محمود حمد
المسافة بين ما يكتبه الروائيّ في أعماله السّرديّة وبين تكوينات النّص تشكّل عبء المقاومة التي كثيرا ما تطرح أسئلة القدرة على تشكيل المناخ المقنع للعمل الفنّي، وعلى الرغم من أن أهميّة ذلك لا تتمثّل في أنْ يكون الفنّان مطالبا بأنْ يكون هو قلب العمل أو حتّى وجها مختبئا من وجوهه؛ لكننا -في الأصل- نعيش بأكثر من شكل في مطاردة الزاوية التي كان الفنان يقف فيها ليصوّر لنا مشاهده الروائيّة، وكما يرى الناقد والأستاذ الجامعي عز الدين إسماعيل عدم كفاية العناصر في الوصول إلى المتعة المنشودة في كثير من الأعمال؛ يبقى دور الفنان في إعادة خلق هذه الفاعليّة. زهران القاسمي لا ينفصل عن الزوايا كلها، لا يكتب لينهي الفصول؛ بل ليكون وفيّا لأرواح الذين شكّلوا عوالمه وألحقها بهم. إنه يعكس عوالمه/ هُم العطشى بمزيد مما فاتهم ويخاف أنْ يفوته بعدهم، تفاصيل لا تكتمل حقيقة الحياة إلا بها، ليست ثقلا على سيرورتها؛ لكنها تقبض على نكران الذوات الذي تفشّى بفعل صلابة المدنيّة وتجاهل الحداثة. إنه قفّار حياة الريف الغائبة في القرويين الجدد، وأبناء المدن، والمهاجرين من قرى الجبال والصحاري إلى مربّعات الإسمنت والمسافات المحدودة.
روايته الأخيرة (تغْريبَة القَافِر) تبتكر علاقة جديدة مع الماء؛ فليس الماء الأداة والصورة والملموس والمستخدم، وليس المادة التي تثري الجانب التشكيلي في أحداث النص، أو ما يمكن تجاوز الوقوف معه؛ كونه مرأًى للعين المجرّدة أو ملمسًا للجسد البشريّ. زهران يبحث عن الماء في الروح بروايته هذه كما بحث عن العسل في الروح بروايته (جوع العسل). ما نجده هنا شكلٌ آخر للماء يتجاوز الرمزيّ والمتوازيَ والمتقاطع، يتجاوز الكثير من المؤشرات المعنويّة للماء، والكثير من الدلالات العاطفيّة، بل أستطيع القول إن الرواية هي ما يريده الماء، وليس ما تريده شخوصها منه. مفتتح الرواية “غريقة.. غريقة..”؛ ذكاء العمل في مدّ علاقات الذوات بالماء؛ الماء الآخر، الشكل المجهول للرغبات في فهم الموقف من النهايات، الماء بشكله القاسي هنا وهو ينهي ويُنْهى كونه المحيط الأكثر فاعليّة في العمل من الولادة حتّى الموت، شاهدا على هذه الثنائيّة في الفصل الأول، تقف شخصيات الرواية عاجزة هنا أمام هذه الثنائيّة، موت الأم وولادة الطفل بحضور الماء، وصوت “في بطنها حياة.. في بطنها حياة”؛ والذي يسهم الماء في استثمار هذه العلاقة كما يريدها الكاتب في تحوّلات العمل.
علاقة شخصيّة محوريّة مثل (مريم بنت حمد) بالماء تطوّرت حتى مشهد غرقها في بئر (الخطم)، ومرورا بأحداث البحث عن علاج لصداعها وأقاويل الناس الكثيرة عن وضع جثّتها في الماء حتى استخراجها منه؛ نجد أن هذه العلاقة لم تكن بتلك القسوة منذ البداية، فصداعها يخفّ إذا “غاصت تحت الماء”. فهو الدواء المتاح اليسير المؤقت لها، وهو النهاية التي لم تجد أكثر رأفة بها من صداعها، فمثّل الماء الأمل والخلاص والنهاية. وفي الفصل الثاني يتكرر هذا التمثّل في ظل ثنائيّة (الموت / الحياة) بحضور الماء شاهدا على الإنهاء والابتداء؛ “غسلتْ كاذية بنت غانم المولود بالماء ذاته الذي غسلت به والدته المتوفّاة”. فتعيين الماء في الخطاب بذاته إشارة إلى المشترك في تمثّل الماء فاعل هذه الضديّة وشاهد الاستبدال؛ وهو ما يضاف إلى تكوينات الشخصيّة المائيّة سالم في الرواية، إرهاصات ولادة القافر من علاقة تجمع بين كثير من التناقضات في الماء. ويأتي المطر ليبرز هذه العلاقة في إطار البشرى التي يجدها الناس في هطول المطر، وفي كثير من الأحداث البشرية كان المطر خلاصا وفتحا وكذلك تكهّنا، وفي قبر (مريم بنت حمد) رفيقا؛ شكلا للانتقال إلى بعد آخر أو حياة أخرى، وهو ما يحدد مختلفا آخر في هذا العمل؛ “لله في خلقه شؤون، ما عمرنا حملنا جنازة واستوى كما بو استوى اليوم”؛ على لسان رجل خبُر المشاركة في جنائز الموتى. كل ذلك يضاف إلى تأسيس مستقبل مائيّة الشخصيّة الرئيسة، وهو ما يتركه العمل في ظل أسئلة حول تكوين هذه الشخصيّة، والتي هيأها الماء لتكون محور هذه التمثّلات.
“لأنّ الله سلّمه من الغرق، من الموت”؛ السبب الذي جاء على لسان أبيه ليسمّيه (سالم). الماء ولادة وبعث من المجهول الذي سيذهب إليه لولا إصرار كاذية بنت غانم، غرق المحيط كله في يوم صنع منه الماء في البئر وانهمار الغيوم رحما مزدحما بصناعة القافر مستقبلا، حتى قسى الماء وألجأ الناس إلى الكهوف؛ كلها إرهاصات مستقبل المائيّ الذي يمتلئ به روحا ومصيرا. مرضعة سالم آسيا بنت محمّد يولّد الكاتب من مأساتها حلما مائيّا يمثّل انعكاس انكسار الروح أمام قسوة العجز، يقول: “ثمّ ركنت لصمت الوادي العميق، وعندما استراح جسدها قليلا واسترخت في هدوءِ تذكّرتْ الحلم والماء واليد التي تخرج فجأة”؛ الماء المجاور للبشريّة يعكس الكثير من تطوّراتها وعذاباتها التي تتجاوز قسوته أو الحاجة إليه، الماء يرافق البشريّة في صنْع حضاراتها بدءا من الداخل الهشّ إلى العقليّ الملموس الصلب، وهذا الموقف في الرواية يذكّرنا بما يراه كارل يونغ في الماء من الناحية السيكولوجيّة، التجذّر الذي يصنع منه الماء في علاقاته بالبشريّ، وفي صمته أمام الماء محاولة لالتماس النجاة أو النجاة من الداخل. “وكأن الينبوع الذي جلست أمامه يعيد تفاصيل حكايتها، يسرد للحصى وللمكان وجعها القديم المتجدد..”. وعلاقة الإنسان بالماء في حالة المرض متوارثة بين الأجيال؛ وإنْ لم يكن لإحاطة المريض أو تعميم جسده بالماء أي غاية علاجيّة؛ يبقى الماء العلاج الأقرب والأيسر. الطبيعة صانعة أدوية الإنسان لكن الماء مزيجها المباشر وغير المباشر. إضافة إلى دخوله في كثير من العلاج هو المحيط الذي يخبّئ فيه الإنسان أو يختبئ فيه من عجزه أو من أهم مصادر صناعة الأمل بالشفاء، مثلما تفعل آسيا بزوجها المريض؛ فقد مثّل الماء هنا أملا بالشفاء. “تجلسه داخل الساقية فيتجمع الماء خلفه مشكلا سدّا فتغرف منه براحتيها وتسكبه على جسده”.
“ماي.. ماي..”؛ صوت الماء في داخل الطفل القافر، ثيمة الاختلاف. “يفلت من قبضتها ويركض مسرعا ليحني جسده ثم يُلصق أذنه بالأرض، ويضيّق عينيه كمن يحاول رؤية شيء ما في العتمة، ويصيخ السّمع كأنّ أحدًا يناديه من الأعماق”، يمثّل الماء هنا أهم ما تقوم عليه الرواية في تشكيلها الفنّي؛ الماء الحياة. المجهول الذي لا يملك فك طلاسمه سوى القافر منذ نعومة أظافره، حتّى خافت عليه مربّيته من المسّ والمرض، وأخفت ذلك عن الناس؛ “فهي تدرك توجّس الناس منه منذ ولادته عند البئر”، بل من البئر، من محيط الماء الذي أخذ أمه وأرسله إلى الحياة، في مجتمع تسيطر عليه كثير من الموروثات التي تزج بالناس في دوائر الخوف والخرافة، لتتطوّر هذه الصّورة من التمثّل بشكل آخر مع والده، الذي تصرّف تصرّف مربّيته عندما كرّر “ماي.. ماي..”؛ فلم يكونا يدركان هذه الولادة المائيّة في داخله، وكرر القافر على أبيه: “ماي، أسمع صوت الماي في الأرض”، و”باه، أسمع ماي في الأرض”. هذه الإرهاصات الذكيّة جعلت من العمل الروائي دالا كبيرا على مجهول يتطور بما يشاهده الناس ويحتاجون إليه، لكنهم لا يستسلمون إلا إلى صوت الظاهر، بينما تنشغل الرواية بصناعة القافر وتطور شخصيّته التي توجه العمل الفني إلى ابتكار عقدة مائيّة ونهاية مجهولة، وبعد صراع تشكيل الشخصيّة مع مواقف الناس المتعددة في المجالس، وربط عمله بحادثة غرق أمه، واستبدال ولد جنّ به، ثم ابتعاد الناس عنه وعن كاذية بنت غانم، واختراع الناس حكايات لأبيه، ونفور الأطفال منه؛ بدأ صوت الماء يتجلى للناس بعد أنْ بدأت معاناة الناس مع قلة الماء، وبشهادة الوعريّ؛ “ولدك صادق” أمام كاذية، وقد برّر هذه الشهادة برطوبة المكان وخروج الماء في الشتاء، لتولد بعد ذلك (عين الوعريّ)؛ التي لم يبق غيرها مصدرا للماء في القرية. بعدها كان تطوّر شخصيّة القافر الاجتماعيّة بإيمان الناس به قافرا يصل إلى الماء سببا للحياة، وهكذا عمل مع أبيه قافرا للماء في قرى وبلدان كثيرة.
مثّل الماء النهاية بوجهه القاسي، فيموت أبوه غرقا ويصارع القافر الماء للنجاة من الموت. الماء المحيط والعطش في أبيات موروث شعبيّ تجسّد شكلا من أشكال الصراع في علاقة الإنسان بالماء؛ “عطشان، عطشان، ماي ماي، هين الماي يا سالم، هين الماي يا ولدي، باه سالم عطشان عطشان، ماي ماي، أبغى ماي، ماي، ماي”، صوت الحياة والموت في ليلة عرسه يدفن أباه، وفي صوت الأب يشكل الماء تناقضا سبق في ولادته من أمه الغريقة في البئر، ليستمر الناس في الوصول إلى الماء. ثم يعود بعد أنْ قرر التوقف عن اقتفاء أثر الماء بعد موت أبيه، ليكون الماء صراع النهاية في الفصلين الأخيرين. “تحت هذي الحصاة ماي واجد”، منطلق القافر للبحث عن الحياة، ليمثّل الماء هنا التحدي الذي يصرّ عليه سالم، على الرغم من الصراع مع الصمت تجاه مواقف الناس وزوجته التي دفعتها مواقفهم من فعل زوجها، لكنه الماء المتدفّق في داخله، “فالعيون التي تسكن الصخر هي التي تستهوي القافر، تلك الينابيع العذبة الساخنة القادمة من أعماق الأرض ..”، “وهذه العين التي يطربه خريرها في باطن الصخرة تشبه الكنز المدفون “لديه، فمن يوقف الفتى والرجل المائيّ عن شغفه وحياته ومصيره، كل هذا دفعه إلى أنْ يقبل عرض محسن بن سيف ويذهب معه قافرا للماء الذي به سيكون له نصف البلدة المهجورة، ليترك صخرته ويذهب إلى صراعه الأخير مع الماء، ويترك زوجته في انتظار طويل، كان صراعه مع الماء يمثّل قلق العلاقة بين ما صنع إصراره ومصيره، لكنه الحياة والموت، والاستسلام والإصرار، حيث يولد القافر من المجهول ويعود إليه بمحيط الماء، الشكل الذي أراده زهران القاسمي لتغريبته.
حاولت تتبّع تمثّلات الماء في العمل سريعا؛ وإلا ففي التغريبة وجوه كثيرة وتمثلات مائية تنتظر دراسة علميّة تنبش عن صوت الماء في الرواية وفي أرواح شخوصها.