لأول مرّة منذ زمنٍ أنام وأصحو من غير هدير آلة تكييف الهواء، ثمّة بقايا إرهاق السّفر الطّويل ورغبة مقموعة في استمرار النوم، بغية اكتشاف المكان المحيط بهذه المدينة والجلوس في مقهى في الهواء الطّلق. في الدَّور الخامس عشر من الفندق الكبير، أصحو من غير مكيف الهواء، أمام جبل سراييفو بأشجاره الخضراء وسطوح بيوته القرميديّة، وثمّة أسرابُ طيورٍ بيضاء تطير وتختفي في الأفق أو تحطّ في التّلال المرئيّة قبل أن تكسوها الغيومُ الزّاحفة.
لم أزر البوسنة من قبل، وهي الوحيدة من بلدانٍ قلّةٍ مفتوحةٍ في هذا الظّرف العصيب، لكنّني أتذكّر أنّني أتيت إلى بلّجراد قادمًا من صوفيا المجاورة، في أواخر العهد الشيوعيّ الآفل حين كانت عاصمة يوغوسلافيا، الوحيدة التي انقسمت إلى عدّة دولٍ منها البوسنة.
البارحة في التاكسي الذي يُقلّنا من المطار، بكلماتٍ تختلط فيها لغته مع كلمات إنجليزية، فهمتُ منه أن كورونا غير موجود فهو لا يلبس الكمامة، في بلاده، وعبر قفزة نوعية عبّر عن إعجابه بالمرشال تيتو، لكنّه أردف أنّه لم يكن ديمقراطيًّا لكنّه كان عظيمًا. وكنت قد حاولت أن أسأله عن قرب لغته من الروسيّة، حين سمع كلمة (روسكي) وليس (رشا) التي لم يفهمها، صرخ (روسكي نيدوبريه) ليسوا جيدين، وهي كذلك بالبلغارية، وربما بالروسية. وهذا ما لاحظته فيما أتيح لي مع أناسٍ ينتمون إلى بلاد الشرق الأوروبيّ «الشيوعية أو الاشتراكية» سابقًا، أنهم لا يكنّون ودًّا للروس، وعلى الأرجح؛ لتلك الحقبة التي حكمت فيها موسكو هذه الأقطار والبلدان، التي كان بعضها مثل التشيك والبولند وطبعًا ألمانيا الشرقية في طورٍ حضاريّ وصناعيّ متقدّم على روسيا الزراعيّة. كذلك جاءت ردّة الفعل إثر الانهيار الكبير، سريعة وعشوائية في الانتقال إلى المعسكر الآخر؛ اقتضت فترة ليست بقصيرة في العودة إلى البدايات العقلانية المدروسة والمتوازنة.
وحين أقمتُ لفترةٍ في بلغاريا المجاورة، عُرض فيلمٌ عن الرئيس تيتو، من بطولة ريتشارد برتون وكان اليوغسلاف في دار الطلبة «دار فينيتسيا» يذهبون جماعيًّا إليه، ويحرّضون الآخرين على الذهاب، رحل المارشال «الرمز» تاركًا أثره في الذاكرة والمكان، أكثر من غيره، ربّما من قادة الفلك الشيوعي بعد استالين الذي كان الوحيد الذي يتجرأ على الاختلاف معه أحيانًا.
أصحو من غير مكيّف هواء ومراوح، بشعورٍ مُضطرب وغريب، أفكّر أن التكيّف مع أيّ وضعٍ حتّى لو كان الأفضل طبيعة وطقسًا يحتاج إلى بعض الوقت. لكن بصورةٍ أشمل، متى حللْنا بمكانٍ وتكيّفنا فيه ومعه، كما يجب وينبغي، عدا ذلك التآلف الذي تُمليه ضرورة الاستمرار في الحياة، وعدا ذلك الاضطراب المنسجم مع نفسه بعيدًا عن توصيفات التكيّف أو السخط والنفور.
في مقهى خارجيٍّ ببهو الفندق العالي، أشرب قهوتي الصباحيّة العتيدة، (تركش كوفي) التي صُنعت بنكهتها ورائحتها، مثل تلك التي كنّا نرتشفها في بيروت والشام.
إزاء جبل أو جبال سراييفو التي تسورها من الجهات، نذهب في الذاكرة إلى أواخر السبعينيّات على ما أظن، إلى (صوفيا) تلك المرحلة، وجبل (فيتوشا) الذي نقيم تحت سفوحه مباشرة، وكنت أحدّق فيه كلّ صباح، مكللًا بالغيوم والثلوج. وهناك كتبتُ نصًّا قصصيًّا هو الأول ربّما، (تجلّيات النزهة الجبليّة) نُشر في مجموعة (الجبل الأخضر) بدمشق.
أنظر إلى جبل سراييفو، متناسلًا إلى ذُرى وجبال مكلّلة بالضباب متذكرًا (لبنان) ومُدنه المسوّرة بالجبال من الجهات كلها، ومثل لبنان البوسنة، خارجة من حروبٍ دينيّة وإثنيّةٍ طاحنة بعد انفراط عصر الاتحاد اليوغوسلافي، تحلمُ بمستقبل واعد ومُختلف كما تتجلّى طلائعه في هذه الحيويّة، وهذا الاستقرار.
لبنان كسائر بلاد العرب والعجم ما زال يرزح تحت كابوس حروبه المتعددة الأشكال والألوان والجذور، الناطقة الضاجّة، وتلك الفتاكة في صمتها المراوغ، طالما أنّ جذورَ وقودها المضطرب تحت الرماد، ما زال ساريًا مشتعلاً وقابلًا للاشتعال والانفجار.
غربانٌ تحلّق في الحديقة المجاورة، حيثُ يلعب أطفالٌ لعبة الغمّيضة والاختباء، حالمين بالمستقبل والأعياد.
كم من الجثث والعيون المفقوءة حلّقت في هضابها هذه الغربان، وتغذّت على أجسادها المُجندلة وأحلامها المحروقة، في الماضي القريب.
أيّلٌ ينحدر من الجبال المحيطة، رأسه في نفور إلى أعلى بشبكة قرونه التي تشبه أشجارًا عالية في السفح: تلك صورة تخيليّة لأيّل هارب، أمام بهو الفندق المأهول بالسيّاح والضجيج.
تعبنا من العالم والأرض الدائرة حول نجمتها منذ أزل الآزلين، وهي تعبَتْ منّا حدّ الإنهاك والإغماء.
الأيّل الهارب يتنبأ بعودة الانفجار الكبير الذي ولّد الكون والكائنات، سيمحقه ويعود إلى ظُلمة البدايات.
لم يكن نادمًا على شيءٍ عبر شريط حياتِهِ الطويل، عدا ذلك القدح الذي انسكبَ ذات ليلةٍ ظلماء في الفراغ، لينام على جفاف الأحشاء واللهيب.
كان يستلّ العبارةَ من الأحشاء كما يُستلُّ النصل الحاد من اللحمِ الحيّ.
مشغولةٌ لياليكِ بالذهب ومياه البحر، أيّتها المرأة الذّاهبة نحو الحبّ والتوحّد متسلقةً شغافَ الجبل المقدّس والكمال.
امنحيني هنيهة أيّتها الحياة، كي أنجز عملًا ولو ناقصًا، من أعمال النّشوة والكمال.
الخلود والكمال، ما فتِئا يتسلّقان جبالَ المُطلق منذ الأزل وما زالا يلهثان.
الشجرة تدنو بعثاكيلها من الأرض، أمّها الرؤوم، لتقبل ثراها، امتنانًا على هذه السعادة وهديّة الولادة.
كان شاعر أسبانيا الكبير يقول: إذا متُ فاتركي النافذة مفتوحة يا ميري.
ثمّة رجلٌ وحيدٌ يستشعر دنوّ الأجل والنهاية، ولا أحد ينادي بفتح بابٍ أو نافذة.
عدا القمر الذي يطلع من خلف جبال سراييفو، وقد صوّر طلعته البهيّة قبل قليل، بأن يفتح نافذته على مدارات الأفق والحريّة.
بالنسبة لشخصٍ مثلي لم يزرْ أوروبا الشرقية، بعد انهيار منظومتها الاشتراكية وطليعتها الاتحاد السوفييتي وفق رطانة تلك المرحلة، على ما أصابها من تصدّع في القيمِ والسّلوكيات التي كانت موجّهة من (الأخ الأكبر) وفق (جورج أورويل) توجيهًا صارمًا دقيقًا بحيث لا يجد الفردُ موطئ قدمٍ وسط الحشود الهاتفة بحياة الزعيم والحزب والدولة، لذلك فرّ معظم الأفراد المبدعين والمختلفين مع نظرية القطيع ومسلكه، من فلاسفة وشعراء وفنانين وأكاديميين إلى أمريكا وبلاد الغرب كما هو معروف وسم تلك البلاد، وأخذ حيّزه الطليعيّ في سياق النخب الغربيّة والجماهير.
استعصى مسار التّاريخ والصيرورة، على (واحدية إنسان) المنظومة الاشتراكية وطليعتها، وانفتح على واحديّة الغرب وتعدديته وحريته الشاسعة؛ مما جعل دورته الدمويّة حين توشك على التخثّر والانهيار، تتجدد وتمضي برأسماليّتها وليبراليتها نحو آفاق جديدة من الهيمنة والعولمة والتحكم في مصائر العالم والكون.
لاحظت أثر الهيمنة السوفييتية، والأنظمة التوليتارية التي كانت تدور في فلكه، ما زال باقيًا مهما شطّت المسافة في البحث عن آفاق جديدة، مثالها رأسمالية الغرب والسّوق، فثمانية عقود من القبضة الحديديّة التي أطّرت وقولبت هذه البلاد وبشرها لم تُمحَ بتلك السرعة، مهما كان الطموح كبيرًا والأحلام عالية، فسلوك البشر في يوميّاتهم وتفاصيلهم يُذكّر بتلك الحقبة التي تؤرخها معظم هذه الشعوب السلافيّة سوداء قاتمة، رغم الكثير من المحاسن والإنجازات، بمعزل عن الحرية والديمقراطية؛ بل على نقيضها تمامًا. ربما هذا يؤكد القيمة العظيمة لأفكار الحريّة والتنوير والتعدديّة، التي تصل حدّ التّجريد والقداسة لدى الشعوب المحرومة منها، خاصة هذه التي أصابت قسطًا جيدًا من التقدّم الحضاريّ والمدنيّ.
صباح هذا اليوم نزلت مبكرًا إلى مطعم الإفطار، فلم أجد ذلك الحشد الذي وجدته بالأمس. بضعة سيّاح يتبدى من سحناتهم أنهم من أوروبا الشرقيّة المجاورة، نساء وحيدات أو مع رجال، يتوزعون على طاولات متباعدة، أمامي رجل وامرأة، بعد أن أخذا طعام الإفطار أخرجا كومة أوراق يبحثان ويتناقشان، أحسست بألفة، لمنظر الورق والأقلام، وأنه ما زال حتى في أوروبا، على قيد الحياة ومتداولا في الكتابة والقراءة بمعزل عن الأجهزة الإلكترونية التي تُوشك على القضاء عليه. وكنتُ بالأمس في خضمّ زحمة الأقوام، تذكّرت ذات دهر، حين كنت في مؤتمرٍ – ربما في القاهرة أو الرباط- أسأل خيري منصور، ونحن نوشك على تناول القهوة في بهو الفندق الصباحي، عن محمود درويش، ألا ينزل للإفطار، أجابني خيري، بأن من عادات محمود ألا يُفطر إفطارًا جماعيًّا، ويطلب ما يريد في الغرفة حفاظًا على صفاء مزاجه، وربّما كتابة أحلامٍ ليليّة وملاحظات، يذوّبها بخياله السحريّ في نسيج القصيدة والكتابة.
في سياق المناسبة إيّاها، كنتُ مع درويش، حين تتاح فرصة الجلوس منفردين، يُعيد سؤالي أكثر من مرة حول الوزير العُماني المتقاعد حاليًّا يوسف بن علوي، وكان التقاه مع وفدٍ رسميٍّ حين كان محمود عضوًا في اللجنة التنفيذيّة لمنظّمة التحرير. كان يشكّل له ما يُشبه الهاجس حول رؤيته لطبيعة الصراع بين الدولة العبريّة والفلسطينيين والعرب؟! ومسألة أخرى حول الهند، وكان قد زارها إبّان حكم أنديرا غاندي والتقاها، لا أعرف بالصّفة السياسيّة نفسها أو بصفته الشعريّة الشهيرة، وهي الأهم بالطبع.
وبما أنني أنتمي إلى بلدٍ قريب جغرافيًّا من الهند، يقول متعجبًا: نزلنا في فندق هيلتون، وحين فتحت رفوف الغرفة للملابس وجدت (زبالة) اتصلت غاضبًا بالاستعلامات، والأعجب ردّهم بكلِّ برود أعصاب، سنبعث أحدًا يلمها من غرفتك. هذا بالغ الغرابة بالنسبة له، وبالنسبة لفرد ينتمي إلى بلدٍ من بلاد الشام بنظافته المعهودة في كافة طبقات المجتمع.
النساء الموجودات هذا الصباح يملن إلى الشّقرة لكن ليس من ضمنهن، شظيّة البرق الخاطف، تلك التي جادت بها الصدفة صباح الأمس، ولم أرها ثانية، إلا لمحًا خارجة من الفندق باتجاه المدينة أو الجبل للمشي والتّسلية، بنفس الخفّة واللامبالاة، غارقة في هذيان أحلامها الخاص. لا ترى العالم المحيط إلا كمرايا وأشباح مندفعًا نحو المجهول، وهي على نفس السياق المضطرب، لكن بمنطقها الخاص، وليس منطق الجموع.
أنزل من المطعم باتّجاه الساحة التي أتجول في أنحائها، أرى الجموع، في الشوارع ومداخل المولات، وهناك في الطرف الآخر كنيسة متوسّطة الحجم، وكنت في الليل، يتناهى إلى مسمعي صوت الأذان وأصداؤه المترامية في المخيّلة والذاكرة. ومنذ ما يربو على العقدين قرأت كتابًا لعلي عزت بيجوفيتش الذي نعته الصديق عبدالملك الهنائي بالمثقف المقاتل. الرئيس السابق أو الأول لجمهوريّة البوسنة، إثر انفصالها، يتحدث فيه بثقافةٍ تفوق حجم ثقافة السّاسة المحترفين، عن أرض البوسنة والهرسك، كونها ملتقى منابعِ ثقافات وأديان وأعراف مختلفة، تتعايش وتثري بعضها بصورة خلّاقة وفريدة، قبل انفجار الحروب الأهليّة التي تنفض رمادها البلاد راهنًا باتجاه مستقبل مختلف.
أدخل السّاحة، وإذا بسياراتٍ تملأ المكان أمام مدخل المول، سوداء أنيقة لامعة، من نوع بي أم دبليو، وأوبل الألمانيتين، بدفع رباعي وصالون، وثمة رجالٌ أقوياء مفتولو العضلات، ببدلات فاخرة يتوزعون في الساحة، حين أشار أحد العمالقة بيده نحوي ألا أدخل، وأعود أدراجي إلى الفندق. إنّها السلطة بتمظهراتها المُخيفة في كل زمان ومكان.
درج في قاموس اللغة السياسية المعاصرة، بأنّ حروب البلقان هي النموذج الأعلى للتمثيل في صُدف انطلاقها مثل قتل الدوق النمساوي في صربيا الذي فجّر الحرب الكونية الأولى، في فوضى الحروب الأهلية ووحشيّتها وتردي الأحوال إلى التشظي والهاوية، لذلك حين تنشب حرب ضمن هذا السياق، يطلقون عليها (بلقنة) بلقنة لبنان، العراق والجزائر… إلخ. التي تجاوزت يقينًا حروب البلقان، التي أرخت أوزارها من زمن، وها هي تطلع من بين الأنقاض والرّماد، بمشروع نهضة وحضارة بيّن.
أما تلك فما زالت ترزح تحت وطأة وقائع تلك الحروب وانهياراتها الشاملة التي طوّحت بها خارج الزمن والتاريخ، الحرب، ربما، بمعزل عن التحليل المعهود اقتصادًا وسياسة ومقدمات ونتائج، هي تلك المرأة المفعمة بالفتنة والأنوثة؛ وإلا لماذا كل هذه الرغبات المحتدمة، ذلك الشبق والاندفاع إلى عرينها، عبر مختلف العصور والجغرافيّات.
«التاريخ ليس إلا مذبحة» وفق خاتم المنظومات الفلسفية الكبرى.
وفي مقاربةٍ تتّسم بالعمق للكاتب اللبنانيّ وسام سعادة، لبلاده وألبانيا البلقانيّة، كون لبنان وألبانيا لهما قواسم مشتركة؛ أربعة قرونٍ من الهيمنة العثمانيّة، نسبةُ المسيحيّين والمسلمين في كلا البلدين متقاربة، ولبنان أكبر مساحة بقليل، وأكثر سكّانا وإمكانيّات؛ عدا أنّ ألبانيا تعاقبت عليها دكتاتوريّات أبرزها دكتاتوريّة أنور خوجة الشيوعيّة، التي لا تُشبه أيّ شيوعيّة أخرى؛ فهي على النقيض من شيوعيّة الاتحاد اليوغسلافي المُجاور، وعلى النّقيض من شيوعيّة الاتحاد السوفييتي والصين. وحين بعثت موسكو ذات مرة بمساعداتٍ أُعيدتْ من مطار تيرانا إلى موسكو. رغم هذا وغيره ألبانيا على مِنوال البلدان البلقانيّة الأخرى، متقدّمة على الوضع اللبناني وتركيبة الدّولة ذات المُحاصَصة الطائفيّة والمرجعيّات الأجنبية التي أوصلته إلى عرضه على العالم كحالة إنسانية مُزرية تستحقّ الشفقة.
ولا يخفى على المتتّبع البسيط أن لبنان وسائر دول المشرق كسوريا والعراق وأيضا الجزائر، وغيرها من الدول العربية، لها من الإمكانات الطبيعيّة والبشرية، ما يجعل تخلّفها وانحطاطها على هذا النّحو، ليس غير مبرّر فحسب؛ بل خُرافة سوداء من خرافات التّاريخ على هذا الكوكب، سترويها الأجيال المستقبليّة المُتعاقبة، كمأساة أو كملهاة، أو ذلك المزيج المركّب في لغةِ المسرح (التراجيكوميدي) التي لا تُشبه إلا نفسها، ولا تحدّق إلا في مرايا انهيارها الخاص.
مساء الأمس، في ضوء الغروب، زارنا أصحاب المنزل، الرجل وامرأته مع ابنتهما أمينة، التي تتقن اللغة الإنجليزية، وهما يعرفان الروسيّة التي أخذت في الأفول مع الأجيال الجديدة. حديث متفرّقٌ حول شؤونٍ شتى. لقد زاروا من الدول العربية تونس، واصطافوا في منطقة (المهديّة) وأبدوا إعجابًا كبيرًا بتونس، والكسكسي والطقس والبحر.
وعبر التعرف على الأسماء استوقفهم اسم (ناصر) لأنه كان بمثابة بطل في الحرب الأخيرة مع الصرب. وبأنّه أوقف مجازر واستباحات الصرب الذين ورثوا معظم الجيش اليوغسلافي.. كان (الجنرال ناصر) ضابطًا في الجيش اليوغسلافي لم يرتقِ إلى رتبة جنرال، يشاهد ويعيش المذابح ضدّ أبناء وطنه ودينه بمرارة وانكسار، ما لبث أن شكّل مجموعة، حيث انفصل عن الجيش، وصار مقاتلًا هو والجماعات التي يتولى قيادتها ضد هذا الجيش. وأول كمين نصبه لجنرالات منهم رئيسه، وكانوا يعطون أوامر القتل والتصفية، وأصبح شهيرًا ببطولاته التي لامست الأسطورة، في صدّ هجومات الصرب الكاسحة ضد أبناء شعبه وضد الإنسانية جمعاء.
لقد أضفت العائلة البوسنيّة، على الجو مرحًا وطيبة وألفة تستطيع أن تستنشق عبيرها في الهواء والكلمات والإشارات، شعبٌ طالعٌ من جحيم حرب إباديّة، يرمّم حياته ويتطلّع صوب المستقبل، وتحدثوا عن الفساد في مفاصل دولتهم المتعددة الرؤوس؛ فهناك ثلاثة رؤساء؛ واحد للأغلبية المُسلمة والثاني للكروات، والثالث للصرب. في سراييفو يشكّل المسلمون خمسة وتسعين في المائة، وباقي المدن مختلطة بنسب مختلفة، وأحلام صعبة تغذّ السير الحثيث نحو التقدّم والحضارة.
سألوا عن الشعر والأدب، بما أني قَدمت في هذا السياق فأشرت إلى ترجمات لأدب عُماني في جامعة سراييفو، وكنت دُعيت، ولم أتمكن من الحضور في هذه المناسبة بمعيّة عائشة الدرمكي، التي تعدّ حاليًّا ملفًا حول الأدب في البوسنة والهرسك لمجلة وفتحت أمينة جوجل، واطّلعت على ما تيسّر من سيرة ورؤوس أقلام لتثري بها الجلسة، وتتابع البحث لاحقًا.
وبما أننا تطرقنا إلى الحرب، سألتهم عن المخرج البوسني (أمير كوستوريتسا) فما إن سمعَ الأب الاسم حتى أجاب، بأنه معروف جدًا لديهم وقد شاهدوا أفلامه من (أبي في رحلة عمل) الذي تدور أحداثه إبّان حكم المارشال (تيتو) حيث إنّ الأب كان قابعًا في ظلام السجون؛ لكنّ الإشاعة لأولاده وغيرهم، أنه في رحلة عمل، إلى (تحت الأرض) و(معجزة الحياة) التي تدور حول الحرب الأهلية وخاصة تداعياتها الرهيبة، وكلها ضمنت للمخرج الكبير جوائز كبرى في محافل السينما العالمية، أهمها ثلاث سعفات ذهبيّة في مهرجان (كان) كحدث هو الأوّل من نوعه في تاريخ المهرجان الشهير. وحتى فيلم حول لاعب الكرة الشهير مارادونا. وبما أنّ المخرج يعيش حاليًّا في (صربيا) وليس في موطنه البوسنة؛ فهو رغم نقده الحاد للصرب، ما زال “المواطن الأخير” في الاتحاد اليوغسلافي الراحل. وقال الأب إن كاتب السيناريو لأفلامه (عبدالله سيدران) أيضا رجل عميق الرؤية والثقافة. وبما أن شعب البوسنة، ضمن الشعوب السلافيّة التي تغطي الشرق الأوروبي، لكن لتركيا نصيبٌ وافرٌ في تقاليدها وأنماط حياتها عبر هيمنة خمسة قرون من الزمان، الممتدّ في عمر هذه الإمبراطوريّة المديد، قبل أن تبدأ طلائع “الحداثة” الأوروبيّة في التسيّد والاكتساح وفق ما يشبه القواعد الخلدونيّة، في صعود الدول والحضارات الكبرى واندثارها. وحتى الهيمنة السوفييتية على دول البلقان إثر الحرب الكونية الثانية، هي هيمنة شقٍ من تلك الحضارة، دُعي بالاشتراكي أو الشيوعي الذي لم يعمّر أكثر من سبعين عامًا حتى تهاوت تلك الإمبراطورية الحديديّة بشكل صاعق من غير مواجهة مسلّحة ولا حروب مباشرة. عدا مخططات الحرب أو “القوى الناعمة” التي افترستها ببطء من الداخل حتى أنهتها بشكلٍ لا يليق بجلال هكذا إمبراطورية من المَنعَة وقوّة التكنولوجيا العسكرية والقبضة الديكتاتورية التي تٌخيف الأصدقاء والأعداء. ولذلك كله عناصره الكبيرة، البسيطة والمركبة؛ ليست هذه العجالات سياقَ عرضها وتحليلها.
لكن بما أنني في بلدان الشرق الاشتراكي، أتذكّر، عبر إقامتي المبكّرة في البلد المجاور الجميل (بلغاريا) التي أبدت نُخبها، في تلك المرحلة نوعًا من الجرأة في نقد الأوضاع القائمة أسوة بدول المعسكر الأخرى، الأكثر تطورًا تاريخيًّا، أفكارًا وصناعة.
كنت حين أقول لبعضهم في صوفيا، إنني زرت باريس أو لندن، تبدو الدهشة الطفوليّة على ملامحهم والذهول.. هل رأيت (برج ايفل؟) هل رأيت (ساعة بج بن) هل… إلخ، ثمة استلاب ساحق تجاه كل ما هو غربي حتى لو يملكون مثيلاً له أو ربما أفضل، من بضائع ومشروبات وأطعمة، مثل الهمبرجر والكوكاكولا والكتب والمارلبورو وبنطلون الجنز الجاذب السحري للنساء خاصة والرجال. من هذه التّفاصيل وغياب حريّة التعبير عبر القمع الشمولي لكل ما يخالف الرأي الواحد والحزب الواحد والزعيم، في رؤيته الكليّة الشمولية، هذه العناصر، التي راهن عليها الغرب أودت بالإمبراطوريّة وأجهزت عليها بشكل كاريكاتوريّ لا يليق.
لكن التّاريخ والحياة في حركة مستمرّة، والغرب المنتصر، نفسه بين الفترة والأخرى يختنق بأزماته الداخلية فيفرغها عبر اصطناع أعداء متعددي المشارب والجهات، لا يحملون من الخطر الجاثم الذي يهدد مصير حضارة الغرب إلا الظِلال والدعايات المخططة المقصودة.
أفكر أن الرغبة التي تتجلى عبرها إرادة الحياة حسب (شوبنهور) أنها فعلًا هي التي تسبّب المصائب والملمات، تلك الرغبة التي لا ينضب لها معينٌ أو شهيّة استحواذ وافتراس، حتى الوقوع في قعر الهاويات التي بلا سقف ولا قرار. عذابٌ أبديٌّ للكائن في ظلمة الأهواء والرغبات في ظلمة الدورة العبثيّة لحياة الكائن المندثر لا محالة.
هل الزهد والتقشّف والابتعاد عن مظاهر الحياة البرّاقة الجاذبة، إلى جوهرها هو الحل؟
أو على الأقل -وهذا ما يلوح للوهلة الأولى- ممكنٌ التخفيف من التبعيّة العاصفة للرغبات، أقلها بعدم الانغماس الكلي؟
أو ترك الحبل على غارب الصدفة والعيش بتلقائية صافية؟ لا أعرف، وليس ثمّة من جوابٍ يَشفي أصحاب القلق والريبة وانعدام الوثوقيّة في أي مبدأ نظري. إنّهم في قلب إعصار دائم.
انحسرت موجة الحرّ الثلاثينيّة التي ضربت شطرًا من أوروبا، ارتفاع حرارة وحرائق، والشطر الآخر سيول وفيضانات جارفة. الطبيعة في برهة غضب وهياج، مظاهر مختلفة لجوائح جموحها اللامحدود. صار الطقس ألطف يميل إلى البرودة والنسيم العليل الشافي للجسد والمزاج.
ناصر وعزان يتركان ألعاب الكمبيوتر المدمّرة، التي تجعلهما غريبين عنّا وعن نفسهما، ويمرحان في الحديقة ومع الحيوانات، والحشرات، ناصر يقول إن ثمة عنكبوتًا ألقى شباكه على نملة وأجهز عليها (هل تحس النملة وتتألم وهل لها روح، قبل الغيبوبة النهائية؟).
أجبته، أعتقد أن النمل والحيوانات عمومًا تتألم، ولها روح وإحساس وتلوت عليه الآية القرآنية الكريمة: “يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون”.
وأضفت ما قرأته في هذا المنحى، أن النمل وبقيّة الحيوانات يعبِّر كلٌّ بلغته الخاصة التي يفهمها بنو جنسه. ربما إن النبي سليمان من ضمن معجزاته وخوارقه التي حباه الله بها، فهمه للغة الحيوان، سمع النملة وهي تحثّ قومها على الهرب من الخطر الداهم الذي يمثله جيش سليمان وعتاده.
ثم قفز إلى ذهني (ديكارت)، قلت على عكس ما يقول هذا الفيلسوف الكبير بأن الحيوانات أشبه بآلاتٍ، لكنّها أكثر كمالًا وتناسقًا من الآلة.
سألني من هو ديكارت هل هو عربي، قلت فرنسي.
أجاب لا يعجبني رأيه في الحيوانات، قلت هناك حكماء الشرق الآسيوي من البوذيين وغيرهم من مفكرين يحرّمون قتل كلّ ذي حياة على الأرض، ويعتبرون ذلك إزهاقًا للروح، مثلما هي أرواح البشر، ولأنّهم يؤمنون بالتناسخ والتقمّص، فيمكن أن يكون هذا الحيوان في مرحلة زمنيّة ما كائنًا بشريًا، أو سيكونه في المستقبل.
نحن الذين نمارس كتابة الشعر والأدب، وبقية الفنون نميل حدسًا إلى أنّ الحيوانات كينونات روحيّة وجسديّة تتألم وتفرح وتسعد وتحسّ بالحضور والغياب، ومثلها تجلّيات الطبيعة الأخرى في وحدتها الكبرى، كالأشجار والأنهار والغابات والبحار والجبال، نوعٌ من أنسنة الطبيعة؛ نخاطبها ونتوسّل إليها مثلما خاطبت جبال عُمان ربيبة الأزل، بأن تشفق وترأف بالكائنات البشريّة المدّعية المغرورة، وفي الوقت نفسه، تعاني أصناف الشقاء والهشاشة والمعاناة، ومثلما خاطبت البحر والغابة والذئب وبنات آوى ذوات الحدس النبوئي باقتراب الفجيعة والموت. خاطبت الجمال الأكثر صبرًا واحتمالًا لأعباء المسافة والصّحراء التي تدمّر عواصف رمالها المتحوّلة، قبائل بكاملها، مثل هذا المقطع في (قوس قزح الصحراء):
كل هذه المياه التي ادخرتها الأرضُ في جوفها
السحيق بهذا الكون، لا تكفي لردم عطش الجمل الشريد،
الذي أحدّق فيه أمامي بصحراء عاتية.
لقد حلمت به يرغي ويزبد كانهيار جروف جبليّة.
كان يتعذب يقيناً.. كان رغاء الحنين والفقد ذاك
الذي يفترس أحشاءه كأنه الجمل الأخير
على أديم هذه الأرض.
ظل جمل يتلاشى في انقراض سحابة.
ووفق عالم الأيكيولوجيا، النرويجي (آرثر نايس) وحدة الكون البيولوجية، في تناغم الكائنات مع بعضها، وتناغم الإنسان من غير نظرة السّيادة الاستعلائيّة مع محيطه البيولوجي، البيئي، وكفّه عن اعتبار الطبيعة بكينوناتها المختلفة، وُجدت على الأرض لتلبية احتياجاته الغريزيّة وجشعه الذي لا يشبع، فحسب. وإنما الوجود في حدّ ذاته يمنح الحياة انسجامًا روحيًّا وجماليًّا، يفتقده إنسان العصر والحداثة. كما يقول “ما تعلمته من مراقبة سلوك الفئران، أكثر مما تعلمته من قراءة أفلاطون”.
عبارة ربما تجرح كبرياء الإنسان “سيّد المخلوقات” لكنّها تجعله في حجمه الطبيعي كجزء من كينونات الكون، وليس السيّد المطاع، الآمر النّاهي.
إذا كان الفيلسوف النرويجي ينطلق من مجتمعات الحضارة الغربية، نحو شموليّة العالم ويقرن سلام البيئة بسلام العالم البشريّ، فهو لا يعرف الكثير عن المجتمعات الفقيرة أو العالم ثالثيّة، كما سُميت، التي تحكمها ديكتاتوريّات تحتكر التنزيه والقداسة، والتي تتسم بوحدة التدمير القصوى لكافة الكائنات البشرية وغير البشرية، على السواء، فهي أشبه بمكبّ نفايات العالم، ومحطات نهبه واستنزافه، عبر الكمبرادور المحليّ أو بالطرق المباشرة.
أتذكر في هذا السياق الأيكيولوجي، عربيا، دراسة قرأتها للأكاديمية اللبنانية والناقدة زهيدة درويش كجزء من كتاب تتناول فيه جزءًا من الشعر العربي، من الزاوية الأيكيولوجية وتأثّره بالبيئة والمناخ والمحيط، وهي في ظني زاوية جديدة في دراسات الشعر العربي وإن توزعت ملامح منها وذابت في مقاربات نقديّة كثيرة وافرة.
العقاعق ترعى بتوّحد مع الأرض، ثم تصعد إلى أعالي شجر التفاح والبلوط، لتطلق نداءً يُشبه النشيد، يسترسل من جبال سراييفو حتى وادي منصح، بأعماق جبال عُمان. هناك سمعتُ على شجرة السمر أو الغاف، ما يشبه هذا الصوت بكثافة في أحد الشتاءات الماضية. هل هو الطائر نفسه أو يشبهه؟ لا أعرف؛ لكن الطائر الذي نطلق عليه اسم العقعق في عُمان يغشاها في مواسم معيّنة من العام، وكان ذا ريش ملوّن بكثافة، أما الذي أراه هنا وفي أرياف أوروبيّة؛ فتكوينه الأساسيّ من بياض وسواد، بذيله الطويل الزاهي الذي يحرّكه، غبطة وابتهاجًا باستمرار.
الفراشات ترفّ على وجه النهر الصغير المندفع نحو الأكمات والغابات.
لا شيء يعكّر صفو هذه الظهيرة وهدوءها، حتى الكلاب الحارسة كفّت مع انطفاء حركة البشر والحيوانات عن إطلاق تلك الرشقات التحذيرية من النباح.
كان المرحوم عبدالرحمن منيف، من أشد المُعجبين بالكاتب البوسني النوبلي (ايفو اندريتش) وهو الذي درس في الاتحاد اليوغسلافي وأتقن اللغة، حتى إن بعض النقاد قارن تأثير اندريتش، على منيف، تحديدًا في رواية (حين تركنا الجسر) برواية (علىو جسْر درينا)، وأتذكر أنه ترجم بعض قصصه غير المتداولة، لمجلة (نزوى)، واندريتش بعد نوبل في مطلع الستينيّات، كان له تأثير على المستوى العربيّ والعالميّ. فهو النوبلي في يوغوسلافيا، وبما أنه ينتمي إلى الأقليّة الصربيّة في البوسنة، وليس للبوسنيين (البوشناق) فقد ظلّ بعض الأدباء البوسنيين، يرشقونه بتهم الانحياز لصربيا، لكن المخرج البوسني (أمير كوستوريتسا) صمّم مدينة باسمه إعجابًا وتخليدًا.
حاولتُ في هذه الأجواء البوسنيّة البلقانيّة، أن أستعيد قراءة (على جسر درينا) فقراءة الصبا المبكرة صارت بعيدة في الذاكرة، كما أن قراءة الأعمال التي هي حيّز البقاء المتجدد أو ما يشبه الخلود، من المجدي قراءتها، في مراحل مختلفة زمنيًّا ومكانيًّا لتثري آفاقًا دلالية وجمالية تنفتح أمامك وتتجلى تباعًا، مثل صعودك إلى قمة الجبل من السفح، لتنفتح أمامك وتسطع سلاسل القمم والنتوءات والهضاب التي تسبح في بحر الغموض واللانهاية.
مع الأسف لم أوفّق في العثور عليها عبر محركات البحث، وهي الرواية الأكثر شهرة للكاتب الذي كانت حياته تتّسم بسماتٍ ملحميّة في انعطافات الممالك والحروب والأزمنة، فمثلا اتّهم من قبل النمسا بتقبل أو المشاركة في قتل الدوق النمساوي، الذي كان الشّرارة التي فجّرت الحرب العالميّة الأولى. وعايش صعود دول إمبراطورية وانهيارها تباعًا حتى المرحلة الشيوعية في ظل المارشال (جوزيف بروز تيتو) والفلك السوفييتي وانهيارها.
تسرد (على جسر درينا) روائيًا قصة ذلك الجسر الحجري الذي أقيم على نهر درينا بمدينة (فيشجراد) وكان الهدف من إقامته في تلك الحقبة من التاريخ، أن يربط بين البوسنة والصرب، وهما يومذاك إقليم من أقاليم الإمبراطورية العثمانيّة. والبطولة في هذه الرواية الفذّة، كانت لهذا الجسر الذي تتوزع على حلبته مصائر الأفراد والجماعات في مواجهة التاريخ العاصف. حتى (إسماعيل كداريه) الروائي الألباني المجاور لاندريتش تاريخًا وجغرافيا، لم ينجُ من تأثير هذه الرواية، حيث عقد البطولة في إحدى رواياته على جسرٍ يفصل ضفتين في ألبانيا إبّان المرحلة العثمانيّة ذاتها. وعلى ما أتذكر هناك قلّة من الأدباء العرب زار البوسنة والهرسك أثناء الحرب، وحتى حين أرخت أحمالها، يأتي في مقدمتهم الكاتب التونسي الصديق حسونة المصباحي، الذي ذهب إلى هناك ملتقيًا بأهمّ الأدباء والفنانين وكانت ثمرة الزيارة كتاب حول الأدب والشعر في تلك البلاد؛ أما أنا فقد أرجأت اللقاء بأوساط الأدب والفكر، إلى زيارة قريبة لاحقة.
تحدث (ميلان كونديرا) عن استراتيجية النسيان التي كان يمارسها النظام الشيوعي تلك المرحلة في روايات مهمّة كثيرة له، منها (الضحك والنسيان) و(خفة الكائن) وغيرها من الروايات التي قُرئت على مستوى العالم بشكل جيد.
استهداف الذاكرة لأيّة أمّة هو استهداف كل وجوداتها الكيانيّة، بحيث يسهُل تحويلها إلى قطيع الطاعة والإذعان، إذا كان ذلك النظام الذي أضحى في كنف التاريخ يمارس هذا كجزء من آلية عنفه الشامل، الكاسح، المباشر، وجرى على منواله الكثير من الأنظمة، وربما بفجاجة أكبر، وهي ليست شيوعية، وربما تتذرع بقشور الديمقراطية والليبرالية والعلمانية، منها الأنظمة العربية والكثير من أنظمة العالم. يبقى الغرب الأمريكي حيث تتنوع ببريق جذّاب طُرقُ الهيمنة والسيطرة لديه، ويتمدد بشكل مراوغ غير محسوس، مقدمًا عبر مائدة باذخة من عوامل الجذب والتشويق والديمقراطية أو ما يُدعى “القوى الناعمة” هي المركب البنيوي الرئيس في الهيمنة على المجتمعات الغربيّة. أو في الهيمنة التدميرية للخارج على الحدود، من دول وبلدان، أعداء وأصدقاء، الكل واقع في شباك هذه القوى الأسطورية القدرة والتمدد والاستحواذ الكلي، ثقافةً، وفنونًا وأنماط معيش، طعامًا وترفيهًا… إلخ. وكما أشرت، هي تجنّبه خوض الحروب المسلّحة، هذا التطور المروّع للتكنولوجيا العسكرية، البدائل الناعمة، للقوة الفظّة التي كانها. وطبعًا يعلمنا التاريخ – بما أنه المعلم الأول حسب (إنجلز)- بأنهم في الضرورات القصوى التي تهدد مصالحهم الأساسية لن يتورعوا من استخدام السلاح التدميريّ الثاني.
إذا كان “الموت في حدّ ذاته غير مخيف، وإنّما توقّعُه هو المُخيف” توقّعه هو الألم الطويل المُضني، هو المعكّر والممزّق للحظات الصّفو والفرح والغبطة، التي تجود بها الحياة حينًا من الدّهر.
هكذا هو فايروس كورونا الواقعي الخرافي، منذ ما يقرب من العامين وهو يقضّ مضاجع البشريّة، حتى اللحظة مع اكتشاف التّرياق واللقاحات وانحسار الإغلاق الكليّ في معظم بلاد العالم، وحتى لو كان هناك تسعة من عشرة يتماثلون للشفاء أو يصابون بأعراض بسيطة وبالغة البساطة أحيانا، يبقى ذلك (الواحد)، يقلق ويؤرق، ويُبيد الطمأنينة وهدوء النفس التي تحلم بالعودة إلى تفاصيل حياتها الطبيعيّة.
حتى في هذه اللحظة، في عريشة الحديقة والمطر مدرارًا، في هذا المناخ السديميّ الذي كنت أحلم به كفردوس مستحيلٍ، تخترقني سهام كوفيد اللعين وأفكر في الأولاد ومن أحب وفي نفسي أكيد. وحتى هذه البلاد التي أتينا إليها بعد صراعٍ مريرٍ مع السفر أو الجمود في مكاننا الذي نعرفه واعتدنا عليه منذ بدء الجائحة، وهي (البلاد) تمارس حياة شبه طبيعيّة، من غير تلك المحاذير والمخاوف المستمرّة، نبقى تحت رحى هواجسنا وتوقعاتنا التي نحاول الهروب من جَشَعِها المرير.
حتى في الحروب الوحشيّة، بين الجماعات البشريّة، حين تُرخي أوزارها وتسكت المدافع والبنادق، يبقى الخوف قائمًا لفتراتٍ طويلةٍ من رصاص قنّاصٍ طائشٍ أو غيره، دعْك من التّداعيات والجِراحات العنيفة التي تعقبها، ما بالك وحرب (كوفيد) ما زالت قائمة حتى تتّضح أكثر، إشراقةُ الأمل على هذه البشريّة البائسة رغم خطابها وسلوكها الاستعلائي.
حتى لو وصلت إلى الأقاصي، في هذا الكوكب المترامي في الأعين والمخيال، إلى أرض تُشبه الجنّة في بعدها الجغرافي وطبيعتها المدهشة، بعيدًا عن صراخ الضحايا ومحْق المآسي اليوميّة في الواقع المحيط، أرض تشبه الأبديّة في الانفصال والهدوء، فلن تستطيع حتمًا، أن تعيش جنّتك وأبديّتك الخاصة عبر هذا الهروب الكبير. ستظل مشدودًا إلى ماضيك الدمويّ، وحاضرك الأكثر بشاعة وانحدارًا حياتيًّا، قيميًّا وإنسانيًّا، أمّا المستقبل، فليس إلا بضعة هواجسَ غامضة؛ ربما أكثر بطشًا وقسوة من الأزمنة التي خبرتها. ستظل فيالقُ الأشباحِ والأشلاء تطاردُك، إذا كنت ذا ضميرٍ وقيم، أي في أيّ زمانٍ ومكان، وربّما حتى إلى مثواك الأخير، القبر أو اللحد.
“رب لحد قد صار لحدًا مرارًا
ضاحكاً من تزاحم الأضداد”
أو الضريح، أو ليس من كل هذه التّكريمات التي درجت العادة تدبيجها للراحلين الموتى، وإنما جثّة مُلقاة في خضمّات الصحراء تنهشها النسور والجوارح، حتى تُمحى من على صفحة الرمال المتحوّلة، لكن يبقى ماثلًا وجدانها الجريح، خيالها الأليم.
ستحمل جحيمك إلى جنّة الآخرين، لكنْ ربّما أقل وطْأةً وسحقًا.
حين زرت ذات مرة سعدي يوسف -الذي رحل قريبًا- في قريته التي تبعد 40 كيلومترًا من لندن، وبدأنا في الحديث الموصول لأحاديث لا حصر لها، من الشام، وحتى القاهرة وباريس وغيرها، أبو حيدر هذه القرية جنّة، أجاب، إيه إيه سيف، فردوس، هذي فردوس، بين نهر وحقل وبحيرة وغابة. لكن كتابات ونصوص سعدي لم تكن تحمل صدى هذه الجنّة، كانت صدى المجازر، والاستباحات في بلده والبلاد الأخرى، وكانت فترته الأكثر صدامًا وصراعًا مع الآخرين المختلفين في التوجّهات والخيارات، خاصة من أصدقاء الزمن الغابر.
اليوم يصادف الذكرى السنويّة لانفجار مرفأ بيروت. “بيروت مدينة ومرفأ”، اتصلت بي دارين حوماني كي أقول كلمة بهذه المناسبة المأساويّة، وتحدثت عن المشاركين فيها، عقل العويط، عبده وازن، والاثنان قرأت لهما نصوصا تعبر عن فجيعة هذا الحدث ضمن سلسلة الأحداث التراجيديّة التي مرّت بها بيروت ولبنان، كلّ حدثٍ يأتي أكثر فتكًا من سابقه، منذ مطلع السبعينيّات على الأقل بالنسبة للجيل الذي أنتمي إلى سياق ذاكرته وتعبيره.
كأنّما قدر هذا البلد، الذي تحدث التاريخ عن حقائق راسخة لإنجازات أجياله المتعاقبة منذ مطالع عصر الحداثات الفكريّة والتنويريّة، والأدبيّة التي حمل مشاعلها الأولى هذا البلد الصغير في مساحته الجغرافية، لكنّه الكبير والمكثف أيّما تكثيفٍ في فعله الإبداعي وتأثيره في محيطه العربي.
منذ القرن التّاسع عشر، وحتّى ستينيّات وسبعينيّات القرن الماضي وما قبلها من عقود، وهو على دروب الجمال والإبداع والحريّة. وصار الواحة والملاذ لضحايا القمع العربي المُستفحل، من الكتّاب والمثقفين العرب، وكان كرم هذه المدينة على الجمع الوافد من كل أنحاء تلك الأوطان المنكوبة بديكتاتوريّات كمبرادوريّة بالغة العتوّ والتّدمير، كبيرًا.
وقائع تاريخيّة وفكريّة راسخة، يتمّ استعراضها أحيانًا في ضوء الخَراب الكبيرِ وحلقاته المتناسلة تباعًا، حربًا صريحة وما يشبه الحرب التي قادت إلى هذا الهول العظيم من الظلام والانحطاط الكاسر والفساد، للطبقة الحاكمة بمشاربها وتوجّهاتها ومليشياتها المختلفة التي صنعت جحيم اللبنانيين على الأرض. ويبدو أنّ تلك المواقف الكوميدية الدالّة، في إحدى مسرحيّات فيروز والرحابنة، حيث “الشعب هو الّلي بيفلّ”، إذا لم تفاجئ اللبنانيين بارقةُ أمل تحيي الأرض الموات.
كأنما التاريخ والجغرافيا والمحيط، كلها أقدار، ساعدت في خراب هذا البلد وتكسيره.
لكن ماذا يقول المرءُ عن سوريا والعراق واليمن وليبيا… إلخ التي انحدرت إلى مراتع الوحش، وانفجار الغرائز السوداء التي صنعت هذا المشهد القياميّ الأليم.
في ختام المحادثة العبثيّة أمام فظاعة ما يجري، سألت دارين، عن مسؤول التحرير (انطوان سلحت) في الجريدة التي تعمل فيها، عبر (الأون لاين) وكلنا نحن العاملين في هذا المجال، صرنا نشتغل مع فريق العمل عبر هذا التباعُد منذُ بدءِ الجائحة، سواء في البلد الواحد، أو في بلدان وجغرافيّات متفرّقة، قلتُ لها كان زمان ثمة تواصل مع الإخوة، الكتاب والكاتبات في فلسطين الداخل، أو ما يُسمى بالخط الأزرق: لكن منذ فترة ضمر هذا التواصل مع الأشقاء، وكنت التقيت على الصّعيد الشخصي انطوان صدفة في فندق وسط بيروت، كان مع زوجته ومجموعة من الداخل، وأتذكر كان هناك الصديق صقر أبو فجر، وسهى صباغ من لبنان.
صخب العائلة بمثابة هدوء للقلب، يقول ديستويفسكي. أما آخر لا يقل خطورة عنه فيقول “نادرًا ما تعشق النفوس الموجوعة في عمق كينونتها، الحياة، دائما يعصف بها هاجس البحث عن مبرر للعيش والوجود”.
أنا في هذه اللحظة التي تحتدم فيها ذكريات أليمة، تجعلني أفكّر، أنّ تراكم سنين العمر والزّمن، لا يهب الكائن- الذي هو الإنسان هنا- إلا تكثيفًا للمأساة الوجوديّة والمتاه. أجد في هذه الأشجار الملتفّة، الخمائل والغيوم والأكمات، وسط مياه جارية، بعضَ عزاءٍ وسلوان.
لفترات غير قصيرة أجلس هكذا في كرسي مستطيلٍ بزاوية من زوايا الحديقة المُعتنى بها هندسةً وتشذيبًا، والتي لا تبعد عن الغابة البريّة في الأعلى أكثر من عشر دقائق.
أجلس بذهولٍ وانخطاف، محدِّقًا في ارتعاش ذؤابات الشجر المُنتشي هو الآخر بالهبوب الصيفي المُسالم، بينما الطيور تترحّل من شجرة إلى أخرى، محدّقًا في الغيوم والأفق مثل ذلك الذي يرعى النجوم من غير إياب، في رائعة النابغة الذبياني.
صباح مشمس بدرجة حرارة مرتفعة، يبدو أن موجة الحر مستمرة في بلاد البلقان وتركيا، تحذيرات كثيرة من التّداعيات والأعطاب التي تسبّبها الحرارة المرتفعة لسكان البلاد على الأرجح، فمثلنا، القادمين من تلك البلاد في شبه الجزيرة العربية، لا تبدو لنا هذه الحرارة متطرفة وخطيرة، يكفي أن نجلس تحت ظِلال الأشجار الباسقة لنشعر بلطافة الطقس.
حين صحوتُ فجرًا، قبل الشروق كان الطقس نضرًا وجميلًا، كلّ شيء ينعم بالراحة والسكينة، القطّة التي أطلق عليها الأولاد اسم (أولجا) تقفز بين الأكمات والروابي بصحبة فحل أبيض وذي خطوط رماديّة. (محقّب) وفق لهجة أهل عُمان يلعبان ببهجة ومرح، دعابة وغزل كأنما خارج أحكام الزمن وإكراهاته.
قبل طلوع الشمس بقليل عدتُ أدراجي إلى مواصلة النوم بعد عشاء البارحة في المدينة القديمة. حين تكون في المدينة، يأخذك الحنين إلى الجبال والأرياف، وحين تكون فيها، يومض في أعماقك نداؤها الصاخب البعيد. حلّ هذه المعادلة ليس بالأمر الصّعب في بلدانٍ وجغرافيّات حُظيت بكرم الطبيعة والجمال الخصيب.
حين يسطُع القمر بين غابات الصنوبر
في جبال البوسنة
تُشرقين في قلبي
طالعةً بسموّ، من مُدن
الموتى والأجداث
تخيّل، وهو يمشي سكرانًا في ضوء
القمر بين أشجار الغاب
أن ظلّه المتمادي يشبه خالقًا أو إله.
فجأة تعثّر في خطوه السّريع
حتى تلاشى الظلُّ والقمر
في غياهب الظلام.
****
أسبح في أحلامي
مع أسماكي الشرسة
والوديعة
تلعبُ الغمّيضة وتخاتلُ
الأعاصيرَ في القاع
أسبح مع كوابيسي التي،
كل ليلة تقفزُ من
بحرٍ إلى آخر، في أراضٍ
هجرتُها منذ زمن، لكنّها
ظلّت وفيّة بالزيارة والمَحبة
كل ليلة أتمرغ على
فراشها الوثير بين خلائقها
وأشناتها، ضارعًا إلى
الله أن لا توقظ أطفالي
بزعانفها العملاقة،
فلا يعودون
إلى النوم لأبد بعيد.
في دمشقَ كما في سراييفو
تحت المطر المُنهمر من أفواه
ملائكة وسماوات
ودّع العاشقان بعضهما
في المحطّة الموحشة
ذاهبين إلى الحرب والمنفى
تعاهدا على العودة إلى الحب الأول
والذوبان في كيانٍ واحد، هذه
المرة، من غير فراق.
أمام هذا الجمال الرّاشح من بحار العالم،
غاباتهِ وهوامشهِ، الجمال الفائض
على التخوم والأحصنة الراكضة في البراري.
وأنت مترحّل في الأماكن والجهات،
حتى لترى فيما يرى النائم في غمرة
الأحلام والهذيانات، أن لا مكان
للبشاعة والقبح اللذين يحتلان العالم
والوجود بطغيان عارم، لا مكان
لهما على مائدة الحياة والطفولة،
وإنهما في ذبول واضمحلال
حتى تستيقظ سريعاً من غيبوبتك السعيدة،
على الهول المشهدي الشاسع والخراب.
يا لأيام وذكريات،
ودّعتها من غير أمل في عودة،
وجدتها تنتظرني في كل منعطف
وزقاق.
أدعو ربي، كما دعا قدّيس لاتيني
ألا يزيد في شيء، على هذه الأرض،
إلا في بركة الخير
والجمال.
جاؤوا، مشدودين بالخيل والسيوف
وحكمة الأجداد، من بلاد بعيدة،
إلى مملكة الحلم والذهب.
بعد مسيرةِ ألف ميل من التعب والحمّى،
سقطوا في هاويات الرّمل التي تجلدها
رياحُ الغربي العاتية.
صاروا وليمة شهيّة
لنسور الأزل الجاثمة.
كانت مدوّنة، أحشاءٍ وعقبان جريحة
وبطون مبقورة،
تلك الصفحاتُ المنسيّة المهجورة
التي تركها الشاعر في صَقع ناءٍ،
وهو يحلم ببلوغ
مشارف النضج والاستقرار.
تبث الحياة ما لا نحتمل من أخبار وقصص، فنلجأ إلى محاولة التناسي والنسيان، علّها تُنقذنا من موت قاسٍ سريع، إلى آخر بإشراقة من هدوءٍ واطمئنان.
حارب (دون كيخوته) طواحين الهواء كأعداء مدججّين: هل كان ساذجًا، أم مُفرط الذكاء والحساسيّة، كون حروب الواقع والتاريخ ليست إلا حروب هذه الطّواحين الفارغة؟
تمضي النيازك، هذه الليلة التي غاب عنها ضوءُ القمر، إلى منازلها، بهدوءٍ وسلام، من غير أن تخلّف أثرًا أو كارثة.
تشكّل الرسّامة من اللون والطين، والموادّ الأخرى، أشباحًا ومخلوقات من بشرٍ ونجومٍ وحيوانات، ربما لن تطأ أقدامُها صفحات التاريخ المتقلّبة، بل تبقى هكذا، متحجّرة، في أحفورات العَدم والسديم.
يكابد الشاعر والرسّام طويلًا آلام الولادة الصعبة، حتى يرتطم نيزك بمدينة لا مرئيّة في الربع الخالي، فتجرف العالمَ الشظايا والحطام.
الإنسان الواقف
مذعورًا إزاء البحر المضطرب،
هو في الحقيقة مذعور من الدخول
إلى أعماق ذاته المُظلمة
يجدف في السنين الخوالي
والفراغات المهجورة
تتناثر في جنباتها أشلاءُ حيوانات
نافقة وريش غراب يتطاير
سفينة تغرق في خضمّات
الموج الهادرِ
ونورس وحيد يحلّق في حفرة المغيب.
**مقاطع غير متسلسلة من كتاب قادم بعنوان: (رحلة إلى سراييفو).