تهدف هذه الورقة إلى طرح تصور عام لتمثل الهامش/ المهمش/ الهامشي في سينما المخرج الجيلالي فرحاتي، وذلك عبر تقديم قراءة في الأفلام الآتية: «شاطئ الأطفال الضائعين» (1991)، و«خيول الحظ» (1995)، و«ضفائر» (2000)، و«ذاكرة معتقلة» (2004). إن مفهوم التهميش مفهوم شامل وعام ويحتاج إلى التفصيل والوقوف عند أهم مكوناته، وهكذا سنحاول تقديم تأطير عام لهذا المصطلح، وسنركز على المحاور التالية: التهميش الاجتماعي، والتهميش الفضائي، والتهميش السياسي، ونوعية العلاقة التي تربط المركز بالهامش.
وسنحاول في الجزء الثاني من هذه الورقة تقديم نماذج لتجليات الهامش في أفلام الجيلالي فرحاتي، وذلك وفق مقاربة شمولية تحاول هدم تمثلات المهمش سواء كان ذاتا أو موضوعا أو فضاء. ونهدف كذلك إلى فك رموز استحضار هذه النماذج المهمشة عبر قراءة تفكيكية للسرد الفيلمي الذي يقدم لنا علاقات تجاذب وتفاعل بين المهمش وكل من المجتمع والسياسة والفضاء.
1_ التهميش: تأطير عام
يعتبر مفهوم التهميش مفهوما مركبا وذلك لتداخله مع مجموعة من المكونات كالمجتمع والزمن والفضاء والتاريخ والجغرافيا والثقافة والسياسة، وهكذا لا يمكن دراسته وتحليله بعيدا عن هذه المكونات التي، في الحقيقة، تغذيه وتعطيه أبعادا وأوجها متعددة. إن أول ما يتبادر إلى الذهن عندما نستحضر مفهوم التهميش هو التواجد أو العيش على الهامش أو كون شيء ما أو فرد ما هامشي ومهمش؛ وهكذا فإن العيش على الهامش يعني، كما يؤكد أحمد شراك، العيش بدون مراعاة وقبول المجتمع.(1) ويؤكد المفكر بيل أشكروفت وآخرون أن تجربة العيش على الهامش هي نتيجة البنية التضادية لمختلف الخطابات المسيطرة.(2) وبصيغة أخرى، إن تجربة الهامشية هي بمثابة إفراز حتمي للتضاد الذي يحكم ويحدد علاقة المركز بالهامش، حيث إن هذا الأخير يتم حصره ضمن موقع اجتماعي معين يمنع نفاذه إلى السلطة ووسائل التمثل والإنتاج؛ وهكذا فإن الهامشي يوحي بتموقع يمكن تحديده بعدم قدرة وصول فرد ما إلى السلطة.(3)
ومن ناحية أخرى، يشمل مفهوم التهميش، حسب بيتر بروكر، المثقفين والمجموعات الاجتماعية المنشقين (النساء والشواذ والسود) الذين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم بعيدون من الافتراضات المعيارية وهياكل السلطة القمعية للتيار الرئيسي في المجتمع.(4) وعليه فإن الدفع بالفئات المهمشة إلى الهامش يتم القيام به من منظور أغلبية المجتمع، ومن الفئة التي لها نفاذ إلى السلطة من داخل المجتمع؛ ويرى أبدول حسين نابا أن «التهميش يعبر عن ظرف الناس المقصيين اجتماعيا الراجع إلى هيمنة ثقافة ما أو آليات سلطة ما».(5) وهكذا يتم إبعاد الفئات المهمشة عن وسائل الإنتاج المتواجدة أساسا في أيدي الفئات التي لها امتياز اجتماعي أو ثقافي أو سياسي أو سلطوي.
ويشكل التهميش الاجتماعي أحد أهم أقسام التهميش وأكثرها تعقيدا نظرا لعلاقته الوطيدة وتفاعله مع المجتمع، بحيث ترتبط أسبابه ونتائجه بمكون مركب ومعقد ومتناقض ألا وهو المجتمع. ويقوم المجتمع باحتواء الفرد إلى درجة أن هذا الأخير لا يمكن له أن يواجه بطش وسلطة وهيمنة المجتمع، ويعزى ذلك إلى كون الفرد يشكل الحلقة الضعيفة والبائسة ولما لا المهمشة. ويعتبر التهميش الاجتماعي علامة دالة على تهميش الذوات البشرية وانمحاء البعد الإنساني وغياب التكافل الاجتماعي والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة؛ وفي هذا السياق، يؤكد كل من انا رانك ومايكل كولمير أنه من أجل الإحاطة بمفهوم التهميش الاجتماعي، لا بد من فهم أسباب الإقصاء وغياب المساواة الاجتماعية والعزل الفضائي للناس.(6)
وإذا كان التهميش الاجتماعي مرتبطا أساسا بالمجتمع، فإن التهميش الفضائي (المجالي) مرتبط بشكل رئيسي بالفضاء والمكان والجغرافيا، بحيث قد تعبر بعض الأمكنة والفضاءات عن هامشية سكانها (أطفال الشوارع، ناس بدون مأوى، «الشمكارى»…)، وقد يكون بعضها مؤشرا على هامشيتها نفسها (البنايات المهجورة والميناء (أحيانا) وبعض الشوارع…). وهكذا يرتكز البعد الفضائي للتهميش أساسا على الموقع المكاني والذي يتميز بالبعد عن مراكز التنمية،(7) وغالبا ما ترتبط هامشية أمكنة/ فضاءات ما بتموقعها الجغرافي، حيث البعد عن مراكز التنمية والمؤسسات الإدارية؛ وهكذا فإن التهميش الفضائي يبقى شاهدا على ضعف بعض الفئات في الفضاء المديني نظرا لانتهاك حقوقهم من طرف سلطة ما مسيطرة ومتسلطة في المدينة.(8)
وينضاف إلى المكونين السابقين مكون التهميش السياسي، والذي يرتبط ارتباطا وثيقا بما هو سياسي وإيديولوجي وكل ما له علاقة بالدولة والنظام السياسي القائم في بلد ما. إن الدولة تحاول السيطرة والتحكم في كل ما هو سياسي، وذلك عبر ما يسميه لويس ألتوسر بأجهزة الدولة الإيديولوجية (الدين، التعليم، المؤسسات…) وأجهزة الدولة الزجرية (الشرطة، الدرك، قوات التدخل السريع…)، وهذا ما يولد التهميش السياسي ويجعله مكونا بارزا في سياسة الدولة-الوطنية، خاصة في الأنظمة غير الديمقراطية. وباختصار، يشمل التهميش السياسي إبعاد وإقصاء كل ما يخلخل إيديولوجيا الدولة من أشخاص ورؤى وأفكار وتنظيمات سياسية، ويتم هذا الإقصاء عبر نشر وتعميم سياسة الدولة وحجب السياسات البديلة، واللجوء إلى المنطق الزجري كل ما تعلق الأمر بأشخاص حاملين لبرامج سياسية معارضة لبرنامج الدولة.
ويلاحظ فيليب برايان هاربر ان فكرة التهميش تعتمد على تواجد مركز «ثابت» ومنه تأخذ معنى لها،(9) حيث إن المركز، كما يرى أشكروفت، هو الذي يخلق ظرف الهامشية؛(10) وفي هذا الصدد، يجادل حميد اتباتو فيقول: «إن الذي يخلق الهامشي في الأصل هو المركز وذلك بغية التأكد من تميز ذاته وإعطائها أهمية، أو بغية الانتقام من مكونات لم يكن بالإمكان ترويضها وفق نموذج المركز ورؤيته وبرنامجه».(11) وتولد علاقة التضاد التي تحكم جدلية المركز والهامش اختلافا وتباينا بين الطرفين، حيث يتم دائما تصور المركز على أنه المألوف والمعتاد والنموذج والمثالي بينما يتم تمثل الهامش على أنه المخالف و»اللانموذج» والآخر وغير المرغوب فيه. وعليه فإن المركز يستوحي قيمته عندما يبين تميزه واختلافه عن الهامش، غير أنه لا يمكن للمركز أن يحقق تميزه ووجوده وذاته دون وجود الهامش، أي أن هذا الأخير يستدعي الاختلاف ولا يتوافق مع الأول؛(12) وهكذا فإن العلاقة التي تجمع كلا من المركز والهامش هي علاقة تضاد وتفاعل وتداخل، حيث لا يمكن، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، للمركز أن يؤدي وظيفته إلا إذا كان هناك هامش معين؛ ويفضي هذا إلى القول إن الهامش أكثر وظيفية من المركز نظرا لكونه هو المحدد لوظيفة ومعنى المركز، وبدون هامش يصبح المركز بدون معنى.
وفي ضوء هذا التصور وتماشيا مع رؤية حميد اتباتو أن الهامش هو رهان السينما المغربية بامتياز،(13) تحاول هذه الورقة الدفاع على فكرة أن المهمش بإمكانه أن يعبر عن كينونته من داخل الخطاب السينمائي المغربي عامة وفي سينما فرحاتي خاصة، وذلك بالنظر إلى كونه أصبح متمركزا على مستوى القصة (والتمثيل) والتعبير والفضاء. وباختصار شديد، إن الهامش/ المهمش/ التابع/ المقصي/ المبعد بإمكانه أن يعبر عن تواجده ووجوده من داخل المتخيل السينمائي المغربي.
2_ تمثل الهامش والمهمش في سينما الجيلالي فرحاتي
نهدف في هذا الجزء إلى طرح تصور عام لبناء الهامش والمهمش والهامشي في سينما الجيلالي فرحاتي، وذلك عبر تقديم نماذج مهمشة اجتماعيا أو ثقافيا أو مؤسساتيا (نموذج المرأة والمعاق والمهاجر السري والطفل)، أو فضائيا (نموذج السجن)، أو سياسيا (نموذج الاعتقال السياسي) في الأفلام المحددة أعلاه. وتعيش هذه النماذج المهمشة المطروحة للنقاش تهميشا «واقعيا»، أي أن هذه النماذج تعيش قصص تهميش واقعية في المتخيل الفيلمي؛ أو تهميشا «تمثليا»، أي أن هذه النماذج تعيش تهميشا على مستوى المتخيل السينمائي حيث لا يتم استحضارها كفاعل قوي في الخطاب السينمائي المغربي.
أ_ المرأة بما هي كائن مهمش
تشكل المرأة الحلقة الضعيفة في بنية المجتمع العربي، وذلك نتيجة هيمنة العقلية الأبيسية/ الأبوية على العقل العربي والتي تتجلى تمظهراتها في مجموعة من الممارسات والأفكار التي تكرس دونية الأنثى وإخضاع إنسانيتها لإسقاطات ثقافية واجتماعية لا أساس لها من الصحة. وينتج عن الوضع غير الصحي/ السليم تمثل المرأة في الذهن العربي على أنها مكون آخر وضعيف، وبالتالي يطفو إلى السطح عقد اجتماعي سري يتأسس على محو الآخر/ الضعيف/ الأنثى.(14)
ويعكس فيلم «شاطئ الأطفال الضائعين» وضعية المرأة الهشة في المجتمع العربي عامة والمغربي خاصة، وذلك من خلال استحضار قصة «مينة»، فتاة ساذجة مازالت في مقتبل العمر، والتي تمر من وضع مجتمعي صعب إذ إنها حامل بطريقة غير شرعية في سن لم تسمح لها بعد بإدراك مكر المجتمع. وهكذا يقدم لنا الفيلم «قراءة تفكيكية للواقع المهمش»(15)؛ واقع تعيش مينة خباياه، والتي تشكل الحلقة الضعيفة حيث تعيش بين مطرقة السذاجة وسندان سلطة مجتمع لا يرحم ولا يتفهم خطأها «الطفولي» المتمثل في الحمل غير الشرعي.
وجاء حمل مينة نتيجة علاقة حب (تبدو أنها أحادية وغير متبادلة) بينها وبين عشيقها «أحمد»، سائق سيارة لنقل الأشخاص بطريقة غير قانونية، ونتيجة كذلك لسذاجتها وحضور البعد الطفولي في شخصيتها بقوة، بحيث إنها لا تكاد تفارق الأطفال الصغار واللعب معهم إلى درجة تثير فضول زوجة الأب التي تحاول منعها من حين إلى آخر من اللعب مع الأطفال.
وتشهد وضعية مينة الاجتماعية الصعبة على هشاشة مكانة وسلطة المرأة في المجتمع، إذ أنها الكينونة الضعيفة والمهمشة التي لا تقوى على مجابهة تسلط المجتمع الذي لم يتخلف عن إلقاء اللوم على مينة/ الأنثى نظرا لكونها، في نظر المجتمع، تتحمل كامل مسؤوليتها في الحمل غير الشرعي بينما يفلت أحمد/ الذكر من إلقاء اللوم نظرا لتصوره في ذهنية المجتمع الأبيسي المسيطرة على أنه الكينونة القوية والسلطوية التي يستحسن أن لا تلصق التهمة بها؛ كما تؤكد الجدة لمينة: «ما عندي ما نعمل ليك، ما عليك إلا تصبري، هادشي عملتيه لراسك، ما عملو لك حد».
وبعد اكتشافها للحمل، تلجأ مينة إلى إخبار أحمد بالأمر وتطلب منه أن يتقدم من أجل طلب يدها بغية تجنب فضيحة الحمل غير الشرعي ونظرة المجتمع القاسية، غير أن أحمد لم يتطلع إلى تحقيق رغبة مينة، وهكذا يلجأ إلى نكران علاقته بها وتجاهل ادعائها، وأكثر من ذلك يحاول اتهامها بإقامة علاقات متعددة مع أشخاص آخرين في محاولة منه بإلقاء اللوم عليها وحدها، ويتجلى هذا في الحوارين التاليين المأخوذين من مشهدين مختلفين:
مينة: فوقاش ما بغيت نظهر معاك، كتهرب مني، هايدا عملت لي البارح […]
أحمد: المهم، أش عندك دابا أوكان، سير قلبي على شي حد آخر، اعطيني بالتساع
مينة: كتضحك عليا ياك!
— – – —
مينة: أجي، فوقاش ناوي تجي تخطب
أحمد: كاتعرفيني! وأنا ما بيني وبينك والو
مينة: وأنا واش نمشي نعمل؟
أحمد: شرب البحر، قلب على شي حد آخر، شحال من مرة شتك مع هذا ومع لاخر […]،
إكون شي واحد فيهم آخر، أنا ما عندي غرض بالزواج، هايدا خصك!
وفي ظل تجاهل أحمد لها، تهوي عليه مينة بضربة طائشة وضعت حدا لحياته؛ ويمكن قراءة هذا المشهد رمزيا على أنه بمثابة تمرد المرأة/ الكائن الضعيف ضد سلطة وهيمنة المكون الذكوري، ويدعو هذا المشهد بشكل مضمر إلى حث الأنثى على تحدي جبروت وتسلط العقلية الأبيسية. ويتجلى هذا الجبروت في إفلات أحمد من عقاب المجتمع وكون مينة في آخر المطاف الضحية الوحيدة في هذه الواقعة؛ وكونها ضحية يتضح بشكل جلي في قولها لأحمد: «كتضحك عليا ياك!»، وتكرارها لنفس العبارة في حوار مع جدتها بينما كانت تجهش بالبكاء: «ضحك عليا!».
إذن نحن أمام برنامج اجتماعي وثقافي معين يحد من حرية الأنثى ويحصر نفوذها ضمن دائرة اجتماعية وأخلاقية معينة ومحددة المعالم، ويرمز إلى هذا في الفيلم بالمشهد الذي تتواجد فيه مينة وسط دائرة قرب الشاطئ بينما كانت محاطة بمجموعة من الأطفال الذكور. وترسم الدائرة هنا على المستوى الرمزي حدود تحركات مينة/ الأنثى المحاطة بالأطفال الذكور/ المجتمع الأبيسي، وهكذا يجب على مينة/ الفرد أن تخضع لإملاءات المجموعة/ الأطفال/ المجتمع؛ وعليه فإن الدائرة، كما يرى محمد عبد الرحمن التازي في خضم تحليله للدائرة الموجودة في فيلم «باديس»، ترمز إلى تأثير المجتمع حيث إنه هو المحدد لسلوك الفرد وأن الروح الجماعية قوية به؛ وعليه فإن الفرد يخضع لهذه الروح الجماعية حيث إن المجتمع يفرض السلوك والقواعد التي على الفرد أن يعمل بها.(16)
ويتجلى تسلط المجتمع على الأنثى في لجوء أب مينة، «سلام»، إلى عزل/ سجن ابنته في يلا، وبهذا تصبح مينة قريبة وبعيدة عن أفراد القرية في آن واحد، وستقضي داخل هذا السجن «الرمزي» فترة الحمل بينما تتصنع زوجة أبيها بالحمل؛ وتهدف هذه الحيلة إلى «سلك طريق التستر وكتم السر درءا للبهدلة وإسكاتا للناس»،(17) كما يدعي الأب لما يخبر أمه: «أمي، هادشي للي كانديرو راه من مصلحتها ومصلحتنا حتى حنا ف الدوار». وعلى غير المتوقع، لم يتم تقديم الأب في صورة الرجل العنيف والبطريريكي المتسلط الذي قد يفضل وفاة ابنته التي أساءت إلى شرفه.(18)
وستشكل فترة غياب مينة عن الأنظار محطة تساؤل لدى أهل القرية، بحيث نجد الفقيه والمعاق يتساءلون عن غيابها وحالها من حين إلى آخر، وتشكل كذلك محطة قلق لهم حيث إن فترة حملها «كانت عصيبة على سكان القرية، فكلما صاحت الفتاة خوف أو تألم، اعتقدوها جنية تقطن المكان»،(19) كما يتضح في قول مينة لأبيها: «حتى واحد ما بقى يقدر إدوز من هنا».
غير أن صرخات مينة المتتالية من داخل مكان سجنها واستجابتها لنداء الأمومة وأخذها لمولودها أمام دهشة ناس الدوار وتوجهها به نحو مكان تواجد أبيه هي أفعال تجسد تمرد مينة وثورتها ضد ممارسات المجتمع؛ إذ إنها في المشهد الأخير تسير في طريق بينما يسير أهل الدوار في طريق متواز مع طريقها، أي أن مينة تسير وفق برنامج يتعارض مع برنامج أهل الدوار/ المجتمع. وبالتالي، إن فيلم «شاطئ الأطفال الضائعين» هو بمثابة قصة تفاؤلية لثورة امرأة؛ بحيث إن البطلة، ورغم الضغط الممارس عليها، ستقوى على مواجهة سلطوية أبيها وعداء زوجة أبيها.(20)
وفي قصة لا تشبه كثيرا قصة مينة في تفاصيلها، تعيش «فاطمة» في فيلم «خيول الحظ» تهميشا اجتماعيا من نوع آخر؛ بحيث إنها تعيش تجربة تمزق/ فراق عائلي بين الأب والأم؛ فبينما الأب يشتغل كسائق سيارة أجرة بطنجة، تشتغل الأم في مقهى بجبل طارق. ودفع هذا الوضع العائلي غير السليم بفاطمة إلى العيش على هامش المجتمع، إذ إنها أصبحت متنقلة بين أحياء طنجة وعلبها الليلية، في انتظار فرصة سانحة للالتحاق بأمها بجبل طارق، مما عرض حياتها للضياع وكرامتها للإهانة، كما تحكي ل»إبراهيم» عن إحدى التجارب: «كنت ساكنة ف واحد لوطيل، ومن بعد مشيت مع واحد السيد وتخاصمنا، تيسحاب لو شراني!».
وما زاد من حدة التهميش الذي تعيشه فاطمة هو رفض أبيها الحديث معها، لما عثرت عليه صدفة بإحدى الشوارع ليلا، ودار الحوار التالي بينهما:
الأب: أش بغيتي عندي؟
فاطمة: بغيت نتكلم معاك
الأب: بعدي مني
فاطمة: عافاك
الأب: يالله روحي عند مك
وشكل هذا الحوار صدمة لفاطمة وعقدة اجتماعية، اثر وقعها على تصورها لقصة حياتها حيث تؤكد لإبراهيم: «با نكرني! وما بقيش باغي يشوفني، معمرني غا نلحق على يما لجبل الطر [طارق]، بقيت بوحدي] …[ با نكرني!». وهكذا تصبح حياة فاطمة نهبا للأخطار الاجتماعية المحدقة كالاستغلال والتحرش الجنسيين، بحيث إنه سيتم صفعها من أحد المتحرشين جنسيا بها بعدما ألقت بقمامة داخل سيارته.
وإذا كان التحرش الجنسي في «خيول الحظ» موضوعا عابرا وهامشيا، فإنه في فيلم «ضفائر» يشكل أرضية صلبة لطرح الموضوع الرئيسي للفيلم ألا وهو تيمة الاغتصاب، والذي ستكون ضحيته الأولى والأخيرة المرأة/ الأنثى/ «سعيدة»، والتي ستفقد قدرتها على الكلام نتيجة الصدمة التي ألمت بها. وستتعرض سعيدة إلى الاغتصاب على يد «هشام»، ابن المحامي والسياسي «حميد بوسيف» الذي تشتغل لديه «كنزة» (أخت سعيدة) كخادمة، بعد تحرش جنسي متواصل بها.
ويشكل هذا الاغتصاب معادلة صعبة بالنسبة لسعيدة وكنزة حيث إن الصراع الطبقي والنفوذ السياسي سيقولان كلمتهما في هذه المعادلة؛ فبينما نجد أن المغتصب (بفتح الصاد) كائن ضعيف على المستوى المادي (ولما لا الفيزيولوجي) ويفتقر إلى من يدافع عن قضيته، نجد أن المغتصب (بكسر الصاد) كائن ذو جاه وسلطة ونفوذ سياسي، مما سيفضي إلى صعوبة، إن لم أقل استحالة، سلاح المواجهة، حتى وإن لجأت كنزة إليه في آخر الفيلم ذلك بأنها أعلنت أن الأمر سيصل إلى الشرطة. بيد أن المخرج انتقم لسعيدة، إن صح التعبير، حين قتل هشام بشكل بشع على يد أحد مساندي مرشح للانتخابات ضد أبيه؛ وعلى هذا الأساس، فإن الجيلالي فرحاتي، كما يؤكد روي أرميز، يبدي الكثير من التعاطف مع بطلاته الضعيفات، واللواتي يوجدن على شفا حفرة من الموت أو الكارثة أو العزلة، واللواتي لا تتحقق أحلامهن ويتم القضاء على محاولتهن للهروب من طرف بيئة حاقدة.(21)
ومن أجل الوقوف عند وقع صدمة الاغتصاب لدى سعيدة، سيدخلها المخرج في دوامة الصمت التي لن تخرج منها طوال الفيلم؛ حيث إنها أصبحت عاجزة عن العودة إلى حياتها الطبيعية. وهكذا فإن «السينما الجيدة»، بالنسبة لفرحاتي، هي الصورة وبعد ذلك الصمت وإشراك المشاهد في قراءة معنى الفيلم وفك لغزه.(22)
ب_ المعاق بوصفه إنسانا مهمشا
تعتبر الإعاقة، بكل تشعباتها، إحدى التيمات الأكثر تهميشا في السينما المغربية، إذ لا نجد، حسب علمي، فيلما مغربيا طويلا جعل من تيمة الإعاقة موضوعا رئيسيا لسرده الفيلمي،(23) بل إن الإعاقة هي ذلك الموضوع الهامشي والثانوي والمكون الذي يلعب دور المؤثث فقط من داخل السرد الفيلمي المغربي. وتشكل الإعاقة، سواء كانت جسدية أو ذهنية، إحدى أبرز تجليات التهميش الاجتماعي والثقافي وبالضرورة التهميش المؤسساتي، بحيث نجد أن المعاق يحظى بنظرة دونية من طرف الفرد والمجتمع والمؤسسة، وذلك لكونه ينظر إليه على أنه تلك الذات الناقصة وغير القادرة على تحقيق توقعات الآخرين؛ وبالتالي يتم الحكم مسبقا على المعاق بالفشل والضعف، ويتم حصر قدراته الجسدية أو الذهنية ضمن نطاق ضيق تطغى عليه الإسقاطات والأحكام المسبقة.
وعلى غرار الأفلام المغربية، لا نعثر على تيمة الإعاقة كموضوع رئيسي في أحد أفلام الجيلالي فرحاتي، غير أن هذا الأخير كان ذكيا في إدراج شخصية المعاق من حين إلى آخر وحتى ولو كان هذا الإدراج لا يجعل من هذه التيمة سوى ذلك الموضوع الثانوي والمكمل للتيمة الرئيسية. وتقتصر أشكال الإعاقة التي تطرق فرحاتي إليها فقط على الإعاقة الجسدية، فبينما نجد حالة الرجل المشلول في فيلم «شاطئ الأطفال الضائعين»، وحالة المرأة المشلولة في فيلم «ذاكرة معتقلة»، نجد حالة الأعمى في فيلم «خيول الحظ».
ويعتبر الرجل المشلول، نتيجة حادثة سير كما تتم الإشارة إلى ذلك، مكونا مؤثثا لأغلب مشاهد فيلم «شاطئ الأطفال الضائعين» حيث إنه يكاد يحضر في أغلب المشاهد كشخص ثانوي لا غير، بيد أن الفيلم وقف عند أشكال التهميش التي يعيشها وأنواع الممارسات التي تمارس ضده وتنتقص من كرامته. ويعرض هذا الرجل المشلول، «الذي يفتقر إلى أتفه الحقوق وأبسطها في غياب الرعاية الصحية والإنسانية»،(24) لأفعال تهين شخصيته وتستفز مشاعره الإنسانية؛ فبينما يقمعه الفقيه في أحد المشاهد إثر فضوله، ستقمعه زوجته، «فاطمة»، كذلك لما أحضرت له هو والفقيه الشاي:
المشلول: مال هاذ أتاي مسفور، أش عملت فيه؟
فاطمة: أش بغيتي نعمل لك فيه؟ السم باش نقتلك! نتا ميت من زمان، ماعيش فيك غير
عينيك، خاص اللي يخورهم ليك.
وانطلاقا من هذا الحوار وحوار آخر بين الفقيه والمشلول، نستنتج أن هذا الأخير فقد رجولته على إثر الحادثة التي تعرض لها؛ ونستنتج إيحائيا في مشهد آخر أن هذا الأمر (فقدان الرجولة) سيدفع بفاطمة إلى سلك طريق الخيانة الزوجية؛ الأمر الذي لم يستسغه الزوج مما سيؤدي به إلى كشف شكوكه لزوجته حول خيانتها له، غير أن فاطمة لم تتقبل الأمر وستطرح زوجها أرضا بينما كان ممتطيا كرسيه المتحرك (دون أن ننسى أنها عادت لطلب السماح منه وقامت كذلك بغسل بدنه في مشهد آخر):
المشلول: أجي بعدا ولي ليا فين كتمشي كل صباح؟
فاطمة: داكشي باش كتفطر كل صباح، كتمشي تجيبو نتا؟
المشلول: أفاطمة، السفنج ماشي ديما
فاطمة: منين مكنلقاهش، ديك الساعة كنجيب حاجة خرى
المشلول: السفنج غير سبة!
وتبقى شخصيات الرجل المشلول في «شاطئ الأطفال الضائعين» والمرأة المشلولة في «ذاكرة معتقلة» بدون أسماء كدليل على أنها تجسد حالة نماذج عديدة في المجتمع، غير أن شخصية الأعمى في «خيول الحظ» يمنح لها اسم «علي» كأنها تجسد حالة خاصة، حيث إن عليا شخص بصير يحلم بالهجرة إلى الضفة الأخرى، فرنسا، أملا منه أن يسترجع بصره بمساعدة ابنه المتواجد هناك. ويبقى أمله وحلمه هذا دليلا قاطعا على التهميش الاجتماعي والتهميش المؤسساتي اللذين عاش ولا زال يعيش على إيقاعهما في المغرب، وهكذا تبقى فرنسا ذلك البلد النموذجي والمثالي الذي يحقق أحلام المعاق ويستجيب لمتطلباته.
وليست فقط حالة وظروف علي وحدها التي توحي بالتهميش الاجتماعي الذي يعيشه، بل يجسده أيضا تهميشه وعدم الرغبة في استقباله من طرف «امرينة»، أحد مهربي المهاجرين السريين، مفضلا عليه زبونا أخر:
علي: امرينة باغي يشوفك، ياك! وحنا من بيلا وحنا كنتسناو، امرينة باغي يشوفك دابا،
وحنا نتسناو، رجع نهار آخر
بواب امرينة: باراكا من الصداع، صدعتينا
علي: وا حكرة هاذي!
ولا تعود عدم رغبة امرينة في استقبال علي إلى عدم امتلاكه للمال، بل يرجع إلى كونه أعمى، كما يروي علي لمحمد في الحوار التالي:
محمد: أش قالك امرينة؟
علي: أش قال لي لمرينة! لمرينة أسيدي الك ما عندو ما يعمل بيا، حيث أنا اعمى.
وتعتبر شخصية المعاق في فيلم «ذاكرة معتقلة» شخصية جد ثانوية وبعيدة كل البعد عن القصة الرئيسية للفيلم، إذ إنها تظهر في مشهدين فقط؛ غير أنهما مشهدان قويان يشيران بشكل جلي إلى ظاهرة استغلال الشخص المعاق في التسول. ولا ننكر أن هذه الظاهرة هي نفسها نتيجة حتمية للتهميش الذي يعاني منه الشخص المعاق في ظل غياب الرعاية الصحية والإنسانية والمؤسساتية به، بحيث إنه سيكون في غنى عن هذه الممارسات التي تضر بالمجتمع عامة وبشخصيته خاصة لو تم الاهتمام به ورعاية حقوقه واحترام شخصيته.
ت_ الطفل بما هو ذات مهمشة
تسجل تيمة الطفل والطفولة ضمن خانة التيمات المهمشة في المتخيل السينمائي المغربي إلى جانب تيمات عدة لها علاقة بالجوانب الاجتماعية والثقافية والتاريخية والسياسية؛ ويعزى هذا التهميش، حسب محمد اشويكة، إلى عدم الإلمام بالميكانيزمات النفسية المحيطة بالطفل، وعدم الاطلاع على مرتكزات التنشئة الاجتماعية للطفولة المغربية، وعدم التسلح بالمناهج البيداغوجية والانفتاح على النظريات التربوية.(25) وإن تم استحضار موضوع الطفولة في السينما المغربية (باستثناء فيلم علي زاوا)، فإنه يتم هذا الاستحضار وفق تمثلات تبسيطية ورؤى غير عميقة لا تراعي أو لا تركز على أهم جوانب شخصية الطفل؛ وينتج عن هذه الوضعية تعامل السينما المغربية مع تيمة الطفل «كموضوع عارض ومؤثث للسرد الفيلمي أو ك»اكسسوار بشري» ساذج يرافق الممثلين الآخرين، أو كجوقة لا تتقن إلا الضجيج والشغب».(26)
ولا يخرج حضور الطفل والطفولة في سينما الجيلالي فرحاتي عن هذا الإطار، بحيث لا نجد فيلما من أفلامه جعل قصته الرئيسية قصة طفل، حتى وإن كان «شاطئ الأطفال الضائعين» حاول الاقتراب أكثر من الأفلام الأخرى من تيمة الطفولة، وذلك عبر تقديم مشاهد عابرة لأطفال هنا وهناك. بالإضافة إلى هذا، إن استحضار الطفل والطفولة في أفلام «شاطئ الأطفال الضائعين» و«خيول الحظ» و«ضفائر» هو استحضار محتشم ولا يرقى إلى مستوى إبداعي فاعل يعمل على تفكيك شخصية الطفل والتركيز على جوانبها النفسية والبيولوجية والطفولية.
وهكذا إن تمثل الطفل في هذه الأفلام يقدم لنا الطفل ككائن هامشي لا يصلح إلا لتأثيث المشاهد الفيلمية، وذلك عن طريق إبعاده عن القصة الرئيسية للفيلم وعدم الاهتمام بتفاصيل حياته الشخصية، إذ إن إدراك المشاهد للفيلم لا يخرج عن إطار صورة نمطية للطفل ألا وهي أن هذا الأخير لا يصلح إلا للعب أدوار ثانوية قد تساعد على فهم قصة الفيلم والوقوف عند حيثياتها، أو أدوار تكمل تأثيث بعض المشاهد الفيلمية كتقديم بعض المشاهد التي يتم فيها تصوير الأطفال (يلعبون مثلا) دون إبراز مغزى تلك المشاهد.
ويمكن أن ندرج جل، إن لم أقل كل، مشاهد الأطفال في «شاطئ الأطفال الضائعين» ضمن المشاهد المؤثثة للفيلم حيث إننا نجدها لا تخرج عن نطاق اللعب قرب الشاطئ والعبث بسيارة أحمد والتجمع حول بائع الحلويات وتأكيد البعد الخرافي لتواجد جنية داخل المنزل الذي تتواجد به مينة، حيث إنهم الفئة الأكثر خوفا من عالم الجن. ولا ننسى أن الفيلم توقف بشكل عابر عند مدى تهميش الأطفال، وذلك عبر تقديمهم في ملابس بالية وتوجه أغلبيتهم إلى المدرسة بدون محافظ، وإن دل هذا على شيء فإنه يدل على هامشية حياتهم التي يطبعها الفقر والحرمان؛ حرمان يبدو جليا أيضا في مشهد يرفض فيه أب مصاحبة ابنه له إلى البحر من أجل الصيد.
ولا يحضر الطفل في «خيول الحظ» إلا في المشهد الأخير من الفيلم، حيث نجد مجموعة من الأطفال يلعبون على شاطئ البحر، ولكن استحضار الطفل في هذا المشهد هو استحضار وظيفي؛ إذ أن الطفل هنا شاهد على موت الإنسان/ المهاجر السري في البحر. ويتجلى هذا في كون الأطفال يلعبون قرب بقايا مهاجرين لقوا حتفهم بالبحر كالأحذية والملابس؛ وأكثر من هذا توحي نهاية الفيلم بشكل رمزي إلى أن كلا من «محمد» وعلي (الأعمى)، اللذين شقا البحر بقارب مسروق، سيلقيان حتفهما أيضا في البحر، وذلك من خلال استعمال لقطة بانورامية تنتقل فيها الكاميرا مباشرة من قارب محمد وعلي إلى طفل يلعب بمشنقة قرب الأحذية والملابس (التي أشرنا إليها سابقا).
ويعيش الطفل حالات الاستغلال في فيلم «ضفائر»، إذ أن «أمين»، أخ كنزة وسعيدة، يتم استغلاله من طرف هشام في القوادة بينه وبين سعيدة؛ ومن جهة أخرى يتم استغلال أطفال دون السن القانوني للشغل في ظفر خيوط الخياطة من طرف مشغل لم نتعرف عليه في الفيلم. وعلى عكس الأطفال في الأفلام السابقة، فإن الأطفال في «ضفائر» يبحثون بطرقهم الخاصة على الحصول على دخل مادي في محاولة منهم العمل على تحقيق نوع من الاستقلال المادي، وهكذا نجد أن أمين يلجأ إلى بيع السجائر بالتقسيط تارة وبيع الأثاث والأدوات القديمة التي استخرجها هو وأصدقاؤه من منزل مهجور تارة أخرى.
وفي الأخير، نسجل ملاحظة عامة حول حضور الطفل والطفولة في سينما الجيلالي فرحاتي ألا وهي أن جل الأطفال، بدون استثناء، الحاضرين في أفلامه، بوعي أو بدون وعي، هم أطفال ذكور؛ ويمكن قراءة هذا المعطى على كونه «نتيجة منطقية للسيطرة الذكورية وسيادة النموذج البطريريكي في المجتمع المغربي».(27)
ج_ الهجرة السرية بوصفها تيمة مهمشة
تندرج الهجرة ضمن أقدم الأنشطة التي مارسها الإنسان على مر العصور بدون قيود أو شروط، إلا أنها وبعد ظهور ما يسمى بالدولة-الوطنية في القرون الأخيرة أصبح هذا النشاط جد معقد ومقنن، حيث إن عبور الحدود أصبح يتطلب مجموعة من الإجراءات القانونية. وأكثر من هذا، إن الهجرة، أقصد هنا أساسا الهجرة من الهامش/ «العالم الثالث» إلى المركز/ الغرب، ازدادت تعقيدا في الآونة الأخيرة بعدما طرح السؤال الديمغرافي في المجتمع الأوروبي وبعد ظهور ما يسمى بـ»الإرهاب».
ويتولد دافع الهجرة لدى الفرد نتيجة ظروف اجتماعية واقتصادية معينة من داخل وطنه الأم، مما يجعله يبحث عن بلد آخر/ خارجي بديل لتجاوز ما أسميه بـ»بؤس الداخل»؛ ويؤدي هذا إلى تشكيل تمثلات ذهنية تحصر البلد المضيف في متاهات المثالية، حيث يتم تصور البلد المضيف، في حالة هجرة الأفارقة إلى الغرب، على أنه الجنة/ الخلاص النهائي والفضاء المثالي للثراء والارتياح والمتعة وتحقيق كل الأحلام.(28) وتدفع هذه التمثلات الذهنية بالمهاجر السري إلى المجازفة بحياته، وذلك بوضع رهان وجوده على ركوب قوارب الموت.
في الحقيقة، إن تيمة الهجرة السرية ليست بتيمة مهمشة في الخطاب السينمائي المغربي، بحيث تم استحضارها ولو بصيغة غير قوية في أفلام عبد الرحمن التازي (ابن السبيل_ 1981 والبحث عن زوج مراتي_ 1993)، غير أن استحضار الجيلالي فرحاتي لهذه التيمة وجعلها موضوعا رئيسيا، في وقت كانت الهجرة السرية في أوجها بالمغرب (مرحلة التسعينات)، كان بمثابة سابقة في السرد الفيلمي المغربي، وجاء في وقت مازالت فيه الهجرة السرية تيمة مهمشة.
وهكذا نجد «خيول الحظ» يقف عند «الشروط المفعلة لهاجس الهجرة، وعلى البؤس الاجتماعي والنفسي للأفراد والجماعات»،(29) فبينما يرغب محمد في الهجرة من أجل مشاهدة مسابقة الخيل في فرنسا، ترغب فاطمة في الالتحاق بأمها بجبل طارق ومساعدتها في مقهى هناك ويرغب علي، الأعمى، في الهجرة إلى فرنسا لهدف إجراء عملية جراحية لاسترجاع بصره.
وتعني أيضا الهجرة إلى الضفة الأخرى بالنسبة لهذه الشخصيات تجاوز «بؤس الداخل» وتحقيق أحلام لم تتحقق بالوطن الأم، حيث نجد أن محمد يغادر المغرب بعد ما أصبح مبحوثا عنه من طرف الشرطة نظرا لسرقته لوكالة بنكية، ويأمل أن يحقق حلمه المتمثل في مشاهدة الخيل بفرنسا؛ وتتولد فكرة الهجرة لدى فاطمة بعدما تم إقصاؤها ورفضها من طرف أبيها، وتحلم بلقاء أمها بجبل طارق والالتحاق بها؛ وفي نفس الوقت يرغب علي في الهجرة نتيجة التهميش الاجتماعي والتهميش المؤسساتي اللذين يعيش على إيقاعهما داخل المغرب وذلك بكونه بصيرا، ويحلم باسترجاع بصره بفرنسا؛ وبالإضافة إلى ذلك يتوارى عن الأنظار زوج زبيدة (يستنتج أنه هاجر إلى الديار الإسبانية) رغبة منه في تجاوز تسلط زوجته التي تلقي به خارج البيت نتيجة هوسه بأفلام الخلاعة المنقولة على قناة إسبانية، وتوحي هجرته بحلمه تحقيق المتعة الجنسية مع النساء الأوروبيات الحسناوات.(30)
واستحضر الفيلم أيضا مختلف أنماط التلاعب التي تحكم الهجرة السرية، ففي المشهد الأول نستنتج أن مجموعة من المهاجرين، من بينهم محمد، تم التلاعب بحلمهم بالهجرة إلى إسبانيا، وذلك بعد أن تم تفريغهم بإحدى الشواطئ المغربية؛ ومن جهة أخرى تلاعب امرينة، أحد سماسرة الهجرة السرية، بفاطمة بعد أن وعدها بالهجرة مجانا مقابل إحضارها له عددا معينا من المرشحين للهجرة السرية.
وبعد استحضار البؤِس المؤسس لدافع الهجرة لدى المهاجرين السريين، يستحضر الفيلم أيضا ما يمكن تسميته بـ»بؤس المصير»، حيث يحكم الفشل مصير كل الشخصيات الراغبة في الهجرة؛ فمحمد فشل في الهجرة بداية حين تم التلاعب به في المشهد الأول، وفشل ثانية لما حاول الهجرة بشكل قانوني مع إليزابيث، ابنة فرنسوا المقيم بالمغرب، حيث تمت مصادرة جواز سفره بالميناء،(31) وفشل للمرة الثالثة حينما حاول ركوب قارب الموت وتم تطويقهم من طرف الدرك الملكي، وفشل في المرة الأخيرة لما ركب هو وعلي زورقا سيضع حدا لحياتهما حسب ما نستنتجه من إيحاءات الفيلم، كما أشرنا إلى ذلك أعلاه؛ وهكذا سيكون مصير كل من محمد وعلي هو الموت والفشل في تحقيق الأحلام التي سطروها من قبل. وفشلت أيضا فاطمة في الالتحاق بأمها بعد أن تلاعب امرينة بحلمها، وفشل كذلك الأفارقة الحالمون بالضفة الأخرى في المحاولة التي طوقتها قوات الدرك؛ وأخيرا فشل امرينة في الاستمرار بالتلاعب بأحلام الأفارقة عامة والمغاربة خاصة بعدما انتقم منه ضحاياه ووضعوا حدا لحياته بطريقة مذلة.
ح_ السجن بما هو فضاء مهمش
يعتبر السجن من بين أهم الفضاءات التي تم تهميشها في السينما المغربية «لاعتبارات سياسية وأمنية تتعلق بطبيعة المرحلة التي عاشها المغرب خلال فترة السبعينات والثمانينات حيث شنت آنداك حملات اعتقال واسعة في صفوف المعارضين للنظام السياسي المغربي».(32) وحتى وإن كان السجن حاضرا في بعض الأفلام، فإنه لم يتم تقديمه كمؤسسة عقابية/ انضباطية/ زجرية إلا بعد مرحلة الانفراج السياسي التي شهدها المغرب أواخر التسعينات حيث بدأت تظهر هنا وهناك أفلام استحضرت سنوات الرصاص وقدمت السجن كمؤسسة عقابية بما هو جزء لا يتجزأ من هذه المرحلة.
وتتعدد تمثلات وصور السجن من فيلم إلى آخر أو بالأحرى من مشهد إلى آخر من داخل نفس الفيلم؛ وهكذا قدم لنا فيلم «ذاكرة معتقلة» صورا متعددة ومختلفة (ومتناقضة أحيانا) للسجن، وهي التي سنحاول الوقوف عند تجلياتها واحدة تلو الأخرى. وصور الفيلم السجن بشكل أساسي على أنه فضاء للضياع والفقدان والتيه، بحيث إنه هو الفضاء الذي شهد على فقدان «المختار» لذاكرته حيث جاء على لسان مدير السجن: «مسكين ما صبرش للحبس وفقد الذاكرة ديالو، وما بقى كيعقل حتى على شي حاجة».
ونجد أن السجن ليس فقط فضاء لفقدان الذاكرة فحسب، بل هو فضاء لفقدان الحياة كذلك، بحيث إنه كان مسرحا لموت «عمر الأحمدي»، كما جاء على لسان ابنه «الزوبير»: «الوالد دخل للحبس والوا لينا بأنه مات، مات بشي مرض، عمرني ما تيقت»؛ ونضيف إلى ذلك كون السجن فضاء لفقدان الرجولة حيث إن المختار فقد رجولته من داخل فضاء السجن، ويخاطب الزوبير المختار قائلا: «بنادم اللي فقد الذاكرة، حسبو ميت ولا رجلة من الفوق».
ومن كونه فضاء للفقدان، يقدم لنا الفيلم أيضا السجن بوصفه فضاء للألفة، هذا في علاقته مع المختار الذي نسجت علاقة ألفة بينه وبين السجن بعد أن نسي العالم الخارجي الذي يدور حوله إلى درجة أن المختار أصبح يفضل فضاء السجن على الفضاء الخارجي، بحيث إنه لم يعد يرغب في مغادرة السجن، كما جاء في الحوارات التالية بينه وبين حراس السجن:
حارس السجن: خصك تجمع حوايجك باش تمشي بحالك
———-
حارس آخر: مالك أبا المختار؟
المختار: ما فهمتش علاش بغاوني نمشي؟
الحارس: أنا نهار واحد كندوزو هنا غير بالسيف! ومني كنخرج من هنا بحال إلى تولدت
من جديد، ونتا باغي تبقى هنا! ما فهمتكش أنا!
———-
حارس آخر: أبا المختار، ما بقى عندك ما دير فهاذ الحبس هذا، سمعتي؟ راه ماشي دار
العجزة هذي!
المختار: حتى نتا، نفس الكلام كلكم!
ويحضر السجن في الفيلم أيضا بما هو فضاء للعزلة والانطواء حول الذات، بحيث إن المختار أصبح معزولا عن الفضاء الخارجي حيث يؤكد لـ»زهرة» في إحدى رسائله: «[…] زنزانة بلا أفق هي مقبرتي! تستفزني جدرانها، زهرتي، كأخر بوصلة لقياس عزلتي […]»؛ ومما زاد من حدة عزلة المختار انطواؤه على ذاته حيث يفضل الصمت وسقي الورود على الاقتراب من السجناء؛ ومن جهة أخرى، يفضل الزوبير الابتعاد عن أمه التي يرفض زياراتها له في السجن.
واستحضر الفيلم السجن كذلك على أنه فضاء للانضباط حيث إنه مؤسسة تأديبية وانضباطية تحاول أن تصحح سلوك الفرد الخارج عن القواعد والقوانين المعمول بها في المجتمع، ويرمز إلى ذلك في الفيلم (إضافة إلى بعض مشاهد التعذيب) بتسمية جناحين بـ»حي الرحمة» و»حي الغفران»، وهما اسمان دالان على كون السجن مؤسسة للرحمة والغفران والانضباط وتجاوز زلات الماضي؛ وعلى هذا الأساس، يوحي السجن برسالة أنه لا يمكن انتقاده مادام لا يقوم إلا بما يقوم به كل من المعلم والمدرسة، بحيث إنه مؤسسة بريئة لا تعبر إلا عن التوافق الاجتماعي.(33)
وبعد الانفراج السياسي في المغرب ونهاية سنوات الرصاص، يقدم لنا الفيلم السجن بوصفه فضاء للحنين واستحضار الماضي، وذلك في المشهد الذي يقوم فيه كل من الزوبير والمختار بزيارة سجن مهجور، والذي سيتحول إلى فضاء لاستحضار الماضي الأليم حيث مشاهد التعذيب هي المسيطرة، ويقدم لنا الزوبير السجن على النحو التالي: «ها هو الحبس دابا كلو خاوي، دخل لو وخرج منو فوقاش ما بغيتي، الك غادي يردوه دار الثقافة، شحال من ذاكرة ماتت قبل ما يموت مولاها […] هلكوني بالماء بارد على راسي، شنو بغاو عندي؟ شنو درت ليهوم؟ دخت، يا ربي خذني عندك».
وفي الأخير، تحضر يلا في «شاطئ الأطفال الضائعين» بمثابة سجن رمزي يقي سلام ومينة وأهل الدوار ككل شر حدوث الفضيحة (افتضاح أمر الحمل غير الشرعي لمينة)؛ إنه فضاء للكتمان والتستر وتجاوز زلة الماضي وكذا الإفلات من «عقاب» المجتمع. ومن ناحية أخرى وعلى عكس «ذاكرة معتقلة»، لا يحضر السجن في «ضفائر» كمؤسسة زجرية أو عقابية، بل يحضر كمكون هامشي لا يتم استحضاره إلا في لقطات زيارات كنزة لزوجها للاطلاع على أحواله أو استشارته في اتخاذ قرارات تخص العائلة.
خ_ الاعتقال السياسي بوصفه موضوعا سياسيا مهمشا
بقي موضوع الاعتقال السياسي حبيس التهميش لفترة ليست بالقصيرة نظرا للتوتر السياسي الذي شهده المغرب في مرحلة السبعينات والثمانينات، المرحلة التي كان من الصعب فيها الحديث حتى عن الاعتقال السياسي فبالأحرى تناوله على المستوى السينمائي أو الروائي أو في أي شكل تعبيري آخر،«حيث كان تصريح أو قول بسيط بصدد الموضوع يفضي بصاحبه إلى غياهب السجن، أو إلى الكثير من الأتعاب والمعاناة».(34) وأدى هذا الوضع السياسي المشحون إلى إقصاء الاعتقال السياسي من الاشتغال السينمائي لكون مقص الرقابة، من ناحية، كان آنذاك حاضرا بقوة، وهو الفاعل الذي ولد لدى المخرج المغربي، من ناحية أخرى، نوعا مما يسميه مجموعة من النقاد بالرقابة الذاتية، حيث كان على أي مخرج اختار معالجة هذه التيمة، حسب اتباتو، أن يتحمل تبعات اختياره.
وتؤكد ساندرا كارتر أن الاعتقال السياسي يندرج ضمن مكوني السياسة والحكومة اللذين يتم إدراجهما ضمن لائحة الطابوهات كلما كان هناك حديث عن الرقابة،(35) الشيء الذي نتج عنه إبعاد هذا الموضوع من المتخيل السينمائي الوطني؛ غير أنه وبعد الانفراج السياسي الذي عرفه المغرب في أواخر التسعينات، سيتم تكثيف الاشتغال على الاعتقال السياسي بعد أن تم السماح بذلك رسميا؛(36) وبدأت تظهر هنا وهناك سيناريوهات تعالج تيمة الاعتقال السياسي سواء كان موضوعا رئيسيا أو ثانويا.
وينتمي الجيلالي فرحاتي إلى فئة المخرجين الذين جعلوا من موضوع الاعتقال السياسي تيمة رئيسية داخل سردهم الفيلمي، وكان ذلك في فيلمه السادس «ذاكرة معتقلة»، وعالج هذا الموضوع من زاوية مختلفة استدعت بشكل مكثف مكون الذاكرة حيث تعشش الآثار التي خلفتها مرحلة التوتر السياسي على جيل بأكمله، الجيل الذي تبخرت أحلامه وآماله السياسية والمجتمعية حين اصطدم بواقع لا يؤمن إلا بالمنطق الزجري، كما يشير إلى ذلك المختار في إحدى رسائله إلى زهرة: «رداؤك يرتد كفنا ينتزعني بعنف من غفوتي، وفي نواح كئيب يذكرني أن كائنات من زمننا وأدت أحلامنا لأننا أقمنا معبدا وأقسمنا لن نموت ونحيا لعشق الحرية».
ويعرج الفيلم على قصة المعتقل السياسي المختار العليوني الذي قضى فترة لا يستهان بها في غياهب السجن ولم يستفد من العفو مع مجموعته، وذلك بعد أن وقع هناك خلط بينه (كمعتقل سياسي) وبين المختار العليوني (سارق بنك) الذي استغل اسمه وخرج من السجن مكانه؛ الأمر الذي لم يستسغه المختار حيث فقد ذاكرته إلى درجة أنه نسي ماضيه السياسي، كما أكد ذلك للزوبير، رفيقه في فترتي السجن وما بعد السجن: «عمرني ما كنت مناظل، راك نتا غالط»، ويقول له في حوار آخر: «أنا ما عندي حتى علاقة بهاذ السياسة»؛ ويؤكد كذلك مدير السجن نفس الشيء لزهرة: «ما بقى كيعقل حتى على شي حاجة».
وهكذا لم يترك الاعتقال السياسي وقعه فقط على جسم المختار بل تركه أيضا على ذاكرته التي أصبحت مفقودة ومعتقلة بفعل واقع حدة الاعتقال في الماضي السياسي المغربي، الشيء الذي لم يقف عنده الفيلم بقوة وذلك من خلال عدم استحضار مشاهد أنواع وأساليب التعذيب التي كانت رائجة آنذاك. واكتفى الفيلم بالوقوف عند بعض ظروف الاعتقال حيث قدم نموذج اعتقال عمر الأحمدي، أب الزوبير، الذي تم اختطافه من بيته صبيحة يوم عيد الأضحى ونموذج اعتقال المختار بينما كان يزاول مهنة التدريس؛ وقدم الفيلم كذلك واقع وضع عصابة على أعين المعتقل والأغلال في يديه، كما يروي ذلك الزوبير للمختار: «عام والوالد عايش بها [عصابة]، ومن الفوق كاين المينوط»، دون أن ننسى ابتزاز عائلات السياسيين من طرف الشرطة، كحالة ابتزاز أب المختار وإرغامه على الإقرار بأسماء أصدقائه.
ومن بين أهم ما ركز عليه الفيلم هو مخلفات الاعتقال السياسي وآثاره سواء على المعتقلين أنفسهم أو على عائلتهم، حيث إن المعتقلين السياسيين شملهم عاملا التشتت والتفرقة، فمنهم من غادر أرض الوطن (حالة زهرة)، ومنهم من غاب عن الأنظار (حالة علي بلهاشمي)، ومنهم من لقي حتفه في السجن (حالة عمر الأحمدي)، ومنهم من فقد ذاكرته ورجولته (حالة المختار العليوني)، ومنهم من أصبح متسكعا في الشوارع، كما تحيل إلى ذلك إحدى المشاهد؛ وهكذا انتقلوا من المجموعة (كقوة موحدة تحمل أفكارا معينة وتؤمن بمبادئ معينة) إلى أفراد مزقهم واقع الاعتقال وأصبح كل واحد منهم يغني على ليلاه.
ووقف الفيلم أيضا عند المعاناة التي يعيشها أبناء المعتقلين السياسيين حيث الحرمان من الأبوة هو سيد الموقف، كما تروي «ربيعة» (أخت علي بلهاشمي): «خويا خطفوه وغبروه بعدما هزوا المختار، هاذي معمرني نسيتها، ولادو معمرهم فرحوا به […]»؛ بالإضافة إلى واقع الحرمان، يعيش هؤلاء الأبناء واقعا آخر مرا الا وهو واقع الرعب الذي يتولد لديهم نتيجة معاينتهم وعيشهم لظروف الاعتقال عن قرب، كحالة الزوبير الذي لا يزال يتذكر يوم اعتقال أبيه صبيحة يوم العيد، اليوم الذي وئدت فيه معاني الفرحة والسعادة لديه وحول هذا اليوم من يوم فرح إلى يوم ترح/ قرح. وسيبرر الزوبير أمر سجنه كنتيجة حتمية لواقع حرمانه من الأبوة، كما يفسر ذلك للمختار: «شتي الواحد مني كايكون تحرم من باه، كايكون غا يسالي إما ف الحبس ولا ف الإصلاحية، قليل اللي كيفلت منها […]».
وأكثر من هذا، لقد استحضر الفيلم هاجس الاعتقال السياسي لدى أفراد عائلات المعتقلين الذين لم يستطيعوا بعد تجاوز هذا الهاجس ولو بعد حدوث الانفراج السياسي في المغرب وعدم وجود أي معتقل سياسي في السجون المغربية (حسب الفيلم). وهكذا قدم الفيلم نموذج زوجة العربي لعرج التي أنكرت وجود اسم العربي لعرج في منزلها لما سألها عن ذلك الزوبير، وقدم الفيلم كذلك نموذج أحد أقرباء أحد المعتقلين الذي لم يتقبل البحث عن قريبه من طرف الزوبير ودافع عن عدم وجود أية علاقة بينه وبين السياسة.
وعلى عكس «ذاكرة معتقلة»، يتم تقديم تيمة الاعتقال السياسي في فيلم «ضفائر» بما هي تيمة عابرة وثانوية، الأمر الذي سيحاول فرحاتي تجاوزه في الفيلم الموالي («ذاكرة معتقلة») حين جعل الاعتقال السياسي موضوعا رئيسيا. ويقدم لنا «ضفائر» حالة محمد، زوج كنزة، الذي يعيش حالة اعتقال سياسي دون الإشارة إلى أسباب اعتقاله أو انتمائه السياسي ولم يتم الوقوف كذلك عند ظروف اعتقاله وسجنه؛ واكتفى الفيلم بالإشارة إلى أن محمد مظلوم في فترة السجن التي يقضيها.
3_ خلاصة:
وخلاصة القول إن سينما الجيلالي فرحاتي هي من بين التجارب السينمائية التي استدعت بقوة مكون الهامش والمهمش في متخيلاتها السردية مما يدفعنا إلى إدراجها ضمن السينما الواقعية «التي تهدف إلى عكس عالم السكان المحليين وحياتهم اليومية»؛37 وهكذا نجد أن السرد الفيلمي في أفلام فرحاتي يعتمد على سرد قصص من الواقع المعيش لناس عاديين مما يعطي للهامشي مساحة أكبر في المتخيل الفيلمي لسينما الجيلالي فرحاتي.
وتتجلى واقعية سينما فرحاتي في الحضور القوي لتجليات الهامش والمهمش في أفلامه، حيث إنه يستحضر مكون الهامش بمختلف تمظهراته في جل أفلامه سواء كان هذا الهامش مكونا رئيسيا أو موضوعا أساسيا من داخل السرد الفيلمي أو سواء تم استدعاؤه كمكون مؤثث وثانوي. وتتعدد تجليات الهامش في سينما فرحاتي من فيلم إلى آخر، لكننا اقتصرنا في ورقتنا هذه على تفكيك بناء النماذج المهمشة الآتية: على المستوى الاجتماعي والثقافي والمؤسساتي (نموذج المرأة والمعاق والمهاجر السري والطفل)، وعلى المستوى الفضائي (نموذج السجن)، وعلى المستوى السياسي (نموذج الاعتقال السياسي)؛ وفي الأخير، نشير إلى أن هذه الورقة تبقى محاولة متواضعة لسبر أغوار تجليات الهامش في سينما الجيلالي فرحاتي، وهي بذلك بمثابة أرضية للدفع بنقاش الهامش والمهمش إلى الأمام في السينما المغربية عامة وسينما فرحاتي خاصة.
الهوامش:-
1 أحمد شراك، «الهامش من الدلالات إلى النظرية»، مجلة أفاق، يناير 2010، عدد: 77-78، ص، 53.
2 Bill Ashcroft, et al., Key Concepts in Post-colonial Studies, (London: Rutledge, 1998), p. 135.
3 Ibid.
4 Peter Brooker, A Glossary of Cultural Theory, 2nd Edition, (London: Arnold, 2003), p. 152.
5 Abdol Hossein Nabavi, «Migrant, Marginality and Suburbanization, a Conceptual Framework,» European Journal of Social Sciences, 9: 2 (2009), p. 351.
6 Ghana S. Gurung and Michael Kollmair, Marginality: Concepts and their Limitations, (Zurich: University of Zurich, 2005), p. 10.
7 Ibid., p. 10/ 11.
8 Abdol Hossein Nabavi, «Migrant, Marginality and Suburbanization, a Conceptual Framework,» p. 352.
9 Phillip Brian Harper, Framing the Margins: the Social Logic of Postmodern Culture, (London: Oxford University Press, 1994), p. 12.
10 Bill Ashcroft, et al., Key Concepts in Post-colonial Studies, p. 135.
11 حميد اتباتو، «رؤية المهمش في السينما: من التجارب العالمية إلى النموذج المغربي»، ضمن الكتاب الجماعي: صورة المهمش في السينما: الوظائف والخصوصيات، منشورات نادي إموزار للسينما، مطبعة انفو برانت، فاس، 2008، ص، 10.
12 حميد اتباتو، «في الهامش والعنف والسينما الوطنية عند محمد الراب»، جريدة المساء، 17-18/ 02/ 2007، عدد: 129، ص، 18.
13 حميد اتباتو، السينما الوطنية بالمغرب: أسئلة التأسيس والوعي الفني، Publisud، ورزازات، 2002، ص، 18.
14 حميد اتباتو، رهانات السينما المغربية: الفاعلية الإبداعية وتأصيل المتخيل، Net Impression Ouarzazate، ورزازات، 2006، ص، 87.
15 فؤاد زويريق، خطاب الصورة: المتخيل والواقع، منشورات الفوانيس السينمائية، مطبعة وليلي، مراكش، 2010، ص، 11.
16 Kevin Dwyer, Beyond Casablanca: M. A. Tazi and the Adventure of Moroccan Cinema, (Bloomington: Indiana University Press, 2004), pp. 208/ 209.
17 محمد اشويكة، أطروحات وتجارب حول السينما المغربية، منشورات دار التوحيدي، الرباط، 2008، ص، 89.
18 Viola Shafik, Arab Cinema: History and Cultural Identity, (Cairo: The American University in Cairo Press, 2007), p. 203.
19 فؤاد زويريق، خطاب الصورة: المتخيل والواقع، ص، 13.
20 Oliver Leaman, ed., Companion Encyclopedia of Middle Eastern and North African Film, (London: Routledge, 2001), p. 486.
21 Roy Armes, African Filmmaking: North and South of the Sahara, (Edinburgh: Edinburgh University Press, 2006), p. 90.
22 Ibid.
23 غير أنه أستحضر هنا تجربة الفيلم القصير «سفر في الماضي»، من إخراج أحمد بولان (1996)، الذي جعل من تيمة الإعاقة موضوعا رئيسيا، حيث إنه يتمحور حول المعيقات السوسيوثقافية والمؤسساتية التي تحول دون اندماج «الغالي»، الشخص المعاق والحاصل على شواهد عليا من فرنسا، في النسيج المجتمعي في ماضيه وحاضره معا.
24 فؤاد زويريق، خطاب الصورة: المتخيل والواقع، ص، 12.
25 محمد اشويكة، أطروحات وتجارب حول السينما المغربية، ص، 15.
26 نفسه.
27 نفسه، ص، 17.
28 حميد اتباتو، رهانات السينما المغربية: الفاعلية الإبداعية وتأصيل المتخيل، ص، 69.
29 نفسه، ص، 65.
30 في هذا الصدد، يؤكد الجيلالي فرحاتي أن التيمة الأساسية في فيلم «خيول الحظ» «ليست مسألة العبور إلى الضفة الأخرى من المتوسط، بل الحلم بمعناه الواسع […] وأظن أنك لو تمعنت في شخصية الأعمى الذي تعتبر أوروبا بالنسبة له مكانا سوف يمكنه من استرجاع بصره، لأدركت مدى كبر حلم هذه الشخصية، إن أوروبا بلد المعجزات بالنسبة لكل شخصيات فيلمي»، أنظر عبد الكريم واكريم، أسئلة الإخراج السينمائي في المغرب: حوارات مع مخرجين مغاربة، منشورات سليكي إخوان، طنجة، 2003، ص، 10-11.
31 ترمز هنا إليزابيث إلى فرنسا، البلد الحلم بالنسبة لمحمد، وتعتبر بالنسبة له السبيل الأنجع المؤدي إلى الهجرة إلى فرنسا وتحقيق كل أحلامه؛ ويشبه هذا المشهد مشهدا من الفيلم الاستعماري الفرنسي Pépé-Le-Moko، من إخراج Julian Duvivier سنة 1937، حيث نجد أن Pépé (الفرنسي المغضوب عليه والمطرود إلى الجزائر) يرغب في الالتحاق بـ Gaby ، الفتاة الفرنسية التي ترمز إلى ماضيه وحلمه المتجسد في رغبته العارمة بالعودة إلى فرنسا.
32 عمر الفاتحي، «السجن والسجناء في السينما المغربية»، مجلة الملتقى، خريف 2007، عدد: 17، ص، 10.
33 James D. Faubion, ed., Power, trans., Robert Hurley et al., (___: New Press, 2001), p. 85.
34 حميد اتباتو، رهانات السينما المغربية: الفاعلية الإبداعية وتأصيل المتخيل، ص، 59.
35 Sandra Gayle Carter, What Moroccan Cinema? A Historical and Critical Study 1956–2006, (Maryland: Lexington Books, 2009), p. 316.
36 حميد اتباتو، رهانات السينما المغربية: الفاعلية الإبداعية وتأصيل المتخيل، ص، 59.
37 Viola Shafik, Arab Cinema: History and Cultural Identity, p. 203.