سأبدأ التأطير بإيضاح مرادي من كلمتي “الثقافة” و”النقد”، فالأولى أعني بها إجماعنا على تصنيف العالم إلى مؤسّسات يُنظَر إليها على أنّها تضفي عليه تماسكًا واتّساقًا، نضْدًا وهدفًا، كالبيت والمدرسة ودار العبادة والعمل والقيم والواجبات والآداب والفنون، ولمّا كان كلّ إجماع مبنيًّا على إنزال الناس والمؤسّسات منازل كانت الثقافة، بالضرورة، سياسة وسلطة؛ أمّا الثّانية فأعني بها نشاطًا فكريًّا واعيًا بذاته، مبدؤه خلخلة المجمع عليه ومساءلة المسلّم بصحّته، ومنهجه تفريق ما نضدته الثقافة علنًا، وتفكيك ما فرضته ضمنًا، ومقصده الإسهام في خلق مجتمع أكثر قبولًا للمتعدّد والمتنوّع والمختلف فكرًا وسلوكًا.
هذا التّعريف الموجز وما يردفه من مساءلة للرواية يرتكن إلى أربعة مبادئ:
أوّلًا: المعنى ممارسة
إذا أتاك أحدهم بالكلام الآتي، وطلب فهمك له:
ما هذا إلا لأقول لك إنّي أكلت الخوخ التي كانت في الثلاجة، والتي كنت من المرجّح أن تدّخرها لوجبة الإفطار، اعذرني، كانت جدّ لذيذة، جدّ باردة(2).
ربّما تقول إنّ هذه الكلمات ملحوظة تركها أحدهم إلى صديق له، يعتذر إليه من الإقدام على أكل شيء له في أثناء غيابه، وإنّه ربّما شعر بخطأ ما قام به، فترك لصديقه هذه الملحوظة يعتذر إليه فيها؛ إن ذهبت هذا المذهب عرفت أنّ مضمون الكلام هنا أهمّ من منطوقه، وعليه لا تلتفت إلى ما فيه من اسم وفعل، من منصوب ومجرور، ولا تشغل نفسك بما تعلّمته في المدرسة من بلاغة وبيان، مجاز وكناية، طباق وجناس، مطابقة ومقابلة.
على أنّك إن قدّم لك الكلام نفسه على النّحو الآتي:
ما هذا إلا لأقول
إنّي أكَلتُ
الخوخَ
التي كانت في الثَّلّاجَة
والتي كنتَ من المرجّح أن
تدّخرُها لوجبةِ الإفطار،
اعذرْني،
كانتْ جدَّ لذيذة،
جدَّ باردة(3)؛
أدركته شعرًا، واستحضرت ما تعلّمت بشأن طريقة التّعاطي معه(4)، فتُشغِل، بلغة جوناثَن كَلَر، كفاءتك الشّعريّة(5)، فتفترض أنّ المنطوق مشتغل عليه فنًّا وصنعة، ومرتبط بالمضمون ارتباطًا إن فككته اختلّ أثره، فتتأنّى في القراءة.
فتكون لك كلّ مفردة- موقعًا نحويًّا، معنًى ضمنيًّا، إيحاءً خفيًّا، صوتًا موسيقيًّا- عالَمًا قابلًا لحمل معان غير تلك التي تحيل إليها، عالمًا حقيقًا بالوقوف عليه، وتدقيق النظر فيه، فتجهد نفسك لإيجاد ما تضفي به على الكلام معنًى متماسكًا، فتبحث عن المجاز والرمز، قد تفهم الفاكهة، مثلًا، تجسيدًا لكّل ما كان ممنوعًا ومرغوبًا فيه في آن، للصّراع بين ما يريده قلب الإنسان وهواه، وما يمليه عليه عقله وضميره، وربّما تستوقفك كلمة “باردة”، فتتأمّل فيها، وتقابلها بـ”لذيذة”، وقد تستنتج أنّ الشّاعر ينتصر لقلبه، لذا أكل الفاكهة، أو أنّه ينتصر لما يملي عليه ضميره، لذا أقدم على الاعتذار(6).
كلّ هذه القراءات لها نصيبها من الصحّة وإن بدا أنّها يناقض بعضها بعضًا، وكلّها يقدح زندها فرْض مسبق أنّ الكلام شعر، لولا هذا الفرْض لما وجدت هذه المعاني؛ وسواء إن كنت ترى الكلام ملحوظة اعتذار أو شعرًا يحمل معنًى ذا بعد إنسانيّ كونيّ فأنت في كلتا الحالتين ترجع به، تؤوّله، إلى قواعد تضبطه، فتمنحه منطقًا(7)، فالصّداقة والاعتذار والذّنب والعقل والزواج والشعر مؤسّسات ليس لها كينونة كامنة فيها، وإنّما كلّ له ميكانِزماه وقواعده إن جهلتها لم يكن؛ إذًا، فهم الكلام، بل شرط وجوده، مقيّد بالسّياق، لا زمنًا ولا مكانًا ثابتان، وإنّما معنًى ذهنيًّا، (أي) جملة الفروض التي نحملها.
ولما كان تعريفنا للسّياق، أشخاصًا وأمكنة وأزمنة، متغيّرًا متباينًا بحسب تأويلنا له، ولمّا كان تأويلنا جزئيًّا وآنيًّا، وجب علينا أن نقرّ بنسبيّة ما نخلقه من معنًى(8، فالفهم شأنه شأن الترجمة، فهو بالضّرورة ناقص ومختزل، حسب أطروحة شتاينر(9)؛ فالسّياق فيه كم مهول ومهيب من العناصر، فإذا ما عدنا إلى الكلام السّابق، وبحثنا عن سيناريوهات مختلفة لكان لنا ما نريد.
كأن نتخيّل أنّه رسالة اعتذار من زوجة قامت من النّوم متأخّرةً عن العمل، ليس لديها وقت لتحضّر وجبة إفطار تأكلها على مهل مع زوجها، ترى الفاكهة التي اشتراها زوجها النباتيّ لإفطاره؛ أو أن نتخيّل أنّه ليس ملحوظة اعتذار ولا نصًّا شعريًّا، وإنّما هو جملة كتبها على السّبّورة أستاذ ليعربها تلاميذه أو ليعربها لهم؛ في كلّ سيناريو نختار ما يضفي ضبطًا ونضدًا على هذا الكمّ المهول، المتداخل، المتشابك، نختار منه ما نحقّق به هدفًا تواصليًّا نصبو إليه(10).
لك أن تقول، انطلاقًا من تفكيكيّة جاك دريدا(11)، إنّ سعينا لإضفاء الضّبط والتّماسك سيفشل لا محالة، فالمعنى يظلّ، دومًا، في حالة انزلاق، لا قرار نهائيًّا له، أو انطلاقًا من تفكيكيّة دي مان، إنّ القراءة سلسلة لانهائيّة من “العودات”، فهي ترجع بنا القهقرى إلى فراغ يحال فيه تقديم تأويل سليم صحيح(12)؛ اتّفقنا أم لم نتّفق مع هاتين المقولتين فالذي لا يمكن أن نختلف فيه هو أنّنا، البشر، لا نتوقّف عن بحث خطاب نفهم به أنفسنا والآخرين فهمًا مترابطًا منطقيًّا، فبدون هذا يتعذّر وجودنا، وربّما كان هذا الفهم سعيًا منّا إلى أن نوقف، ولو مؤقّتًا، ولو ذهنيًّا فقط، تزحلق المعنى، أو عودته إلى فراغ، لنتشبّث بما نخاطب به أنفسنا وغيرنا، فنمارس به أو قل”نصنع” ذكرًا وأنثًى، عابدًا ومعبودًا، دينًا ودنيا، نظامًا وفوضى.
ثانيًا: الممارسة سلطة
على أنّ بحثنا هذا ينطوي على صراع تتمخّض منه هيمنة بعض المعاني/الممارسات وتهميش أخرى؛ يقول أرسطو إنّ الإنسان حيوان سياسيّ، وهو بهذا يعني أنّ وجه تميّز البشر عن سواهم من الكائنات أنّهم يجتمع بعضهم ببعض لتدبير أمورهم وتنظيمها على النّحو الأمثل والأنجع(13)، وممّا لا بدّ منه في ذلك التسمية والتصنيف، فأنت لا تفهم السّياق، ولا سبيل لك إليه إلا إذا سمّيته، وصنّفته إلى زمن، ومكان، وبشر.
لا تفهم الأوّل إلّا إذا صنّفته إلى قرن، وسنة، وشهر، وأسبوع، ويوم، وساعة، ودقيقة، وثانية؛ ولا تفهم الثّاني إلّا إذا صنّفته إلى أرض، وقارة، وإقليم، وبلد، إلى “هنا”، و”هناك”؛ ولا تفهم الثّالث إلّا إذا صنّفته، فرأيت هذا أبًا وهذه أمًّا، هذا أخًا وهذه أختًا، هذا عربيًّا وذاك هنديًّا، هذا بوذيًّا وذاك بهائيًّا، هذا كتابيًّا وذاك وثنيًّا؛ وإن ذهبت تعدّ وتحصي ذهبت بك القائمة إلى ما لا يعدّ ولا يحصى؛ على أنّ الأهمّ من العدّ والإحصاء هو الإدراك أنّ هذا الجهاز التصنيفيّ الجبّار ليس بريئًا، وإنّما يتضمّن، بالضرورة، سلطة.
لنا في “الذكورة” و”العقل” و”الإنسانيّة” دليل على قولي هذا، فالأولى ليست حالة بيولوجيّة بقدر ما هي فروض أحال بعضها إلى بعض، فخلقت معرفة وسلطة في آن، سلبًا وإيجابًا، فأن تكون “ذكرًا” يعني أن تتصرّف على نحو مرسوم سلفًا، نحو يحدّد ضحْكك وبسْمك، حركتك وسكونك، نزوعك وفكرك، عليه كلّما زاد مقدار تطابق سلوكك مع المرسوم له علت رجولتك، أمّا إذا كان لك ميل، بيولوجيًّا كان أم اجتماعيًّا، يخالفه رئي ذاك انحرافًا وشذوذًا، فكان عليك كبته.
وإن أتيت به سلوكًا كان في حقّك لدى المجمع عليه ترسانة من الألقاب ذات مدلولات سلبيّة ابتداءً من المتذبذب الضعيف، ومرورًا بنصف رجل والمتشبّه بالمرأة، وانتهاءً بالمائع المخنّث؛ على أنّك، من جهة أخرى، تُعطَى بـ”الذكر” قوّة على المصنَّف بـ”امرأة”، وعلى من كان دونك مرتبة، فرأس الهرم الاجتماعيّ هو الأب الذكر، وكلّ من صنّف ابنًا أو بنتًا كان عليه الامتثال له، وإن أتى “الابن” بما يقوّض سلطته كان مقصّرًا عاقًّا(14).
في رواية “رحلة ’أبو زيد‘ العماني” يوبّخ شيخ القرية “أبو زيد” على التّهمة المنسوبة إليه، تهمة محاولة الإطاحة بنظام الحكم، قائلًا:
“- وهل هذا جزاء تربية والدك لك وتحمله؟!
– لم أفهم.
– وهذا الذي فعلته!
– وماذا فعلت؟
– تريدون تغيير نظام الحكم!
– هذا غير صحيح(15).
يتبيّن لنا من هذا المقطع من الحوار أنّ الخطاب البطريركيّ يوظّف “التربية”، و”الجزاء”، ومثيلاتها مثل “الإحسان”، و”الإساءة” أدوات لتعزيز نظام ينتفع منه البطريرك نفسه وامتداداته من زوج، وأخ، وحاكم، ورئيس، وعالم، وفقيه، ومدير، لولا هذه القوّة لما كان للذكورة معنى، بل قل لما كانت هناك ذكورة تمارس.
أمّا بشأن “العقل” فأن تنعت به كان عليك الدخول في خطاب له مقولاته وأدواته وتقنيّاته، عليه يزداد مقدار هداك واتّزانك بمقدار تبنّيك لتلك المقولات ومقدار تيهك وطيشك بمقدار خروجك عليها؛ من هنا فإنّ “العقل” يوظّف في خطابات شتّى حتّى تلك التي يخالف بعضها بعضًا، كما أظهر ذلك ثيودور أدورنو وماركس هورخيمر(16)، ذاهبين إلى أنّ التنوير والأسطورة ليسا شيئين متضادّين، فالأسطورة تنوير، والتنوير ينتكس إلى ميثولوجيا، ويظهران ذلك من خلال نقدهما لأعمال أدبيّة مثل “الأوديسة” وأعمال مفكّرين مثل نيتشه وكانط.
ما قلته في “العقل” ينطبق على ما يسمّى بـ”الإنسانيّة”، فهذه تأويل، وكلّ تأويل، كما رأينا، ممارسة تأتي في خطابات مختلفة متنوّعة، بل حتّى العنصريّة منها، فكما أنّنا نقوم بالعقل بأعمال شتّى، فإنّنا نوظّف الإنسانيّة لأغراض يناقض بعضها بعضًا، فهي شعار مالك القوّة وفاقدها، فالفاتح يفتك ويقتل بها، والفقير يستعطف ويستجدي بها؛ يقول ديفيس في دراسة له إنّه يكاد يكون محالًا أن تفكّر بجريمة لم ترتكب باسم الإنسانيّة(17)؛ قِس على ذلك الأقوام والأعراق والأديان، فهذه كلّها تأتي في خطابات كل له ما يضفي عليه ضبطه وتماسكه(18).
قولي هذا لا يعني، بالطبع، أنّه لا توجد خصائص مشتركة بين من يجمعهم دين أو عرق أو قوم، وإنّما يعني أنّ الاشتراك وظيفة مقرونة دائمًا بسياقها الآني؛ لعلّ رأي مايكل دايسَن في السّود يغنينا عن كثير من الاستفاضة، فهو لا ينفي أنّ ثمّة سمات ثقافيّة تميّز حياة السّود عبر الأزمنة والأمكنة، وإنّما يؤكّد أنّ:
… هذه السّمات نتاج سيرورة اجتماعيّة تاريخيّة لبناء الهويّة العرقيّة…. وأنّها لا تشكل قوام جوهر عرقيّ أو ثقافيّ للسّود، كما ليس فيها ما يشير إلى أنّ للسّواد معنًى واحدًا لا غير إذا انتفى عن شخص أو فعل أو ممارسة ما كان أهلًا لأن يكون أسود(19).
فأن تكون لقومك شخصيّة منبعها الدم أمر قد دحض منذ مدّة، حسبما يقول المؤرّخ الإنجليزيّ إي إتش كار في كتابه السّابر “ما التاريخ؟”(20)، وإن كانت له “شخصيّة” حقًّا كانت نتاج وظيفة اجتماعيّة، وليست محصّلة بيولوجيّة؛ فالمعاني، إذًا، ليست جواهر ثابتة مطلقة، وإنّما هي ممارسات مقيّدة بزمانها ومكانها(21).
ثالثًا: الأدب سلطةً متداخلةً متشابكة
إذا كان المعنى ممارسة، والممارسة سلطة لزم أن يكون الأدب سلطة؛ يقول النّاقد البريطانيّ ريموند ويليَمْز إنّ العقد الرّابع من القرن التّاسع عشر كان حاسمًا في تاريخ الرواية الإنجليزيّة، فهذا العقد تميّز بتنام لافت لأشكال جديدة من “التحضّر” و”الرقي” كان وراء ظهورها جملة من الأسباب، مثل الثّورة الصّناعيّة وازدهار الجرائد وانتشار قاعات عزف الموسيقى والحدائق العامّة والمكتبات وتنامي شريحة القرّاء؛ أفرز هذا الوضع أسئلة لم يكن للمجتمع الإنجليزيّ عهد بها، فكان البحث عن إجابات لها لحوحًا وشديدًا، فكانت الرواية، على أنّ هذه الأخيرة لم تكن إفراز وضع أو انعكاس ظرف فحسب، وإنّما كانت قوّة اكتشاف وإبداع أوجدت بدورها الجديد من المشاعر والعلاقات(22).
الأدب، إذًا، رواية كان أم قصّة أم شعرًا، يتداخل ويتشابك، تعريفًا ووظيفةً، مع الخطابات الأخرى، وذلك في إطار ما يسمّيه ويْليَمْز “بُنى من المشاعر”(23)، هذه البُنى تتعاضد تارةً وتتنافس تارةً أخرى، فلا عجب أنّ الأدب يأتينا منظومًا ومنثورًا، ملحمة وملهاة، قصيدةً ألقيت في بلاط حاكم وحكايةً روتها جدّة لأحفادها، مساندًا السّلطات هنا ومتحدّيا إيّاها هناك، مناصرًا المجمع عليه هنا ومفكّكًا إيّاه هناك؛ عليه فهو يتحقّق، تعريفًا وصيتًا وانتشارًا، كمخاض لهذه العوامل، لا كجوهر لازمنيّ ولامكانيّ يتجسّد سمةً تكمن في العمل الأدبيّ نفسه.
يتطرّق إدوارد سعيد(24) إلى الأطروحة ذاتها تنظيرًا وتطبيقًا؛ انطلاقًا من ويْليَمْز يقول سعيد إنّ الـ”بُنى من المشاعر” دعمت وعزّزت القوى الإمبرياليّة في بريطانيا وفرنسا وأمريكا، وكان موقع الأدب من تلك البنى موقع المتواطئ معها؛ على أنّه ينبّهنا إلى أنّ التواطؤ لم يكن مطلقًا، كما يفرد فصلا كاملًا في وجوه المقاومة التي أبدتها الشعوب الخاضعة للهيمنة، بنحويها الاستعماريّ والإمبرياليّ، بأشكال ثقافيّة مختلفة(25)، ففي قوله بتشابك الثقافة مع القوة بوجهيها، تأثّرًا وتأثيرًا، يصرّ على أنّ المسيطر والمسيطر عليه كليهما صيرورة تتشكّل تحت تأثير عوامل مختلفة متداخلة، فلا وجود لأحدهما دون الآخر.
وإذا ما أردنا سوق أمثلة لتوضيح تشابك الأدب بالسّائد وتلاحمهما معًا فلنا أمثلة كثيرة، محلّيًّا وعربيًّا وعالميًّا؛ محلّيًّا، تتميّز “الرولة”(26) عن غيرها من الروايات العمانيّة أنّها أوّل رواية تنفد، حسب علمي، جميع نسخها في أثناء معرض الكتاب الذي عرضت فيه؛ قد نختلف فيما إذا كانت هذه الرواية محكمة البناء من حيث شخوصها وأحداثها، زمانها ومكانها، موضوعاتها وثيماتها، ومن حيث درجات تلاحم هذه العناصر، بعضها ببعض، بل قد نختلف فيما إذا كان فيها بناء روائيّ فنّيّ أصلًا.
ولكنّي لا أظنّ أنّ قارئين أوتيا من المعرفة والذوق النقديّين قدرًا يسيرًا يتّفقان على أنّ في الرواية، في داخلها، جوهرًا لا يوجد في الأخريات، جوهرًا عثر عليه قرّاؤها، بقدرة قادر قاهر أو ببصيرة ناقد نافذ، فأقدموا عليها إقدام المشتاق لها، والمؤمن بتميّزها عن غيرها؛ فنفاد نسخها لم يكن ميزة في “داخلها” بقدر ما كان إفرازًا لما أثير حولها في “خارجها” من جدل عبر الشّبكات الاجتماعيّة، فكان أنْ آل ما أريد منه أن يكون إساءة إلى حسنة، والمآل هذا حكم على المجتمع لا للرّواية، والمفارقة التي ينطوي عليها سلبيّة، اجتماعًا، لا إيجابيّة، بالضّرورة، أدبًا(27).
أمّا عربيًّا فنجد أنّ الأدب، إنتاجًا واستقبالًا، يقف متواطئًا إلى جانب الآراء السّائدة حتّى غير الإنسانيّة منها، فالمتنبّي، شاعر العربيّة الأوّل في المخيلة الجمعيّة، وهو حكم تتشابك فيه أبعاد فنّيّة وقوميّة وثقافيّة ونفسيّة وسياسيّة، له أبيات فيها ما فيها من عنصريّة بغيضة، وبخس للإنسان حقّه، إلّا أنّها محتفًى بها حتّى في يومنا هذا:
صارَ الخَصيُّ إمَامَ الآبقينَ بِها فَالحُرُّ مُسْتَعبَدٌ والعَبْدُ مَعْبُودُ
العَبْدُ لَيْسَ لحُرٍّ صَالحٍ بأخٍ
لَوْ أَنَّهُ في ثيابِ الحُرِّ مولُودُ
لا تَشْتَرِ العبْدَ إلا والعصَا مَعَهُ
إنّ العَبيدَ لأَنْجاسٌ مَنَاكيدُ
ما كنتُ أَحْسَبُني أَحْيَا إلى زَمَنٍ
يُسيءُ بي فيهِ عَبْدٌ وَهَو محَمُودُ
ولا تَوَهّمْتُ أنَّ النَّاسَ قدْ فُقِدوا
وأَنَّ مِثْلَ أَبي البَيْضاءِ مَوْجُودُ
وأنَّ ذا الأَسْودَ المثْقُوبَ مِشْفَرُهُ
تُطِيعُهُ ذي العَضاريطُ الرعاديدُ
…
مَنْ عَلَّمَ الأَسْودَ المخصيّ مكرمَةً
أَقُوْمُهُ البِيْضُ أَمْ آباؤهُ الصِّيدُ
…
وذاك أنّ الفُحُولَ البِيضَ عاجزةٌ
عنِ الجميلِ فَكيفَ الخِصْيَةُ السّودُ؟(28)
إن كان كافور قد أخطأ في حقّ المتنبّي، أو خلف وعدًا قطعه له فإنّ المتنبّي لا يتحدّث هنا عن خطأ فرد في حقّ آخر، وإنّما عن اعتلاء “عبد” على “حرّ”؛ وإن كانت الأبيات هذه نقمة على كافور بتخليدها إيّاه عبدًا في ذاكرة النّاطقين بالعربيّة، العارفين بآدابها، الحافظين لأشعارها، فإنّها أقرب، من منظور من يرى أن لا فكاك بين البهاء الفنّيّ والجمال الإنسانيّ، إلى حكم على المتنبّي أخلاقًا منها إلى حكم لها رائعةً من روائعه، إن رأينا ذلك جاز لنا، بل وجب علينا، أن نقول إنّ احتفاءنا بالأبيات يعدّ توطؤًا معها ومع قائلها، وعليه، دعمًا وتعزيزًا، بما خفي من السّبل، للتراتب والتمييز.
من مثل هذه الإشكالات القِيميّة الأخلاقيّة انطلق النّاقد السّعوديّ عبدالله الغذامي(29) ليقول، بقدر غير يسير من الانفعال وبتغييب غير بريء للخطاب الدينيّ، كما سأوضح لاحقًا، إنّ في الثّقافة العربيّة أنساقًا ممجّدة للذات، ورافضة للآخر المختلف، تأسّست على نسق شعريّ فحل، وترسّخت به، هذا النّسق الشعريّ بدأت ملامحه، في رأي الغذامي، في العصر “الجاهلي”، ولكنّه اطّرد حتى يومنا هذا، مرورًا بالعصرين الأمويّ والعبّاسيّ، يعزّزه ويتعزّز به كبار الشّعراء العرب من أمثال المتنبّي وأبي تمّام ونزار قبّاني وأدونيس، ومن أكثرهم تمثيلًا لهذا النسق قديمًا، في رأيه، المتنبّي، فهو الأب النسقي(30) و”المداح الأكبر”(31)، و”أقل الشعراء اهتماما بالإنساني وتحقيرًا له”(32)، وأبرزهم في عصرنا الذي نحن فيه أدونيس، فهو يمثل الفحوليّة، شعرًا وتنظيرًا.
أمّا عالميًّا فلنا في الوضع اللغويّ والأدبيّ في دول الكومنويلث والدول الفرنكوفونيّة توكيد لطرحي، فمستعمرات بريطانيا السّابقة والدول التي كانت تحت حمايتها أو وصايتها أو تحت نفوذها على نحو من الأنحاء تدرس في أغلبها اليوم الإنجليزيّة وآدابها في مدارسها وجامعاتها لا الفرنسيّة، ومستعمرات فرنسا السّابقة والدول التي كانت تحت نفوذها على نحو من الأنحاء تدرس في أغلبها الفرنسيّة وآدابها في مدارسها وجامعاتها لا الإنجليزيّة، لا لأنّ الأولى وجدت “جوهرًا” إنجليزيًّا ساميًا، فعشقته، فتبنّته حتّى تسمو سموّ الإنجليزي، والثّانية وجدت “روحًا” فرنسيّة عالية، فارتاحت إليها، فحذت حذوها حتّى تعلو علوّ الفرنسي؛ فالحال أنّ في كلّ حالة من الحالتين تقبّل اللغة والأدب يأتي متداخلًا مع التّاريخ الاستعماريّ للدولتين، وما تركه ذلك التّاريخ من إرث صار جزءًا من بنًى سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة موقع الأدب منها موقع المتأثّر بها والمؤثّر فيها33.
يسرد بوسنر في تواطؤ الأدب مع الخطابات غير الديمقراطيّة وغير الإنسانيّة قائمة طويلة من الأمثلة، فيذكر، أوّل ما يذكر، ألمانيا القرن العشرين، والتي “غالبًا ما تُرى كأكثر الثقافات رقيًا وتهذيبًا”، فتوماس مان34، الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 1929، “أعظم الروائيّين الألمان”، كان يجهر بدعمه لإمبرياليّة بلده خلال الحرب العالميّة الأولى35، كما يؤكّد بوسنر أنّ الآداب الغربيّة الكلاسيكيّة تغصّ، إذا ما نظر إليها من المنظور المعاصر، بالسّيئ والشّرير أخلاقيًّا، مثل العنصريّة والتعصّب الدينيّ والنظر إلى المرأة نظرة دونيّة وتمجيد العنف وإراقة الدماء ومساندة الطبقيّة والتراتبيّة وسلب ممتلكات الآخرين ونهبهم والتشفي بالانتقام منهم والشعور بالفوقيّة، متطرّقًا في ذلك إلى أدباء من أمثال هومَر وشيكسبير وروائيّين أمريكيّين وفرنسيّين وروس وإنجليز وألمان36.
وأحيانًا تجد الأدب متأرجحًا بين تعزيز السّائد وتحدّيه؛ لنا في سياقنا العمانيّ أمثلة على كلا الاتّجاهين، فكما أوضحت “في القصيدة العمانيّة الحديثة”37، تبنّى الشّعر العمانيّ، في جلّه وأبرزه، قبل سبعينيّات القرن الماضي سياسة الاتّفاق والائتلاف مع السّائد، فكان فيه اتّجاه مؤيّد للخطاب الدّينيّ، وآخر مؤيّد للمنظومة السياسيّة الحاكمة، واتّجاه وقف بين هذا وذاك، وفي كّل ذلك لم يكن فيه صوت بارز يتحدّى العادات والتقاليد والقيم الذكوريّة؛ أمّا شعر ما بعد السّبعينيّات فيتبنّى سياسة الاختلاف والتّعارض، متحدّيًا السائد المهيمن، ممجّدًا اليوميّ والذاتيّ، محتفيًا بالموت والغياب والنّفي، تائقًا إلى عالم بديل، مستنكفًا من التّدجين والتّكييف؛ إلّا أنّ هذا الشّعر المختلف المعارض فيه صوت يتوق إلى الماضي، رموزه وقيمه، تلك التي يريد أن يتحررّ منها، لذا نجده متذبذبًا في تمرّده واستنكافه، بل إنّ فيه ما يقوّض اختلافه وتعارضه38.
وأحيانًا تجد أنّ العمل الأدبيّ الواحد من التعقيد والتشابك ما تمارس به بناءً وهدمًا في الآن نفسه، فرواية “طوق الحمام” لرجاء عالم39، مثلًا، قد تعدّها محتفية بالترحال لا القرار، باليوميّ العاديّ لا الممجّد المقدس، ولكنّك يأتيك منها ما يشكّكك في قراءتك، فنورة، إحدى شخصيّاتها الرئيسة، تشعر بطاقة عجيبة يومًا ما، فتخرج من فندقها في مدريد السّاعة الرابعة فجرًا، فترى في حديقة يسار الفندق سربًا من الحمام يرقص، ويغطّس مناقيره في الحبوب، ويرفع ذيله في الهواء.
فتتذكّر السرب الذي كان يطير حول الكعبة، وكانت تُخبَر بأنّه حمام بيت الله، لا يحيا إلّا فيه، فتتساءل: “أهو الحمام يهاجر ويشيع، أم هي بيوت الله في كل مكان؟”40 بل تتساءل على نحو غير خال من الجرأة إن كانت الآلهة لم تجد غضاضة في ذكر الحوت والبقرة والكبش والناقة والذئب والجياد والغنم والخنازير فلم لا تحشر نفسها والنّاس جميعًا في هذه الكلمات لتجمعها في كتاب، وتجمع الكتاب في حياة.
تنطلق من تساؤلها هذا، فتقبل على مدريد، هدرها وصخبها، بشرها وحيوانها، مبتهجةً، بل ضنينةً بابتهاجها، فتتماهى مع العادي والطارئ والمألوف، من طالب مدرسيّ يركض ويصرخ، وطفل نحيل يرسم ويخربش، ونساء وذكور يرافق بعضهم بعضا، وريح تطير طرحة عروس؛ ثم تقدم على تعلّم الخارق من الحدود، فتأتي اليهوديّة مدام ميرانو، فترشدها هذه إلى متحف الفنّان ألجريكو في طليطلة، حيث يلتقي التراث الإنسانيّ، إسلامًا ومسيحيّةً ويهوديّهً، وتقدّم لها الفنّ ضمانًا لمواطنة عالميّة، ورسالة صوفيّة تنشد القرب من الله، قائلةً: “…طليطلة تستقطب المتخفين من أنحاء الأرض، هنا، وعلى هذا الارتفاع نكون أقرب لله، ولا تعود لمسمّيات الأديان من ضرورة”41.
كما تعلّمها أنّ الهويّة ليست ثباتًا ولا استقرارًا، وإنما هي “فعل إزاحة أبدي”42، وعليه فإنّنا جميعًا، ذكورًا كنّا أم نساء، بشرًا كنّا أم جمادات، مسلمين كنّا أم مسيحيّين، فسّاقا كنّا أم ورعين، لسنا سوى “قناع القدرة الإلهية، تتجلى في أقصى الكفر والإيمان، أقصى الزهد والفسق”43، كلّ له “مكته التي يَفِرّ إليها من الخوف والوحدة”44؛ لنا أن نقرأ من ذلك أنّ مكّة هنا ليست موقعًا جغرافيًّا ولا مركزًا دينيًّا، وإنّما هي قداسة يحملها كلّ من يحمل قلبًا، وإن كان الأمر كذا كان لا بدّ من تقديس الإنسان شعورًا وإحساسًا لا انتماءً ولا عقيدة، وكان لا بدّ من تجاوز الأديان طقوسًا شكليّة والأوطان سياسةً ضيّقة.
على أنّ الرواية إن قدّمت لك ما تسند إليه قراءتك هذه فإنّها في الوقت ذاته توفّر لك من المعطيات ما يشكّكك فيها، من ذلك أنّ الجثّة، محور الحبكة الرئيسة، مشكوك في أمرها، فالذي يخبرنا عنها هو المحقّق ناصر، وهذا أُخبِرنا عنه بأنّه لم يعد يميّز الحقيقة من الخيال، بسبب ارتفاع السكر؛ زد على ذلك أنّ الرواية تمزج بين الواقعي والفنتازي والسيريالي، فثمّة أحداث لا نعرف إن كانت تقع في الصّحو أم في النّوم، في الحياة أم في الممات، في الواقع أم في الخيال، أم في سينما وهميّة ناجمة عن شغف بعض الشخصيّات بحبكات هوليود.
إذ يأتينا من الرواية إيحاء بأنّ الجثّة إمّا لعزّة، وإمّا لعائشة، وإمّا لا لهذه ولا لهذه؛ نرى أنفسنا، قرّاءً، نتأرجح بين احتمال وآخر، فالشيخ المزاحم يقول إنّ التي في المشرحة ابنته، عزّة، ما يجعل القارئ يظنّ في أوّل الأمر أنّه أمسك بخيط موثوق به من الحبكة، غير أنّه يتفاجأ عندما يقرأ أنّ ناصرًا يسمع عائشة قائلة إنّها هي الميتة، فيتعجّب قائلًا: “أأنت التي ماتت”؟ وهناك من يقول إن عزّة هي اختراع عائشة تحلم بها كما تحلم بغيرها من الشخصيّات، بل عائشة نفسها، وإنّها تعيش مع طويل الحزام/خالد الصبيخان؛ وعندما تظهر نورة نعلم أنّها عزّة جرّدها خالد الصبيخان من اسمها ليمتلكها باسم نورة.
إلى جانب ذلك ثمّة إشكال في هويّة عائشة، فهي تقول في آخر الرواية إنّها مرآة عزّة، كما نرى اسم نورة مشطوبًا ومتبوعًا باسمها في غير موضع في القسم الثاني من الرواية؛ بل إنّ الشخصيّات تصير دون شخصيّة، فـ”عائشة” تتحوّل من اسم معرفة إلى صفة، “العائشة”، والعائشة بدورها تتحوّل إلى حرف فحسب، إلى “ع”، وعزّة إلى عشبة تداس لتنمو من جديد؛ أمّا طويل الحزام فهو خالد الصبيخان، وخالد الصبيخان هو طويل الحزام، وفي النهاية يغدو لا هذا ولا هذا، وإنّما يتحوّل إلى قيمة معنوية سالبة جارفة، إلى قدرة شرائيّة نازعة للملكيات وطامسة لها، إلى عقد بيع وشراء.
لعلّك أدركت من هذا العرض الموجز أنّه ليس ثمّة راوٍ يعتدّ به، ولا نمط من الأحداث تجري على نسق منطقيّ متتابع، ولا شخصيّات موثوق بوجودها، فهذه العناصر كلّها لا تثبت وإنّما “تتزحلق”، ومن ثمّ يصعب لنا أن نستقرّ على ثيمة واحدة45.
وهذا يؤكّد لنا أنّ وقوف الأدب، معزّزًا للسّائد أو مسائلًا له، أو متأرجحًا بين هذا وهذا، تأويل ينطوي على فروض ذات طابع نسبيّ، من ذلك أنّ أشهر ما وجّه نقدًا لرواية البولندي-البريطاني جوزيف كونراد الشّهيرة “قلب الظلام”46 أتى من من قلب قارة أفريقيا، النيجيريّ تشينوا أتشيبي، صاحب الراوية الذائعة الصّيت “الأشياء تتداعى”47، فقد قال إنّ كونراد كان عنصريًّا من مفرق رأسه حتّى أخمص قدمه 48؛ أيًّا تكن حجّة هذا النّقد فإنّه يأتي في إطار صراع سياسيّ حضاريّ بين سياق أفريقيّ وآخر أوروبّيّ.
وأحيانًا ترى التأويليّة النسبيّة بارزة داخل الثّقافة الواحدة، فالذين يعارضون تدريس الرّواية الشّهيرة “مغامرات هِكلبيري فِن”49 لمارك توين في أمريكا هم غالبًا أمريكيّون سود لا بيض؛ يقول جون وولِس في هجوم لاذع مرير يسم فيه الرواية بأنّها “أقبح وأشنع مثال كتب حتّى الآن على البذاءة العنصريّة”، إنّ في الأربعين سنة التي خلت شقّت عائلات السّود الأمريكيّين طريقها في طول البلاد وعرضها لتقول معارضة بأنّ الرّواية غير صالحة كمادّة مدرسيّة للتّلاميذ السّود50.
بينما هنالك كتّاب آخرون من جماعة الأمريكيّين السّود نفسها يتّخذون مواقف مؤيّدة أو، أقلّه، أكثر توازنًا من موقف وولِس، فالروائيّة الأمريكيّة السّوداء توني موريسَن51، الفائزة بجائزة نوبل (1993)، تتحدّث عن قراءتها للرّواية، في صغرها ونضجها، وتخلص إلى أنّها تعدّ رواية كلاسيكيّة بامتياز، بغضّ النظر عمّا أثير ويثار من جدل حولها، عليه لا يمكن تجاهلها بدافع عرقيّ. ليس هناك، إذًا، قراءة مطلقة للأدب مقويًّا للسّائد أو مقوّضًا له، أو قراءة في برزخ بين هذا وهذا، فكلّ قراءة ممارسة تأتي في إطار صراع الخطابات؛ على أنّه إن لم يكن ثمّة جوهر، وكان المعنى صنعًا نسبيًّا مبنيًّا على سلطة نسائلها كان لا بدّ لنا من التّصريح بـ”أخلاقيّات” النّقد، (أو قل بسياسته) تصريحًا لا دوران ولا غموض فيه52.
رابعًا: النّقد الثّقافي مسائلًا السّلطة
سواء أكنّا نذهب مذهب سيغموند فرويد53، ونرى اللاوعي قبوًا تغفو فيه رغبات رأتها التربية غير سويّة، فزحزحتها إليه، وتظلّ خاملة هناك لترى لها منافذ من حين لآخر عبر الأحلام وزلّات اللسان، أو نذهب مذهب جاك لاكان54، ونرى اللاوعي مركزًا للرغبات لا مستقبلًا لها من عالم آخر، مركزًا بالغًا حدّه في جسامته وضخامته إذا ما قورن بما تستطيع اللغة التعبير عنه، أيًّا يكن مذهبنا في ذلك فإنّنا نتّفق على أنّ في لاوعي الإنسان، حسب كلا المنظورين، بؤرة تتنازع فيها قوًى يعجز “العقل”، ذلك الإفراز الخطابيّ، عن احتوائها؛ عليه فالصّعلوك والغامض والمشكوك فيه والغريب والهجين والمشتّت والمتذبذب هو ما لم يجد العقل الجمعيّ خانةً له، فزحزحه إلى القصيّ من الأطراف.
النّقد الثقافيّ يحتفي بكلّ هذه احتفاءً يسائل أضدادها من المعروف والمتيقّن منه والمألوف والأصيل والحاسم، عادًّا القيمة التي مُنِعَت عن الأولى ومُنِحَت إلى الثّانية مخاض سيرورة اجتماعيّة كان السّؤدد فيها لمن تبنّى تلك القيمة وانتفع منها، فالمعروف أقرب إلى ما عرفه وتبنّاه من امتلك مصادر القوّة منه إلى حقّ مجرّد مطلق، والمنكر أقرب إلى ما جهله وأنكره منه إلى باطل؛ من هنا فإنّ النّقد الثّقافيّ ينطلق من أطروحة أنّ الفرد منّا إذا فكّر ثانيةً في المعروض أمامه من خيارات تحدّى، وإن تردّد في حسم أمره تحدّى، وإن رغب في الممنوع تحدّى، وإن مال إلى الفاتن الجاذب تحدّى.
هذا “التّحدّي” ليس ضعفًا ولا ضلالًا ولا انحرافًا، وإنّما هو نابع من شعور الإنسان الفرد بأنّه لا مقرّ له ولا موطن في لغة الخطاب السّائد، من إدراكه أنّه أرحب من أن يتسع له أيّ تصنيف؛ وإذا أردنا التّعبير عن ذلك بكلمات راديكاليّة، وربّما واعية بذاتها بعض الشيء، قلنا من سعيه إلى أن يخرج من جنّة المقبول إلى جحيم التّجريب والبحث عن روح له تستنكف من التدجين، من سعيه أن ينزع نفسه ممّا سُجِنَت فيه ليضعها في موضع كان هو من وضَعَه، في معنًى كان هو من صَنَعه؛ هذا السّعي ينطوي على توق لعالم بديل عن ذاك القائم اجتماعيًّا؛ سياسة النّقد الثّقافيّ احتفاؤه بهذا السّعي، وتبنّيه لهذا التّوق.
يرتكز هذا الاحتفاء وهذا التبنّي على الإيمان بالإنسان قوّة إيجابيّة، فإذا كان هناك من يرى الإنسان ذاتًا غير فاعلة، تسيّره دوافع كامنة في لاوعيه أو دوافع اقتصاديّة، أو أنّه إنّما إفراز لعبة لغويّة، فلا شيء خارج النصّ55، فإنّ هذا الوعي ذاته إنّما هو وجه من وجوه سعي الإنسان إلى أن يكون فاعلًا، إلى أن يؤثّر في محيطه، إلى أن يؤدّي دورًا فيه أو يخلق عالمًا بديلًا، واعيًا بأنّ ذاك القائم حاليًّا وذاك المتاق إليه مستقبلًا كليهما تأويل مستند إلى السّياق.
فلولا هذا السّعي لما كان لأطروحة الإنسان ذاتًا غير مؤثّرة من معنى، فهذه تعرف على خلفية تلك، فإذا كان على الإنسان أن يغيّر مجرى التّاريخ لا أن يؤوّله56 فإنّه لا يستطيع أن يغيّر شيئًا دون أن يؤوّله؛ على أنّ قيمة التحدّي هذه ينطبق عليها ما قلته في “الذكورة” و”العقل” و”الإنسانيّة” فيما مضى، فهي ممارسة نسبيّة عليها أن تخضع للمحاورة والمساءلة، وليست حقًّا مطلقًا له أن يتسلّط على الرّقاب، فتأويلها مقيّد دومًا بالسّياق.
(1) قائمة الأعمال الأدبيّة العربيّة والأجنيّة
المتنبي، ديوان المتنبي، بيروت، صادر، (2008)
محفوظ، نجيب، أولاد حارتنا، القاهرة، الشروق، (2014[1967] ط13).
عالم، رجاء، طوق الحمام، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، (2012 ط4).
Achebe, Chinua. Things Fall Apart. London: Penguin. ([1958] 1994).
Alighieri, Dante. Divine Comedy. (trans. to from Italian by C. H. Sisson). Oxford: Oxford University Press. ([1555]2008).
Conrad, Joseph. Heart of Darkness. London: Penguin. ([1899] 1995).
Orwell, George. Nineteen Eighty Four. London: Penguin. ([1949] 1987).
Stowe, Harriet. Uncle Tom’s Cabin. Kent: Wordsworth Editions. ([1852]2002).
Twain, Mark Adventures of Huckleberry Finn. New York: Dover. ([1884] 1994).
William, Carlos Williams. “This Is Just to Say” in The Norton Introduction to Literature by Kelly J. Mays. (2013 11th edition).
(2) المصادر الأجنبيّة
Achebe, C. ‘’An Image of Africa: Racism in Conrad’s Heart of Darkness” (1975) in Hopes and Impediments: Selected Essays, 1965-1987. London: Heinemann. (1988).
Adorno, T. and Horkheimer, M. Dialectic of Enlightenment. London and New York: Verso. London: Penguin. (1979).
Carr, E. What is History? London: Penguin. ([1961] 1990).
Culler, J. Structuralist Poetics, Structuralism, Linguistics and the Study of Literature. London: Routledge. (1975).
Davies, T. Humanism, London: Routledge. (2008 2nd ed.).
De Man, P. Allegories of Reading, Figural Language in Rousseau, Nietzsche, Rike, and Proust. New Haven: Yale UP. (1979).
Derrida J. Of Grammatology, (trans. Gayatri Chakravorty Spivak). Baltimore, MD: Johns Hopkins University Press. (1976).
Derrida J. Positions (trans. Alan Bass). Chicago: University of Chicago Press. (1981).
Dyson, Michael, Reflecting Black: African American Cultural Criticism. Minneapolis: University of Minneapolis Press. (1993).
Eagleton, T. The Ideology of the Aesthetic. London: Blackwell. (1990).
Eco, U. Kant and the Platypus: Essays on Language and Cognition. London: Secker and Warburg. (1999).
Fish, S. Is There a Text in This Class? The Authority of Interpretive Communities. Cambridge, Massachusetts: Harvard University Press. (1980).
James, H. (quoted in) “Introduction” by Malcolm Mauldon in Gustave Flaubert, Madame Bovary. Oxford University Press. (trans. from French by Margaret Mauldon). ([1856] 2004).
James, W. The Principles of Psychology, vol. 1. New York: Dover. ([1890] 1950).
McRae, J. Literature with a Small “l”. New York and London: Prentice Hall. (1991).
Morrison, T. “Huckleberry Finn: An Amazing, Troubling Book” in S. George. Ethics, Literature, Theory, an Introductory Reader. (Maryland: Rowman and Littlefield). (2005).
Posner, R. “Against Ethical Criticism” in S. George. Ethics, Literature, Theory, an Introductory Reader. Maryland: Rowman and Littlefield. (2005).
Said, E. Culture and Imperialism. New York: Vintage. (1993).
Said, E. Orientalism. New York: Vintage. (1978).
Steiner, G. After Babel, Aspects of Language & Translation. Oxford: Oxford University Press. (1998 3rd ed).
Swift, A. Political Philosophy. Cambridge: Polity Press. (2014 3rd ed).
Wallace, J. “The Case against Huck Fin” in S. George. Ethics, Literature, Theory, an Introductory Reader. Maryland: Rowman and Littlefield. (2005).
Widdowson, H. Text, Context, Pretext, Critical Issues in Discourse Analysis. London: Blackwell. (2004).
Williams, R. The English Novel, from Dickens to Lawrence. London: Hogarth Press. (1984).
1 هذه المادّة مقتبسة من كتابي النقدي المتوقّع صدوره عام 2018: “الرواية العُمانيّة في ميزان النقد الثقافي: تفريق المنضود وتفكيك المفروض”.
2 هذا المثال وما يتلوه من كلام فيه مقتبس بعضه من كتابي: في القصيدة العمانيّة، جامعة نزوى بالاشتراك مع دار الجمل (2015). صفحات 26-28.
3 ترجمتي لقصيدة الشّاعر الأمريكيّ ويليَمْ كارلوس ويليَمْز (1833-1963)William Carlos Williams
This Is Just to Say:
I have eaten/ the plums/ that were in the icebox/ and which/ you were probably/ saving/ for breakfast/ Forgive me/ they were so delicious/ so sweet/ and so cold.
4 يوظّف البريطانيّ جون مكراي، المتخصّص في اللغويّات التطبيقيّة والأسلوبيّة، كتابة الشعر نثرًا لأغراض بيداغوجيّة تدريسيّة، ويورد هذا النصّ لشرح أطروحته (McRae 1991: 81) .
5 Culler (1975).
6 للشاعر ويليَمْز كلام في قصيدته هذه قالها في لقاء له عام 1950، تجده معادًا نشره في The Norton Introduction to Literature by Kelly J. Mays. (2013 11th edition). Pp. 984-5.
7 بمعنى آخر ما تفعله قارئًا ليس قرارًا شخصيًّا لك، وإنّما هو إفراز ما يسمّيه ستانلي فيش “مجتمعًا تأويليًّا”Fish (1980) .
8 عليه فأنا أختلف مع أطروحة أنّ التأويل ما أتى موضحًا المستعصي من الكلام، وكاشفًا الضمنيّ أو الخفيّ من المعاني، فالملاحظ أنّ هذه الأطروحة تفترض أنّ المعنى له وجود مستقلّ عن المعنيّ به، وأنّ هذا الأخير إن وجده واضحًا أخذه، وإن وجده مشكِلًا أوّله، ردّه إلى أصله وحقيقته، في الحالة الأولى لقط شيئًا من دون عمل ولا جهد، وفي الثانية وصل إلى شيء كان موجودًا بعد أن أعمل ذهنه وأجهده.
9 Steiner (1998).
10 المقولة هذه تعد الثيمة الرئيسة لـ Henry Widdowson (2004)، كما هو بادٍ من عنوان الكتاب:
Text, Context, Pretext.
11 Derrida (1976, 1981).
12 De Man (1979).
13 Swift (2014: 70).
14 لعلّه يظهر لنا هنا الترابط بين “الفرض” معنًى ذهنيًّا فلسفيًّا يحيل إلى المفترض صحّته و”الفرض” معنًى دينيًّا أخلاقيًّا الواجب أداؤه.
15 محمد بن سيف الرحبي، رحلة أبو زيد العماني، الشارقة، دائرة الثقافة والإعلام، (2002)، ص 142.
16 Adorno and Horkheimer (1979).
17 Davies (2008).
18 لعلّ لنا في الإسلام والمسيحيّة مثالًا بينًا على ذلك، فالعالم الإسلاميّ يشهد اليوم موجة من العنف طاحنة مهلكة، يقف منها هذا مؤيّدًا وهذا معارضًا؛ الجاذب على مستوى التّأويل أنّ هذين يستندان إلى مصادر التشريع ذاتها، فكلاهما يمثّل خطابًا له ما يتبنّاه وله ما يقصيه؛ أمّا بشأن المسيحيّة لعلّنا نرى تجسيدًا أدبيًّا موحيًا لفكرتي في الحوار الآتي من رواية “كوخ العمّ توم”، يقول أوجستين كلير، سيّد العمّ توم لزوجته، ماري، التي ترى أنّ الربّ المسيح يبارك عبوديّة السّود: “فلنفترض أنّ أسعار القطن نزلت نزولًا لا ارتفاع بعده، وكسدت سوق العبودية كسادًا لا بيع بعده، ألا تظنّين أنّنا حينها سرعان ما ستكون لدينا نسخة أخرى من الكتاب المقدّس؟ بل ما أسرع ما سيوحى للكنيسة بأنّ كلّ شيء في الإنجيل وأنّ كلّ منطق إنّما هو ضدّ العبوديّة!”.
Harriet Stowe ([1852]2002: 170-171). (ترجمتي)
19 Dyson (1993: 141) .ترجمتي
20 Carr (1990: 32).
21 المنظومات الشّموليّة، سياسيّة كانت أم اجتماعيّة، تستشعر خطورة المعنى، فتدرك أنّ في استئثارها به قوامها، فتأتي في سبيل ذلك بشرائع شتّى؛ لعلّنا نجد في رواية جورج أورويل، “1984”، أجلى تعبير أدبيّ لهذه الفكرة، فالمنظومة الحاكمة في هذه الرواية تأتي بكلّ ما أوتي من قوّة لحمل الناس على اعتناق مذهبها، من ذلك تنقية اللغة من كلّ إيحاء وظلّ يخالف فكرها وتحميلها خلاف المعاني المتّفق عليها، فـ”الحرب سلام، والحرّيّة عبوديّة، والجهل قوّة”
(Orwell [1949] 1987: 6).
22 Williams )1984.(
23 المصدر نفسه.
24 Said (1993).
25 يقدّم تيري إيجلتُن (Terry Eagleton: 1990) تصوّرًا شبيهًا، فيقول إنّ من الآداب والفنون الجميلة ما يجسّد ويعزّز أيديولوجيّة السّائد، ومنه ما يناهض كلّ فكر سلطويّ أو نزّاع إلى تبسيط الظواهر وتجريدها تجريدًا آليًّا، ويتطرّق في ذلك إلى رؤى مفكرين من أمثال هيجل وكانط وكيركجارد وسيغموند فرويد وثيودور أدورنو.
26 يوسف الحاج، الرولة، بيروت، سؤال، (2015).
27 انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعيّ في أثناء معرض الكتاب (2015) في مسقط مقاطع فيها مشاهد جنسيّة نسبت إلى الرواية، فكان تهافت المتهافتين عليها والناقدين لـ”تهتّكها” و”تجاوزها للحشمة” إقبال المقبلين عليها شراءً.
28 المتنبي، ديوان المتنبي، بيروت، صادر، (2008، ط 2). صفحات: 327-328.
29 عبد الله الغذامي، النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، (2005)، ط3.
30 المصدر نفسه، ص 125.
31 المصدر نفسه، ص 126.
32 المصدر نفسه، ص 168.
33 ما أقوله في الأدب ينطبق على كلّ أوجه الثقافة، من ذلك أنّ الترجمة غير مرتبطة، انتشارًا، بجوهر؛ لعلّ لي في تجربتي ما يغنيني عن كثير من الشّرح، فأنا ترجمت إلى الإنجليزيّة مجموعة الشّاعر هلال الحجري “هذا الليل لي” ومختارات من خمس مجموعات شعريّة عُمانيّة، نشرت كلتاهما في دار الانتشار العربي، بالاشتراك مع وزارة التراث والثقافة، عامي 2014 و2016، على التوالي، إلا أنّ ترجماتي هذه لم تحقّق حتّى الآن انتشارًا يذكر إذا ما قورنت بترجمتي الإنجليزيّة لـ”جندي من مسكن، شهد الذاكرة” لسعيد بن راشد الكلباني، فهذه الصّادرة عن دار نشر عمانيّة عربيّة (الغشّام) معروضة في مكتبة الأمازون الإلكترونيّة وفي مكتبة الكونجرس الأمريكي، وفي مكتبة الجمعيّة البريطانيّة العمانيّة The Anglo-Omani Society، وفي طريقها إلى مكتبة اليابان الوطنيّة؛ كما أنّها أهديت إلى كلّيّات عسكريّة عالميّة في بريطانيا، مثل كلّيّة برامشيل Police Staff College, Bramshill وكلّيّة هيندُن للشّرطة Hendon Police College وكلّيّة ويكفيلد بشوبجارث للشّرطةWakefield Police Training College Bishopgarth؛ أضف إلى ذلك أنّ أكثر من سبعين نسخة منها وزّعت على الضبّاط الأجانب الذين كانوا يعملون في الشّرطة والجيش العمانيّ في النصف الثاني من القرن المنصرم (ملحوظة: هذه المعلومات زوّدني بها، مشكورًا، مؤلّف الكتاب نفسه.) إذا ما أخذنا بفكرة “الجوهر” كان هذا الانتشار حكمًا على ترجماتي الشّعريّة، القريبة جدًّا إلى نفسي؛ على أنّ الحال أنّ الأمر يعود، في المقام الأوّل، إلى جهود مؤلّف الكتاب الذاتيّة ومكانته السّياسيّة، فهو من أوّل من أسّس جهاز الشرطة العمانيّة، وعيّن لاحقًا أوّل مفتّش عامّ لها، ثمّ مستشارًا للأمن العامّ ملحقًا بالمكتب السلطانيّ. (ملحوظة: انظر قائمة المراجع المترجمة).
34 Paul Thomas Mann (1875-1955).
35 Posner (2005: 66).
36 (Ibid: 67).
الفيسلوف الألماني مارتين هيدجر (Martin Heidegger: 1889-1976)كان متواطئًا مع النّازيّة، والشّاعر والناقد الأمريكيّ عزرا باوند، (-19721885، ( Ezra Pound: أحد مؤسّسي مذهب “الصوريّة” النقديّ، تبنّى ودعم الفاشية؛ الأمثلة في ذلك أكبر عددًا من أن يتّسع المقام لذكرها.
37 في القصيدة العمانيّة الحديثة، مصدر سابق.
38 هذا التّذبذب والاضطراب ليس عمانيًّا على نحو حصريّ بالطّبع، وإنّما هو إنسانيّ يتجسّد في آداب جميع الأمم، فالإيطاليّ دانتي يعدّ أديبًا عالميًّا، إلا أنّه كان مدفوعًا بفكره المسيحيّ في نظره إلى العالم غير المسيحيّ، لعلّنا، العرب والمسلمين، كلّنا نذكر كلامه السلبي في النّبيّ محمّد في كوميديّته الإلهيّة، (Divine Comedy: قائمة الأعمال الأدبيّة العربيّة والأجنبيّة)؛ وكان رائد الحداثة الشّعريّة في العالم الناطق بالإنجليزيّة، تي إيس إِليوت، (1951) يرى أنّ دانتي وشيكسبير يقسّمان العالم الحديث بينهما، فالأوّل، على رأيه، يعدّ مثالًا للجزم العَقَدي الصّارم، بينما الثّاني للأديب الذي يصوّر الإنسان بكلّ وجوه تردّده وتذبذبه.
39 رجاء عالم، طوق الحمام، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، (2012) ط4.
40 المصدر نفسه، ص 420.
41 المصدر نفسه، ص 478.
42 المصدر نفسه، ص 487.
43 المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
44 المصدر نفسه، ص 501.
45 على أنّه (ومن المفارقة) إن كان كلامي هذا صائبًا فلك أن تقول إنّه يفعل ما تفعله ثيمة الترحال والسفر وثيمة تمجيد اليوميّ الذاتي، فإن كان المعنى يتزحلق فليس للخطاب، دينيًّا كان أم قوميًّا، من “حقّ” يدعو النّاس إليه ولا من “باطل” يجنّبهم إيّاه.
46 (Heart of Darkness انظر: قائمة الأعمال الأدبيّة العربيّة والأجنبيّة).
47 (Things Fall Apart انظر: قائمة الأعمال الأدبيّة العربيّة والأجنبيّة).
48 Achebe ([1975]1988).
49 (Adventures of Huckleberry Finn انظر: قائمة الأعمال الأدبيّة العربيّة والأجنبيّة).
50 Wallace (2005: 265).
51 Morrison (2005: Ch. 28, 279-288).
52 على أنّي قبل التطرّق إلى “أخلاقيّات” النقد الثقافي أشدّد على أنّ كشف الأسماء سلطة لا يعني الاستغناء عنها، فتواصلنا مع بعضنا سيصيبه شلل إن رحنا نستحضر كلّ ما تحمله الكلمة من دلالات، ونظامنا الاجتماعيّ سينهار إن لم يصنّف بعضنا بعضًا؛ “فقوام اللغة التصنيف” (الروائيّ والسّيميائيّ الإيطاليّ إمبرتو إيكو (Eco: 1999: 146، فمن دونه نكون “عبدة للخاصّ” Bruner et al.: (1956: 1) أو كما يقول عالم النفس الأمريكيّ ويليَم جيمس، لا يكون عالمنا دون التصنيف إلّا “اضطرابًا طنّانًا رنّانًا” James ([1890] 1950: 488).
53 Sigmund Freud (1856-1939).
54 Jacques Lacan (1909-1981).
55 Derrida (1976: 158-163).
56 إحالة إلى قول كارل ماركس (1818-1883) الشّهير المنقوش على قبره: “كان الفلاسفة فيما مضى مشغولين بتأويل العالم فقط بما اختلف من الطّرق وتعدّد، إلّا أنَّه آنَ أوانُ تغييره”.
خالد البلوشي