هرمن هسه
ترجمة: ناصر الكندي*
غالبا ما يُقارن أبله دوستويفسكي، الأمير ميتشكين، مع يسوع. وهذا سهل بما فيه الكفاية للقيام به. تستطيع أن تقارن المسيح مع أي أحد تأثر بإحدى الحقائق السحرية، ذلك الشخص الذي لم يعد يفصل تفكيره عن الحياة المعاشة، والذي لأجل ذلك تجده يعزل نفسه عن الوسط الذي يحيط به ويصبح خصما لكل شيء. من جانب آخر، تبدو المقارنة بين ميتشكين ويسوع غير مناسبة تماما بالنسبة لي. هناك فقط سمة واحدة في ميتشكين تقترب من يسوع، وهي سمة مهمة بلا شك، ألا وهي عِفته الخجولة. إن خوفه المتواري من الجنس والتكاثر يُعدُ سمة لا يمكن أن يرغب بها يسوع “التاريخي”، يسوع الأناجيل، السمة التي هي بجلاء جزء من عالمه وغير المهملة حتى في تلك الصورة السطحية ليسوع “رينان”(1).
ولكنه شيء يثير الغرابة – على الرغم من تعاطفي الضئيل لهذه المقارنة المستمرة بين متشكين ويسوع – ذلك أني أرى الصورتين أيضا ترتبطان لا شعوريا إلى بعضهما البعض. لقد حدث ذلك لي مؤخرا فقط وبالتماس مع شيء صغير. عندما كنت أفكر بـ”الأبله” في أحد الأيام أدركت أن أول فكرة عنه كانت دائما تبدو بالكاد ضئيلة. أراه دائما في أول ومضة بخيالي في مشهد ثانوي خاص غير مهم في حد ذاته. ولدي نفس التجربة مع المُخلِص. ذلك أنه كلما كانت هناك مشاركة تستدعي صورة يسوع أو أرى أو أسمع كلمة “يسوع”، لا يقفز إلى ذهني أولا يسوع في الصليب أو في البرية أو في عمل معجز، أو يسوع وهو يُبعث من بين الأموات، وإنما يسوع في حديقة الجثمانية(2)، وهو يتذوق آخر كأسٍ من الوحدة، وروحه تتمزق بعواءات موت وشيك الحدوث وإعادة ولادة متصاعدة. وكما يبدو لحوارييه، في آخر لمسة، كطفل يحتاج للسكِينة، باحث عن دفء قليل وقرب إنساني، عن وهمٍ هادئ عابر في خضم تلك الوحدة فاقدة الأمل – هناك حواريوه النائمون! كلهم، بيتر الجدير، يوحنا الوسيم – كل هؤلاء الناس الطيبين، والذي لأجلهم مرة تلو مرة، عن قصد ومحبة، خدع نفسه، والذي لأجلهم شارك أفكاره، على الأقل جزء من أفكاره – كما لو أنهم يمكن أن يفهموه، كما لو أنه كان ممكنا كحقيقة جلية إيصال أفكاره إلى هؤلاء الناس، لإيقاظ بعض الاهتزازات ذات الصلة بها، شيء من هذا القبيل، شيء مثل علاقة وطيدة. والآن، وفي لحظة من العذاب الذي لا يطاق، التفت إلى أصحابه، الوحيدين الذي لديه، وهو الآن إنسان منفتح وشمولي، ذلك المُتألم بشدة يقترب منهم أكثر من أي وقت مضى. يجد الطمأنينة في أي لفتة سخيفة أو حمقاء أو لمحة ودودة من جانبهم. ولكن هيهات، إنهم ليسوا هناك، هم نائمون، يشخرون. إن هذه اللحظة الرهيبة، لا أعرف كيف أصفها، كانت تشغل ذهني في مطلع شبابي، ومثلما قلت، لو فكرت في يسوع، دائما وفي كل ذكرى، فإن هذه اللحظة بالذات تطفو في ذهني.
إن هذا كثير الشبه لحالة متشكين. فلو تأملت فيه، أي الأبله، بطريقة مشابهة تجد أنها لحظة ذات أهمية أقل تلك التي تحدث لي أول مرة، إلا أنها في نفس الوقت لحظة لا تصدق، عزلة تامة، وحدة مأساوية. المشهد في ذلك المساء في بافلولفسك في بيت ليبيدوف، عندما كان الأمير، بعد أيام قليلة من إصابته بالصرع وفي طور التعافي منه، في موعد زيارة من قِبل عائلة يبانشين، حين دخل فجأة في حالة من البهجة والفرح على الرغم من تفجر التوتر داخل حلقة من الشباب الثوري والعدمي. بشأن “إيبوليت” المفوه مع من يبدو ظاهريا “ابن بافليشيف”3، مع اندفاع الملاكم وآخرون، في هذا المشهد الكريه والمنفر دائما حينما يكون هؤلاء الناس المحدودين والضائعين مكشوفين بعري وضراوة إلى شيطانهم العاجز على الرغم من وقوفهم على منصة مضاءة بقوة، حيث أن كل كلمة تلحق ألما مضاعفا على القارئ، أولا بسبب أثرها على متشكين الطيب وثانيا بسبب الوحشية التي تعري وتلقي العار على المتحدث نفسه – وهذا هو الغريب، والمستحيل نسيانه، على الرغم من أنه ليس هو المقطع المهم أو الخاص في الرواية الذي أعنيه.
في المجتمع ذو القطبين، تجد أناسا دنيويين أنيقين، الغني، القوي والمحافظ، وفي القطب الآخر تجد الشباب الشرس الذي لا يرحم، والذي لا يعرف شيئا عدا التمرد والكراهية للتقاليد، بشكلٍ قاس، وفاجر، ومتوحش، بغباء لا يُعقل لكل ثقافتهم النظرية. ويقف بين هاتين المجموعتين الأمير، وحيداً، مكشوفاً، مُراقباً من الجانبين باهتمام وانتباه شديدين. وكيف ينتهي هذا الموقف؟ ينتهي مع ميتشكين، إذ بالرغم من الأخطاء التي ارتكبها أثناء الصخب، فإنه يتصرف بالضبط وفقا للطفه، أدبه، طبيعته الطفولية، يتقبل بابتسامه ما لا يُطاق، يجيب بذاتيه على الأحاديث المخجلة، يرغب في افتراض كل خطأ ويبحث عن كل خطأ في نفسه – وفشله الكلي في ذلك يكمن في النتيجة التي يُحتقر بها، ليس من القطب الأول أو القطب الآخر، ليس بالشباب ضد الكهولة أو بالعكس، لكن بكليهما، كليهما! الكل ينقلب ضده، لقد داس على أصبع الجميع، ولوهلة تم التغاضي عن أغلب المعارضات الاجتماعية المتطرفة في العمر ووجهة النظر. كلها اجتمعت في شيء واحد وأداروا ظهورهم باحتقار وغضب على شخص واحد بينهم، على هذا النقي.
ما الذي جعل هذا الأبله مستحيلا في عالم الناس الآخرين؟ لماذا لا يفهمه أحد؟ على الرغم أن الجميع يحبه بطريقة ما، إلا أن معظمهم يجد كياسته وعطفه أمراً مثالياً! ما الذي يُميزه، رجل السحر هذا، عن الآخرين، الناس العاديين؟ لماذا هم على صواب في رفضه؟ لماذا يجب أن يفعلوا ذلك، لا محالة؟ لماذا تمضي الأشياء معه مثلما حدثت مع يسوع؟ ذلك الذي تم نبذه في النهاية ليس فقط من قِبل العالم، ولكن من قِبل كل حوارييه أيضا؟
يعود ذلك إلى أن طريقة الأبله في التفكير مختلفة عن الآخرين. ليس لأنه يفكر بطريقة أقل عقلانية أو أكثر طفولية من غيره – كلا. إنها طريقة تفكيره التي أسميها “سحرية”. إن هذا الأبله المحترم ينكر الحياة نهائيا، وينكر طريقة تفكير الآخرين وشعورهم، العالم والواقع. إن واقعيته مختلفة تماما عن واقعيتهم. وليست واقعيتهم أمام عينيه سوى ظل، ومطالبته ورؤيته لواقع جديد تماما يجعله بمنزلة عدوهم.
لا يختلف الأبله عنهم لأنهم يملكون القوة، المال، العائلة، المنصب، والقيم المتماثلة، بينما هو لا يملك. وليس لأنه يمثل الروح وهم يمثلون المادة. أو أيا كان يريد أن يصيغه. ليست هذه هي القضية. يوجد العالم المادي عند الأبله أيضا. وهو يعلم مسبقا أهمية هذه الأشياء حتى وإن تناولها بجدية أقل. ولا يُقيم في رغبته، ومثاليته، أحد الزهاد الهندوسيين، الذي يضحي بهذا العالم بما تبدو حقائق لأجل المضمون الروحي ذاته، والثقة بأن هذا وحده هو الحقيقي.
كلا، بالنسبة للمعاملة بالمثل بين الطبيعة والروح، حول تفاعلهما الضروري، سيكون ميتشكين قادراً على الوصول إلى تفاهم مع الآخرين. أما بالنسبة لهم فإن التعايش، والصلاحية المتساوية لهذين العالمين هما موضوع مبدأ وفكرة، وهما بالنسبة له حياة وواقع! لجعل هذا أكثر وضوحا، دعونا نحاول طرحه بطريقة مختلفة نوعا ما. يختلف ميتشكين عن الآخرين لأنه أبله ومصروع، وفي الوقت نفسه شخص ذكي جدا، لديه علاقات أكثر قرباً وأكثر مباشرة مع اللاوعي منهم. بالنسبة له، تعد أقصى تجربة هي تلك نصف الثانية من التفتًح العلوي والبصيرة التي خبرها مرات قليلة، تلك القدرة السحرية للحظة، لومضة من لحظة، القادرة على أن تكون كل شيء، المتعاطفة مع كل شيء، التي تفهم وتقبل كل شيء في العالم. هناك يكمن جوهر كيانه. فهو لم يدرس ولم يقبل الحكمة السحرية والصوفية، ولم يقرأها ولم يعجب بها، ولكنه (إذا كانت فهي حالات نادرة جداً) اختبرها بالفعل. لم تكن لديه فقط أفكار وغرائز رائعة، ولكنه وقف أكثر من مرة على عتبة السحر حيث يتم قبول كل شيء، إذ أن الفكرة بعيدة المنال ليست حقيقة فحسب، بل حتى نقيضتها أيضا.
هذا هو الشيء المخيف بشأن هذا الإنسان، والذي يخشاه الآخرون بحق. إن هذا الأبله لا يقف وحيدا كليا، وليس العالم كله ضده. ما زال هناك القليل من الناس، شديدو الارتياب، مُهددون جدا ويُهدِدون غيرهم، والذين يفهمهم عاطفيا في كثير من الأحيان: مثل “روخوزين انستازيا”. كما أنه مفهومٌ من قبل المجرمين والهيستيريين، هو، البريء، الطفل المهذب! لكن هذا الطفل، يا إلهي، ليس مهذبا مثلما يبدو. إن براءته ليست على كل حال غير ضارة، والناس يخشونه.
إن الأبله، مثلما ذكرت سابقا، قريب في أحيان كثيرة من الخط الفاصل حيث يتم النظر إلى كل فكرة ونقيضتها على أنهما صائبتان. ذلك هو، لديه يقين أنه لا فكرة، لا قانون، لا شخصية ولا نظام يوجد على أنه صحيح وصواب إلا من قطب واحد. أيا من كان يشعر، ولو للحظة واحدة، أن الروح والطبيعة، الخير والشر هما شيئان قابلان للمقايضة، فإن ذلك سيعرضه للعدو الأخطر لكل أشكال النظام. حيث يوجد القطب المضاد، هناك تبدأ الفوضى.
إن طريقة التفكير التي تؤدي إلى اللاوعي، إلى الفوضى، تدمر كل أشكال التنظيم البشري. في حديثٍ ما، يقول أحدهم للأبله أنه يقول فقط الحقيقة، لا شيء أكثر، وهو شيء يبعث للرثاء. وهذا هو الحال. كل شيء صحيح، ” نعم” ممكن أن تقال لأي شيء. بينما لجلب النظام للعالم، لامتلاك أهداف، لعمل قانون ممكن، مجتمع، مؤسسة، ثقافة، أخلاق، فإن “لا” يجب أن تضاف إلى “نعم”، يجب تقسيم العالم إلى أضداد، إلى خير وشر.
إن أرفع حقيقة في عيون ثقافة إنسان تقع في تقسيم العالم إلى نور وظلام، خير وشر، مباح ومحرم. وأرفع حقيقة لميتشكن، مع ذلك، هي التجربة السحرية لانعكاس جميع القواعد المُحكمة، التبرير المتساوي لوجود كلا القطبين. إن الأبله، بتفكيره في نهايتهما المنطقية، يقود إلى نظام أمومي للاوعي وإبادة الثقافة. إنه لا يكسر طاولات القانون، بل يقلبها ويظهر أضدادها مكتوبة في الظهر.
إنها لحقيقة أن هذا عدو النظام، المُدمِر، المخيف، يظهر لكن ليس في هيئة مجرم بل كإنسان خجول، محبوب مليء بالطفولة والسحر، رجل طيب القلب، ناكر لذاته، محب للخير، و هنا يكمن سر هذا الكتاب المريع. من وجهة نظر أكثر عمقا، جعل دوستويفسكي من هذه الشخصية رجلا مريضا، مصروعا. إن جميع الممثلين للمستقبل الجديد المرعب والمجهول، جميع مُرددي الفوضى، هم عند دوستويفسكي مجرد مرضى، ومثيرون للاشمئزاز، ومُثقلون بالأعباء. “روغوزين”، “اناستازيا”، ولاحقا “آل كرامازوف” الأربعة، جميعهم يتم تصويرهم على أنهم خرجوا عن المسار، كهيئات غريبة بشكل استثنائي، إلا أننا نشعر في كل ذلك الانحراف والمرض العقلي شيئا من تلك الرهبة المقدسة التي يعتقد الآسيويون فيها أنهم مدينون لمجنون.
ما هو ملحوظ وغريب، ومهم ومصيري، هو أنه كانت هناك، في مكان ما في روسيا في الخمسينيات والستينيات من القرن التاسع عشر، عبقرية مصروعة لديها هذه الأوهام وخلقت هذه الشخصيات. والشيء المهم هو أن هذه الكتب أصبحت لثلاثة عقود أعمالًا تنبؤية ذات أهمية متزايدة للشباب في أوروبا. والشيء الغريب هو أننا ننظر إلى وجوه مجرمي وهيستيريي وبلهاء دوستويفسكي بطريقة مختلفة تماما عن وجوه المجرمين الآخرين أو الحمقى في روايات مشهورة أخرى، شخصيات دوستويفسكي التي نفهمها ونحبها على نحو غريب لدرجة أننا يجب أن نشعر في أنفسنا بنوع من الارتباط بهؤلاء الناس.
ولا يعود ذلك إلى حادث أو حتى بدرجة أقل للعناصر الخارجية والأدبية في عمل دوستويفسكي. ومهما كانت صفاته محيرة – عليك فقط أن تتأمل كيف يتنبأ دوستويفسكي بعلم نفس متطور رفيع للاوعي – فنحن لا نعجب بعمله كتعبير عن البصيرة العميقة والمهارة أو كتمثيل فني لعالمٍ ما مألوف لدينا، بقدر ما نعتبرها نبوءة كمرآة سابقة للانحلال والفوضى التي شهدناها بشكل مفتوح في أوروبا خلال السنوات العديدة الماضية. ليس في هذا العالم من الشخصيات الخيالية التي تمثل صورة لمستقبل مثالي – لا أحد يمكن أن يعتد بذلك. كلا، لا نرى ذلك في ميتشكين وجميع أمثلة الشخصيات الأخرى التي سيتم نسخها. وإنما ندرك عوضا من ذلك الحتمية التي تقول: “من خلال هذا يجب أن نمر، هذا هو مصيرنا”.
إن المستقبل غير مؤكد، إلا أن الطريق الذي يظهر هنا لا لبس فيه. إنه يعني إعادة تقييم روحية. وهو يؤدي ويدعو عبر ميتشكين إلى التفكير “السحري”، وقبول الفوضى. إن الدعوة إلى العودة إلى الهشاشة، إلى اللاوعي، إلى الميوعة، إلى الحيوان وما وراء الحيوان إلى بداية كل شيء، ليس من أجل البقاء هناك، ولا أن نستحيل حيوانًا أو وحلا بدائيا، ولكن لنستطيع أن نعيد توجيه أنفسنا، أن نطارد، في جذور وجودنا، الغرائز المنسية وإمكانيات التطور، لنكون قادرين على القيام بخلق جديد، والتقييم، وتوزيع العالم. لا يمكن لأي برنامج أن يعلمنا كيف نجد هذا الطريق، ولا يمكن لأي ثورة أن تفتح الأبواب أمامه. كل واحد يمشي بهذه الطريق وحده، كلٌ يمشي بنفسه. سيتعين على كل منا لمدة ساعة في حياته أن يقف على حدود ميتشكين حيث يمكن أن تتوقف الحقائق وتبدأ من جديد. كل واحد منا يجب أن يكون له لحظة في تجربته الحياتية داخل نفسه ذات الشيء الذي عاشه ميتشكين في لحظات العرافة، مثلما اختبر دوستويفسكي نفسه تلك اللحظات عندما وقف وجهاً لوجه مع الإعدام، ومنها خرج مع تحديقة نبي.
هوامش:
1 – بستان في جبل الزيتون بمدينة القدس يُعرف بأنه المكان الذي صلى فيه يسوع في الليلة السابقة للصلب وفقا للعقيدة المسيحية..
2 – ارنست رينان (1823-1892): مؤرخ ومستشرق ومترجم وناقد فرنسي، اشتهر بدعوته إلى نقد الأديان وإعادتها الى شروط تكونيها التاريخية..
3 – شخصيات من رواية الأبله.