(1) مدخل
أريد في هذه القراءة أن أحاور نصا رياديا فريدا من نوعه لأثير فيه ومن خلاله ثلاث قضايا مطروحة علينا اليوم بحدة وجدية أكثر من أي وقت مضى، وفي الخطاب الأدبي كما في أشكال مختلفة من الخطاب العربي بكل أنواعه وتوجهاته.
القضية الأولى تتعلق بـ "نص المنفى" ككتابه قلقة متوترة تقع في هامش العلاقة بين لغتين وأدبين وثقافتين دون أن تتموضع وتستقر في أي منهما.
وإذا كان هذا النمط من النصوص "الهامشية " يشكل اليوم "ظاهرة " أدبية عالمية تتسع باستمرار مكونة تيارا أدبيا قويا وطليعيا بكل المعايير كما يقول إدوارد سعيد (ا)، فان للكتاب العرب حضورهم الخاص والمتميز في هذا السياق, إذ أصبحت بعض نصوصهم المكتوبة في المنفى بلغة المنفى جزءا من الأدب العالمي لرواجها وحسن استقبالها.
من هذا المنظور يمكننا أن نعتبر (مذكرات أميرة عربية ) التي كتبت بالألمانية في ستينات القرن الماضي، ونشرت في برلين عام 1886م، ثم ترجمت إلى الانجليزية عام 1888م، والى الفرنسية 1889م، والى الانجليزية مرة ثانية عام 1905م، بمثابة النص التأسيسي الأول في هذه التغريبة الجديدة التي مازالت فصولها تتوالى منذ سالمة بنت سعيد إلى أهداف سويف مرورا بجبران خليل جبران ومحمد ديب ومالك حداد وكاتب ياسين واندريه شديد والطاهر بن جلون وأسيا جبار وعشرات الأسماء المبدعة الأخرى.
القضية الثانية تمس ما أسميه "نص الجسد" واعني به هذا النمط من الكتابة المتحررة التي تحاول تغطية الجسد الفردي والاجتماعي والثقافي بأصناف الخطابات التي تحجبه وتغيبه وتنفيه إلى مجال المصموت عنه, واللا مفكر فيه. فإذا كان تراثنا الكلاسيكي، وخاصة الشعبي منه, مترعا بمثل هذه الكتابات الكاشفة عن أقانيم الرغبة والمعبرة عن الشوق إلى الانعتاق والحرية فان أدبنا الحديث مازال فقيرا اليها لان الجسد، وخاصة الجسد الانثوي – مازال يختزل في صورته "الرغبوية" أو في صورته "البيولوجية – الوظيفية" نتيجة الهيمنة الأبوية – الذكورية المولدة والمكرسة لهذه الصور النمطية الاختزالية.
من هذا المنظور أيضا لاشك أن النص الذي بين أيدينا يجسد ريادة ما لأنه يمثل خلخلة مبكرة لهذه الايديولوجيا، إذ لم تبدأ الكتابات التي تمارس مثل الخلخلة القوية, إن في الخطاب الأدبي أو في الخطاب المعرفي, إلا منذ عقود قليلة… أي بعد حوالي قرن كامل من كتابة ونشر هذه المذكرات الجريئة حتى من منظور كتاباتنا الواهنة (2). أما القضية الثالثة التي اريد اثارتها والحوار حولها فتتعلق بالكتابة "المختلفة " عن "الهوية والاختلاف" وهي كما نعلم, قضية إشكالية تحتل المركز من خطابنا الحديث نتيجة تطور الوعي بالحضور الطاغي للآخر الغربي في حياتنا ومخايلنا من جهة ونتيجة نمو وتعمق الوعي بحقوق الذات الفردية في علاقاتها المختلفة في المجتمع من جهة ثانية.
كذلك من هذه الزاوية تمثل مذكرات سالمة بنت سعيد مغامرة سباقة في هذا الاتجاه إذ ما إن نقرأها حتى نكتشف أنها تسمي وتوصف تجليات وآثار الوعي بهذه القضية الاشكالية بطريقة متطورة ومتقدمة عما نجده في نصوص كتاب القرن الماضي ممن تعرض للعلاقات مع الحضارة الغربية, وساهم في تأسيس خطاب (النهضة )، أو "التنوير" كما نسميه اليوم, أمثال الطهطاوي وعلي مبارك وخير الدين التونسي وأحمد فارس الشدياق وعبدالرحمن الكواكبي، ولا أبالغ إذا قلت أن سالمة بنت سعيد كانت سباقة إلى نقد الخطاب الاستشراقي وإلى تأسيس اللبنة الأولى في سياق ما يسميه الخطيبي بـ (النقد المزدوج ) ويعني به هذه الممارسة الفكرية التي تسمح للمثقف العربي بتبني رؤية نقدية جذرية تجاه ثقافة الآخر "الحديثة" وتجاه ثقافة الذات "التقليدية"، وصولا إلى بناء خطاب جديد يحرر هويته من أي انتماء منغلق لا يعبر عن معاني حضوره الخاص في الحاضر الكوني (3).
سنحاول مقاربة هذه القضايا المتعالقة باعتبارها "ثيمات" يمكن تحديدها من خلال لعبة الكتابة, وتحديدا من خلال علاقات التعارض والتكامل بين لغة الذاكرة ولغة الجسد، لأن جملة البنية النصية تتأسس على هذه العلاقات ومنها وعنها تنبثق أبعاده الدلالية الأهم من وجهة نظر هذه القراءة كما سيتضح لاحقا.
ماذا نعني بلغة الذاكرة ولغة الجسد؟. أعني بالأولى جملة المقاطع التي تحكي وتخبر عن أحداث ووقائع خارجية موضوعية عاشتها أو عايشتها الكاتبة في الماضي وهي تستعيدها "تتذكرها" لحظة تدوين النص لأهميتها المعلوماتية الوثائقية أولا وبعد كل شي ء. في هذه المقاطع, ويمثلها الفصل الأول بقوة ووضوح, يسرد الحدث بصوت "الراوية / الكاتبة" دونما تدخل مباشر فهي حتى وإن أوقفت عملية السرد لتشرح وتعلق وتقارن بين ما هو "هناك"- في وطنها الأصلي- وما هو "هنا"_ في الوطن المنفى".
أما لغة الجسد فهي ماثلة في المقاطع والعبارات التي تبوح فيها الكاتبة عن مشاعرها واحساسيها وخيالاتها, في الماضي أو في الحاضر، باعتبارها أحداثا داخلية -ذاتية تترجم عن عالم الرغبة والطموح والحلم والألم والحب والكره والخوف.. الخ. هذه اللغة تصلنا نحن القراء- المتلقين عبر صوت "الكاتبة- الشخصية المركزية" في الحكاية إذ لا مسافة هنا بين الذات والموضوع, أو بين النص وكاتبته, وهنا تحديدا تتراجع الوظيفة الحبرية, أو المعلوماتية, لصالح الوظيفة الانفعالية والتعبيرية حسب مفهوم رومان جاكبسون للوظائف المختلفة للخطاب اللغوي» (4).
ولعله من البديهي القول بأن اللغة الأولى, لغة الذاكرة, هي المهيمنة في النص نظرا لأن الأمر يتعلق بـ "مذكرات" لكن هيمنة هذه اللغة في مستوى البنية الظاهرة, أو السطحية, للنص لا تعني أنها هي الأهم في مستوى بنيته العميقة. فلغة الجسد التي ترد كمقاطع عرضية قصيرة, مكثفة ومنطوية في ثنايا اللغة الأولى هي المنبثق الأول والأهم للنص لأنها الامتداد الحقيقي والحميمي لجسد الكاتبة في متن _ جسد النص. أكثر من ذلك فإن هذه اللغة كثيرا ما تحضر كفلتات اللسان (Labsus) فتخلخل اللغة الأولى وتكشف عما تحاول اقصاءه واخفاءه وكأن الذاكرة خداعة وخوانة بينما الجسد لا ينسى كما قال فرويد. وفي كل الأحوال فإن الأمر يتعلق هنا بمستويين لغويين لذات النص احدهما ظاهر جلي هو الذي يمكن ان يستقطب اهتمام المؤرخ والباحث الاجتماعي والاناسي (الانثروبولوجي) والثاني كامن موارى هو الذي يهمنا أكثر من غيره في هذه القراءة. فالمؤكد أن سالمه بنت سعيد لم تكن تتعمد طرح القضايا التي نركز عليها هنا وإن كان نصها يطرحها علينا من خلال شفراته أو من خلال "لاوعيه" كما يمكن للقراءة النقدية الحديثة أن تعيه وتكشف عنه. وبصيغة أخرى نقول إننا هنا أمام تمييز اجرائي تبرره وتسمح به قراءتنا المسكونة بهواجسها ومشاغلها "الراهنة " وبعيدا عن مقصدية الكاتبة المعلنة من الكتابة, وسنرى لاحقا إلى أي مدى تسمح لنا عملية تفكيك لعبة الكتابة في هذا النص بتدعيم هذه الفرضيات الأولية التي سنعمل على اختبارها وبلورتها في الفقرات التالية.
(2) حكاية الكتاب فى / ضد المنفى.
الكتابة بلغة أجنبية تختلف عن (الـ) لغة الأم في معجمها ونحوها وطرائق ترميزها للكون والكائنات تجربة باهرة لكنها مأسوية وموسومة حتما بآثار العنف فهي في جوهر الأمر جزء من تجربة المنفى كمعاناة دائمة يعيشها ذلك الشخص الذي تحول طوعا أو كرها إلى "أجنبي محاصر بعلاقات يومية تذكره بغربته وهامشيته في الزمن والمكان. وأي نص يحكي تجربة المنفى والاغتراب لابد وأن ينبنى على شكل من أشكال التوتر الشديد "والمؤلم" بين لغة الذاكرة ولغة الجسد. الأولى تشده نحو الماضي المخزون في شكل رموز وصور هي كل ما تبقى من تلك الحياة الحميمية المنتقدة وتجذبه الثانية نحو الحاضر حيث يعيش الجسد الغريب المغترب في سياق شروط ووضعيات جديدة لا يمكنه الاندماج فيها بعمق واطمئنان, حتى وإن تلبس الاقنعة ومثل الادوار وصدق الظنون والتوهمات. المؤكد أيضا أن النص المنكتب في هكذا وضعية لا يشكل إلا مقطعا قصيرا من "الكلام" الذي يحلم الكاتب – الاجنبي بكتابته أو سرده أو حتى الهذيان به, بعد أن خرجت حياته كلها من نسيج الطمأنينة, الحقيقية أو المتوهمة, التي تنسجها حول الكائن لغته الأصلية وعلاقاته الأولى بفضاءات الطفولة والألفة في بلده الأصلي.
لكن هذا النص الجزئي والناقص بالضرورة سرعان ما يكتسب أهمية مضاعفة في نظر كاتبه إذ أنه يتحول إلى "فضاء بديل" هو وحده القادر على ايهام منتجه بامكانية السكني في عالمين متباعدين, مختلفين وقد يكونان متناقضين في كل شي ء. فإذا كانت الكتابة الأدبية عموما لعبة تخيلية طقسية يحاول الكاتب فيها ومن خلالها التحرر من الشروط المعتادة للزمن والمكان, فانها هنا وبالاضافة الى ذلك تتلبس بعدا انطولوجيا – سوسولوجيا، يتولد عن محاولة الكاتب اعادة تأويل معانى وجوده ومصيره الذاتي فى اتجاه الخلاص من آلام المنفى او التخفيف منها قدر الممكن والمستطاع هنا تحديدا تتحول الكتابة الى عملية ترحال دائم بين هذين العالمين فى محاولة يائسة لامتلاك احدهما والتموضع او الاستقرار فيه نعم لا وطن للمنفى غير نصه… هذا النص الذي لايمكن مهما بلغ من النجاح وحسن التلقى والاستقبال ان يشكل وطنا حقيقيا ومن هنا نتفهم معنى قول ادوارد سعيد وهو من اشهر المنفيين فى عصرنا "المنفى والسعادة لا يجتمعان".
الكتابة فى المنفى بلغة المنفى هي اذن استمرار وتجسيد لمعاناة مأسوية تذكرنا بقصة خروج – نفى ابوينا من الجنة وحلمهما وحلمنا الدائم بعدهما، بالعودة اليها، والسكني الدائمة فيها، كما يحلم كل انسان بالعودة الى وضعية الجنين المقيم باطمئنان فى رحم الام, لكن هذه الكتابة هي فى نفس الوقت من بين انجح الوسائل لتجاوز هذه المعاناة من خلال تحويلها الى موضوع للتأمل واعلاء ما تتضمنه من قيم انسانية عميقة لعل من اهمها قيمة البحث عن الحرية التي غالبا ما تكون وراء حكاية المنفى.
فهذه التجربة لايمكن ان تكون محض اختيار للكاتب لكن مأسويتها، يجب ان تتحمل بغية اعادة الهوية بل واعادة الحياة نفسها الى مكانة ادل واعمق كما يقول ادوارد سعيد(5)فالانفصال عن او التحرر من تبعات الانتماءات العائلية والوطنية والثقافية وعدم القدرة او عدم الرغبة فى تحقيق الاندماج الاستلابى فى الفضاء الثقافي الاجنبي يجعل من عملية الكتابة محاولة جدية للتعالى فوق جميع التوترات وتكريس الطاقة الانسانية الخلاقة فى الكاتب -الانسان من اجل عملية الكتابة ذاتها وباعتبارها وسيلة الخلاص وفضاء تحقيق الذات بامتياز يقول تزفتان ثودروف – وهو من مشاهير المنفيين ايضا – ان المنفى هو فضاء اللا انتماء بامتياز لكن كثيرا من الكتاب والمفكرين القدماء والمحدثين يختارون هذه الوضعية توقا الى حرية العقل والجسد واللسان وهذا تحديدا ما يميزهم عمن يختار المنفى طلبا للرزق او للمتع الغرائبية (6).
لا يحتاج الناقد العربي الى الكثير من الجهد للبحث عن نصوص تمثل فيها قصة المنفى هذه عنصر التشاكل الاساسي كما اشرنا اليه من قبل من هنا ومن وجهة نظر تاريخية, تأتى اهمية مذكرات سالمة بنت سعيد اذ انها فى حدود علمنا اول من كتب بلغة المنفى فى المنفى من الكتاب العرب والمحدثين كما ان كتابتها لقصة حياتها باللغة الالمانية تمثل سابقة فريدة من نوعها اذ ان الكتاب العرب المهاجرين او المهجرين كتبوا ومن بعدها بفترة طويلة بالانجليزية او بالفرنسية وقلة منهم من يجيد هذه اللغة اصلا وللاسباب التاريخية التي نعرفها جميعا.
يقول الاستاذ عبدالمجيد القيسي مترجم النص من الانجليزية الى العربية "واذا كان ادب التراجم فى لغة الضاد على هذه الحال من الندرة فى ادب الرجال على وفرته, فهو فى ادب النساء وهو فى حد ذاته نزر قليل بحكم المعدوم اصلا وعلى هذا فاكتشاف اي اثر عربي من هذا القبيل يعتبر ولا شك اضافة قيمة الى تراثنا النزر فى هذا الميدان خاصة اذا كان هذا الاثر قد كتبته اميرة عربية من نساء الشرق فى القرن التاسع عشر عاشت فى بيت ابيها السلطان فى أقصى بقعة حكمها العرب وهى زنجبار" (ص 11).
ومع اتفاقنا التام مع المترجم على اهمية هذا النص من هذا المنظور الادبي إلا ان القيمة الاهم التي تمثلها وتجسدها هذه المذكرات تتجاوز ما يلح عليه فى هذه الفقرة من المقدمة, فالقارىء العادى، فضلا عن الناقد المحترف, يدرك بمجرد قراءة هذه المذكرات انه امام مغامرة تكمن اهميتها الاساسية فى جرأتها وقدرتها على خلخلة الكثير من المسلمات التي استقرت فى الاذهان لطول تكرارها عن المرأة والكتابة والجسد والهوية والذات الأخرى.
انها كتابة تطال النوى الصلبة في الخطابات المهيمنة, وبعفوية تزيد من مصداقيتها ومن ثقة القارىء بل وتعاطفه العميق مع الكاتبة, فهي لم تكن تنطلق فى كتابتها من اي موقف عدائي تجاه ثقافتها وهويتها الاجتماعية واللغوية والدينية والحضارية الاصيلة وانما قادتها سلسلة من الصدف الغريبة والباهرة الى هذه المغامرة التي تحاول اعادة تدوينها وكتابتها لاغراض لا علاقة لها بالقضايا التي نثيرها نحن الأن وهنا انطلاقا من وعينا بالاهمية الاستثنائية لهذا النص.
تقول الكاتبة في مقدمة الطبعة الأولى موضحة مقصديتها من كتابة قصة حياتها ونشرها لاحقا في شكل مذكرات "انهيت منذ تسع سنوات كتابة قصة حياتي هذه وكنت قد قررت كتابتها ليقرأها من بعدى اولادي حين يكبرون فلم يكونوا فى ذلك الوقت فى سن تسمح لهم ان يعرفوا شيئا عن ماضي حياتي واصل منبتي وعن وطني زنجبار وقومى العرب "وتضيف:"وكنت فى حال من الوهن والسقم والارهاق لم اكن اتصور معها بقائى على قيد الحياة امدا يكفى لاروي لهم بنفسي سيرة حياتي ولهذا وذاك لم يكن نشرها يخطر على بال وما وافقت على نشرها مؤخرا إلا نزولا عند رغبة الاصدقاء والحاحهم"(ص 53).
وهنا لعله من الواضح ان الكاتبة كانت تعانى من قلق الخوف من الموت فى المنفى قبل ان تتمكن من سرد قصة حياتها الماضية على اولادها ولو ضمنت البقاء معهم الى حين يكبرون لاختارت ان تحدثهم مشافهة عن حياتها في وطنها الذي تحن اليه وعن قومها الذين تحبهم وتعتز بالانتماء اليهم, ما يدعم مثل هذا التأويل فضلا عن مقال الكاتبة انها لم تكن اديبة "محترفة" وانما امرأة مغتربة تعانى فوق شقاوات المنفى وقلق الموت فيه القلق على مستقبل اولادها وعلى هويتهم من جهة علاقاتهم بشجرة انسابهم الامومية.
فمن شأن هذه السيرة العائلية ان تساهم مستقبلا "انطلاقا من حاضر الكتابة" فى الاستقرار الذهني والعاطفي لهؤلاء الابناء المهددين باليتم الكامل خصوصا اذا ما ادركوا لاحقا انهم يمتون بأسباب وانساب الى أحدى الاسر المشرقية النبيلة والحاكمة وان امهم ليست مجرد امرأة عادية اتبعت نزواتها واهوالها فاغتربت عن وطنها وقومها، هنا نلاحظ ان حيوية الذاكرة تقابل وتدعم وهن وضعف الجسد المهدد بالموت فى الغربة وان نص الماضي يستحضر فى الحاضر ليشكل فى المستقبل فضاء لغويا مؤثثا بالمرايا الجميلة التي تسمح لهؤلاء الابناء برؤية ما لم يتمكنوا من رؤيته من صور الاسلاف ومأثرهم وقيمهم الحضارية, فما تختزنه هذه الذاكرة المترعة من تفاصيل يمثل عنصر حياة يجعل الجسد يقوى على مجابهة شبح الموت, بل ويؤكد استمرار يته عبر هذا النص – المتن الذي تدونه الكاتبة ليقرأه ابناؤها من بعدها، وهم ضمان استمرارية بيولوجية وجودية تنضاف الى تلك الاستمرارية الرمزية التي يمثلها النص, وحينما نعود الى مقاطع من هذه المذكرات نكتشف ان قلق الانقطاع عن الجذور عميق جدا فى وعى ولا وعى سالمة بنت سعيد حتى لكأن المنفى لعنة تطاردها كما تطارد الاقدار القاسية ابطال التراجيديات الاغريقية !.
ويمكن تفسير حرص الكاتبة على تدوين سيرتها لاولادها، فهي تعي جيدا انها سيدة وفخوره بأهلها إلا ان مغامرتها التي تولدت عن علاقاتها العاطفية – الزوجية بذلك الشاب الالماني التاجر جعلتها تجد نفسها هي ايضا مغتربة ومنفية عن هويتها الاصلية ولا تريد ان تعيد انتاج حكاية تلك الام _ الضحية فما يميز منفى عن أخر هو جملة المواقف والوضعيات التي يتخذها الشخص المنفى بوعى ومقصدية لمجابهة احواله ومصائره فقد يكون المنفى قدرا لا دخل للانسان فيه كما فى حالة الام وقد ينبنى في مرحلة منه على الاقل على قرار واختيار حر واع كما فى حالة البنت / الكاتبة هنا، فمن المؤكد ان السيدة سالمة بنت سعيد ما غامرت بالهجرة الى المانيا وتغيير اسمها وعقيدتها وجنسيتها، إلا لانها كانت تتوقع حياة سعيدة مع زوجها الالماني بعيدا عن الصراعات العائلية التي نشأت عن تنازع السلطة من قبل الابناء بعد موت ابيهم السلطان سعيد كما تسردها الكاتبة بالتفصيل فى مذكراتها، لكن موت زوجها بعد فترة قصيرة من اقامتها فى المانيا جعلها تجابه خطر الشقاء فى الغربة خصوصا وانها كانت وحدها المسؤولة عن ابنائها الثلاثة – وهم بنتان وولد – الذين انجبتهم من هذا الزواج القصير… وستتحول غربتها الى منفى حقيقي عندما تفشل كل مساعيها لمصالحة الاهل والعودة الى الوطن للحياة فيه بهدوء واطمئنان من هنا فإن جانبا من عملية الكتابة يجب ان يفسر ويؤول من هذا المنظور لا من منظور المقصدية الاولية التي تعلنها الكاتبة فى مقدمتها فحسب, فالكتابة من هذه الزاوية هي محاولة لاستعادة وتشكيل الحلم, المشروع الممكن من خلال لعبة الرموز والعلامات من اجل ايجاد ذلك الفضاء البديل الذي يسمح للذات بأن تتحقق كما تشتهي وتريد بعيدا عن سلطات العالم الخارجي القوية الاستلابية والعدائية.
ولعل أوضح واقوي دليل على وجاهة هذا البعد الوظيفي – الدلال للنص تتمثل فى عملية نشره لاحقا اذ ان رغبة الاصدقاء الالمان لاتكفى وحدها مبررا لتحويل النص من فضاء التداول الخاص الى فضاء التداول العام, فقد كان بإمكان سالمة بنت سعيد ان تهمل هذه المذكرات او ان تحرقها بعدما كبر اولادها وسمعوا حكايتها مشافهة ولمرات طويلة وبتفصيلات قد تكون أثرى واهم مما كتب فى الوثيقة العائلية الاصلية تحت وطأة الخوف من الموت والقلق على مستقبل الابناء لكن الكاتبة لم تفعل ذلك وانما احتفظت بالنص كما تحتفظ بشىء حميم من ذاتها بل اكثر من ذلك لقد سمحت لاولئك الاصدقاء ان يطلعوا بطريقة ما على مذكراتها مما يعنى انها اتخذت الخطوة الأولى والحاسمة فى طريق نشر متنها فى اوسع نطاق ممكن, وهذا ما ينسجم مع شخصيتها الذكية والقوية التي تأبى ان تحضر فى الازمنة والامكنة والعلاقات حضورا عاديا هشا ومبتذلا كما يخبرنا النص فى مقدمته فإن المسافة الزمنية الفاصلة بين زمن الكتابة وزمن النشر تمتد تسع سنوات وهذه المدة الطويلة نسبيا لابد وانها ساهمت فى تحرير الكاتبة من قلق الموت, كما ساهمت فى تحريرها من القلق على هوية الابناء ايضا فخلال هذه المدة كان اكبر اولادها على مشارف العشرين "على افتراض انه ولد عام 1867 اي بعد سنة من زواجها" واصغرهم فى سن البلوغ اذا كان عمره حينما توفى زوجها عام 1869او1870ثلاثة اشهر كما تقول هي فى مذكراتها".
اذن لابد ان مقاطع كثيرة وجوهرية من النص كانت قد فقدت وظيفتها الاصلية اذا انها بلغت ووصلت الى هؤلاء الابناء مشافهة او قراءة وبالتالي فإنه كان ولابد ان تتجه الى قواء أخرين من خارج العائلة, ومجرد اطلاع الاصدقاء الالمان على وجود هذا النص هو بمثابة القرار الشخصي باخراج الوثيقة العائلية من فضاء الخصوصية والسرية, ونحن نلح على هذا البعد الجديد للنص لانه بين العوامل التي تؤثر على قراءتنا له, فالعلاقة الاقوي تحولت هنا من محور النص _ الابناء وهو المحور الأصلى والاول الى محور النص _ الجمهور وتحديدا ذلك القارىء الالماني المفترض الذي تريد الكاتبة ان تبلغة رسالة ما، وبلغته التي امتلكت الكاتبة حد القدرة على الكتابة بها.
هذه الرسالة تتحدد من خلال وضعية الكاتبة وعلاقتها بما ومن حولها فمن المعروف جيدا ان الشخص الاجنبي او المنفى يظل محاصوا بأسئلة تذكره بغربته وها مشيته وتطالب بالكشف عن اسباب هجرته من هناك الى هنا، والانفصال عن اولئك والاتصال بهؤلاء وهكذا يجد نفسه مدفوعا باستمرار الى تبرير وضعيته الشاذة بما يعلى من قيمة التجربة الانسانية التي يعيشها ويعمل على تأويلها من منظور ايجابي، بحثا عن تفهم الآخرين له ، وكسبا لتعاطفهم معه ، وهنا تحديدا فإن عملية الكتابة بلغة المنفى تمثل فى حد ذاتها الدليل الاقوي على ان الشخص المنفى يمتلك شخصية قوية موهوبة وغير عادية ، اذ ليس فى امكان كل احد ان يمتلك شروط الكتابة الابداعية بلغته فضلا عن الكتابة بلغة اجنبية عنه قد يكون تعلمها في مرحلة متقدمة من العمر كما هو حال سالمة بنت سعيد. سنرى فى فقرة لاحقة ان هذه الكاتبة لم تكتب مذكرات عادية وانما انجزت نصا يضع الآخر نفسه موضع التساؤل والنقد مما يدل على انها ظلت وفية لروح التمرد والمغامرة حتى فى أقسى الظروف اما الان فسأناقش حكاية المغامرة ~ المغامرات التي افضت بها الى المنفى والكتابة باللغة الاجنبية عن حياتها الفنية بالتجارب السعيدة والشقية والخارجة عن المعتاد والمألوف كما سنرى.
3- حكاية المغامرة
فى الفصل الثالث والعشرين من مذكراتها تسرد الكاتبة مقاطع هامة من الحكاية التي تكشف عن بداية علاقتها بذلك الشاب الالماني الذي تزوجته وهاجرت معه وانتحلت اسمه وجنسيته وتعلمت وكتبت بلغته ، ورغم اهمية الدافع العاطفي الانساني "الحب" فى هذه العلاقة وما نتج عنها من مغامرة ، إلا انه لايكفى وحده لايضاح كل الملابسات فى هذه الحكاية التي تبدو لنا اليوم وكأنها من نسج الخيال لما تمثله من قطيعة مع التقاليد الاجتماعية .
من هنا لابد للقراءة ان تربط بين ماورد في هذا الفصل القصير المكثف وجملة النص حيث نجد فيه مقاطع متفرقة من لغة الجسد تكشف لنا ان سالمة بنت سعيد كانت منذ طفولتها مندفعة الى اجتراع كل ما من شأنه اثبات حضورها المتميز فى الفضاء والعلاقات .
وفي ظل الظروف ظروف متوترة مأزومة فى المستوى الذاتي والعائلي والسياسي شاءت الصدف ان تسكن سالمة بنت سعيد فى منزل متواضع بجوار ذلك الشاب الالماني الذي كان يعيش حياة اوروبية برجوازية صاخبة وكان يتعمد اقامة الحفلات الساهرة فوق سطح منزله لاثارة اهتمام جارته الاميرة الشابة الجميلة الثرية والمأزومة .
من جهتها لابد انها كانت تبحث عن مخرج من هذه العزلة فى هذا السكن المنفى، حيث كانت عملية اتصالها بالعالم الخارجي تتم تحديدا عبر سطح الدار او عبر نافذة فى الجدار، كما تشير اليه فى مذكراتها هكذا تلاقت الاهواء والصدف من الجانبين ليندفعا الى لقاءات كثيرة تحول فيها الاعجاب المتبادل الى علاقة حب قوية لاتخبر عنها الكاتبة شيئا(7).
والافريقية الزنجية الوثنية والاوروبية الغربية المسيحية مما يجعل هيمنة المرجعية الثقافية العربية التقليدية على هذا المجتمع ضعيفة وان حكمت ووجهت ايديولجيا السلطة والمؤسسة الرسمية ولعل اهمية هذا العامل تتأكد اكثر فأكثر اذا ما تذكرنا ان سالمة بنت سعيد هي ذاتها هجينة ولابد ان الامور ستختلف قليلا او كثيرا لو انها كانت تنتمي من جهة الام الى اسرة عربية عريقة تربطها بعلاقات خؤولة تقليدية قوية وصارمة او "قامعة" فمن المعروف جيدا انه لهذا السبب تحديدا كانت النساء الحرائر طوال تاريخ الحضارة العربية الاسلامية كثيرا ما يتمنين وضعيات الجواري او من فى حكمهن لانهن ينلن من هوامش الحرية ما يسمح لهن بتحقيق الذات بعيدا عن سلطة هذه العلاقات القبلية الضاغطة (8).
ورغم اهمية كل هذه العوامل إلا ان العامل الاهم والاقوي والحاسم يكمن فى شخصية سالمة بنت سعيد والتي وصفناها بأنها كانت شخصية قوية متمردة وذكية وغير عادية منذ طفولتها فأولى واخطر تجليات هذه السمات تتضح فى كونها الوحيدة بين اخواتها التي استطاعت ان تتعلم القراءة والكتابة وبشكل سرى كما تقول "ص 104" فالأعراف والتقاليد السائدة آنذاك والى وقت قريب فى مجتمعاتنا العربية كانت تحرم النساء من امتلاك ادوات هذه اللعبة الخطيرة لان امتلاك ادواتها تسمح للكائن بالمشاركة فى عمليات تأويل الذات والأخر والعالم من منظوره الخاص .
تقول الكاتبة : بدأت اتعلم الكتابة بنفسي وبطريقة بدائية جدا، وكان على ان اعمل هذا بالسر والكتمان ، فما يجوز لامرأة ان تتعلم الكتابة او تعلن معرفتها بها…. ولكن بعد مرحلة معينة كان لابد من وجود معلم يعلمني اصول الخط ، وقد عهدت الى احد عبيدنا المتعلمين شرف تعليمي اصول الخط ، ولكن امري سرعان ما انكشف للجميع فثارت على زوابع اللوم والتقريع وحملات السخرية والاستخفاف ولكني لم احفل بها
ولم تفل من عزيمتي شيئا فمضيت فى دروسي حتى اتقنتها (~ 104) وتزداد اهمية هذه الخطوة التي انجزتها سالمة بنت سعيد كما اشرنا الى ان لعبة القراءة والكتابة لم تكن متاحة دائما للمرأة حتى فى المجتمعات الغربية آنذاك واول فتاة فرنسية تنال شهادة البكالوريا كانت فى الستينات من القرن الماضي، اي انها معاصرة للكاتبة _ وعانت الكثير فى سبيل ان تعترف لها المؤسسة الرسمية بهذه الشهادة الخارجة عن قوانينها.
فى كل الاحوال فإن اجادتها للقراءة والكتابة بالعربية امنت لها وسيلة تواصل مثلى خلال اقامتها فى المانيا، حيث كانت تسمح لها بإرسال واستقبال الرسائل مع المخلص من اقر بائها واصدقائها كما تقول ( ص 104).
كما ان هذه المهارة الذهنية المتطورة لابد انها ساعدتها على تعلم القراءة والكتابة بالالمانية وهو الانجاز الذي تمكنت بفضله من كتابة مذكراتها الجريئة التي بين ايدينا، والتي لم يكن من الممكن ان يكتب وينشر مثلها باللغة العربية لفرط جرأة المغامرة التي تحكيها.
فالتفكير والكتابة بلغتين مختلفتين تجربة وممارسة باهرة ولابد انها جعلت سالمة بنت سعيد تحس وتعي انها شخصية يجب ان تخلد وتبقى من خلال اثرها الخاص لا من خلال امتدادات الجسد البيولوجي _ الوظيفي ولا من خلال ما يمكن ان يحكيه عنها الآخرون ، من هنا حرصت على اعادة تدوين وتأويل قصة حياتها من منظور وعيها الجديد الحديث والمتطور عن الوعى السائد آنذاك فى وطنها الأصلى ، وفى عموم الفضاء العربي فى القرن الماضي لتتحول مغامر تها من مغامرة سلبية من منظور الخطاب التقليدي بالامس واليوم الى تجربة انسانية مثيرة للدهشة والاعجاب و التعاطف من وجهة نظر الفكر الحديث ومهما اختلف القارىء معها فى مواقفها من هذه
القضية او تلك .
كما تتجلى ملامح شخصيتها القوية وغير العادية فى حرصها منذ طفولتها على منافسة الاولاد الذكور على اشكال لعب أخرى كانت هي ايضا مقصورة على الرجال ، فهي تحكي فى مذكراتها انها كانت مولعة برياضة الفروسية ، وقد اوشكت ان تذهب ضحية هذه الرياضة ذات يوم لولا ان غامرت وقفزت من فوق ظهر الحصان قبل ان ترتطم بفروع أحدى الا شجار التي اعترضت طريقها كما تقول (ص 158) انظر ايضا مغامرات أخرى لها(ص 98) .
وقد تبدو الاشارة الى هذه الهواية وتلك الحادثة بدون دلالة تستحق الوقوف عندها من جهتنا لكن تأملها فى سياق ما نحن بصدد مناقشته يكشف لنا اننا امام لعبة لا تقل خطورة عن غيرها فالنسق الثقافي العربي التقليدي يرفض مثل هذه
الممارسة من قبل المرأة ودليل ذلك ان أحدى المرجعيات المعبرة عن هذا النسق تؤكد ان من علامات آخر الزمان ان تركب ذوات الفروج السروج ، ولامر ما كانت العرب تخصص للنساء الهودج المحمول على ظهر جمل او ناقة لان ركوبها على ظهور الخيل يهددد صورة الجسد الانثوي الحساس والهش كما تمثله وتقدمه الايديولوجيا المنبثقة عن هذا النسق ومن الدال القوى فى هذا الشأن ان كل او جل الالعاب الرياضية فى بعض مجتمعاتنا العربية التقليدية مازالت ممنوعة عن المرأة ، إما باسم الدين او باسم قيم الاخلاق والشرف العربية التي تحرس الجسد الانثوي كي يظل متطابقا مع الصورة النمطية الاختزالية التي يحتفظ بها له "المخيال الذكوري" السائد (9).
وفى كل الاحوال فإننا ما ان نستقرىء الدلالة العامة لكل هذه المغامرات التي تحكيها الكاتبة نفسها وبنبرة اعتزاز كبير حتى ندرك ان سالمة بنت سعيد لم تكن شخصية عادية بأي معيار ومن اي منظور قاربناها.
فاذا كانت الظروف والتقاليد والانساق الايديولوجية السائدة قد وضعتها فى مرتبة دنيا كبنت لجارية او امة وكإمرأة وكإنسانة منفية مغتربة إلا انها كانت وفية لجسدها بابعاده العاطفية والفكرية والحضارية اكثر من وفائها لاي سلطة بل وضد كل سلطة تقف ضد هذا الجسد وتعوق حضوره فى الزمان والمكان والعلاقات .
من هنا تحديدا لا غرابة ان تجترح مثل هذه الكاتبة هذه المغامرة التي افضت بها الى الهجرة فى سبيل تحقيق ذاتها الفردية المستقلة وحتى اذا تحولت هجرتها الى منفى قاس ومؤلم لم تهن ولم تضعف ، بل ظلت تعانى الشقاوات والألأم لترتفع بمصيرها فوق المعاناة والمكابدة .
نعم قد يقال ان مغامرتها لم تكن مسيجة بالوعى الذي كان من الممكن ان يحميها من الاستلاب فى الهوية المستلبة التي فرضت عليها تغيير اسمها وعقيد تها وهويتها الاصلية لكن بساطة واصالة هذا الوعى العفوى تتحول الى مصدر قيمة عليا لصالح الكاتبة اذ ان ذلك التحول نحو هوية الآخر لم يتم إلا فى مستوى الشخصية الاجتماعية الجديدة التي انتحلتها الكاتبة فى سياق منطق عملي ذرائعي وعابر او سطحي اما فى مستوى الشخصية العميقة او الشخصية القاعدية بمفهوم "كاردفر" فقد ظلت الكاتبة وفية لهويتها الاصلية التي انفصلت عنها ثم اتصلت بها من منطلق وعى جديد سمح لها بطرح قضية الهوية والاختلاف من هذا المنظور الجديد والمتطور كما سنناقشه فى الفقرة التالية .
4- حكاية الوعى بالاختلاف
لعل من الظواهر الاكثر مأسوية وخطورة فى وضعية الاجنبي او المنفى هو ذلك الازدواج والانشطار او التصدع الذي يمكن ان يطال ذاته وهويته نتيجة التوزع بين ثقافته الاصلية وثقافة المنفى خصوصا حينما يمثل هذه الاخيرة بعمق ودونما وعى بالاثار المترتبة على ذلك ، فالثقافة الاجنبية الغربية هنا هي التي ولدت مثل هذه الوضعية الذهنية النفسية الخطيرة فى النماذج البشرية الواقعية او المتخيلة التي نجدها فى اوديب لطه حسين وقنديل ام هاشم ليحيى حقي وموسم الهجرة الى الشمال للطيب صالح والمغامرة الملتبسة للكاتب السنغالي شيخ حميدو كان ( 10) .
بل ونجد مثل هذا الاحساس بالتصدع وانشطار الذات فى النصوص الفكرية لادوارد وتزفتان تودوروف وعبد الكبير الخطيبي كما نجدها فى "مذكرات اميرة عربية " لسالمة بنت سعيد، لكن عملية المثاقفة هذه وان كانت تورث حتما تغيرا وتحورا في نظرة الكائن للظواهر والعلاقات والقيم ، تولد ايضا تطورا في الوعى وحدة فى الرؤية النقدية ويهذا تكون مجدية فى عمليات تفكيك واعادة بناء الوعى بالذات والآخر بغض النظر عن المكاسب والخسائر التي تفضى اليها على المستوى الفردي الذاتي (11) .
فالكاتب الذي عانى من مرارة والآم التجربة كثيرا ما يعمل من خلال كتاباته ، ان بلغة المنفى او بلغته الاصلية ، على كشف وفضح جوانب الخلل والضعف ، ان فى مجتمعه الأصلى او فى مجتمعه الجديد، ويهذا يستحث المتلقى هنا وهناك على ضرورة التدخل لاحداث تغيير ما فى الوضعيات والعلاقات .
فى حالة سالمة بنت سعيد يبدو فى المستوى الظاهر ان حالة الازدواجية والاستلاب قد بلغت ذررتها اذ لحق التغيير والتحوير اسمها فاصبحت تدعى اميلي روش وعقيدتها اذ اصبحت مسيحية كاثوليكية وجنسيتها اذ اصبحت مواطنة المانية اي انها اصبحت منفية فى الاسم الاجنبي وفى الديانة الاجنبية وفى الهوية الوطنية الاجنبية .
لكن من يقرأ سيرتها بعين نقدية فاحصة يدرك ان هذه العمليات انما تمت فى مستوى الظاهر فحسب وبالتالي لا غرابة ان امتها لم تبلغ تلك الذورة المأسوية حقا التي تصورها الاعمال الروائية التي اشرنا اليها من قبل فكتابتها مترعة بالاشارات والعبارات التي تدل على نجاحها فى الاحتفاظ بتوازنها الداخل العميق من جهة وعلى بلورتها وامتلاكها لرؤية جديدة تجاه ثقافة الذات وثقافة الآخر بعيدا عن الارتهان لأي هوية منغلقة .
ولعل اهم عامل وراء هذا التوازن الفكري والعاطفي هو ان الكاتبة لم تكن منبهرة بالثقافة الغربية التي لم يكن لديها اي فكرة مسبقة عنها قبل هجرتها الى المانيا وبالتالى فإن تمثلها جوانب من هذه الثقافة تحقق بشكل تدريجي وفى سياق تجربة معيشية قاسية فى كل المستويات اكثر من ذلك فإن تمثلها لهذه الثقافة فى اطار هذه التجربة جعلها تبدو وكأنما تعيد اكتشاف اهمية انتماءاتها الاثنية السوسولجية "العربية" وتعلقها بفضائها الأصلى الوطني والحضاري واعتزارها بهويتها الثقافية العربية الاسلامية كما تعبر عنه فى مقاطع كثيرة من مذكراتها وهذه بالتأكيد نقطة غاية فى الاهمية اذ ما ان نعاين كتابتها من هذا المنظور حتى نستكشف بعدا جديدا يكمن وراء عملية الكتابة ذاتها.
اشرنا سابقا الى ان المقصدية الاصلية او المعلنة لهذه المذكرات كانت تتحد بتدوين الوثيقة العائلية ليعرف ابناء الكاتبة لاحقا شيئا عن اصولهم وجذورهم العائلية والحضارية من جهة الام ، كما اشرنا فى فقرة أخرى الى ان الكاتبة كانت تتوجه الى قارىء الماني مفترض لتبلغه رسالة تؤكد فيها اختلافها عنه وان تمثلة جوانب معينة من هويته الثقافية هذا البعد الاخير تحديدا يهمنا اكثر من غيره لانه تدخل حتما فى عملية تشكيل النص بصورته الحالية التي بين ايدينا فرغم انها لا تشير الى انها احدثت اي تعديلات على النص الأصلى حينما قررت نشره .. لكن من المؤكد ان مثل هذه التعديلات قد حدثت بطريقة او بأخرى.
ثم انها تصرح فى مقدمتها بأنها اضافت الجزء الاخير المتعلق برحلتها الى زنجبار، ومن المنطقي جدا ان مثل هذه الاضافة هي جزء من التعديلات التى لحقت بهذه المذكرات التي تحولت فى سياق عملية النشر، عن وظائفها ومقصدياتها الاصلية تحولا يكاد يكون جذريا كما رأينا.
بصيغة أخرى يمكن القول بأن الكاتبة لم تكتفب بتدوين سيرتها العائلية سواء اتجهت بخطابها الى القارىء الالماني او الى قارىء آخر محتمل ينتمى الى تلك النفوس الحبيبة فى وطنها الاصلي .
وهناك وقائع اسلوبية كثيرة فى النص تكشف لنا ان الكاتبة كانت تعمل بوعى مسابق لزمانها بالتأكيد على نقد وتفكيك سلسلة من الصور النمطية والاحكام المسبقة والاستيها مات الرومانسية الحالمة حينا والعدائية حينا اخر التي تملأ وتغذى خيال القارىء الالماني والغربى فى كل مرة يكون موضوع خطابه "الشرق العربي الاسلامي" او "الجنوب" كما تسميه الكاتبة بدقة اكبر.
فهي لا تكتب لمجرد توثيق سيرتها العائلية ولا بغية تسلية لقارىء الغربى بسرد العجيب والغريب كما يفعل الرحالة والسياح والمخبرون الغربيون ، على العكس من ذلك فهي تجتهد فى خلخلة وهدم هذه اللغة الاستشراقية التي كانت رائجة آنذاك وتحاول ان تنقل صورة واقعية عن اهلها وقومها وثقافتها وحضارتها الاصلية ، بل وتتعمد فى مقاطع كثيرة مجابهة لقارىء الالماني او الغربى بحقائق وأراء ومواقف تخرجه عن لغته ومركز يته العرقية _ الثقافية ليشعر مثلها ببعض معانى الاجنبية والغربة والمنفى.
وتوحى نبرة السخرية الهجائية التي تنضاف الى النبرة النقدية فى نصها، بأنها كانت على ثقة فى قدرة خطابها على تأمين هذه الوظائف الجديدة فهي تكتب بلغة القارىء الالماني عن عالم عرفته وخبرته اكثر منه ، ولا غرابة ان تلح على اختلافه عن عالمه المألوف ، وعن الصور المسبقة التي يمتلكها عن ذلك العالم البعيد المجهول .
فقد اكتشفت ان الثقافة الغربية الراقية لم تجعلها هي نفسها بمنجاة من ضروب الاستغلال والغش مما جعلها تتوجه بنبرة نقدية لاتخلو من الشكوى الى اهلها فى ذلك الوطن البعيد القريب قائلة أديا ايتها النفوس الحبيبة الصافية فى بلادي انعمى بجهلك معارف الكيمياء والفيزياء وفلسفة اليونان ثقافة الغرب فانكم لا تستطيعون ان تتصورا ما يرتكب هنا من اعمال الدس والدناءة باسم الثقافة السامية "(ص 194_ 195) .
"وانني لأقولها بكل صراحة وصدق بإنني لم اتعرض فى كل حياتي لاسوأ ضروب الابتزاز والاستغلال وادني اساليب الغش والاحتيال كما تعرضت لها بعد اتقاني كنوز المعرفة الاوروبية مع الاسف على ايدي اربابها واساطينها"(ص 128 ).
كما تشير بنبرة نقدية اكثر عمقا وهدوءا الى مظاهر تحلل تفكك العلاقات الاسرية فى الغرب ، حيث يضطر الاباء الى العمل الشاق المتواصل لتأمين حياتهم المادية تاركين اولادهم تحت رحمة المدرسة كمؤسسة رسمية تحولهم الى كائنات بلا قيم روحية وعاطفية لان هدفها هو تأهيلهم كأداة انتاج وقوة عمل فى نمط الحياة البرجوازية التي كانت فى اوج اشتعالها فى عموم اوروبا آنذاك .
تقول الكاتبة بهذا الصدد "وعلى كل حال فالأطفال هنا تحشى ادمغتهم بأكثر مما تستطيع ان تستوعب وتستنفد المدرسة جل نهارهم يقضونه فى الهرولة من درس الى أخر ليحشوا ادمغتهم بأمور لا نفع فيها وكأن كل الهدف ان يبعثروا اوقات هؤلاء الاطفال فاذا عادوا الى البيت شغلتهم الواجبات المنزلية والتحضير لدروس اليوم الثاني جل المساء فلايراهم ابواهم فى اليوم إلا لماما، فافتقدت الحياة العائلية وانفقد التأثير الابوي المستمر والتربية البيئية وبفقدان هذه وتلك يتعرض اطفال النشء الجديد الى مخاطر شتى" ولعل ما يزيد من حدة النقد هنا ويعمق دلالاته ان الكاتبة تموضعه فى سياق الصراع الحضاري الذي شنه الغرب الاستعماري على غيره من الفضاءات لا على الفضاء العربي الاسلامي فحسب ، فالشماليون "الذين يملكهم الغرور ينظرون باستعلاء وازدراء لسكان المناطق الاستوائية" كما الى غيرهم معتمدين على "اقوال السائحين الذين يعبرون البلاد عبورا خاطفا والذين يستقون معلوماتهم من اصحاب الحانات فحسب " كما تقول (ص 108).
لا غرابة اذن ان تتألم لوضعها الخاص وللوضع العام اذ ترى الاوروبيين يتحاملون على الاسلام والمسلمين بشتى الاساليب ويوجهون اليهم شتى التهم .
ولعل ما يعطى لهذه الاراء والمواقف والاحكام مصداقية اكبر من وجهة نظرنا اليوم ان الكاتبة تتعرض فى مقاطع أخرى لنقد الذات الحضارية التي تنتمي اليها تقول أدلا استطيع بأية حال أن انكر ما فى الكثير من عادات الشرق من التزمت والتطرف ، ولكن هل تخلو اوروبا منها؟ فهناك العزل بين الجنسين وهنا الاختلاط والاباحة هناك التستر والحجاب رغم الحر وهنا فى بلاد البرد نجد الصدر المكشوف والسيقان العارية فالامر إذن يتعلق باختلاط ثقافي لايبرر الحكم المعياري على هؤلاء او على اولئك من منظور التراتبية في "كلا الطرفين لم يكتشف القاعدة الذهبية ، اي التوسط والاعتدال " كما تقول الكاتبة (ص 219) .
هكذا يبدو ان الكاتبة استوعبت جيدا اللغة والثقافة الاجنبية وأكتسبت بالتالي فى سياق هذه المثاقفة "المؤلمة" وعيا جديدا اكثر تطورا وعمقا مما كان عليه الوعى السائد لا فى زنجبار او عمان وحدهما وانما فى عموم الشرق العربي.
من هذا المنظور تدرك الكاتبة ان ما كل يقوله الغرب او الشمال عن الشرق او الجنوب ليس عاريا من الصحة فى ظل التخلف والظلم والانحطاط السياسي الناتج عن تقليب المصالح الفردية او العائلية الضيقة على مصالح المجتمع والوطن والامة ، لكن هذا لايعنى ان كل ما يقول الغربيون او الشماليون صحيح ، او ان كل ما يثيرونه من انتقادات تجاه مظاهر الضعف والتخلف والانحطاط فى الشرق او فى الجنوب ينبثق من رغبتهم فى خدمة الانسان هناك والدفاع عن القيم والمثل الانسانية التي تحرم منها بعض الفئات فى تلك المجتمعات فاهدافهم الحقيقية غير المصرح بها، هي تبرير استعمارهم واستغلالهم للآخر الذي ينظر اليه من منظور المصالح الغربية أولا وبعد كل شىء وهذا ما ينفى عن نقدهم المصداقية والمشروعية كما تصرح به الكاتبة فى مواضع كثيرة من نصها.
وفى كل الاحوال فإن المقاطع التي تهيمن فيها هذه النظرة النقدية للذات قليلة بالنسبة لغيرها لان المنفى مرآة تكشف للجسد الخاص والعام عذابا ته وتشوهاته ، ولذا لا مناص من تحويل نص الذاكرة الى فضاء حلمي ملىء بالمرأيا السحرية التي تبيح للمنفى الهروب اليها ليرى فيها ابهي صوره وملامحه تقول "فمع أنى اصبحت مواطنة المانية من سكان هذا الشمال القارس إلا انني خلال هذه المدة كنت اعيش بافكاري ومشاعري فى الجنوب … بعيدا جدا عن المكان الذي اسكن واعيش فيه" (ص 301).
انها اذن تحنو على ذلك الوطن البعيد – القريب لانها تحبه وتحن اليه ولا غرابة بالتالي ان تقتصد فى نقده حتى لاتتفتت الصورة الحلمية- المثالية بين يديها فتزداد غربة وشقاء.
فهي تعي جيدا ومن خلال تجربة معاناة قاسية وطويلة ان الوضعيات المختلة فى مجتمعها الأصلى هى بين عوامل الضعف والتفكك التي سهلت عمليات الاختراق السياسي والاقتصادي الغربى له ولذا فهي تحذر "تلك النفوس الحبيبة" فى وطنها الأصلى من الاختراق الاخطر الذي يمكن ان يتم فى المستويات الثقافية والاخلاقية والروحية ولو ان الكاتبة وقعت تحت سطوة الاستلاب او الاغواء الغربى كما سيسميه "اندريه مالرو" لاحقا (12) لحولت نفسها وتجربتها الى نموذج لما ينبغى على الأخرين والأخريات خصوصا فى وطنها الأصلى فعله ، لكنها لم تفعل ذلك لانها عانت الكثير فى المنفى وخبرت تجارب مؤلمة وصادمة ولدت فى نفسها الوعى بضرورة التشبث باختلافات لان معرفتها بالثقافة الحديثة ممثلة رمزية فى الكيمياء والفيزياء كما تقول ~ لم يجعلها تنجو من اشكال الاستغلال والغش من قبل الالمان .
ولعل فى أوراقها الخاصة التي مازالت محفوظة ضمن الارشيف السرى لمكتبة هامبورج ولا يسمح لاي كان بالاطلاع عليها ما يكشف ويفضح ابعادا أخرى لتجربتها وخصوصا فى المستوى السياسي.
وحينما تناقش حالات ووضعيات محددة كقضايا تعدد الزوجات والحجاب الذي يغطى المرأة رغم حرارة الجو الخانق ونظام الرق وخصوصا فيما يتعلق بالرقيق الاسود تؤكد ان في المجتمعات الغربية مظاهر مقابلة لايمكن اعتبارها بمثابة الحل ، ذلك لانها تمثل الحالة النقيض والمرفوضة بالتالي كتفشى العلاقات الجنسية خارج اطار الزواج وحرص المرأة على الملابس التي تبدى مفاتن الجسد الذي تحول الى موضوع للاغراء وتحول فئات عريضة من المجتمع الى عمالة بائسة مهضومة الحقوق الخ .
وباختصار فهناك تطرف وهنا تطرف ، وكلا الطرفين لم يدركا القاعدة الذهبية التي هي التوسط والاعتدال ، كما تقول الكاتبة ، بوعى عميق هو ثمرة التجربة القاسية والفنية التي خبرتها فى وطنها الأصلى ثم فى وطن المنفى (ص 220) .
وهنا ربما يقال ان معاناة الكاتبة خلال هذه التجربة وعدم اطمئنانها الى علاقات ورموز هويتها الجديدة وحنينها الدائم الى وطنها الأصلى جعلتها تبالغ فى نقد ثقافة الآخر وتبرير ثقافة الذات الى الدرجة التي تبدو معها وكأنها تسوغ الوضعيات والعلاقات التي عانت هي ذاتها منها قبل تغر يبتها، وربما كانت ستعانى منها اكثر فاكثر لو عادت الى وطنها الأصلى بوعيها الجديد المكتسب خلال هذه التغريبة .
مثل هذا القول مبرر، ولا شك ، ويمكن ان يفسر ايضا بأن معاناة الجسد المنفى تجعل بقايا صور الوطن الاصل وذكريات العلاقات الأولى بالاهل تتحول الى مرأيا سحرية ترى فيها الكاتبة اجمل الاوهام والاحلام خلاصا من وطا ة كوابيس او حقائق الحياة اليومية في فضاء المنفى واهمية مثل هذا التفسير البسيكولوجى انه يجعلنا نتفهم خطاب سالمة بنت سعيد لا كحالة فردية وانما كظاهرة عامة اذ لم نزل الى اليوم نجد شواهد وامثلة تؤكد انه كلما زادت وطأة المعاناة والاحباط على الجسد الكائن في بلد المنفى شكلت الذاكرة مهربا وملجأ للشخص المنفى، والبلد الأصلى الى فضاء رمزي استيهامى ملون بكل الاماني والرغبات والخيالات التي تخفف من آلام الغربة وتسمح للمنفى بالسكني فى هذا العالم المحلوم والمفتقد فى ان.
وفى هذا السياق التفسيري نفسه علينا ان نتذكر ان الكاتبة لم تتنكب دروب المنفى الوعرة انطلاقا من وعى والتزام مسبق بقضايا فكرية او سياسية او اجتماعية محددة ، وانما اندفعت الى هذا المصير بمغامرة عفوية على امل الخلاص من التوترات والازمات التي رأينا ولم يكن يخطر على بالها ان هجرتها ستتحول الى منفى بعد موت زوجها لا غرابة اذن ان تظل واقعة تحت سطوة الحنين الى الوطن والاهل وان تعبر عن مشاعر سعادتها الغامرة فى تلك المقاطع الأسرة التي تحكي فيها وقائع زيارتها القصيرة واليتيمة الى الشرق او الجنوب وتحديدا فى الفصل الخامس والعشرين كما اشرنا اليه سلفا، فما ان وصلت الى الإسكندرية حتى شعرت انها تعود الى جنتها الأولى المفقودة ، اما حينما وصلت الى زنجبار فقد بلغت السعادة والمأساة ذورتهما اذ ان هذه الانسانة المتشوقة الى كل ما ومن فى وطنها لم تستطع حتى مجرد الكلام مع البشر الذين توافدوا لرؤيتها واستقبالها ذلك لان الزيارة تمت فى سياق ملابسات وتوترات محلية وخارجية حرمتها من الاحساس بأن حلمها قد تحقق ، تقول الكاتبة بنبرة مفعمة بالصدق والعمق ، "وما ان وطئت قدماي ارض الإسكندرية وصرت بين مساجدها ومنابرها ونخيلها حتى طغى على شعور غامر بالشوق والحنين للاهل والاوطان ، شعور لا يعرفه إلا من كابد مثلى الغربة عن بلده هذه السنين الطوال وشوق لايحس به إلا من عانى مثلى الظروف النحسة التي عانيتها ، فها هي عينياي تكتحلان برؤية الجنوب العزيز بعد غياب دام تسعة عشر عاما مليئة بالاو صاب والهموم وبلوعة الذكرى وحرقة الشوق والحنين" (ص 300-301)
وعن لحظة اقترابها من وطنها زنجبار تقول :
"وقد سلب لبي هذا المنظر الرائع منظر البحر وارض الوطن العزيز وكأن ارق الليل وفيض العاطفة وجيشان الفكر واضطرام الفؤاد قد جعل منى روحا رقيقا شفافا فرحت اتأمل المنظر حتى غبت عن الوجود فى تأملات وذكريات" (ص 305).
فاذا كان حلمها الأولى بالسعادة فى المنفى قد انكسر بعد تحققه بفترة قصيرة بعد ثلاث سنوات تحديدا فإن هذا الحلم الذي طالما انتظرته قد انكسر لحظة تحققه والاكثر مأسوية فى هذه الوضعية القاسية ان الكاتبة كانت تعي جيدا ان زيارتها هذه لم تكن لتتم إلا بعد ان وافقت تحت ضغوط على ان تتم الزيارة بسرعة ودون ان تبادر الى اي شكل من اشكال الاتصال المباشر باقربائها واصدقائها كما تشير اليه فى الاجزاء الاخيرة من مذكراتها.
فالكاتبة كانت تدرك لحظة كتابة هذه المقاطع المضافة الى النص الأصلى ان مصيرها فى المنفى قد حسم وان عليها ان تظل معلقة موزعة متوترة بين المواقف والمشاعر والفضاءات والعلاقات لاتستطيع ان تتصل بطريقة حميمة بأي هوية ولا تستطيع ان تنفصل بشكل جذري عن اي هوية ولم يبق امامها سوى التشبث باختلافها وفرادتها.
الشىء المؤكد والجميل ان نصها الذي تحول الى مسكنها الرمزي الوحيد والحميم لا يشى بأي نبرة تدل على انها استسلمت لدور الضحية التي تشكو وتستعطف فقد كانت بالعكس من ذلك تعي وتستثمر جوانب القوة الخلاقة فى شخصيتها حتى وهى تقف وحيدة فى ذروة المأساة ولعل الشاهد الاكبر والاهم على هذا الوعى وهذا الموقف هو هذا النص الرائد الغنى الجميل الذي نحاوره ونحتفل به كجزء من تراثنا أو كجزء من ذاتنا التي كلما امعنا فى نفيها امعنت فى ندائنا نحو افاقها القصية والجميلة .
هوامش وملاحظات :
في الفقرات السابقة من هذه القراءة ، لم نكن نهدف إلى تبرير المغامرة المدهشة التي باشرتها سالمة بنت سعيد ودونت اجزاء ومقاطع منها في مذكراتها إذ الأمر يتعلق بحوادث أصبحت في ذمة الماضي الذي ذهب ولم يزل يبتعد عنا أكثر فأكثر كل يوم ولحظة .. كما إن غايتنا لم تكن تتجه إلى قراءة لكل الثيمات والابعاد الدلالية لهذا النص الغني والريادي والذي اعتقد أنه يستحق أكثر من قراءة ، ففي نفس الوقت الذي نشرت فيه هذه المذكرات كان خير الدين نعمان بن أبي الثناء يذكرنا بجاهليتنا إذ يقول في كتابه : "الاصابة في منع النساء من الكتابة".. أما تعليم النساء القراءة والكتابة فاعوذ الله إذ لا أرى شيئا أضر منه بهن ، فإنهن لما كن مجبولات على الغدر، كان حصولهن على هذه الملكة العظيمة من أعظم وسائل الشر والفساد.
فمثل النساء والكتب والكتابة كمثل شريك سفيه تهدي اليه سيفا أو سكير تعطيه زجاجة خمر فاللبيب اللبيب من الرجال من يترك زوجته في حالة من الجهل والعمى!!.
وقد اشرنا في قراءة سابقة أن المرأة في ثقافتنا يفضل ان تكون صموتة وان لم يكن ذلك ممكنا فالأفضل أن تتكلم في فضاءات سرية وإن كتبت فالافضل أن تكون كتابتها مقنعة ومحجبة لان مشار كتها في تسمية الاشياء وتأويل الظواهر والعلاقات تهدد النوى الصلبة في الايدلوجيا الذكورية السائدة. .
ولا شك أن الجهات الرسمية في سلطنة عمان ، ممثلة في وزارة التراث القومي والثقافة تستحق منا وقفة اكبار وشكر على تبنيها لهذا المشروع وعودة هذا النص إلى فضائه اللغوي الثقافي الأصلي والحميم .
( 1) الكومل- 124 – 1983 . "تأملات في المنفى" إ. سعيد . ص 9وما بعدها.
(2) اشير هنا إلى الدراسات المعرفية الجديدة والمعمقة التي نطالعها في سلسلة "مقاربات" – المغرب – وفي مجلة "الباحثات"- بيروت – ومجلة "هاجر" – مصر- ومجلة «الكاتبة » – لندن – هذا على سبيل التمثيل لا الحصر – وكلها اصدارات ظهرت في السنوات القليلة الماضية فحسب ولا شك أن دراسات فاطمة الرئيسي تعتبر نموذجا رائدا في هذا السياق .
(3) راجع كتاب "النقد المزدوج" للخطيبي، ترجمة أدونيس ، عبدالسلام نبعبد العالي زبيدة بو رحيل ومحمد براده . دار العودة (بيروت – 1980 ).
(4) من البدهي أن نقول إن "لغة الجسد" هنا اصطلاح مجازي إذ من المحال أن يقصد بهذه اللغة تعبيرات الجسد الحركية كلغة حقيقية للجسد إذ الأمر يتعلق بلغة الجسد بالمعنى الثقافي لا بالمعنى الحسي المادي للجسد.
(5) الكومل : مرجع سابق .
(6) راجع : Nous et les Autners T. Todorov,Seuil , Paris 1989.
القسم الرابع من الكتاب بعنوان "الغرائبية . ص 595 وما بعدها 1989 .
(7) لا يكاد يخلو نص روائي "رجالي" من التفنن في سرد هذه المغامرات التي تختفي تماما من كتابات المرأة حتى في أدب غادة السمان ، وإذا كانت هناك كاتبات بدأن يتحدثن عن هذه الثيمة بوضوح وجرأة ،كحنان الشيخ فان الامر مازال في طور الارهاصات أو "التعبيرات الأولية".
(8) لعل مجرد الاطلاع على ألف ليلة وليلة وكتاب "الجواري والغلمان" للجاحظ ، و "الاغاني للاصفهاني" و "يتيمة الدهر" للثعالبي يكشف عن مجال الحريات الواسع الذي كانت تتحرك فيه الجواري ويحققن ذواتهن من خلاله وفيه بعد أن حرمن وضعية المرأة الحرة والمكبلة بحريتها "الاسمية" أو "الشكلية".. وهنا دلالة التناقض بين التسميات والوقائع .
(9) هذه الصورة النمطية لجسد المرأة لا شك انها عريقة في ثقافتنا ما قبل الاسلامية وما زالت مستمرة في اليوم حيث مازال التفريق بين الجسدين المؤنث والمذكر قائما وصارما في مجالات كثيرة إن في مستوى لعب الأطفال أو في مستوى الممارسة الرياضية للكبار كالفروسية وألعاب الجمباز ووحدها الثقافة الشعبية تسمح للمرأة بالتعبير عن مشاعرها من خلال الرقص كلغة جسدية .
(10) ترجمت الرواية الى العربية بعنوان "المغامرة المعقدة" وهي ترجمة وحيدة لم يعد لها أثر في الأسواق وقد عملت من الكاتب السنغالي حميد وكان نفسه أنه لم يكن يعلم من أمرها شيئا لذا احيل الى الطبعة الأصلية بالفرنسية Kon. Cheikh Homidou, I Avertire ambigue, Paris,Julliard,1961.
(11) لعله من البدهي القول بأن ثقافتنا الحديثة كلها هي ثمرة لهذه المناقضة المباشرة أو غير المباشرة وبالتالي فلا معنى اصلا في الحديث عنها كخيار فردي او من منظور الاحكام التعميمية فهذا تحديدا ما يسخر منه الطيب صالح وهو يجعل مصطفى سعيد يهدي مذكراته التي لم تكتب إلى من يرون بعين واحدة ويعتقدون ان الاشياء اما شرقية وأما غربية فقط .
(12) اشير هنا إلى الرواية الشهيرة لاندريه مالرو بعنوان «LaTer- tatam Ocoidertale» وفيها طرح للاشكالية من خلال رسائل متبادلة بين مثقف صيني ومثقف فرنسي إذ يحن كل منهما إلى من يثقفه في ثقافة الآخر .
معجب الزهراني (ناقد واستاذ جامعي سوري)