترجم السارد التقرير “دون أن يسمح لنفسه بحذف أي شيء سوى بعض الإصحاحات من الكتاب المقدس، وفقرة طويلة عن الممارسات الجنسية لدى “الياهو”6.
المقطع الذي أثار انتباهي هو: “وهم يتغذون على الفاكهة والجذور، ويصطادون السمك بأيديهم. عند تناول الطعام يختفون عن الأنظار أو يغمضون أعينهم، فيما عدا ذلك، يفعلون بقية الأشياء على مرأى من الجميع، كما يفعل الفلاسفة الكلبيون”7.
“وفي الحال يستأصلون أعضاءه التناسلية، ويحرقون عينيه، ويبترون يديه وقدميه، حتى لا تشغله الدنيا عن الحكمة ويعيش الملك رهين كهف”8.
إن النزعة النباتية، والاختباء عند تناول الطعام، وقد ذكر المعري أنه كان يختبئ عندما يريد أن يأكل، مخافة أن يسقط الطعام على ملابسه ويراه الناس. وإغماض العينين في إشارة إلى العمى، وورود الفلاسفة الكلبيين، والمعري يتواتر ذكر الكلب في حياته بشكل فظيع إلى درجة الاعتقاد أنه ينتمي إلى هذا المذهب، واستئصال الأعضاء التناسلية في إشارة إلى عدم الرغبة في الزواج والإنجاب، وإحراق العينين، وتعطيل الحواس كي لا ينشغل عن الحكمة، والعيش رهين كهف، مثل المعري رهين المحبسين. كل هذه الصفات تنطبق على شخصية المعري. فبورخيس حتى ولو لم يلتق المعري، فإنه اهتدى إليه من خلال وصف قبيلة الياهو.
كثيرة هي نقاط الالتقاء بين هذين الأعميين، اللذين عمّرا طويلا، وكانا يكرهان الإنجاب، فبورخيس إن شئنا كان زواجه مجازا، والمعري أعرض عن الزواج والإنجاب. ففي قصة “تلون، أوكبار، أوربيس تيريتوس” يرد هذا الرعب من الجماع والمرآة” في نهاية الدهليز البعيد، كانت المرايا تترصدنا. اكتشفنا أن المرايا بها شيء مرعب. حينئذ ذكر بيو كاساريس أن أحد المهرطقين في أوكبار قال: إن المرايا والجماع مقيتان، لأنهما يضاعفان عدد البشر”9.
يحاول بورخيس في محاضرته، حول العمى، أن يصحح بعض الآراء الشائعة حول العميان، فيما يخص الألوان “يتخيل الناس عموما، أن العميان محاصرون بعالم السواد… واحدة من الألوان التي لا يراها العميان هي الأسود. واللون الآخر هو الأحمر” (العمى، بورخيس، سبع ليال).
يعيش العميان في عالم غير محدد. وكان بورخيس يأمل أن يتحسن نظره ليتمكن من رؤية اللون العظيم الأحمر الذي يشع في الشعر والذي يمتلك أسماء جميلة في كثير من اللغات. حقيقة فاللون الأحمر يشع في الشعر كما ذهب بورخيس ويصدقه قول الشاعر الأعمى بشار:
فإذا دخلت تقنعني بال … حسن إن الحسن أحمر10
لكن لكل أعمى لون يتذكره، وغالبا هو لون الطفولة، فبورخيس ظل اللون الأصفر وفيا له، لإدمانه في طفولته على مشاهدة النمور في أقفاص حديقة الحيوان، وقد كتب قصيدة في هذا الشأن بعنوان “ذهب النمور”. بالنسبة إلى المعري ظل الأحمر هو اللون الوحيد الذي علق بذهنه، لأنه قبل أن يصاب بالعمى كانوا ألبسوه ثوبا معصفرا.
لقد وظف بورخيس موضوعة العمى بشكل شفيف في قصة “بحث ابن رشد”. انبنت القصّة حول قضية الترجمة الأثيرة لدى بورخيس. فالفيلسوف ابن رشد اعترضته كلمتان وهو بصدد شرح كتاب “فن الشعر” تراجيديا وكوميديا، فشرحهما بالمدح والهجاء. تذهب القصة إلى أن ابن رشد أصيب بالعمى أمام هاتين الكلمتين، وقد مثل بورخيس لعمى ابن رشد بمشهد صبيان يحاكون المؤذن والأذان، غير أن ابن رشد لم يستوعب المشهد، وكأن المسرح كان أمام عينيه إلا أنه حجب عن إدراكه، لأنه لم يكن في ثقافته على الأقل بالصيغة اليونانية. وللتدليل على هذا العمى الثقافي حشد بورخيس مجموعة من الأعلام في الثقافة العربية كلهم يتقاسمون داء في العين: الجاحظ، ابن شرف القيرواني، وابن رشيق. ثم ذكر معجم العين ولم يذكر معجما آخر إلا لأنه يشير إلى الجارحة. هذا الحشد من الشخصيات المصابة في عينها لا مبرر له سوى تبئير عمى ابن رشد. فالعمى هنا عمى ثقافي.
يذهب ويليام ماركس في كتابه “قبر أوديب” إلى أنه “في إحدى القصص الأكثر شهرة، يصف بورخيس عجز الفيلسوف ابن رشد عن الإمساك بدلالة الكلمتين الأساسيتين في فن الشعر، تراجيديا وكوميديا. فعلا لا يوجد المسرح في الحضارة العربية في القرن 12 م. ابن رشد لم يكن رآه قط، يجهل عنه كل شيء. إنه إخفاق قاس، حتى ولو لم نكن أضفنا له سخرية خاصة: في فناء المنزل، يلعب الأطفال وهم يحاكون الكبار. شاهدهم الفيلسوف من أجل الترويح على النفس، ومن دون أن يدرك أن أمامه موضوع بحثه: سر الكوميديا يوجد تحت ناظريه، ومع ذلك لم يره”11.
ثم يردف قائلا: “أمام التراجيديا اليونانية، كلنا ابن رشد، محرومون من الوعي بجهلنا. على الأقل الفيلسوف العربي كان يعرف أنه لا يعرف. أما نحن، فإننا نعتقد أننا نعرف التراجيديا: لقد قرأناها ودرسناها في المدرسة. لقد رأينا المسرح، وسافرنا إلى أثينا وإيبدور، إشيل، سوفوكليس، أوربيديس ليسوا فقط أسماء، إننا نعرف أعمالهم، وقد تلذذنا بها.
إذن ما الأمر؟ أين يكمن الخطأ؟
إنه لا شيء من هذا، هو التراجيديا اليونانية حقيقة، إننا لا نعرف منها سوى فتات وبقايا. مر أربع وعشرون قرنا، ولم يتبق منها سوى الخرائب: إنه وهم مرعب”12.
مع ويليام ماركس، ليس ابن رشد هو الذي أصيب بالعمى الثقافي تجاه الكلمتين، وإنما الغرب كله، الذي اكتشف في الأخير أنه هو الآخر أعمى. لم يدرك أن ما رآه ليس التراجيديا ولا الكوميديا ولكنها بقايا وخرائب مسرحية. ولقد أحس بورخيس في نهاية قصته أنه هو الآخر أعمى ثقافيا تجاه ابن رشد لأنه لم يتمكن من رسم صورة له، حيث غابت عنه عناصرها لأنه هو الآخر لم يعرف سوى فتات قدمه له إرنست رينان. وليشير إلى هذا العجز عن تركيب صورة لابن رشد، جعل ابن رشد حين نظر في المرآة لم ير وجهه. اختفى الوجه من المرآة فغاب عن بورخيس ولم يتمكن من إدراك هويته، كما لم يتمكن ابن رشد من إدراك جوهر الكلمتين. هناك عجز مشترك في نهاية المطاف.
في مقال كتبته مارغريت يورسنار تحت عنوان “بورخيس أو الرائي”، تفتتحه، بالحديث عن العميان بوصفهم أساطير لشعوبهم: “فأسطورة كل شعب تتضمن صورًا نمطية: للشاعر الأعمى.
هناك فالميكي، في الهند، المؤلف الخالد للرمايانا، الذي كان يحس بجحافل النمل تجري فوق قدميه الحافيتين مثل الأجيال البشرية التي لا تعد ولا تحصى؛ والشعراء الإسكندنافيون (les scaldes)، هم شعراء بطوليون غالبا يقدمون محرومين من النظر، مثل رواة الشعر اليونانيين الذين يختلطون بالنسبة إلينا منذ الآن مع نموذجهم الأصلي هوميروس الشاعر الأعمى. ولنتذكر، في المتحف الميتروبوليتاني، تلك الصورة الشخصية لأرسطو، التي رسمها له رامبرانت، حيث الفيلسوف ملاحظ الطبيعة والمجتمع البشري، الأستاذ ومعلم الإسكندر، الرجل صاحب العينين السليمتين، يضع بنوع من الحزن يده على رأس تمثال نصفي لهوميروس، الجوال الأعمى.
إلى جانب هذه الصورة، يمكن أن نضع، إن شئتم، الصورة الفوتوغرافية التي أخذها فرناندو سيانا عام 1983 “يد خورخي لويس بورخيس”، خارجة من كم سترته ومن قميص عصري، وهو يقرأ ويتقرى التمثال النصفي ليوليوس قيصر، وهو بلا ريب، يطبع في ذاكرته أدق التجاويف، وأدق النتوءات لهذا الوجه، كما يفعل النزر اليسير من زوار المتحف الذين وهبوا عيونا”13.
يوجد، في معظم الأمم، أعمى، يتمتع بعبقرية الانتباه، وبموهبة رؤية نفسه، فجل الناس لا يبصرون أنفسهم، لأنهم منشغلون بالعالم الخارجي الذي يهجم على أبصارهم فيطمس بصائرهم، ولا يترك لهم الفرصة للهبوط في درج الأعماق. وحتى لو لم يوجد هذا الأعمى حقيقة فقد تنسب الأمة إلى أعمى متخيل عبقريتها.
يتوقف بورخيس عند الصداقة بين الشعر والعمى، ويذكر هوميروس كما يذكر شاعرا يونانيا هو الآخر أعمى إنه تاميريس، لكن أعماله ضاعت. تاميريس هزم في معركة مع ربات الشعر اللواتي حطمن قيثارته وخطفن بصره. ويحاول بورخيس فيما بعد أن يفند كلاما لأوسكار وايلد الذي قال: “إن العصور القديمة قدمت هوميروس عن عمد بوصفه شاعرا أعمى”. يشك بورخيس في تاريخية هوميروس لأن هناك “سبع مدن تنافست على اسمه”، ربما لم يكن هناك هوميروس واحد فقط، ربما كان هناك إغريقيون كثر نتستر عليهم تحت اسم هوميروس “والتقاليد الأدبية تجمع على تقديم شاعر أعمى لنا”.14
إن أوسكار وايلد قال: “إن الإغريق زعموا أن هوميروس أعمى، من أجل التأكيد على أن الشعر يجب أن يكون سمعيا لا بصريا”.15 يرى بورخيس أن هذه ليست هي العلة، بل هناك شعراء بصريون عظام، وهناك شعراء عظام لم يكونوا بصريين، شعراء ذهنيون. يذهب بورخيس إلى أن الشاعر البصري ليس بالضرورة هو الذي يرى. فالشعراء العميان أغلبهم بصريون في صورهم الشعرية، والدليل على ذلك ما لا يحصى من الصور التي حار فيها المبصرون. مثل صورة بشار المركبة:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا … وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
أو صورة المعري المفرطة في البصرية حين وصف ليلة السهاد:
ليلتي هذه عروس من الزن … ج عليها قلائد من جمان
هرب النوم عن جفوني فيها … هرب الأمن عن فؤاد الجبان
وكأن الهلال يهوى الثريا.. فهما للوداع معتنقان
قال صحبي في لجتين من الحن … دس والبيد إذ بدا الفرقدان
نحن غرقى فكيف ينقذنا نج … مان في حومة الدجى غرقان
يعبر اومبرطو إيكو عن فكرة “أن العمى هو الرؤية الوحيدة الممكنة، لأن فعل التفكير يعني التحرك عن طريق التجربة والخطأ، وعن طريق التخمين” ولذلك قال المعري:
أما اليقين فلا يقين وإنما … أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا
إن موضوعة العمى، متشعبة ومثيرة لمجموعة من الأسئلة التي تتناسل. فقد تعرض إليها الأدباء والشعراء والفلاسفة، خصص جاك دريدا للموضوعة كاتالوغا حول اللوحات التي تناولت العمى في متحف اللوفر، وصدر تحت عنوان ” يوميات أعمى، journal d’aveugle. والمحللون وتعاملوا معها بنوع من الاندهاش، لاسيما وأن أصحاب البصائر هؤلاء، الذين يحدقون في البواطن ولا يحدقون في العالم الخارجي، ضمنوا مكانتهم بين الخالدين في أممهم، وقادوا المبصرين إلى عوالم أخرى، لأنهم جربوا الغوص في عوالم ذاكرتهم التي نضدت فيها الكتب البيضاء على رفوف المكتبة اللانهائية.
الهوامش
Jorge Luis Borges، Oeuvres Poetique( 1925- 1965).Gallimard، 1970.» Poème des dons»p،120
ابن الجوزي، المنتظم، ج.، ص.
– بورخيس، سبع ليال، العمى، ت عابد اسماعيل، ص 144.
– أبو العلاء المعري، الميمني الراجكوتي ص 80- 82-
نكت الهميان في نكت العميان، ابن أيبك الصفدي، ص، 143.
– تقرير برودي، بورخيس، قصص، ت محمد أبو العطا، ص155، المركز القومي للترجمة، 2008-
نفسه، ص 155-
– نفسه، ص 156
– تلون، أوكبار، اوربيس تيريتوس، ص 39
نكت الهميان، ص، 59
le tombeau D›Oedipe، pour une tragedie sans tragique ،William Marx ،P،9
Ibid، P10
Borges ou le voyant Marguerite Yourcenar، En pèlerin et en etranger ،Gallimard، pp 235-236 ،1989
بورخيس، سبع ليال، ص149
-نفسه، ص، 150