صدّوق نورالدين
بين الخاص والعام
إنّ أيّ تصوُّر أدبي نقديّ يقتضي استجلاء الخاصات المميزة للممارسة الروائية التي تفرّد بها غالب هلسا، يفرض ربط الرؤية النقدية بالسياق. والأصل أن الأخير يتحدّد فيما أدعوه “الخاص والعام”. الخاص يتمثل في التجربة الروائية الأردنيّة، والعام في مسار الرواية العربية. فالمؤكّد أن جنس الرواية في الأردن فرضَ ذاته –وبقوة- تأسيسًا من أعلام أدبية وازنة. هذه انخرطت بكفاءة واقتدار في بناء عالم الرواية الأردنية. ويمكن في هذا المقام التحدث عن تيسير السبول وغالب هلسا ومؤنس الرزاز وإلياس فركوح. على أنّ ما وسم الترسيخ الخاصات الآتية:
الاستمرارية: وتمثلت في الكَمّ الروائي المتحقق على مستوى التأليف الروائي. وهو كَمّ في الجوهر خلق قاعدة تلقّيه محلّيا (أردنيا) وعربيّا. فالعديد من التجارب الروائية الموقَّعة من لدن هؤلاء المبدعين، فرضت حضورها الروائي انطلاقا من بيروت التي مثّلت أفق تداول وذيوع هذه الرواية عربيًّا. وأذكر بالتحديد أننا كنا مغربيّا نترقب وبشكل دائم جديدَ نتاجات غالب ومؤنس وإلياس، علما بأن عواصم عربية أخرى أسهمت في توسيع دائرة التداول وأشير إلى دمشق والقاهرة.
التجريب: وتجسّد في صيغة الكتابة الروائية، تحت تأثير تلقّي التجارب الإبداعية العالمية وما عبّرت عنه من تنوّع أسلوبي ومغامرات شكليّة من منطلق أنّه لا يوجد تعريف دقيق يحصر مفهوم الرّواية في خاصات أو مكونّات معيّنة. وعليه، فإن رهان التجريب شكّل مناهضة أو مواجهة للصيغ التقليدية التي أولت عنايتها للحكاية على حساب طريقة حكي الحكاية. وأعتقد بأن رواية “قامات الزبد” لإلياس فركوح، لم تكن في حاجة لتقديم روائي كإدوار الخراط. وهو في العمق ما يدفعني إلى القول بأن الرواية الأردنية وُلدت ونشأت مكتملة، وعلى امتداد التراكم المتحقق من طرف غالب هلسا ومؤنس الرزاز يتأكد صدق هذا الرأي.
ثقافة الروائي: وتعكسها الإسهامات الأدبية والفكرية التي انخرط فيها بالأخص غالب هلسا وإلياس فركوح، مع الإشارة إلى أن التوجه اليساري التقدمي الذي لم يغب في العمق عن مؤنس الرزاز. فصورة المثقف الملتزم بقضايا الشعب العربي وبالتالي بقضية العرب الأولى (القصية الفلسطينية) ظلت ماثلة في كتابات هؤلاء المبدعين، بل جسّدت وجهات نظر ومواقف اقتضت الحيلولة دون ذيوع وانتشار تجاربهم.
الإضافة: وتتجلى فيما أدعوه بالحظوة النقدية. ذلك أن ما أبدعه غالب ومؤنس -وإلى حد ما فركوح- حظي بتلقٍّ موسَّع من لدن نقاد طبعوا المشهد النقدي بكتاباتهم الموضوعية والجادة. وهنا أمثل بما جاء به فيصل دراج، وعبد الرزاق عيد، ومحمد برادة، ويمنى العيد، وخالدة سعيد، وفخري صالح، وشكري عزيز ماضي. وهذا في الأساس أخرج الرواية من أفقها الخاص إلى العام، حيث بات يصعب الحديث عن الرواية العربية دون التطرق للرواية الأردنية التي أسّس لتداولها وذيوعها الموسعِ الروائي الكبير غالب هلسا.
لامتداد: ويتمظهر في نخبة الأسماء الروائية التي عملت جادّة على مواصلة الكتابة في الجنس الأدبي نفسه. وتتنوع بين التجارب الذكورية -إذا حقّ- والنسائية، وهو ما خلق امتدادا تأصيليّا للكتابة الروائية في الأردن.
وأذكر هنا من الأسماء على سبيل التمثيل: إبراهيم نصر الله، وهاشم غريبة، وهزاع البراري، وسميحة خريس، وهيا صالح.
إنّ الخاصّات التي جئنا على ذكرها، يمكن أن تشمل وضعيات جنس الرواية مثلا في دول المغرب العربي كما في بعض دول الخليج، حيث ترسّخ فن كتابة الرواية بشكل متأخر إلى حدّ ما. بيد أن ما يقودنا إليه الفرش التمهيدي، الوقوف على بعض المميزات التي تفردت بها الممارسة الروائية لدى غالب هلسا، مع الإشارة إلى أن الإحاطة الكليّة تستلزم معاينة المتن الروائي برمته.
مركزية الذات
إنّ التحقق الأدبيّ كفعل تعبير وإبداع، يتأسس من تمثُّل لحظة الماضي بما هي وقائع وأحداث تُستعاد على مستوى الكتابة، بعد أن ترسّبت في اللاوعي الفردي. الحقّ أن الاستعادة تشكّل حضورًا قويًّا للذاكرة التي تعمل على انتقاء ما يجب الحديث عنه وتحويله إلى محكيّ أدبي. وأما ما سقط في بئر النسيان، فبالإمكان أن يُستدعى بالاعتماد على المقروء ومقارنة الوقائع والأحداث. وعليه، يرتبط التحقق الأدبي بالذات المعبّرة كما درجة تلقّي المعنى المنتَج من طرفها.
من هنا -وفي ضوء السابق-، فالناظم الرابط للمتن الروائي في الممارسة الإبداعية لغالب هلسا برمتها هو الذات. ويتضح هذا من خلال:
وحدة الشخصيّة: ذلك أن الحكي في الروايات عن شخصيات كـ”خالد” و”غالب” و”جريس”و”مرسي” هو حكيٌ عن الذات. بل إن الأخيرة في تمرئيها عبر شخصيات أخرى يحيل تعدُّدُها على الواحد. فالتجربة الذاتية واحدة ولَئن وُزعت على شخوص تُشاركها الفعل الروائي نفسَه. يقول غالب في كتابه “أدباء علّموني.. أدباء عرفتهم”: “كل ما كتبته كان نابعا من ذاتي ومن تجاربي، ومن معرفةٍ كانت نتاج معايشة”.
الحنين: ويبرز في سياق التذكر لما يمثل الأصل، إذ الاحتفاء بالأمكنة والفضاءات -سواء تعلّق الأمر بالقاهرة أو بغداد أو دمشق أو بيروت- يستدعي استعادة عمّان. فالمكان جزء من الذات، مثلما أن الذات جزء من المكان. والأصل أن الذات خارج واقعها الأصلي تعيش منفاها، إن لم أقل منافيها. فالانتقالات الإجبارية رحلات أسفار بحثا عن استقرار لم يتأتَّ تحقُّقُه. ثم يتداخل المتن الروائي لغالب هلسا بالرحليّ، إذ إن وصف القاهرة مثلا في الستينيات (رواية “الخماسين”) بمثابة توثيق تاريخي عن عاصمة عربية من خلال وافد عليها. وهي الرؤية المكمّلة لمهندس القاهرة الكبير، الروائي نجيب محفوظ.
الانكسار: إن الذات من خلال السابق، تعاني نفسيّا من انكسار وجدانيّ، يتضح في فقدان الطرف الآخر الذي يعيد التوازن للحياة. لذلك تحتفي روايات غالب هلسا بالجسد، جسد المرأة بالتحديد، حيث تحضر الرغبة والتوق إلى الاكتمال. وأعتقد أن في الحديث عن الأحلام كما ترجمة كتاب”جماليات المكان” لـ”غاستون باشلار” يفرض ويقتضي إيلاء الأهمية لهذه التجربة من زاوية التحليل النفسي.
الرغبة في التغيير: وتتجلى في الأبعاد السياسية لروايات غالب هلسا، خاصةً أن تفعيل آلية الذاكرة واستنطاق الماضي، إنْ هو في الجوهر سوى المعْبَر أو “المقْفَز” (بلغة الناقد محمد برادة) لفهم الحاضر في تحولاته وتراجعاته. أقول التجسيد الدالّ على إعاقات الانتقال نحو مجتمعات مدنية ديمقراطية تحترم الإنسان وتراعي حريّته في القول والتعبير. فغالب هلسا من خلال هذه الرؤية، يرسم صورة عن المثقف اليساري الملتزم كما ذُكر سابقا.
لعبة التماهيات
إنّ حضور الذات سواء في صيغتها المباشرة متمثلةً في تثبيت الاسم العلَم أو غيره مما يحيل على المعنى ذاته، ينمّ عن كون الروائي غالب هلسا يعمل على إنتاج سيرة ذاتية كبرى تستحضر ماضي الذات من خلال الذاكرة في محاولة لفهم الحاضر واستيعابه.إلّا أن ثقافة الروائي وذكاءه قادا إلى الحرص على دقة التحديد: “رواية” عوض “سيرة ذاتية”، وهو ما دعا للانخراط في بناء النص الروائي “ما بعد الحداثي” ضدًّا على المتداول من نصوص تقليدية كانت ثقافة غالب على اطّلاع موسَّع بخصوصها. على أن غالب هلسا لم يكن المتفرّد الوحيد بهذا التوجه، توجه توظيف المعطيات الذاتية في الكتابة الروائية حدَّ عدم الفصل بين الروائي والسيري، وهنا أستحضر الروائيين: المصري صنع الله إبراهيم والمغربي محمد زفزاف، إذ إنهما معا اختارا رسم طريق مغايرة للتجربة الروائية العربية، حيث أكدت “تلك الرائحة” و”المرأة والوردة” مسارا آخر غير مألوف ولا متداول. ذلك أن ما يُقرأ كمادة يطابق أساسا حيَوات هؤلاء. يقول الناقد الأردني شكري عزيز ماضي في بحث له عن الروائي غالب هلسا ورد ضمن كتاب تذكاري تكريمي للراحل، وهو ما يحقّ تعميمه عن تجربة هؤلاء:
“قد لا يحتاج قارئ رواية (الخماسين) إلى بذل جهد كبير كي يلاحظ بروز العنصر الذاتي وهيمنته على العالم الروائي (….) فـغالب حاضر ومهيمن، فهو الذي يصف ويفسّر ويوجّه ويعلّل ويحلّل” (عن كتاب “وعي الكتابة والحياة”).
على أنّ المفارقة تكمن في نوعية الاحتفاء الذي حظيت به هذه التجارب، إذ كرّس مناصرو التقليد جهودهم لمواجهة ما بات يمثل نقلة تُساير تحولات الكتابة الروائية. إلّا أنه وبالرغم من هذه المواجهات، روكمت التجارب وفرضت نفسها بل وألّفت من بين الأدباء مَن يدفع عنها، وأمثّل بيوسف إدريس الذي كتب مقدمة “تلك الرائحة” لصنع الله إبراهيم، وبأحمد اليابوري الذي تولّى تقديم رواية “المرأة والوردة” لمحمد زفزاف.
على أنّ الممارسة الروائية التي نُوزع إلى تثبيتها وترسيخها، جسّدت ما سيًدعى لاحقا: “التخييل الذاتي”. والقصد بناء عالم روائي تأسيسا من المادة الذاتية، حيث تحضر لعبة التماهيات بين ما يُقرأ في النص وما يُتداول عن حياة الكاتب والمؤلف، إلى كون الشخصية الحاضرة في الحكاية وتوظِّف على الأغلب ضميرَ المتكلم توازي الاسمَ العلمَ للروائي.
إنّ لعبة التماهيات، وبخاصة في الممارسة الروائية لغالب هلسا، تجعلنا نقف على الخصائص الآتية:
المطابقة: وتتمثل في التداخل والتقاطع بين الراوي/ الشخصية والمؤلف. ذلك أن جملة القضايا والأحداث والوقائع التي تمسّ فاعلا من هؤلاء، هي نفسها التي تكاد ترتبط بالآخر. فالتحديدات والأوصاف التي تُصبغ على أيّ من هؤلاء تتماثل حدّ التشابه برغم الإيهام بالتعدد. ويحدث في حال المطابقة، أن يعتمد الراوي -كما سلف- ضمير المتكلم أو الغائب. فشخصية “الصحافي” و”الكاتب الملتزم” و”المثقف اليساري” تحضر على امتداد المتن الروائي لغالب هلسا، وإن تَحقّق التنويع الزمني والمكاني.
التمرئي: إنّ ما تقود إليه المطابقة، خاصة التمرئي. فإذا كان غالب هلسا يوسع دوائر السرد بالحكي عن شخصيات تُشاركه الفعل الروائي، فالمتلقي النبيه يستشعر بأنها تنويع على الذات، إذ القاسم المشترك يحيل عليه الحنين والفقدان، إلى ترسيخ الرغبة في الاكتمال والتوازن الحياتي، وهو ما يطالعنا مثلا في روايتي “ثلاثة وجوه لبغداد” و”الروائيون” إنْ لم يَطَل المتن الروائي في شموليته. ثم يبرز الأثر الصوفي في الكتابة الروائية من منطلق كون التعدد يحيل على الواحد، ولئن عمد غالب هلسا إلى تثبيت إيقاعات روائية هي نقلات أشبه بالموسيقية في الكتابة السردية لغة ووصفا.
المادة الذاتية: إنّ اعتماد غالب هلسا على المادة الذاتية في الكتابة والتأليف الروائي، هي ما يقودنا إلى القول بالتطابق والتمرئي. فثراء هذه المادة متجليّا في المنافي والأسفار وقساوة الغربة يمكنه أن يشكل السيرة التي لا تنتهي، إذ لو امتد العمر بغالب لكتب في العمق متنا يوازي ما أبدعه في الرواية تحديدا، مع الإشارة غلى أنه لم يراكم في القصة القصيرة سوى مجموعتين كُتبتا بنفَس روائي لافت: “وديع والقديسة ميلادة” (1969) و”زنوج وبدو وفلاحون” (1976).
المثقف: إذا كانت المادة الذاتية بمثابة كتابةٍ لتاريخ الذات منذ قرية “ماعين”/ الولادة (1932) إلى “دمشق”/ الوفاة (1989)، فهي على السواء صورة عن واقع المثقف العربي وعن محنة اليساري التقدمي في ظل أنظمة لا تراعي الحريات بأشكالها المختلفة. والأصل أن هذه الصورة لم تَمثُل في النتاج الروائي فقط، بل تجلّت في الكتابات النقدية والفكرية المعبَّر عنها من طرف غالب هلسا في أكثر من كتاب: ” العالم مادة وحركة” (1980)، و”الجهل في معركة الحضارة” (1982)، و”نقد الأدب الصهيوني” (1995)، وغيرها من المؤلفات الموزاية للكتابة الروائية، تلك التي تستكملها وتضيء جوانب جلّى من شخصيته الأدبية والفكرية، حيث يحقّ الحديث عن علاقة الأدبي بالفلسفي، إذا ما أضفنا للسابق اختياراته في حقل الترجمة الأدبية. على أنّ وقوفنا على الخصائص السابقة، لا يجدر أن يقصي من الاعتبار كون الذات جزءاً من بنية اجتماعية تتفاعل معها وفيها في محاولة للفهم والإدراك والتفسير والتأويل.
السؤال الغائب الحاضر
إن السؤال الذي يُطرح في سياق ما تقدَّم: لِمَ لَمْ يقْدِم غالب هلسا على كتابة سيرته الذاتية بشكل مفرد مستقل ضمن تأليف معين؟ بالتالي، لِمَ آثر توزيع تفاصيل الذات على امتداد أعماله كاملة؟
أعتقد بأن التوجه الذي استنّه غالب في الكتابة الروائية، يدلّ عن وعي متقدم كما عن اختيار أضفى على التجربة فرادة. وبالتالي، تنويعا. إنه على الحافة بين كتابة الرواية والسيرة الذاتية. وإذا كانت أولى التجارب الروائية لغالب صدرت في السبعينيات (“الضحك” 1971، و”الخماسين” 1975) فإن التنظير لما دعوتُه “التخييل الذاتي” لم يتحقق إلّا في عام 1977 من طرف “سيرج دوبروفسكي” من خلال نصّيه “الشبح” و “الابن”، حيث يرتكز المعنى على التحققات الذاتية الحقيقية، على أن تُصاغ روائيا، علما بأن الروائي سواء كان غالب هلسا أو محمد زفزاف أو صنع الله إبراهيم، هو من يحدد الجنس الذي ينضوي تحته إبداعه، وهو ما يقتضي عند التلقي النقدي أن يعامَل وفقه. وهنا أشير إلى أن الروائي المغربي محمد زفزاف ظل يرفض تدوين سيرته الذاتية ويصرح بأنه يمتلك مقدرة إملائها دون كتابتها.
يقول الروائي المصري أبو المعاطي أو النجا عن رواية “الضحك”: “شأنها شأن العديد من روايات غالب هلسا، تقدم نوعا من السيرة الذاتية لجوانب ومراحل من حياة غالب القادم من بلده الأردن إلى القاهرة لاستكمال دراسته”. ويضيف: “لم تكن سيرة فرد، بل سيرة حياة جماعات في بعض الأوقات” (كتاب “وعي الكتابة والحياة”).
على أنه من الناحية الأدبية النفسية، يكشف العرف المتداول أن إنجاز السيرة الذاتية من منطلق كونها حياة الفرد منذ ولادته إلى المراحل المتأخرة من حياته، لا يتمّ سوى في آخر العمر، وليس غريبا إن حملت أكثر من سيرة ذاتية في عناوينها. إذ المؤلف يعدّ السيرة التتويجَ الفعلي لما عاشه من محطات حياتية وما خبره من وقائع وأحداث، بالنظر إلى كونها تضيء الجوانب المعتمة التي قد تكون أثيرت عبر مساره الأدبي والفكري. إلّا أن عامل الموت المباغت -وهي حال الراحل غالب هلسا- يحول دون تحقيق كتابة السيرة الذاتية ليكون التعويض مجسَّدا في المؤلفات الصادرة، وما يمكن أن يُتداول ويشاع من أقرب المقربين إليه (حال صبري حافظ وغالب هلسا، ثم محمد برادة وإلياس فركوح). ومن الممكن أن يقْدم المؤلف على نشر بعض أعماله الأدبية التي استنكف عن نشرها في مرحلة دقيقة سياسيّا ليعود للتفكير في النشر في المراحل المتأخرة من الحياة، وهو ما لوحظ عن التجربة الروائية لصنع الله إبراهيم الذي أقدم على نشر روايته “67” (كُتبت في عام 1968 ونُشرت في عام 2017)، عوض “تلك الرائحة” (1966)، مما يستلزم إعادة النظر النقدي في التجربة الروائية.
ويحدث أن تكون فاتحة التأليف الإبداعي كتابة وتدوين السيرة الذاتية في المراحل الأولى من العمر الأدبي، وهي حال طه حسين في ” الأيام” ومحمد شكري في “الخبز الحافي” (نشر قبلها فقط وباللغة العربية مجموعته القصصية “مجنون الورد”). فالسيرتان حظيتا بذيوع وتداول قرائي ونقدي موسع دون بقية الآثار الأدبية والإبداعية لهذين الكاتبين، وإلّا فمن الأولى الاهتمام بنص “ما وراء النهر” لطه حسين، بل بـ”أديب” التي تعدّ إحدى التحف الأدبية العربيّة المستكملة لـ”الأيام”، والأمر نفسه ينسحب على الجزء الثاني من سيرة “الخبز الحافي” المسمّى: “الشطار”، وبشكل أقوى عن الجزء الثالث “وجوه”. فمبدع السيرة الذاتية يحسّ بأن الامتداد بالمنجز السيري يشكل إضافة لآثاره الأدبية الإبداعية، بينما العكس هو الصحيح.
وأرى بأن الموضوعية تقتضي أن تُكتب السيرة الذاتية في المراحل الأخيرة من الحياة، على الأقل قبل الانطفاء (الأعمار بيد الله تعالى كما يقال) وهيمنة النسيان على سلطة الذاكرة، من منظور كون الإبداع وليد لحطة الماضي وما عاشته الشخصية من أحداث وتحولات وتأثيرات مباشرة أو غير مباشرة. وأعتقد بأن توجه غالب هلسا الإبداعي هو التمثيل الدقيق على الإنتاجية الإبداعية، كما على تنوعها.
يمكن القول في ختم هذه المقالة: إن تجربة غالب هلسا بمثابة التأسيس الفعلي للرواية الأردنية، وبالتالي الإضافة المثرية للرواية العربية دون الغفل عن إسهامات مؤنس الرزاز وإلياس فركوح والجيل اللاحق.
إنها التجربة التي راهنت على الذات في محاولة لكتابة السيرة الكبرى، ورسم صورة عن واقع المجتمع العربي في أدق مراحله السياسية.
وهي التجسيد الدالّ عن محنة المثقف والمفكر ومطاردته في المنافي، وما تولّد عن ذلك من فقدان وحنين آسر إلى الأصل وفق ما تجسّد في “سلطانة” كـ “أسلوب أخير” عن رحلة حياتية وأدبية قوية بكل معنى الكلمة.