لا تزال تمطر بغزارة وأنا متكومة على نفسي، بعد أن أنهكني المسير، وسد الليل أمامي كل منافذ الوصول إلى إلا مكان، أحاول حماية ما تبقى مني من سيل السماء المنهمر دون هوادة،لا شيء يقيني البرد سوى أسمال مبتلة تلف روح متهالكة، مرمية على قارعة الطريق ككلب شريد، تمزق جسدي حبات المطر المثلجة وآهات مشتعلة تعتمل في ذلك العمق المخبوء من عقلي وقلبي.
حين قررت أخيرا أن أغمض عينيّ واستسلم للموت الذي حتما سيأتي سواء تجمدا أو احتراقا، ظهر طيف أمامي، يترنح تحت ثقل المطر الغزير، خلع معطفه المبتل ولفني به جيدا لم أحاول أن أتبين ملامحه أو حتى أتطلع فيه، فعدا أني لم أمتلك الطاقة الكافية للقيام بذلك، كان الظلام داخلي حالكا جدا، ففي اللحظة التي نشعر بها أننا قريبون من الموت يتشبث بنا الاستسلام تشبثنا بالحياة أبان قوتنا، نغدو مجرد خرقة بالية تتقاذفها الرياح وتأخذها أينما رحلت.
حدقتي عيني الناعستين فقط هي من رنت نحوه، ليس كمنقذ خلال تلك اللحظة الفارقة من حياتي، وإنما ككيان جميل تود أن تحتفظ بذكراه قبل أن تنغلق تماما، ربما رمشت أم لم أرمش، لا أتذكر حقيقة، لكن ما أتيقنه أني غفوت وهو ينحني علي ليتأكد أني ما زلت على قيد الحياة، وحين استعدت إدراكي مجددا كنت أتهادى بينما ذراعان قويتان تحملاني بعيدا، بعيدا عن المطر والموت الذي ذهبت إليه بكامل إرادتي، فتحت عيناي في محاول مني لتبيان ملامحه من بين القطرات التي تتساقط من وجهه على وجهي لكني عجزت، فقد أصبحت الصورة أكثر تشويشا، ربما هو دفئ معطفه المبلل قد شل قدرتي على المقاومة.
حسنا لا يهم، لا يهم كيف سيكون شكله، يكفي أني أنعم بهذا الدفء، بل لا يهم إن كان ما يحدث لي حقيقة أم مجرد مشهد صوره لي عقلي ليهون علي لحظة الوداع، سأغمض عيني وأستمتع بالدفء بعد ساعات طويلة تحت ثقل المطر والليل المعتم ومشاعري الدفينة.
«هل غدوتِ أفضل الآن» الحنان الممزوج مع الحروف أجبرني على فتح عينيّ وأنا التي أغمضتهما طويلا خوفا من مغادرة الحلم الجميل والعودة لتلقي المطر المنهمر على رأسي العاري
وحينما لاحظ ترددي لامس جبيني بأنامله الدافئة «افتحي عينيك ولا تقلقي أنت بأمان»
حسنا لم يكن لعقلي علاقة بما يحدث، فأنا لم أكن أحلم، لم يكن مشهد ما قبل الموت، ها أنا أحدق في وجه منقذي، أراه بوضوح كما رأيته دوما في نومي وصحياني.
تلمست السرير تحتي، ناعما نعومة كذراعي والدي حين كان يهدهدني، اعتدلت ف جلستي وأخذت أنظر في ألا شيء أمامي
«منذ متى وأنا هنا» سألتُ بصوت خلته ليس صوتي
«خمس ساعات، يوشك الفجر أن يطلع» أجاب دون أن ينظر إلى
«هل كنت أهذي»سألتُ بدون وعي
اكتفى بابتسامة محزونة، جلس على السرير قبالتي، محتويا يدي بين راحتي يديه سأل «لماذا ؟!»
«ولماذا أبقى؟!» سألتُ وأنا أنظر للسقف في محاولة مني لحبس دموع ترقرت في عيناي .
حدجني بنظرة استنكار قبل أن يجيب وهو يواصل الضغط على يدي «لأني أحبك»
سحبت يدي من بين يديه «وأنا كذلك لكن ما عاد يجدي» وقبل أن يقول المزيد، دفنت نفسي تحت اللحاف وانخرطت في بكاء حار، ليته تركني أموت هناك، فما كنت لأعيش لحظة الذل والشفقة هذه.
رن هاتفه الخلوي فغادر الغرفة ليتحدث، حين أغلق الباب خلفه تركت السرير ووقفت قبالة النافذة، كانت لا تزال تمطر، شعرت برغبة لفتحها وتنسم بعض الهواء البارد لكن قشعريرة الحمى الباقية آثارها في جسدي منعتني، اكتفيت بالالتصاق بالزجاج، لتبريد الأخاديد التي حفرتها دموعي
« يبدو المطر أجمل ونحن محتمون في الداخل» تمتمت وأنا أرسم أشكالا عشوائية من البخار الذي تركته أنفاسي على الزجاج.
كان نهارا صافيا حين قابلته صدفة في الجامعة، الصدفة تكرر، سريعا أصبح اللقاء أجمل واختلاق الأعذار أجمل.
بعد شهور قليلة قابل والدي الذي رحب به بعفويته، لنصبح بعد أقل من شهر زوجين لا حبيبين، يحوطني بذراعيه وتصهرني ابتسامته العذبة والحنون.
ظننتُ حينها أن الحياة ستستمر بإهدائي مفاجأتها الجميلة، لم أكن أعلم أن كل ابتسامة منها تتلوها تكشيرة قاسية قد تفقد الإنسان اتزانه بل وحتى رغبته بالبقاء تحت رحمة ضرباتها الموجعة، وأن السعادة الوحيدة التي تهبنا ما هي إلا مدخل لسيل من الأحزان قد لا تنتهي.
لم يكن موت أبي المريض بعد شهر واحد من زواجي هو الذي هز كياني، وإن هالني فراقه وهو السند الذي أتكئ عليه منذ أن فتحت عينيّ على هذه الدنيا، لكن الكلمات التي تفوه بها أخي حرمتني حتى من الحزن على الرجل الذي عشت في كنفه ثلاثين عاما
«لقيطة … أنت مجرد لقيطة ولا حق لك بالميراث» قالها غير عابئ بي وبالثقوب التي أحدثته رصاصاته في أنحاء جسدي وروحي.
بعد إلحاح اعترفت أمي وحكت لي تفاصيل تلك الليلة الملبدة سماءها بالغيوم، حين خرج زوجها لورديته الليلة، كانت ليلة مطيرة أيضا وبالكاد سمع صراخ طفل تُرِكْ بإهمال وسط الحشائش المبتلة، كان البرد قارصاً عليها أيضا، ازرَّق لونه، وبكاءه صار مجرد زعيق متقطع من البرد والجوع، لفه بمعطفه وعاد سريعا للبيت، بعد أيام من الاعتناء عاد – لما اتضح أنها طفلة – لونها وعادت لها الحياة التي كادت أن تغادرها، لم تكن أحدا سواي، وبما أنه لم ينجب إلا طفلا واحدا، ضمها إلى أفراد عائلته بل وأصبحت الأثيرة إلى قلبه.
بمجرد سماع القصة خرجتُ من عندها كمن صُب ْعلى رأسه زيت حار ففقد القدرة على الإحساس والتفكير وحتى الشعور بالألم، فتحتُ باب البيت الذي آواني عقودا طويلة كابنة مدللة وخرجتُ كلقيطة أمشي على غير هدى في ليلة تشبه ليلة العثور عل، أخذتُ أسرع بخطواتي، تمنيت أن الحق والدي فقط لأسأله «لماذا … لماذا لم تتركني أموت تلك الليلة».
تركت الزجاج البارد ومشيت بتثاقل لشماعة الثياب، حملت معطف زوجي الذي لفني به قبل ساعات قليلة وأخرجت معطف والدي الذي أعطاني إياه منذ سنوات لاحتفظ به كذكرى، دون أن يخبرني ذكرى لماذا بالضبط !
لماذا لم يتركاني أموت هناك، لماذا لم يتركا المطر يصهرني ببرودته لأرتاح وترتاح مني الدنيا!! لا إجابة سوى الصمت.
انكببت على المعطفين أسكب عليهما غصة تأبى أن تترك حلق، بكيت قهراً وخزياً أصبح يسكنني لخطأ لا يد لي به، وحين أحسست بذراعي زوجي تحوطني زادت دموعي فإشفاقه يحرقني أكثر.
«هوني عليك» قالها وهو ينتزعني انتزاعا من كومة المعاطف، ضمني إليه بقوة حتى كاد يقطع أنفاسي: «أحببت مي لا والدها ولا أمها وسأظل أحبها حتى آخر يوم من عمري» همس في أذني
كلماته الدافئة أنستني برودة المطر والوحدة التي كانت قد تسللت لعظامي
أغمضت عينيّ واستسلمت لدفء حضنه وحبه.
مياسة النخلاني