محمد السماعنة
أفاقت قريتي الجبلية الرابضة على تلتين وسهل في الوقت المحدد، وكما خطّط لها المختار، وقد سارعت نساء القرية لإشعال النار وعجن الطحين، وركض الرجال إلى الحقول للسقاية والحراثة وزراعة الأرض وبذر البذار، وإطعام الحيوانات والطيور.
أما المختار فكان جالسا في مضافته يراقب عقارب الساعة مستعجلا الفلاحين ومحذرا ومنذرا من اقتراب عقارب الساعة من وقت النوم الشهري، وقد كان يعدّ خطاب النوم وترويدته الكبرى عندما دخل القطروز المضافة هلعًا مرتبكًا وعلى وجهه علامات الخوف والقلق، وفي ساقيه الطويلتين اهتزازات وانحناءات:
مصيبة يا مختار مصيبة!
المختار بعينين صارمتين وشفتين جافتين ولسان واثق: ما بك يا ولد؟
وقف القطروز أمام المختار لاهثا تسبقه نبضات قلبه وقال بصوت مرتج رخو: محمد ابن أبو جمال يا مختار، مكشل.. وسكت القطروز بعد أن انحشرت أنفاسه في حلقه، وأغلق ريقه الباب عليها.
فضجّ المختار وغضب، واحمرّت عيناه من الغيظ، وصرخ بالقطروز: “ولك احكي، يقصف عمرك”!
فقام القطروز من غفوة أنفاسه فقال وكأنه يلقي عن ظهره حملا من الشوك والجمر: يقولون إنه لم ينم الشهر معنا!
فهب المختار غاضبا، وأمسك القطروز من جيب قميصه، وقال والغضب يلتصق بحروفه: “شو قلت؟”
القطروز مرعوبا: محمد ابن أبي جمال لم ينم معنا الشهر، ويقولون إنه لم ينم معنا أي شهر، وإنه ينام ليلا ويصحو في كل فجر ليجوب القرية، ويراقبنا ونحن نيام.
وانتشر الخبر في القرية أنّ محمدا ابن أبي جمال لا ينام مع النائمين.
وحين أحضر الحرّاس محمدا إلى المضافة، كانت ساعات النهار قد ركضت باتجاه الليل، وتكاد تُنهي ساعات يوم الصحوة الشهرية؛ صحوة الشهيد، ولتبدأ النومة الشهرية الرابعة؛ نومة الوطن، كما أسماها المختار الذي تكفّل بتسمية النومات والصحوات.
المختار بغضب: محمد يا محمد، قل لي ما الأشهر التي لم تنم فيها؟
محمد ابن أبي جمال بثقة: أنا أنام الليل، وقد ألا أنام إلا نصفه.
المختار وهو يبلع ريقه من الغيظ: إذن، فأنت تخالف أمري، وتظلّ صاحيًا لمراقبتنا ونحن نائمون. وأنت لا تقرأ ترويدة النائمين، ولا تعتزّ بمستقبل أحلامهم، ولا تبالي بحياة الأحلام، ولا تؤمن بأنه بالنوم وحده تحيا الأمم وتسعد وبالحلم تعيش؟
محمد ابن أبي جمال بحب وبرقّة: كلا.
المختار مستهزئًا: لعلّك عزفت على لحن إيقاظنا أيضا، والله عال العال، ثم التفت إلى القطروز، وقال له بحزم: اربطوه إلى العمود، واجمع لي مجلس القرية.
الصمت والسكون اللذان غلّفا المضافة كانا بانتظار أن تنتهي نظرات المختار إلى جبل الطلة، ومضت دقائق كثيرة قبل أن يقف المختار ليقول لهم: يا ربعي ويا عزوتي، أنا جمعتكم كي ننظر في أمر هذا العاقّ المستهتر، وأشار بعصاه إلى محمد ابن أبي جمال المربوط إلى العمود.
قال أحدهم: أرى أن يظل مربوطا هنا.
قال آخر بحماس: أرى أن نربطه إلى عمود من أعمدة المسجد.
وقال ثالث بتودّد: الرأي رأيك والشور شورك يا مختار، ونحن يمناك وعصاك.
ارتاحت عينا المختار قليلا من صعودهما المستفزّ المربك فقال: علينا أولا أن نسمع منه ما رأى منا في نومنا.
وأردف القطروز بحذر: ونعرف لمَ وكيف ومتى وهل، علينا أن نحدد أينَ الخلل، وما السبب.
المختار وهو ينظر بحرصٍ وحذرٍ إلى الساعة: لم يبقَ من يومِ الصحوة إلا ساعة، وهي لا تكفي للتحقيق معه، ولسماع أقواله. فلنكتفِ بتشكيل لجانِ القضيّة، وليتولّ أبو علي المنجد تشكيل اللجان وتحديدَ مسؤولياتها وصلاحيّاتها. أما الآن فلنبدأ بقراءة ترويدة النوم عليه، ولنتأكد من نومه العميق.
وبدأت أصوات متداخلة كأنها طنين النحل تنسكب على عيني محمد وأذنيه، ترافقها لطمات قويّة على ناصيته، ثمّ فتح أحدهم فمه وسكب فيه سائلا أحمرَ قانيًا، وقال: نمْ يا محمّد، ثلاث مرات، فنامَ محمد مربوطا إلى عمود المضافة.
المختار وهو ينظر إلى الساعة: هيّا هيّا بسرعة إلى بيوتكم فقد حان موعد النوم. وامتلأت ممرّات القرية بالرجال والنساء والأطفال الراكضين المسرعين إلى بيوتهم.
أما المختار فكان ينظر بخوف وقلق إلى محمد ابن أبي جمال المربوط النائم حين دخل عليه القطروز خائفًا مرتبكًا وهو يصيح: مصيبة يا مختار، مصيبة يا مختار!