كتابة وحوار : أسعد الجبوري *
منذ اللحظة التي دخلنا فيها ذلك النفق المحفور تحت الأرض،ونحن نتمتع بموسيقى تصاحبها أصواتٌ غنائية مذهلة،وكأن كورالاً عظيماً كان يرافقنا ونحن نحاول الخروج إلى السموات من طرف الأرض الآخر .
كنا أشبه بالريش ،حيث لم نشعر بوزن لأجسادنا في تلك الرحلة.فقد غمرتنا نشوةٌ تفيضُ منها رائحةٌ شبيهة بعطر العنبر،قيل إنها تساعد المسافرين عبر الفضاء على التمتع بالتحليق الضوئي داخل جوف المركبة المسافرة بنا في مهمة اللقاء بالشاعر الأمريكي والاس ستيفنز لإجراء هذا الحوار معه.
لم تنقضِ ساعة ضوئية من الطيران،حتى حدثت لنا مشكلة طارئة،وهي إن مخلوقا ((تروناسي )) الذي كان يقود مركبتنا ،ابتلع بعض الأقراص التي سرعان ما ساهمت بتغيير مزاجه،والاندفاع بمغامرة غير محسوبة،وذلك عندما فتح باب المركبة وراح يسبحُ بالفضاء ويمارسُ الألعاب البهلوانية ما بين الكواكب والنجوم ،فيما كانت الموسيقى تهدر في المركبة على وقع أرواحنا المتطاير نشوةً مَشُوبةً بالذعر.
ما أن عاد ((تروناسي)) لقيادة المركبة من جديد،حتى غمرنا النومُ بشكل مفاجئ ،ربما نتيجة تسرب الهواء الفضائي حاملا غازات مجهولة.إلا أن ذلك لم يدم طويلاً ،بعد أن رأينا الشاعر والاس ستيفنز وهو يقف فوق رؤوسنا مبتسماً وسعيداً بوصولنا.
لقد تحملنا كل تلك المتاعب من أجل الوصول إليك أيها الشاعر.قلنا له ذلك ونحن نصافحه.فابتسم مرحباً وهو يصطحبنا إلى طاولة مستديرة،تناولنا شراباً ساخنا وفتحنا باب الحوار بالسؤال :
l كيف يكون الشاعر تجريدياً برأي والاس ستيفنز؟
ـــ عندما يمتلئ ذهنهُ بالمخلوقات ،ولا يجد لنفسه مكاناً بجسده الخاص.
l أية مخلوقات ؟
ـــ المخلوقات التي تنتجُ أنفسها ذاتياً دون الحاجة إلى تراكم الواقع بالخيال أو العكس
l ألا تعتقد بأن الشعر مشهدٌ خارج قبضة الواقع والخيال على حد سواء؟
ــ قد يكون ذلك صحيحاً في بعض مناطق الشعر،بفعل الانتماء للعدم.أي أن الشعر يفلت من قبضة الاثنين،بالانتماء إلى منطقة ثالثة تقوم على زمن لغوي غير منظور،إلا أننا يمكن أن ندركه بواسطة الاستشعار عن بعد.
l ماذا تقول تجربتك الشعرية عن ذلك ؟
ـــ كانت تجربتي تراكمية وغير مستعجلة.ومع ذلك كنت مستغرقاً بالمجرى العام للشعر الأمريكي دون خوف من حدوث فراغ بنصوصي التي نشرتها بكتابي الأول ((ضرب الأرغن)) الصادر عام 1917.
l المجموعة الشعرية الأولى التي نشرتها بعد الأربعين عاماً من عمرك؟
ـــ أجل.لقد مر وقت طويل وحادّ حتى تمكنت من نشر ذلك الكتاب الأول.
l هل كنت خائفاً أم أجوف لتمتلئ فتكتب بعد ذلك ؟
ـــ الشعرُ لا يحتاج إلى سرير ليرقد أو لينام عليه،بقدر ما يكون محتشداً كأن يصبح طيراً يحقق نصره بالطيران بعد اكتمال جناحيه. لذلك لم أكن مستعجلاً بتركيب جناحي ذلك الطائر ،ولا متهوراً بالكتابات البرقية.
l تقصدُ إنك كنت تقوم بتربية لغتك أم بتغذيتها ؟
ـــ بالاثنين. مضافاً إلى ذلك نفسي
l وماذا تقدمُ النفسُ للشعر برأي ستيفنز ؟
ـــ أعتقدُ إنها تقومُ بفتح المجال الجوي،ثم شحنه بالهواء من أجل ذلك الطيران الحرّ.
l ألا تعتقد بأن كلاماً كهذا ،لا ينطق إلا من باب التهويل ليس إلا ؟
ـــ لا توجد مشكلة بالنسبة للشعر الحراري ،سواء باستنطاق الكائنات الطبيعية وخلافها،طالما أنه يستمد الشحن من دم الشاعر الحار،أما أصحاب الدم البارد من الشعراء،فهم ثلاجات للأحلام والكلمات والنظرات والتصاوير.
l أليستْ الطبيعةُ أمُ الشعر أو رحمه الواسع؟
ـــ لا. وأبداً. لقد خَلقَ الشعرُ نفسهُ من غبار طلع الرموز المشحونة بالأوكسجين والجنون والغرام المُركب تركيباً ضوئياً من الزنا،بينما الطبيعة تكويناتٌ جيولوجية تشارك أفعال السموات بالبرق والرعد والمطر والريح.
l هل تعلمت كلّ هذا الغنى الفني،من خبرتك كمحام في حقل التأمين؟
ـــ لا يوجد مانع يحول دون الاعتراف ،بأنني كنت تلميذاً نجيباً للاستماع إلى جميع حركات اللغة وأصواتها الداخلية التي تمددت بذهني على مدار زمن طويل من التحايل على الكلمات،كي أكون جيباً لها في ذلك المعطف اللغوي الطويل.
l ما الذي يُفَرقُ ما بين مواد القانون وما بين الجملة الشعرية برأيك ؟
ـــ النسائم الروحانية ليست إلا. ذلك أن القوانين عادةً ما تنتمي إلى التشريعات القاسية،فيما لا يكون انتماءُ الشعر إلا إلى ذاته بجميع طوابقه الجمالية وطبقاته اللغوية التي تعتمد على المجاز والبلاغة والتصوير الدقيق بكاميرات ديجيتال.
l كيف ينظر والاس ستيفنز إلى مفهوم الرحمة بالقارئ لغوياً ؟
ـــ مازال مفهوم الرحمة ما بين الشاعر والقارئ شائكاً وغائماً بحق. لا أريد توحيد الاثنين ببوتقة واحدة، كما لا أرغب بأن يكون فعل الاستغراب أو التغريب قائماً ما بين الطرفين،إلا أنني أعتمد على ذكاء القارئ في حقول الكتابة.
l هل أنت عدو للقارئ؟
ـــ بالتأكيد لا،ولكنني لا أضمن التعاطف معه باستمرار.
l ماذا وراء هذا الكلام ؟
ـــ ما قصدته بالتعاطف ،هو عدم قدرتي على تثقيف القارئ.
l تريدهُ أن يكون جاهزاً للاستيعاب ومتحرراً من أثقال ظروف الكاتب ومصائب الكتابة بشكل عام، مهما بلغت قسوة الظروف.
ـــ أنا لست محكمة لأحاكم وفقاً للدساتير أنا كتاب قابل للاندماج بالقارئ أو متورط بعزله عن التأليف بشكل عام.
l وهل تظنُ بأنك رومانسي ،وتمارسُ حياتك في خلية من خلايا الانتروبولوجيا ؟
ـــ كنت أنظر إلى حركة الناس بهدوء ،وأستبدل نظراتي وأفكاري حول المخلوقات باستمرار.
l ولمَ تجري تلك التغييرات.هل تحاول استبدال المخلوقات البشرية بمخلوقات لغوية على سبيل المثال ؟
ـــ ذلك مؤكد.وأظن أنك اكتشفت خط سيري بين الكلمات.
l هل الشاعرُ حافلة لنقل الركاب أم قطارٌ يشق الضباب بحمولاته من المعادن والأسلحة والبضائع والمحروقات ؟
ـــ الشاعرُ محركٌ ليس إلا.
l أهو محركٌ ميكانيكي أم لغويّ برأي والاس ستيفنز ؟
ـــ أعتقدُ بأنه محركٌ شموليّ ،لا يفرط بمخلوق أو بمعدن إلا ويُسيّرهُ بطاقاته التخيلية.
l وهل تظنُ بأن للشعر الطاقةَ ليقوم بتحريك المعادن بعد المشاعر مثلاً ؟
ـــ أجل.فالشعر مغناطيس سحري،وله القدرة على اصطياد المعادن وجذبها إليه.ربما لأنه أول المعادن التي لا تُثمن على الأرض.
l ثمة من يعتقد بأن ((شعر ستيفنز يظلّ اكتشافاً مستمرّاً لتفاعلات الحقيقة وما يمكن للإنسان أن يصنع من هذه الحقيقة بعقله، وثمة ما يدعو أيضاً إلى تسمية العديد من قصائده بالشعر الميتافيزيقي، لأن هالة الغموض والشخصيات القريبة البعيدة المتخمة بالمعرفة لا تكاد تفارق الكثير من شعره، وكذلك فلسفية المسمّيات وكيف يمكن العالم أن يلتقي بطرق متعدّدة.)) ألا تعتقد بأن هذا يتعارض مع قوة الخيال ونفوذه على الشعر ؟
ـــ ثمة نقاد يعملون في الصحف، مثلما تعمل الخيول في ميادين السبق.كل واحد منهم يحث حصانه على الفوز بالجائزة،دون التدقيق بنوعية أعلافه ولا بكميات أدوية الطاقة التي تُزرق بجسمه.أنا ضد هذا الخلط بالتأكيد. ولكن من جانب آخر، فكل ناقد حرٌ بالكتابة عما يراه في النص
l أنت تتبنى مفهوم الشكّ .أليس كذلك يا ولاس ؟
ـــ قانونياً نعم. وشعرياً من باب الفلسفة ،أيضاً نعم. فعلى سبيل المثال،ألا تشكّ بمن يذهب لصيد الطيور، وهو لا يحمل بندقية ؟!!
س: وكيف كان ولاس ستيفنز يذهب لصيد القصائد ؟
ـــ كنت أجرّبُ أن أكون مركباً لغوياً كبيراً يحتوي صغار الكلمات حتى نموها وامتلاكها القدرة على السباحة على الورق.
l كنت مركباً أم قرشاً لابتلاع الأسماك الصغيرة بالضبط ؟
ـــ لا أعرف بالضبط من أكون داخل أحواض اللغة، إلا أن تجريبي ، وربما كانت عواطفي هي عواصفي على الورق وتحت جلدي.
l متى يكون الشاعرُ محض عاطفي.محض ثرثرة . محض سيمفونية تهبُ دون ثيابها على الطريق السريع يا ولاس ؟
ـــ لا. كل ما قلته أنت جنون بجنون.أنا لا أتقاتل مع الكلمات على السطور،إنما في العمق الموسيقي،حيث يمكن الوثوق بانطفاء جمرة الأسلاف في داخلي
l هل الأسلاف إرهابيون برأيك ؟
ـــ نعم. هم كذلك إلى حدّ ما
l وما تبرير ذلك بمفهومك الأدبي؟
ـــ لا نريدُ من الأسلاف أن يسرقوا زمننا ،بعدما سيطروا على أزمنتهم وعاثوا بها فساداً ما يزال متغلغلاً بين كتبنا وأذهاننا وثيابنا .
l ألا يمكن الاستفادة من دمج الخلف بالسلف ، وتكوين جبهة شعرية موحدة تتنوع فيها التجارب المختلفة في الشعر ؟
– لا أعتقد بأن سلفياً يؤمن بتجربة من تجارب الشعراء المعاصرين ،لا سابقاً ولا لاحقاً،ذلك أنهم يؤمون بأن عصمة الشعر بأيدهم وحدهم.وحينما تحاججهم بعدم صدق ذلك منطقياً،سرعان ما تجدهم فزاعات زرع ،ويلقون المسؤولية على طرف بعيد، ليخبرونك بأنها بيد الله.
l هل تشعر بأن تداخلاً ما ،ربما يحصل ما بين قصيدة السلف ونص الشاعر المغامر الذي لا يقيم وزناً لزمن الشعر؟
ـــ هذا أفضل تحوّل كما أعتقد،إذ ليس بالضرورة أن يكون الشاعرُ منتمياً لحقبة لمرحلة لفترة من التاريخ الزمني.وقت الشعر هو في الأمام.في المستقبل ليس إلا،وبقية الكلام ثرثرة لا طائل من ورائها أبداً.
l متى تشعر بفراغ الشعر من الزمن ؟
ـــ أشعرُ بلذّة ذلك،عندما ترفض النصوصُ العلاج في عيادة سيغموند فرويد
l كيف تُصنعُ اللذّةُ في النصّ الشعري برأي ولاس ستيفنز؟
ـــ حالما تفقس الغرائزُ بيضها في رحم عشتار،فلا ينجو التكرار من الزوال.
l وسرير بروكرست .منْ من الشعراء تتمنى أن ينام عليه ؟
ـــ لا يمكنني الاقتناع بأن موت شعراء بتلك الطريقة الخرافية،قد يحقق انجازاً للفن .الشاعرُ ليس قالباً جبرياً يجب إخضاعه لتلك التطبيقات الإجرامية التي قام بها الحَدادُ اليوناني بروكرست،لأن سرير الشعر هو الفضاء الأسطوري بالضبط.
l أي قصيدة أنضج من الأخرى برأي والاس ((رجل الثلج)) التي صنفت ((كواحدة من قصائد «نظرية المعرفة» لستيفنز، ولو قرأناها من منظور فلسفي يمكن أن تُصنَّف أيضاً كنزوع نحو الشكوكية الطبيعية)) أم قصيدة ((«ثلاث عشرة طريقة للنظر إلى شحرور»التي نُظر إليها على إنها (( تشبه كثيراً قصائد الهايكو على الرغم من أن أياً من مقاطعها لا يلتزم قواعد هذا النوع من الشعر. يُنظَر إلى القصيدة على أنها واحدة من مناورات ستيفنز الفنّية الاعتبارية ))
ـــ كل من القصيدتين تتمتع بطقس انقلابي في المزاج وفي تفاعلات الحواس مع اللغة. لقد حرصت على التقدم بالصور البصرية خطوات إلى أمام.
l بتحرير المخيّلة في صناعة أفلامها الشعرية ؟
ـــ أجل. إنها عمليات اهتزاز على أسلاك العالم الموسيقي وسلالمه العظيمة التي يمكن البناء عليها دون خوف أو قلق من الموت.
l متى يُلغى الخوف من الموت عند الشاعر ؟
ـــ عندما نستبدل الصانع باللغة،ونأتمن على نصوصنا من الهباء.
l ما المقصود بالضبط يا ستيفنز ؟
ـــ أن نجعل الشعر مصباحاً في أعلى سارية مرفأ الوجود ، وذلك لإنقاذ السفن الضالة أو تلك التي تعاني من دوار البحار الكبرى .
l أليست هذه هرطقة مثيرة لحساسية الأديان على سبيل المثال؟
ـــ الاستغناء عن الإله بقصيدة،لا يؤثر على بنية الوجود ولا على خرافة العدم. قد يتضارب الشغف الشعري مع المعتقدات اللاهوتية، ولكنه يطهر الأنفس من الصدأ. وذلك هو فعل الشعر
l أنت تقول هذا لأنك برجوازي ومحافظ ،وليس لديك حساسية الفقراء ممن يجدون في المعتقدات منقذاً لهم من الجوع والضيق والمتاعب اليومية للحياة؟!
ـــ أنا لم آت إلى الشعر من السياسة .
l صحيح. فأنت جئت محامياً لشركات التأمين،وربما وضعت خبرتك في الشعر من هذا الباب، وبتلك المواد القانونية التي تجعل منك شاعراً محصناً ضدّ الموت،ولكنك اليوم حيّاً هنا على عكس تصوراتك التي أكدتها،بأن لا خلود إلا على تلك الأرض !!
ـــ وماذا تظن أنتَ، أليست هذه السماء هي أرض ثانية ؟
حتماً سيقلقنا الخلود عليها .فالإقامة الدائمة أمرٌ محزنٌ ومزعج
l وما الذي تطمح إليه أنت يا ولاس ستيفنز .العودة للأرض مثلاً ؟!!
ـــ ليس بالضرورة .كنتُ أحلم بوجود طرف ثالث ما بين الحياة والموت ليس إلا .ويبدو أن ذلك لايزال بطور التكوين
l ألا تعتقد بأن عقلك ما زال يعمل بقوة تضليل نفسكَ والإبقاء عليك ضمن مناطق العدم الشمولي ، سواء في الحياة القديمة أو هنا ؟
ـــ عقلي ساعة لم تتوقف عقاربها عن الحركة حتى وأنا تحت ذلك التراب،فذهني المكان الطبيعي للتفاعلات ما بين الواقع والخيال لإنتاج التصاوير التجريدية اللائقة بالشعر.
l هل تجد بتلك التصاوير أفكاراً تكشف عما يدور في خلد الأشياء على سبيل المثال ؟
ـــ أجل. وقد تكون لغة الأشياء الصامتة ، أقوى من الأشياء الناطقة، فالاعتماد على الخيال، يمنحنا بعداً أكثر تطوراً مما هو موجود في القواميس.
l إذا كانت علاقة ستيفنز بالرب منعدمة أو يشوبها الشك والضباب،فعلى من يستند الآن في هذه اللحظة من وجوده في السماء؟
ـــ أنا ملحدٌ من الأسرى الأرضيين في هذه السموات. وقد يأتي يومٌ وأجد منْ يحررني من هذه الإقامة الجبرية
l ومن أين سيأتيك ذلك المنقذُ من الخارج أم من الباطن ؟
ـــ من الباطن طبعاً .
l هل لأنك لم تثق بمنقذي الخارج كما يوضح ردّكَ ؟
ـــ ذلك ما لاشك لي فيه .
l لأسباب فلسفية ،أم إن الأمر يتعلق بعدم قدرة فرق الطوارئ على إخماد حرائق حقول الداخل المتتالية ؟
ـــ إذا ما دققت بكتب الفلاسفة جيداً، ستجدها مدافن عظيمة
l ما قصتك مع الموت يا ولاس .كأنك تعلق عليه آمالاً؟
ـــ ليس ثمة قصة ما بيننا ،بل ثمة ابتكار لصداقة من نوع خاص .وذلك ما انتهينا عليه نحن بكل تأكيد.فالتصالح مع الموت سيخرجنا من جحيم الإرهاب اللاهوتي الذي لا عمل له إلا بدفع البشر حطباً إلى جهنم التي يعتقدون بوجودها
l هل ذلك تأكيد على ما قلته في مسرحيتك : «سائحون ثلاثة يراقبون بزوغ الشمس» حيث يتساوى إشراق الشمس على الجثة ومخلوقات الحياة التي لم يتم للموت مصادرتها ؟!
ـــ طالما يفتحُ القلقُ الطرق السريعة للجنائز في الأنفس،وما عليك إلا واجب القيام بدور حفار القبور لدفن جثث قد تتساوى في القيمة ولا تتضاد مع العدم
l كأنك لا ترى في الشاعر إنساناً، إلا من خلال التجسيد المجازي لشخصية عبثية لا تدوم بقدر دوام النصّ؟
ـــ كنت حائلاً في ما مضى بوجودي الجدلي ما بين طرفي الحياة والموت،وعندما لم أجد موطئ قدم لي بين الاثنين ،وضعت نفسي وأنفاسي في القصائد كي احتمي من الزوال بعد الموت
l أليست هذه تراجيديا لتصوير البشري كائناً مسحوقاً ومبتذلاً ، ولا أمل له بالانتصار على مأساويته التي يعيشها على الأرض ؟
ـــ لم أخلق أحداً على تلك الأرض،لأدافع عنه على الورق.
l هل لأن الموت شركة إلهية لا تخضع لتأمين ؟
ـــ في كل جسدٍ مجموعة من الانحرافات.وليس أمام مالك تلك القطعة اللّحمية المعنونة بالجسم ،إلا التكيف مع مصطلحات الذات وتنقيحها ،وصولاً إلى لحظة التصادم التي تنشأ عنها أفعال التفكيك سواء بالجسد الآدمي أو في جسم اللغة
l ولكنك لم تكن شاعراً مناوئاً لعمليات التفكيك داخل المنظومات اللغوية صانعة الخيال وما وراء الخيال .
l ماذا تقصد بما وراء الخيال .الميتافيزيقيا مثلاَ ؟!
ـــ أقصد فرار الأرواح الشعرية من قوالب اللغة وقسوة جدرانها ، إلى حانات الوجود الفيزيقي اللامتناهي.
l هل نظريات التفكيك ،تُخضع الشاعر لأن يكون هو الآخر مُفَكَكاً مثل قطع غيار السيارات ؟
ـــ بالتأكيد. فتفكيك الشاعر من النظام البيولوجي إلى الأنظمة اللغوية ،يوفر له فرصاً عديدةً لإعادة إنتاج نفسه ،وبالتالي لصياغة نصوص متحررة من مادة الصمغ،كي لا يكون تابعاً لشاعر آخر أو ملتصقاً بجهة شعرية ما.
l هل كنت مكبوتاً أيام وجودكَ على تلك الأرض يا والاس ستيفنز ؟
ـــ جنسياً تقصدُ من وراء هذا السؤال ؟
l أقصدُ الكبت الكلّي .
ـــ لم أرضخ لنظرية الكبت الكلّي .كنت حازماً على أن أكون مبرمجاً إلى حدّ ما،وبطاقات متوفرة إلى حد ما. ومع أنني بدأت حياتي الشعرية مكبوتاً ، إلا أنني سرعان ما فككتُ تلك الشرنقة،وخرجت للفضاءات الشعرية المُعَقَدة إلى حدّ ما .
l مع من التقيت من الشعراء في هذي السموات ؟
ـــ مع إنني لم أبحث عن أحد سوى ويتمان ،إلا إن ذلك لم يحصل.ولكنني وجدت نفسي على شرفة في مكان لازوردي لإقامة الشاعر توماس إليوت بمعية الشاعرة الأندلسية (ولاّدة ابنة الخليفة المستكفي بالله)وهي أميرة عربية من بيت الخلافة الأموية في الأندلس، وهما يتناقشان حول نظريات التداخل الفني ما بين الأرواح الشعرية والجسدية.
l وهل أقنعك ذلك النقاش ؟
ـــ نعم.أنا شممتُ فيه رائحة علاقة غرامية ما بين الطرفين.
l ربما هناك رؤية جديدة للقضاء على التصحر الوجودي الذي كتب عنه الشاعر إليوت في ((الأرض اليباب)) بعد الحرب.
– وربما لأن الشاعرة الأندلسية ولادة قد رغبت الدخول في فراش الربيع مع إليوت ،للتعويض عما فاتها على الأرض،بعدما كانت رافضة للزواج !!
س: لا تدع أحلامك تأخذك بعيداً يا سيد ولاس ستيفنز !
– معك حق فالشاعرة ولادة تريد الإبقاء على عذريتها أسوةً بالحوريات، اللاتي كلما مارسنّ الجنس،تعود إليهنّ بكارتهنّ من جديد بعد كل مضاجعة .