في عتمة الصحراء الحالكة،كان ضوء المصباح الكهربائي المدلى من السقف ينوس جاهدا بنوره الكابي لينير غرفة التحويلة البعيدة عن القرية والقريبة من سكة الحديد ، كان الهواء ساكنا في الخارج، والجو شديد الحرارة ، ورغم النافذة الوحيدة المشرعة والباب الحديدي الصدىء المفتوح على آخره، كان فضاء الغرفة كئيبا وخانقا .
في الزاوية وعلى الطاولة الخشبية، حيث موقد الكاز المشتعل وقد وضع على لهبه إبريق شاي، صغير ونحاسي، وقف مرسي يرتدي جلابيته الفضفاضة، حيث تحرر من ثياب العمل الضيقة التي يرتديها منذ ساعات الصباح الأولى، جعل يرقب الإبريق وهو ساهم، وحين بدأ الماء يغلي فار سريعا وفاض ما بداخله وأطفأ شعلة الموقد، أغلق مرسي الموقد ولكن بعد أن تسربت وانتشرت رائحة الكاز وملأت الغرفة، غطى إبريق الشاي وأمسكه بقطعة قماش وأخذ يصب الشاي الأسود الثقيل داخل كوبين وضع في كل منهما ثلاث ملاعق كبيرة من السكر الخشن القريب من اللون البني، ثم حملهما على صينية بلاستيكية عليها رسم كاد يمحى لزجاجة كولا محاطة بقطع ثلج، كان قد دفع أكثر من ثمنها للحصول عليها من المدينة المجاورة بعد أن ربحها قبل سنتين في قعر غطاء زجاجة كولا .
توجه نحو الطرف الآخر للغرفة، حيث كان يجلس سعيد على أريكة خشبية دونما مسند للظهر ولهذا كان يريح ظهرة للحائط، مد مرسي الصينية، فتناول كوب الشاي الساخن ملاحظا السكر الدبق المنثور عليها والذي يقاوم الذوبان، كما شاهد نملة ضئيلة الحجم لا تستطيع الحراك بعد أن أصابها البلل، فخفف من إحكام ربطة العنق من حول رقبته .
عاد مرسي لمقعده قرب الطاولة، وغرق الإثنان في الصمت، رغم أن صدى موقد الكاز مازال يدوم في أذنيهما، خرج سعيد عن صمته قائلا بضيق :
ـــ هل أنت متأكد بأنك ستتعرف على المكان في هذه العتمة ؟
هز مرسي رأسه واثقا وأضاف :
ـــ أعرفه جيدا لا تقلق .
سمعا صوتا خافتا لقطار يأتي من بعيد، وأخذ الصوت يزداد ارتفاعا ودويا، كلما تقدم مقتربا من غرفة التحويلة، نظر مرسي لساعته وقال وهو يشيح ببصره نحو النافذة :
ـــ هذا آخر قطار يمر الليلة .
هز سعيد رأسه فلقد إطلع على كل هذه التفاصيل من قبل وحينما وصل القطار نهض متوجها نحو النافذة وأخذ ينظر للعربات المضاءة من الداخل بنور خافت، ولكن عتمة الليل تجعله يبدو قويا وساطعا، راق له مشهد المسافرين من خلال النوافذ، وأحس كأنهم يعيشون داخل بيوت متحركة قادمين من عالم آخر أو كأنهم يمرقون في مشهد من حلم، عاد وجلس على كرسيه مفكرا بأنه مازال بإمكانه أن يتراجع الآن في آخر لحظة وينسحب من الموضوع ويتناسى الأمر كليا تحت أي حجة، ولكنه لايريد أو لعله يريد أن يبقى منساقا لهذه المغامرة المجهولة التي انتزعته من رتابة أيامه المكرورة ومللها القاتل، ومن يدري لعلها تكون ضربة الحظ التي يمنحها القدر لمرة واحدة …. مرة واحدة في العمر فقط .
تمنى لو تصدق حدوسه التي تمادى بها دون أن يستطيع كبح جماح إندفاعها دون ضابط…. (لو تصدق وأحوز المال الذي أريد لأصبحت قادرا على فتح مكتب محاماة في المدينة، هناك حيث القضايا الكبيرة التي تليق بموهبتي، أما هنا فلا شيء سوى قضايا التهم بتسميم الماشية، أو النزاعات والمشاجرات على الدور في ري الحقول أو قضايا الطلاق والنفقة، هنا حيث الأيام تمر باهتة وشاحبة وتعدو بي نحو الشيخوخة دونما أمل بشيء، أي شيء، فليست أيامي، بل محض انتظار بائس للموت، والليلة لا بأس في أن أضع كل آمالي وطموحاتي ومستقبلي في تلك البراميل المدفونة هناك في بطن الصحراء) .
رفع رأسه نحو مرسي، صديق طفولته أيام الدراسة، والذي تحول لضيق العيش إلى عامل المزلقان المسؤول عن تحويلة القطارات، حيث اعتاد المجيء عنده للسهر وتزجية الوقت باجترار الذكريات، تأمل وجهه جيدا وسأله :
ـــ ألا تجيء قطارات طارئة، ليس كما هو مقرر لها بالجدول ؟
أجاب مرسي :
ـــ لا، نادرا ما يحدث .
وقبل أن يخرج تناول سعيد مجرفة أسندت خلف الباب ووضع عمودها على كتفه، بينما أخذ مرسي معه مصباحا يدويا، وحينما أراد مرسي أن يطفئ نور الغرفة قال له سعيد منبها:
ـــ لا تطفئها، حتى لا يعلم أحد أنك غادرت الغرفة .
وخرجا نحو الفضاء البليد القاحل والصامت لتبتلعهما العتمة .
* * *
يبدو أن حزمة الضوء المنبعثة من المصباح اليدوي، راقت لمرسي فأخذ يعبث بها على هواه، يسلطها حينا قريبا من أقدامهما حتى يتمكنا من رؤية الطريق، وحينا آخر يمدها بعيدا، يفرشها على الأرض ليرى إمتدادها الساحر المغري الذي يخترق السواد السميك للعتمة، وبعد قليل رفع حزمة الضوء للأعلى، كانت مثل عمود من الرخام الناصع البياض ينطلق من الأرض متجها نحو السماء .
كان سعيد يرقب ذلك في البداية صامتا، ليس لأنه الآخر كان يستمتع بذلك، بل لأنه كان يغرق ببطء في بحر أحلامه، ولكنه إذ تنبه لما تثيره عربدة النور في العتمة من فوضى تلفت الانتباه، لكز مرسي بيده قائلا:
ـــ سيفضحنا النور !
ـــ لن نرى الطريق .
ـــ إجعله أمامنا فقط .
ـــ كما تريد .
ـــ أما زلنا بعيدين ؟
ـــ كلا إقتربنا .
الصحراء والهواء الجاف الساخن والعتمة، والمجهول القابع تحت الأرض بانتظارهما جعلهما يغرقان في الصمت مجددا، كان مرسي هو الآخر له أحلامه، المال، وإن كان لا يريد ثروة …. ( فقط ما يكفي لإجراء عملية جراحية لإزالة المياه الزرقاء من عيني والدتي التي قاربت على العمى، وأن أتزوج عائشة بنت الحاج محفوظ … ) وحتى لا يبقى الصمت الذي طال بينهما مسيطرا، سأل مرسي :
ـــ ماذا تعتقد بأنه مخبأ داخل هذه البراميل ؟
لم يسبق أن بحثا في هذا الموضوع سابقا، وإن كان قد خطر في أمنياتهما، كل على حدة،أشياء كثيرة، فأجاب سعيد متبرما :
ـــ ما أدراني .
ـــ لعلها محشوة بالمخدرات !
أجاب سعيد بفزع :
ـــ كلا، مستحيل .
رغم أنه كان يعلم بأن لاشيء مستحيل، ولكنه كان قد رتب ظنونه وأحلامه على أنها قطع آثار وتماثيل مسروقة أخفيت في براميل وقود أو زيت لحين ترتيب أمر تهريبها خارج البلاد، عاد صوت مرسي يلح :
ـــ ماذا تعتقد إذن ؟.
فصارحه سعيد بما كان يخالجه :
ـــ ربما كانت آثارا مسروقة .
ـــ كيف لم يخطر هذا في بالي، حينها سنسلمها للشرطة .
فضحك سعيد وهو يقول :
ـــ نتكبد كل هذه المشقة لنسلمها للشرطة !
ـــ على ماذا تنوي إذن ؟
ـــ لدي طريقة لبيعها لجهات تتلهف لاقتنائها.
ـــ نبيع آثارنا بلدنا للغرباء ؟
ـــ لا تنظر للأمر من هذه الزاوية، فالتحف الأثرية إرث عالمي، إنها ملك للإنسانية، صحيح
إنه تاريخنا، ولكن أليس تاريخنا جزءاً من تاريخ الإنسانية، ثم أنهم هناك أقدر على دراسته والحفاظ عليه، أرى أنه عليك أن تفكر على هذا النحو وأنت مرتاح الضمير .
ـــ ولكن ….
ـــ ليس هناك لكن .
عاد الصمت الثقيل، رغم الضجيج الصاخب الذي يمور في صدريهما، ولكن الصمت لم يطل هذه المرة، حين انطلق صوت مرسي، بعد خطوات قليلة، وعلى غير توقع قائلا :
ـــ هنا، ها قد وصلنا .
أخذ سعيد يلتفت حوله وينقل بصره في أرجاء المكان متشككا :
ـــ هل أنت متأكد من أنك رأيتهم يخفونها هنا، المنطقة كلها متشابهة ؟
ـــ متشابهة للذي لا يعرفها .
حينها سلط مرسي عمود النور على غصن صغير جاف مثبت بالأرض وقال :
ـــ هذا الغصن أنا الذي وضعته هنا .
ـــ ماذا لو حركه الهواء؟ .
ـــ ليس عندما يكون أكثر من نصفه مثبت داخل الأرض.
أنزل سعيد المجرفة عن كتفه متجها نحو الغصن الجاف، نظر لعيني مرسي الملتمعتين في العتمة، ولكن مرسي أشاح ببصره عنه وجعل ينظر للأرض قريبا من أقدام سعيد الذي أخذ يضرب الأرض بالمجرفة بقوة مزيحا التراب جانبا .
أخذا يتناوبان على الحفر بهمة ونشاط فكلما أحس أحدهما بالتعب وامتلأ جسده بالعرق، تناول الآخر المجرفة منه ليتابع الحفر الذي استمر لثلاث ساعات دون أن يظهر شيء، انتابت حينها سعيد الشكوك، وفكر بأن يلقي المجرفة جانبا ويلعن مرسي ويعود أدراجه للبيت خاصة بعد أن أصبحت حافة الحفرة بطول قامته، ولكنه استمر بالحفر غاضبا ومقامرا، وكانت كل ضربة بمجرفته تجعله أكثر يأسا على التشبث بهذا الحلم، لهذا استمر يحفر بجنون حتى سمع صوت المجرفة تضرب بسطح معدني، حينها توقف عن الحفر بعد أن تملكه إحساس غريب أشبه ما يكون بأنه خذل، كان بدأ يتوقع بأنه سيستمر بالحفر دون أن يجد شيئا، لكن الصوت المعدني بدد كل شيء وعاد ليسحبه بقسوة إلى القدر المخبأ داخل البراميل، نظر نحو مرسي الذي ارتسمت على شفتيه ابتسامة قلقة ليقول :
ـــ وصلنا .
انحنى سعيد وأخذ يزيح التراب بيديه ثم دق على السطح الصلب الذي جعل يصدر صوتا معدنيا مخنوقا، فرفع رأسه نحو مرسي وقال :
ـــ نعم وصلنا، هذا واحد منها .
عاد يحفر من جديد حول البرميل بعد أن أزال الرمل عن حوافه وتأكد بأنه لا يستطيع فتحه لأنه مغلق بإحكام، كما بدأت تظهر أسطح براميل أخرى مجاورة، وحينما ظهر من البرميل أكثر من ثلث حجمه استطاع أن يرى ــ رغم العتمة ــ أشباح خطوط ورسم على جداره، فطلب من مرسي أن يسلط ضوء المصباح عليها، اقترب مرسي أكثر من حافة الحفرة وسلط الضوء حيث طلب منه سعيد الذي أخذ يقرأ الكلمات المكتوبة باللغة الإنجليزية، ولكنه ما لبث أن انتفض مبتعدا كالمجنون، وبحركة سريعة وغير متوقعة تسلق الحفرة خارجا منها وراكضا بعيدا عنها، مرسي أخذ يركض هو الآخر لاحقا بسعيد الذي توقع أن أفعى خرجت من الحفرة له، ولهذا استغرب قيامه بمسح كفيه بثيابه أو يتوقف ليفرك كفيه بالتراب وهو يتمتم بكلمات غريبة حينا أو يشتم ويلعن حينا آخر، فسأله مرسي بعد أن استولى عليه الرعب هو الآخر :
ـــ مابك ؟ ما الذي حدث ؟
أجابه سعيد دون أن يتوقف عن الجري :
ـــ البراميل !
ـــ ما بها ؟
ـــ محشوة بالنفايات النووية .
في العتمة الأخيرة الحالكة لليل، كان الجسدان المرتعبان والمخذولان يغذان السير عائدين
وأبصارهما معلقة بالنور الشاحب المنبعث من غرفة التحويلة .
سميـــر البرقــــاوي
كاتب من فلسطين