على الأرجح أنه دخل بعد ثلاثة أعوام في إربة فيما يشبه النسيان، نسيان كل شيء يمت لماضيه بصلة، وقال ذات مرة عندما سأله العراد عن طفولته.وهما في رحلة قصيرة لجمع الحطب الصالح لأن يكون فحماً فيما بعد، أنه لم يعد يذكر شيئاً ليس من طفولته فحسب بل كل شيء تماماً ، مع أن داخله يدرك أن سبب مجيئه هنا أمراً لايمكن أن ينسى..
واستطاع أن يؤمن بتلاشي كل ماسبق في بطون الأودية، والجبال التي تظهر من بعيد.. وأوراق العشرة التي تهتز، ويسمع صوتها عندما تشتد الريح..
ولأنه سمع «مجيد» وهو يقرأ، ويناقش «ناصر» و«ميقات» عن ذاكرة الإنسان، وكيف يستدعيها أحداثاً، وأشخاصاً, ومواقف كان يظن أنه نسيها تماماً، وكيف أنه حين يستدعيها يستغرب لوهلة من وجودها في أعماقه، وفي لاوعيه البعيد، وكان يحدق في دهشة، وهو يستمع لمجيد عندما قال شيئاً عن الأحداث المؤلمة للإنسان، وكيف تتعامل معها الذاكرة بإصرار، وتحدٍ وتذيبها كأنها لم تحدث أبداً..
الذاكرة التي تحمل مضاداً يجعلها مع الأيام تتفادى مواجعها وأحزانها، وإذا فشلت وكانت تلك الأحداث، والمواقف جسيمة، وكبيرة فإنها تقاوم أكثر ليبدو الإنسان في صراع داخلي يحيله غالباً إلى مريض نفسيا، ذلك المريض الذي يستخدم الحيلة الأخيرة للدفاع دون أن يدري، وتلك الحيلة بمثابة العلاج، والمضاد طويل الأمد لكن آثاره السلبية ستظهر في قوالب، وتصرفات وعلى امتداد الزمن، وقد لايشعر الإنسان شيء تماماً، إلا عندما تتراكم مجموعة المضادات، وتصبح مثل جبل نحو مايريد الإنسان أن يسحقه بالنسيان.
والحقيقة أنها جبال شامخة ضربت أوتادها في حياته الجديدة هنا، تلك الحياة التي لم يكن يعرف عنها شيئاً البتة، وكان يظنُ عندما هرب لأول مرة، وقصدَ الجنوب عبر الجبال، والأودية ثم إلى أبها، والباحة أنه لن يستمر كثيراً في المأمن وأن المدينة ليست حامية جيدة يلوذ بها، فظل يبحث عن أقاصٍ أخرى..
وكاد أن يستقر به المقام في جيزان، لولا أن أحدهم أشار إليه أن يسلك طريق الساحل الغربي، مادام مشرداً، وبلا هوية، وبدون أن يكون دخوله قانونيا، وخصوصاً أن حملات تفتيش المجهولين بدأت على نحو كبير من النشاط تلك الأيام.. وبأثر من جراء حروب الخليج.. والجرائم التي تسجل غالباً ضد مجهولين.. وحين انطلق بلا وجهة مصادفاً القنفذة والمضيليف التي بقي فيها شهرين وتورط لجهله بمديونية فاضطر للهرب عبر أمكنة وعرة وخطيرة..
وتوقف أمام مقهى في «الليث» ليسترد أنفاسه وليلتقي هناك بالمصادفة عمال بناء وموظفي مطاعم ومتاجر كانوا من مدن قريبة لمدينته في اليمن.. بقي معهم تلك الليلة.. ونام لمدة طويلة في غرفة خلفية بالقرب من محطة وقود السيارات، وكان يعتقد جازماً أنه لن يجد غير هذه المدن ذات الأضواء، والإسفلت، والبنايات، والمطاعم، والمتاجر، بل دب اليأس في دواخله.. وعندها استشار مضيفه في الغرفة فدلّه على أن يسلك شرقاً، عبر شارع مسفلت ينقطع فجأة ليدخل إلى قرى وشعاب وأودية، وطرق وعرة لاتستطيع السيارات الصغيرة، ولا الكبيرة غير المهيأة دخولها بسهولة..
أشار له إلى السماء هذه المرة، نحو نجمتين تتوهجان بين النجوم المتناثرة في ليلة كهذه،ونصحه بأن يتبع تلك النجمتين بعد ذوبان الشفق بين الجبال مباشرة، وأوصاه أن يسأل في هذه البادية, عن رجل اسمه «العراد» أمين مكلف بغرف الموظفين الذين ترسلهم الحكومة…
وقبل أن ينهضُ من فراشه ليعد كوب الشاي العدني.. قال :
ستجد بعد أن تجتاز الطريق المزفت من يحاولون أن يغروك للبقاء معهم بالعمل، وطبعاً هؤلاء لصوص، مطلوبون أمنياً,ولهم علاقة كبيرة بتجارة المخدرات على امتداد هذا الساحل..
ويمكنك أن تتبع طريقاً ممهداً ستمر منه سيارات جيب قوية وأخرى عسكرية قديمة أعطيت لهم بعد أن أصبحت متاحة للبيع ولم تعد تجدي مع تطور السيارات الآن..
ولن تمر السيارات دوماً ياعزيزي، بل ربما تغيب لساعات، أو بين ساعة، وأخرى ستمر واحدة، لكن حاول أن تحافظ على أثر سيرها في مشيك، وسوف تصل بك إلى عدة قرى وهجر، أو بيوت من القش في أطراف الوادي.. سيكون هنالك أضواء تلوح لك, أو فوانيس معلقة, وإذا أردت نصيحتي لاتركب مع أحد مالم ينهكك التعب، وعلى كل حال ستكون قد اجتزت منتصف الطريق نحو مبتغاك، عندما ترى بيوتاً بنيت بشكل مختلف عن أول طريقك، بيوتا وغرفا متناثرة صبغت جدرانها بالأبيض، ماعدا الجديدة منها، ذلك كان أيام المساعدات التي وصلتهم قبل أعوام..
عندها ستعرف أنه لم يتبق سوى عشرين ميلا وتبدأ بالسؤال عن البادية تلك، وعن العراد.وهو من أهل هذا المكان، وأكثرهم شجاعة وحكمة، مع أنني أعتقد أنه كبر الآن، وقد يكون متعباً أو طريح الفراش، لا تخبره بكل شيء عنك، يكفي أن يعرف أن هنالك من دلك عليه على بعد مئات المسافات، ثم اتركه يتدبر أمرك..
ولاترفض شيئاً.. وإن كان عسيراً, وإن استطعت أن تلتقي بشيخ المكان في أولى أيام وصولك فأخبره بتفاصيل كل شيء حتى لو كنت قاتلاً هارباً، ومطلوباً للثأر، قال عبارته الأخيرة هذه, وغمز بعينه، وقهقه بشدة، كأنما يحاول استنطاقه للبوح بأي شيء.
وأبو عديس يمسك بكوب الشاي العدني ين يديه، على حافة السرير، يحاول أن يستوعب كل ماقيل، ولم يسأل عن شيء ليحفظه أكثر إلا اسم العراد… العراد.. الذي بقي يردده طيلة ذلك اليوم, كأنما الأمل معقود في رجل خلف تلك الجبال, الجبال التي يسمع عنها فقط الآن ودون أن يعرف طريقها أحدا، ودون أن يراها أحد من طريق الساحل الغربي..
لولا أرواح المشردين في كل مكان..
– مقطع من عمل سردي طويل.