رغم أهمية الروائي التشيكي إيفان كليما الناجي من المجازر النازية، لكن تأخرت ترجمته إلى العربية. في المدة الأخيرة انتبهت دار «التنوير» في بيروت إلى أهمية كليما بعد مقال كتبه حوله الروائي اللبناني ربيع جابر، وأصدرت التنوير روايتين لكليما الأولى بعنوان «حب وقمامة»، ترجمة الحارث النبهان، و»لا قديسون ولا ملائكة»، ترجمة ايمان حرزالله. وبرغم أن كليما أحد أبرز الروائيين التشيك، لكنه لم يعرف شهرة مواطنه ميلان كونديرا في الغرب وفي العالم العربي، مع أنه لا يقل أهمية عنه، وهو مثله شاهد على أزمنة صعبة وعلى أنظمة قاسية وقمعية، وما يجمع بين الروائيين أنهما يحاوران مواطنهما فرانز كافكا، لكن جاءت شهرة كونديرا على حساب كليما. ذهب هذا الأخير إلى باريس، وسلطت الأضواء عليه في وصفه هارباً من النظام التوتاليتاري، وتخلى عن تشيكيته وكتب بالفرنسية وعومِل على اعتباره مضطهداً وهارباً من جحافل القمخ الستاليني. ايفان كليما لم يكن منشقاً، وبقي يصارع روح براغ، فضل كناسة شوارع مدينته على المنفى.
بين كونديرا وكليما ثمة الكثير من المناكفات، تشبه تلك التي بين يوسا وماركيز في جانب من الجوانب، ففي كتاب أصدره الروائي الأميركي فيليب روث بعنوان «لنتحدّث في العمل» لدى دار «غاليمار»، وتضمن مجموعة حوارات مع كتاب عالميين من بينهم إيفان كليما إذ يُقوم هذا الأخير بتشريح الساحة الأدبية التشيكية من العام 1950 وحتى اليوم، ويقول روث عن كليما بأنه نقيض مواطنه كونديرا على رغم نقاط تشابه كبيرة بينهما. إذ ثمة هوة عميقة بين طبعَيهما وأصولهما ومسارَيهما في الحياة. ولكن هنالك في الوقت ذاته قرابة شديدة على مستوى استخدام الإروسية والكفاح ضد اليأس السياسي. ومع احترامه لكونديرا، إلا أن كليما يُبيّن في هذا الحوار كيف أن تجربة كونديرا بذاتها تتناقض مع موقعه كالطفل المدلل للنظام الشيوعي حتى العام 1968. ويشير كليما إلى أن كونديرا في الفترة التي بلغ فيها شهرة عالمية، كانت الثقافة التشيكية تقود صراعاً مريراً ضد النظام التوتاليتاري شارك فيه المفكرون الذين بقوا داخل البلاد وأولئك الذين كانوا منفيين، وعانوا كثيراً وضحّوا بحريتهم الخاصة ووقتهم وأحياناً بحياتهم، على خلاف كونديرا الذي لم يتضامن أبداً معهم ولم يشارك في هذا الجهد. وثمة من يعتبر
حديث كونديرا عن الرعب الستاليني يبدو نابعاً من إثم ما، فهل كان ميلان كونديرا ستالينياً؟ في كتابه «كيف نصبح كونديرا؟» الصادر عن دار «لارماتان» يعود مارتن رزق إلى أعمال كونديرا التي كان نشرها في تشيكيا، وهي أعمال «تخلى» كونديرا عنها ولم يذكرها مطلقاً في أعماله اللاحقة. من هذه الأعمال دواوينه الشعرية. يبيّن الباحث أن كونديرا كان شاعرا «مناضلا» يكتب مثلاً «إلى أرض ستالين، سنذهب لنغرف قوتنا». الى جانب أنه كان عضواً في الحزب الشيوعي، وأن فاتسلاف هافل هاجمه يومها لأنه وجد مواقفه معتدلة في ما يتعلق بربيع براغ. اتهم كونديرا بالتعاون مع الشرطة الشيوعية السرية، تهمة وصفها كونديرا، بأنها «كذبة» واعتبرها «اغتيالاً لكاتب».
وبغض النظر عن الخلافات بين الكاتبين التشيكيين، يعتبر كليما أحد كبار الروائيين والمسرحيين التشيكيين المناهضين للديكتاتورية في بلدان المعسكر الشيوعي(السابق)، خصوصاً في مرحلة «ربيع براغ» عام 1968. وينتسب كليما، إلى عائلة مثقفة، اكتشف ان والديه يهوديين عندما تسلم هتلر السلطة الألمانية وأرسل الى المعتقل مع أسرته التي نجت لكنها عانت من موت أقرباء وأصدقاء «قتلوا بالغاز كحشرات وأحرقوا كفضلات». ولأنه يهودي، فإنه أمضى أكثر من سنة في أحد المعسكرات النازية قبل أن يحرره الجيش الأحمر الروسي وذلك 1945، عندما عمل في مستشفى تعجب زملاؤه من هدوء أعصابه إزاء الجثث، لكن سنوات المعتقل منحته القوة، ونجاته وهبته التفاؤل. مع ذلك بقي الجوع في البال. وهو يقول إنه قرأ سراً خلال فترة الأسر تلك، تشارل ديكنز وهوميروس وجول فارن، ليكتشف فرانز كافكا لاحقاً: «كانت أول قصة قرأتها لفرانز كافكا، قصة تضم المقطوعات الشعرية الطويلة القليلة التي أنجزها، وكانت القصة تتحدث عن رحالة أراد ضابط في إحدى الجزر أن يريه آلة الإعدام الغريبة التي صنعها بمحبة وتفان. لكن الآلة تعطلت أثناء العرض وشعر الضابط بخزي كبير جراء هذا، فوضع نفسه على كرسي الإعدام». اكتشف كليما قوة الأدب في المعتقل النازي، هذه الولادة الثانية يسجلها كليما خيالياً في أكثر من رواية كما يقول ربيع جابر.
انتسب كليما إلى كلية الآداب في براغ، وأصبح صحفياً. وعندئذ اصطدم بجهاز الرقابة الذي كان قوياً في ظل النظام الشيوعي. ووقف في وجه الثقافة الجدانوفية الستالينية قائلاً: «على الأدب أن يرفض أن يتم استعماله من أجل غرض ما. هناك بالطبع أوضاع خاصة يجد الأدب نفسه مجبراً على أن يكون أداة نضال مثلا، وذلك حين يتم غزو بلد من قبل جيش اجنبي، أو حين يتعرض شعب ما الى مظالم أو يجد نفسه ضحية للاستبداد والإرهاب». لم ينجر كليما في حياته إلى وهم الانشقاق والرحيل عن بلاده في زمن الشيوعية، فضَّل العمل في القمامة على الانشقاق والرحيل. يقول إنه طوال 70 في المائة من وقته لم يعش الحرية، فبعد سنوات النازية الهتلرية الألمانية جاء الاحتلال السوفييتي الشيوعي لبلاده عقب ربيع براغ في 1968، ففي تلك الأيام، كانت تشيكوسلوفاكيا، تئن تحت نير نظام شمولي استبدادي. وكان الروائي، مكرهاً لا بطلاً، يقبع متربصاً في خندق المنشقين. ولكن أبطال رواياته لم يرفعوا راية التمرد. وإنما كانوا يكابدون، في صمت موحش، من شظف العيش وجبروت الاستبداد.
وعندما تجرأ إيفان كليما عام 1970، وطالب بإلغاء الرقابة على الكتب والثقافة. بادر النظام إلى منع نشر مؤلفات كليما الذي كان يكتب لئلا يموت، ويصف علاقات الحب بطريقة لا تشبه أحداً، وكان شاهداً على أزمة صعبة وقاسية ومريرة، ولم يجد مفراً من أن يعمل عامل كناسة في شوارع المدينة. وفي ذلك الوقت كان كاتب مسرحي لامع هو فاتسلاف هافيل يعمل سائق تاكسي،. والمفارقة أن احد ابطال رواية «خفة الكائن التي لا تحتمل» لميلان كونديرا يعمل سائق تاكسي. ثم جاءت السنوات الطويلة من الدكتاتورية والقمع قبل «الثورة المخملية» التي اندلعت في 1989 بعد موجة البرويستريكا الجورباتشوفية. وطوال هذا المرحلة لم تغب فكرة الحرية أو الإيمان بها والاعتقاد بإمكان العثور عليها في غمار كتابة الحقيقة عن ذهن كليما.
إذا كان عام 1989 مخملياً، فإن كليما يقول إن نهاية الستينات وبداية السبعينات كان أسوأ المراحل، فقد انطلقت الدبابات السوفييتية لتضع نهاية لربيع براغ في أغسطس 1968. وقد كان كليما في طريقه إلى الولايات المتحدة لأجل زمالة تدريس في ميتشغان، وهزته الأنباء، وعندما انتهت فترة التدريس بعد عام وجد نفسه حيال قرار صعب يتعلق بالبقاء في المنفى على نحو ما فعل الكثير من المنشقين التشيك أو العودة إلى بلاده. ويتذكر كليما: «قال الجميع: لا ترجع فسيرسلونك إلى سيبيريا!». لكنه أحسَّ بأنّ لا معنى لبقائه في الخارج باعتباره كاتباً وافتقاده ليس للغة وحدها، وإنما للناس الذين يفهمهم.
بعد انهيار المنظومة الشيوعية، أصبح فاتسلاف هافيل المسرحي والمثقف رئيساً لتشيكيا. وتحلّق الكتاب والفنانون من حوله. وتم نشر روايات وقصص إيفان كليما عام 1990، وراجت بقوة لكن القراء أصيبوا بخيبة أمل، لأن حبكة الروايات لم تنطو على مواجهة سياسية حادة مع الشيوعية. لم يكتب كليما من أجل الشعارات بل كان يكتب بعمق، ولم يمت أدبه من انهيار جدار برلين وسقوط الشيوعية بل استمر حتى الآن شهادة من الروح تصلح لكل مرحلة. وفي عام 1990 أيضا، أصدر إيفان كليما كتاباً صغيراً حمل عنوان: «محاورة في براغ»، وفيه يتحاور مع الكاتب الاميركي فيليب روت حول العديد من القضايا المتعلقة بالأدب والسياسة والتاريخ والفلسفة. وعن الحقبة الشيوعية، والمظالم التي تعرضت لها خلالها الشعوب والنخب المثقفة، يقول كليما: «ما عشناه نحن كأشخاص وكمجموعات كان خارج كل تصور عادي وبإمكانه أن يُضلّلنا، ومدفوعين بضرورة استخلاص العبر من تجربتنا المرة تلك، نحن نخشى أن نرتكب اخطاء قاتلة بإمكانها ان تؤدي بنا الى التهلكة عوض ان تقربنا من العدالة ومن الحرية اللتين نحن بحاجة أكيدة إليهما. وفي ذاتها، لا تستطيع تلك التجربة القصوى التي عشناها ان تقود الى الحكمة، ونحن لا نتوصل إلى ذلك الا بعد ان نتخذ المسافة الضرورية لمعاينة ما نحن عشناه حقاً».
حب وقمامة
أصدر كليما العديد من القصص والروايات والمسرحيات، وقد تكون أعماله المترجمة الى العربية خير معبّر عن أعماله، ففي روايته «حب وقمامة»، يتحدث إيفان كليما عن وضعه الخاص من خلال كاتب يصبح عامل تنظيف بعد أن تم القضاء على «ربيع براغ» عام 1968، يسوق ولوجه في عالم القمامة على قاعده أنه «كثيرا ما يظن المرء أن عقله سوف يغدو خاملاً إن هو لم يستطع النظر إلى العالم والناس من زاوية جديدة» و«أن الإحترام لا يناله إلا من ينظفون العالم من القمامة البشرية: الشرطة والقضاة والمحققون».
في متن الرواية يحضر الشبح الكافكاوي (نسبة إلى فرانز كافكا)، أو هذا الروائي التشيكي الذي عاش مرارة حياته في براغ يكابد الأحوال البيروقراطية ومحنة الآب القاسي. ما يفعله كليما أنه يواجه الواقع القذر والتعسف، وأن يجمع عنوان الرواية بين الحب والقمامة فتلك هي المفارقة، الكلمات وحدها تعبر عن مقاصد الروائي في وصفه، يقول: «كان كنَّاسو (لغة الحمقى) يصلون في مركباتهم المزينة بالأعلام، متظاهرين بأنهم يكملون ذلك التنظيف الكبير، يكنسون ذكريات الماضي كلها، كل ما كان عظيماً في الماضي! وعندما يتوقفون فرحين في مكان يبدو لهم أنه قد صار نظيفاً تماماً، يأتون بواحد من فناني (لغة الحمقى)، بواحد منهم، فيقيم هنا نصباً للنسيان، تمثالاً مؤلفاً من جزمة طويلة ومعطف وبنطال وحقيبة، وفوقها كلها وجه خالد لا نشعر أن وراءه روحاً أو حياة لكنهم يعلنونه، وفق العقيدة الرسمية، وجه فنان أو مفكر أو عالم أو شخصية وطنية».
يصرّح الراوي بخشيته من استخدام كلمة كاتب للإشارة إلى نفسه، يتردّد في وصف نفسه بها، وهو الذي كان يظنّ أنّ على الكاتب أن يكون في حكمة الأنبياء وفي نقاوة القدّيسين وندرتهم، وأن يكون شجاعاً لا يعرف الخوف تماماً مثل لاعب السيرك الذي يطير قافزاً بين الحبال. ويتملّص من الإجابة حين يسأله أحدهم عن عمله، ولا يجرؤ على التباهي بأنّه كاتب، ويظنّ أنّه ليس للمرء في أحسن الأحوال إلّا أن يقول إنّه قد كتب بعض الكتب. وفي موضع آخر يكتب كليما: «كتل الأفكار المرمية هي الأكثر خطورة بين القمامة كلها، القمامة التي تُغرقنا وتهددنا بأنفاس التحلل المنبعثة منها، إنها تندفع من حولنا وتنزلق هابطة منحدرات أرواحنا، والروح التي تلمسها تلك الأفكار تروح تذوي وسرعان ما لا يراها أحد حية من جديد». وفي مكان آخر يوضح: «إن شرح طريقة الإزالة الاقتصادية الفاعلة للقمامة البشرية من هذا العالم على نحو عملي محكم وفق روح زمننا الثوري ووفق أفكاره وأهدافه وارد في المذكرات التي كتبها الضابط هوس، آمر معسكر أوشفيتز».
لا قديسون
وفي روايته «لا قديسون ولا ملائكة» يأخذنا ايفان كليما إلى براغ في السنوات الأولى التي تلت التمرّد على آثار العصر الستاليني السوفييتي، وتتناول، شأن روايات كليما الأخرى، العيش في براغ، قبل الربيع وبعده. يكتب كليما بواقعية وشفافية، ويقدم رواية مليئة بالمشاعر والأحلام والخوف… هاجسه كيف نتخلص من الحقد والألم والخوف من دون أن يكون تمردنا حفرة جديدة… ذلك هو ما يبحث عنه في الرواية، إذ يقدم شخصيات تجسد التجانس الأزلي بين العيش تحت انظمة قمعية قديمة وصعوبات وإحباطات عهد الحرية الجديد… وهي صادقة، مقنعة، مصابة وهشة، مرتبكة، مفعمة بالحياة. على غرار أنطون تشيكوف، يبرز كليما ما هو غير عادي في الحياة العادية، ويمسك الحاضر بقبضته حتى وهو يستكشف الماضي بالأخرى.
بطلة الرواية كريستينا، طبيبة أسنان تجاوزت الأربعين من عمرها، تعيش حياة متوترة وقلقة، ممزقة بين عملها والتردد على زوجها السابق الذي أصيب بمرض عضال وبات طريح الفراش، والاعتناء بابنتها المراهقة التي تكتشف أنها باتت مدمنة مخدرات، وزيارة أمها التي تسكن وحيدة وينتابها خوف وقلق كل الوقت.
تبدأ الرواية بإعلان كريستينا أنها قتلت زوجها بمثقب للأسنان حفرت به ثقباً في رأسه. ولكن حدث ذلك في الحلم. غير أنه حلم يلخّص رغبتها الداخلية: قتلت زوجي في الليلة الماضية. استخدمت مثقب أسنان لثقب جمجمته. انتظرت لأرى حمامة تخرج من رأسه، لكن خرج بدلاً منها غراب أسود كبير. استيقظت مرهقة، أو على نحو أكثر دقة بلا شهية للحياة. بتقدمي في السن تضعف شهيتي للحياة. هل شعرت للحظة بشهية مفعمة للحياة؟ لا أظن، لكن قطعاً كان لديّ مزيد من القوة».
تحولات
روايات كليما، وإن تمحورت موضوعاتها حول هاجس التحول السياسي في بلاده وبراغ تحديداً، تشتمل على خطاب آخر، لا يقل أهمية وعمقاً، هو خطاب الحياة في معناه الواسع بما في ذلك الديكتاتورية والرقابة والحب. ومغزى الرواية المؤثر واضح: الإيديولوجيا، أيّاً كانت، تفسد المحيط الذي يعيش فيه الإنسان. يدمن الإنسان الطغيان ويفتقده حين يكون كل شيء طاغياً. ما يلفت في تجربة كليما الروائية ليس الجمالية الروائية التي يملكها، بل الشبح الكافكاوي الذي يسيطر على أفكاره وأفكار معظم الروائيين المهمين في العالم، كأن كافكا وجد ليكون نبي العصر الحديث في الرواية، فهناك العشرات من الفائزين بجائزة نوبل للآداب يعتبرون كافكا حجر الزاوية في اعمالهم وأفكارهم ونظرتهم الى الوجود.