إنّ فضاء ترجمة الذّات، وهي تحيل على واقع وتجربة في الحياة من جهة، ورؤية وفضاء كتابة إبداعية من جهة أخرى، تقودنا إلى ضبط آليات الكتابة وخصائصها. لذا ونحن نُطلع القارئ على تجربة كتابة الذّات عند الأديب الرّائد عبدالله محمد الطّائي، لا بدّ من معاينة التّشكيل الواقعي بوصفه منظرًا تحدده الطّبيعة التي تحيط بالواقع، وتؤطّره، وترسم ملامحه، وهو محمّل دائمًا بتجربة واقعية تختزنها الذّاكرة، وتحفظها حين تكتسب أهمية لافتة، وجذرية، وعميقة عند المترجم لذاته. وتؤمّن دائمًا على فضائها المكاني والزّماني والحدثي قدر المستطاع، حتى وإنْ حصل بعض التّغيير بحكم تحولات الزّمن الشّخصي، والعام على درجة نقاء الحادثة الواقعية وخصائصها وحساسيتها ومحمولاتها، إلّا أنّها تظل تحمل الرؤية الأساسية، واللّون الأصيل، والمحتوى المركزي على نحو عام.
إنّ يوميات ومذكرات ورسائل عبدالله الطائي،(1) تعدّ تجربة رياديّة في كتابات الذّات ليس في الأدب العُماني فحسب، بل في الأدب الخليجي أيضًا. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الكتابات لا تزال مخطوطة، وقد أخرج جزءًا يسيرًا منها الباحث العُماني محسن الكندي في كتابه “عبدالله الطائي: حياة ووثائق”؛(2) لهذا السبب سنستند استنادًا قويًا إلى ما أخرجه الباحث محسن الكندي، غير غافلين الإشارة إلى يومياته التي لا تزال مرقونة في أرشيف مكتبة الطائي الخاصة، حيث لم يتم نشرها كاملة – حتى الآن- في كتاب مستقل بها، ولكنّنا نذكرها لأهمية المرحلة التي كُتِبت فيها من جهة، ولما تميّزت به هذه الكتابات من سمات فنية تمثل الخصائص الفنية لفن كتابات الذّات من: (السيرة الذاتية، واليوميات، والمذكرات)، وما بهذه الكتابات من ميثاق سير ذاتي واضح يعلنه الطّائي صراحةً غير آبه من جهة ثانية.
يبدو انّ ظروف نشأة كتابات الذّات في أدب عبدالله الطائي لا تختلف عن الظّروف التي مرّ بها هذا الجنس الأدبي في الأدب العربي. ويمكن أنْ نتتبع مسيرة هذا الجنس الأدبي في أدب الطائي من خلال الوقوف على أبرز أنواع الكتابات الذّاتية عنده، والتي وقعت بين أيدينا سواء تضمّنت الميثاق السّردي/ المعاقدة الذاتية، أو التي حملت بعض خصائص هذا الجنس الأدبي، أو التي تندرج ضمن الأنواع السّردية القريبة من السّيرة الذّاتية كاليوميات، والمذكرات لنكشف عن مرحلة تأريخية هامة، تمثل أنموذجًا لكل عُماني عاش في مرحلة لازمت مسيرتها حياة الطائي اجتماعيًا، واقتصاديًا، وسياسيًا. يدوّن الطّائي يومياته في غربته، وكأنّه يتحدث عن ما ألمّ بكل عُماني في الخارج، في فترة ليست ببعيدة “الخميس شعبان 1379، 18/فبراير/ 1960 أكتب هذه الأسطر من الكويت، أجل من الكويت، واكتبها مستقرًا أنا وعائلتي، لقد انتقلتُ من البحرين بعد قضاء تسع سنوات بها، هي زهرة الشّباب.. وهكذا عدتُ أؤسس لي مستقبلًا من جديد. وصلتُ الكويت في اليوم السادس من شهر يوليو 1959 قادمًا من البحرين جوًا بعد أن تركت زوجتي رقية وأبنائي لميس وخولة ومازن مع الأخ سعيد(…) استقبلني بالمطار الصّديق الأستاذ صالح جاسم الشّهاب منذ عام 1941 وهيأ لي محلًا للسّكن عند صديق له اسمه عبدالمنعم(…) وكنتُ أتناول الطعام من منزله، ثم انتقلتُ إلى منزله وعشتُ معه عيشة الأخ، وزرتُ وإياه صديقنا الأستاذ أحمد محمد زين السّقاف نائب مدير المطبوعات والنّشر بالكويت سائلين مدى إمكانية العمل بدائرتهم فقام السّقاف بالواجب ووعد ووفى وسترني وستر عائلتي ستره الله، فالتحقتُ بالقسم الصّحفي في الدائرة يوم 28/ 7/ 59 (…). خروجي من البحرين كان بسبب شعوري بأنّي كنتُ مخطئًا في قبول العمل بدائرة العلاقات العامة والإذاعة، رغم إني أُعطيت الحرية في مجلة الإذاعة، ولم يكن لي عمل غير إصدارها وإصدار الجريدة الرّسميّة. وقد تمكنتُ من تطويرها وتوجيهها ثقافيًا وقوميًا؛ ولكن علاقة أهل البحرين بحكومتهم، وتطور نفوذ الإنكليز في البلاد جعل من الصّعب على المرء تحمل مسؤولية العمل في دائرة مفروض منها أن تؤيد الحكومة. وقد دفعني إلى قبول الانتقال من المعارف هو طول العهد بها دون أنْ أكسب ترقية في حين أرى غيري يتقدم، وتحذير مدير المعارف المستمر من اتصالي بشباب البحرين في الأول، وبالنسبة للوطن العماني في التالي. فكان رأيي أن أحافظ على بقائي في البحرين لا يمكن من تأدية واجبي نحو القضية العُمانية(…).(3)لا يتوانى الطائي أن يكشف بمصداقية شفيفة عن حاله وحاجته من جهة، وعن مبدئه وقضيته التي عاش متغرّبا من أجلهما. كما يذكر سعادته، ويعبر عن انتشائه لما شاهده من تطور في التّعليم في إمارات السّاحل العُماني آنذاك، حين جاءته الدّعوة الكريمة من صديقه في الهم والأرض والمبدأ أمير الشّارقه آنذاك “2/4/59، في الطّريق إلى الدوحة بالطائرة الساعة 11/30 يوم الخميس إلى الشارقة بدعوة من الشيخ صقر بن سلطان القاسمي لحضور المهرجان الرياضي، عقد المهرجان يوم الجمعة، كان رائعًا وألعابه جديدة، أعمار الطّلاب أصغر من أعمار الذين رأيناهم في المهرجان السّابق عام (4)1957، وفي ذلك دليل على توسع التّعليم عند الأهالي(…)(5). وهو في ما يسجله يعتمد على بنيتين: إحداهما سطحية خارجية، والأخرى عميقة داخلية. فالبنية الخارجية متمثلة في، البناء المذكراتي/ اليومي، إذ يكتب لنا مجموعة يوميات في يومية واحدة؛ لذلك تفاوتت مساحة كل يومية عن الأخرى. أما الثاني، وهو المتمثل في البنية الخارجية، فيأتي بإيحاءات ودلالات متعددة تجمع الذّاتي بالعام، بل إنّه في بعض الأحيان يرحل بنا من حياته الخاصة وأفكاره ومشاعره وتجاربه وتأملاته ليشمل كل إنسان وإنسانة. ولا يمكن لأي قراءة تنطلق عند قراءة إنتاج الطائي الذّاتي إلّا من هذه البنية السّطحية المتشظية للولوج إلى ثراء النّص الأدبي حق قدرة، أو تسبر أغواره.
إنّ القارئ للكتابات الذّاتية عند عبدالله الطائي رغم محدوديتها يقف عند تنوع في طرائق التّعبير عند كتّابها في حديثه عن نفسه، فقد أراد أنْ يعطي قارئه جوانب متعددة وشبه كاملة عن حياته وسيرته؛ بل عن حياة وسيرة الإنسان العُماني في مرحلة العزلة التي عاشتها عُمان كما صنع في “مذكراته”، أو أراد أن يسجل فترة، أو فترات غالية من حياته لها ذكريات عذبة في نفسه كما فعل في “مقالاته الذّاتية”، فقد أراد أنْ يسجل مواقف لها أثر مكاني، وزماني في الذّاكرة كما فعل في “يومياته”، أو أنْ يوثّق لحياة عاصرها كما فعل في “رسائله”، وراح الكاتب السّيرذاتي يتتبع انعكاسات الحياة على الإنسان في عُمان وتحولاتها. فجاءت المذكرات مشتبكة الملامح الاجتماعية والإنسانية مع الملامح الثقافية والأدبية والفكرية، وكأنّه يقدم أحداث شخصياته المروي عنها في توازٍ مع ذواتهم، وكأنّه يُلمّح تشكيليّاً إلى اقتضاب حضور الذّات مقابل حركة تلك الشّخصيات في الوجود والطّبيعة والأشياء فجاء السّرد ضمن أفق مسوّر بزمن ومكان بالغي الضّمور والمحدودية.
انّ القراءة الحقيقية لمشروع عبدالله الطائي في ترجمته لذاته مرتبط ارتباطا وثيقًا بالكشف عن بنيته العميقة الرئيسة المتمثلة في الاستعارة الكبرى التي يقيمها الطائي بين ذاته والعالم الخارجي، أو بين قضيته العامة وفعل الكتابة. ليتبين لنا مدى امتزاج الرّاوي السّيرذاتي بذاته من الداخل إلى الخارج. لذلك لا نجد الدوافع التّقليدية لكتابة السيرة مثل التّحرر من المشاعر غير المرغوب فيها، والتبرير والاعتذار والنّصح والتوجيه، ولو أنّ الكاتب كثيرًا ما يدفع عن نفسه تهمة أن يبدو لقرائه واعظًا. “كان عملي الوحيد الذي مارسته بهذه الحقبة من عمري هو الأستاذية في المدرسة السعيدية، وكانت فيه فوائد للنشأة والتّهذيب في فهم الرجال، ومطالعة الكتب، كما أنّه كان مصدرًا كبيرًا لآلامي التي سببت لي رغبة السفر الملحة(…)(6). إننا في هذه المبحث، سنعطي فكرة عامة عن أبرز الخصائص التي ميّزت كتابات الطائي الذّاتية، معولين على نماذج من: مذكراته ورسائله التي أخرجها الباحث محسن الكندي، ومن ثمّ الولوج إلى يومياته من دفتره الخاص الذي لا يزال مرقونًا بطيّ أرشيف مكتبته، بينما مقالته الذّاتية فلها حديث خاص، لا يسعه المقام.
* 1/3 مذكرات عبدالله الطائي
اهتمت مذكرات الطائي في سرد أحداثها بتسجيل الوقائع، وتصوير المواقف أكثر من نزوعها نحو الخيال، كما ركّز على إبراز حجم المعاناة والصّراع، وسعى من خلالها إلى الدّفاع عن منهجه ورؤيته، وكَتَب مُدْخلاً وتوصيفاً لمذكراته بضمير المتكلم “أنا”، وهو مُدْخل يؤكّد نوعية الكتابة بانضمامها إلى ميثاق السّيرذاتي Autobiographical Pact يقول الطائي: “هي مناسبة للسلوان ومغالبة الأشجان… إذن فلأكتب مذكراتي أجل.. فلقد حاولتُ أنْ أخفف النّار في قلبي، ومن هواجس الكمد في نفسي، وسعيت أن أطلق جبهتي من العقد، وأجمع بصري بعد أن تفرق… نظرت إلى هنا وهناك سعيت بالشاي والشعر، والنظر إلى الحسن والزهر… ولكن واأسفاه فشلتُ!!.. يقولون في الخمر سلوانًا؛ لأنّها تنسي المرء حالته ولو إلى حين، ولكن تمسكي الديني والخلقي يصوران لي هذا الالتجاء قذرا دنسا، ويقولون إنّ التّحدث مع الصّحب والنّاس يعين على السّلوان، أو أقل يشغل الفكر بالحديث عن النظر إلى الحال، ولكن هذا الدرب أيضا أغلقت أبوابه، إذ انّ أعمالي هنا فصلت بيني، وبين الصّحب الذين أريد أن ألتجئ إليهم(7)(…)”.(8) ثم ما يلبث أنْ يُقدّم هدفه ويُعلن مقصديته من وراء هذه الكتابة السّيرذاتية بنوعها التّشكيلي ذي الطبيعة الخاصة “(…) والحق إني استرحت قليلًا،… لقد شغلتني عن الهموم، ووجهتني إلى القلم والورق”،(9) وتصريحه هنا يتميز بتزاوج الرّؤية الذّاتية، وعلاقاتها مع الرّؤية الموضوعية واشتراطاتها.
أنّ القارئ لمذكرات عبدالله الطائي يجد أنّه لا يتحرج مطلقاً من ذكر الأسماء بمسمياتها الواقعية ومواقفه معها كإخوته، وأسرته، وأصدقائه، وزملاء عمله، ومن صادفهم في الحياة، معرياً ذاته تعرية شفيفة؛ وكأنّه يحدث نفسه ويسامرها. كما يبدو المكان حاضرًا جليًّا، وأبرز دليل على ذلك تقسيمه المذكرات إلى ثلاثة مراحل ناسبًا لها المكان الذي حلّ فيه أو ارتحل. واتجهت مذكراته إلى التّعبير عن الذّات في مرحلة مراس العطاء والعمل، ثمّ إلى التّعبير عن موقف خاص، أو عن موقف فكري عام يرتبط بفكرة زوال البطش السّياسي، والمجتمع التقليدي؛ الأمر الذي أدّى إلى تداعي صور البيئة والمحيط انتزعها عبدالله الطائي من أعماق الذّاكرة القريبة والجمعيّة، وصوّرها بما يناسب الموقف النّفسي والفكري، و المتمثل في الإكبار من شأن الفكر الإنساني، والإلحاح على الحرية والعدالة، والاستخفاف، بل الاستعلاء على الجمود والتّقليد. فالوظيفة النّفسية في مذكرات الطائي ورسائله الخاصة تبرز سعيه الجاد في سبيل الحصول على الضمانات النّفسية، وشتى ضروب الوقاية اللازمة التي تشبع حاجته المُلحة إلى الشّعور بالأمن والطّمأنينة، يقول كاشفًا عن ذاته، مشركًا قارئه(10): “أنا الآن في فترة شاقة مجهدة، فيها اختبار لرجولتي، ومقدار استفادتي من التّجارب(…) ألا ترى أني محتاج إلى من يعينني على مصيري قبل أن أواجه اليوم المشؤوم، يوم الرجوع إلى الأرض التي ذقت فيها المهانة والذل، والتي سأذوق فيها أكثر لو قررت السّفر!…إنّها أرضي ووطني، ولكنّها ليست أرض كرامتي وحريتي الآن”.(11) فكأنّ المراد من كتابة السيرة الذاتية تحقيق ضرب من التّوافق بين العزلة الباطنة؛ والعالم الخارجي، وذلك حينما ترتدّ الذّات إلى نفسها، وقد اكتسبت عمقًا وخصبًا. فنحن لا نكتب السّيرة لمجرد الخروج من ذواتنا، أو الانغمار في دنيا النّاس، وإنّما نحن نرمي من وراء الفعل إلى زيادة إحساسنا بالوجود، وتقوية شعورنا بذواتنا. وإذاً فليس في استطاعة الإنسان أنْ يعيش دائما مشتتا في الخارج، مبعثرا بين الأشياء، بل هو لا بد من أن يعود إلى نفسه بعد الفعل، لكي يزيد من خصب حياته الباطنة، ويضاعف من ثراء عالمه الداخلي. وهكذا يتمثل “البعد الداخلي للإنسان بوصفه استجماعا لشتات الذات، وامتلاكا لزمام النّفس”.(12) وحينما يستطيع الكاتب أنْ يعود إلى ذاته، يصبح من الميسور أن يتفرغ لكتابة سيرته الذّاتية. وليس الأمر بهذه السّهولة؛ ذلك أنّ نداءات العالم مغرية، والانغمار في دنيا الناس أسهل من النّزول إلى أعماق الذات.
إنّ الشهادة التي يقدّمها الطائي في خطابها المعلن ليست بريئة ولا محايدة، بل هي تحكي رؤيته وقناعته وفلسفته، كما يرى ويعبّر ويقول. ولعلّنا لو حشدنا المناخ الملتبس والمريض الذي يسعى الكاتب إلى تصحيحه على هذا النّحو من الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية والسّياسية “خرجتُ من مسقط ساخطًا بالحياة برمًا بحاضري، كارهًا لمحيطي”(13) لأدركنا الحاجة الماسّة بحسب رواية المؤلف إلى التّصحيح بعيدًا عن الحياد، ولعرفنا أنّ الشّهادة التي يبينها المؤلف إلى التّصحيح بعيدًا عن الحياد هنا هي شهادة بانورامية عامة تنتجها سيرة أدبية خاصة، فهي تصوير للخارج لكنّها تعبير عن انعكاس صورة الخارج من عمق الداخل الكتابي. كما تميّزت مذكرات عبدالله الطائي بمشاعر الصدق، وتعرية النفس حتى حين يقارب حياته الخاصة، يقول عن زوجته:”(…) وفي السنة الأخيرة تكشفت لي خصال هذه المرأة، إذ بلغت فيها نهاية الضّيق أخذت حليّها فرهنته ولبست المسكينة أثوابا لا أرضاها لخادمتي، ورزقتُ ابنة كان أبوها عاجزا عن تلبية المطالب(…) أجل حتى ثوب بقرش تستر به جسم لميس(…) هكذا وصل الحال؟(…) لماذا لأنّه ليس ما اعتمد عليه إلّا راتبي وكان مائة روبية(…) عشر منها للحبوب، ولوفاء الدين، فأين الثوب وإيجار البيت؟(…) وأين التّمر وغيره من مطالب البيت؟ وكيف بالأثواب والزينة والأدوية(…) مرضت ابنتي، ومرضتُ أنا(…)”.(14) وهكذا يتجلى مفهوم الصّدق الفني بكثير من البوح في مذكرات الطائي، وهذا خير مظهر لأصالة الكاتب في تعبيره، ورجوعه فيه إلى ذات نفسه لا إلى العبارات التقليدية المحفوظة. وهذا “الصدق الفني أو الأصالة هي أساس تقدم الفنون جميعًا، ومنها فنون القول في كلّ العصور، وعلى حسب كلّ مذاهب الأدب الحديثة المعتد بها”.(15) فالمراد من كاتب السّيرة الذّاتية مهما كان نوعها تصوير حقيقة أصيلة، لا تتفق في نواحيها الفنية مع صور أخرى، وهذه “ناحية جمالية تستلزم القدرة الفنية”.(16)
إنّ عبدالله الطائي، هنا، عبّر في تجربته عمّا في نفسه من صراع داخلي، سواء أكان تعبيراً عن حالة من حالات نفسه، أم عن موقف إنساني عام تمثّله في حياته. ولذا كان في طبيعة تجربته والتعبير عنها ما يحمل المتلقي على تتّبعها. ومهما كانت التجربة ذاتية، فإنّها “لا تغرب قطّ عن الفكر الذي يصحبها، وينظّمها، ويساعد على تأمل الكاتب فيها”.(17)
لم يكن عبدالله الطائي إذن بالذي يفصل الذّات عن العالم، فالمعرفة بالذّات تؤدي عنده إلى تعمّق معاني العالم وحقائقه، ومعرفة العالم تنعكس بدورها في الذّات، فتنمي معرفتنا بها وتثريها.
* 2/3: يوميات عبدالله الطائي
يرصد عبدالله الطّائي في يومياته تجليات سيرذاتية أخرى عبر التّجارب والحالات والرؤيات، وتتمخض هذه اليوميات عن كتابة تنطوي على تشكيل سيرذاتي معيّن، بما تمتلكه من إحالات كثيرة على تجربة الرّاوي السّيرذاتي، ورؤيته ومزاجه في الحياة والثّقافة والتّعدد ضمن سياقات تختلف في المنهج والرّؤية على صعيدي التّجربة والكتابة، لكنّها تستوي داخل إطار المفهوم التركيبي العام للتّشكيل السّيرذاتي، وتلتقي في حدود الذّات. يذكر الطائي في إحدى يومياته “20 شوال 1375 الأربعاء 30/5/56. أجريت الامتحانات للرابع، كانت أسئلة العربية بسيطة وسهّل على الطلاب إدخال المحفوظات والمطالعة. ولقد كانت العادة أن نتعشى بالقسم الدّاخلي، فوجدنا العشاء في أول ليلة كريمًا، وصباح السبت نظمت ثلاثة أبيات أعطيتها لعبدالله الفرج مدير مدرستنا:
هل عندكم لعلاج البطن أقراص؟! وأنتم بشفاء البطن حرّاص
بطني كبحر فما أدري بحالته(…) وردّ عليّ الأستاذ عبدالله الفرج(…)”(18).
وفي يومية أخرى متشظية من عدة موضوعات يشير إلى سبب انتقاله لمنزل آخر، إذ يقول “الاثنين، 25/9/1961: نحن اليوم نسكن في حولي بعد أن تركنا مدينة الكويت حيث انتقلنا رغبة في الحصول على بيت يكفيني والأخ نصر(…)(19). ويدون بعدها صفات لمحها في ذات اليوم على أبنائه آنذاك: لميس، وخولة، ومازن، والصّغيرة ليلى ما لمسه من أفعال تتبعها لهم، وخصال تبيّنها فيهم في ذلك اليوم وغيره، ويذكر لنا حتى العادات الحسنة من تحمل المسؤولية والألفة والهدوء، إلى الصفات السّلبية كالأنانية والضّعف والملل في أبنائه، وهي صفات تلمح لما يلحظه الآباء في أبنائهم، مشيرًا إلى الآلية التي اتفق عليها مع زوجته لتعزيزها لدعم الإيجابي منها، أو تقويم، وعلاج السّلبي فيهم.
وقد تأتي اليومية قصيرة المقطع مرقمة: “3/6/1376 الجمعة، 4/1/57
1- قضيتُ الجمعة صباحًا في السّوق. -2(…)3-(…) 4- زارنا اليوم الأخ حسن حيدر(…) “(20). إنّ هذه اليوميات رغم بساطتها، لغة وأسلوبًا وفحوى، إلّا إنّها تؤصل رؤية لطبيعة شروط اليومية من حميمية وتشظ وصدق وشفافية من جهة، وتشكيل طبيعة تركيب ومناخ اليومية وحساسيتها من جهة أخرى؛ الأمر الذي أضاف لها صورة تشكيلية مخضبة بجذور قصص وأحداث واقعية .
كما تأتي اليومية تعبيرا عن الحال النفسية التي يمر بها الرّاوي السّيرذاتي، “15/6/76 الأربعاء 16/1/57 أنا أشعر بالملل من عملي لأسباب ما أراه ركود في مستقبلي، ومن الإرهاق في نفس المهنة. والغريب أني رغم هذا كلّه أشعر بسعادة عندما أكون في الصف بين هذه العقول الصغيرة التي أبنيها”(21). هكذا يدون الطّائي في مرحلة اغترابه مواقف وحالات وحكايا وصور المكان، والزّمان، والشّخوص، والأحداث، على نحو وجّهه لخدمة فكرته الخاصة، ورؤيته، وقناعته، وقد انتظمت في سياق أراده الكاتب للتّعبير عن مرحلة مهمة من التّاريخ الثّقافي العُماني والعربي. ومن يستفيض القراءة في يوميات الطائي، يرى أنّ الأمور عنده التبست على الكثيرين، وصار من واجب من عاش المرحلة بعمق وكثافة (مثله) أن يقول كلمته، مهما كانت بساطة الحدث فيها؛ وقد انتهى به المطاف عند تدوينه لأحداث مقتضبة، محدودة الزّمان والمكان إلى نوع من التشكيل السّيرذاتي الذي يبدأ باليومي، لكنّه يشتغل عليه في أكثر من مستوى سيرذاتي استطاع أن يحقق أهداف الكتابة ومقاصدها.
* 3/ 3: رسائل عبدالله الطائي
أمّا الرسائل الخاصة(22) فتمثلت عند عبدالله الطائي من خلال التّشكيل السّيرذاتي الرسائلي مجالاً رحباً لتجّلي الرؤية السيرذاتية في سياق التعبير عن الذّات والآخر والثّقافة والفكر والحب والحياة وواقع الحال العُمانية في فترة الخمسينيات والستينيات وبداية السبعينيات من القرن المنصرم. فكان أنْ ألقتْ الضّوء على تجربة الأديب الطائي أكثر من أيّ عمل سردي كتب فيه (القصة القصيرة، والرواية، والمقال). فقد وضعت هذه الرّسائل الأديب عبدالله الطائي في مواجهة حرة مع نفسه أولاً، ومع المرسل إليه ثانياً بكل ما تحمله هذه المواجهة من صراحة وحميمية وتطابق مع الذّات. ففي رسالته إلى مؤرخ اليمن سعيد عوض باوزير يبرز التبادل الثقافي والفكري بين الأصدقاء “(…) لقد قرأت كتابيك: الصّفحات والفكر، والثّقافة والواقع… إنّك أجدتَ غاية الإجادة، وقمتَ بتعريف بلادك، وكم كان بودّنا أنْ تلاقي كتبك طريقها إلى المكتبات العربية، ولكن مشاكل التّوزيع التي تعرض على القراء كتبًا وتبعد عنهم كتبًا، وما ذلك إلّا أن تصل الجامعة إلى ذلك فتؤدي واجبها على وجه كامل. التقيت ببعثة مجلة العربي، وهم يثنون عليك كثيرًا. الكتب التي طلبتَها أرسلتها إليك، وأرجو أنّك استلمتها(…)”(23)
يتأكد هذا النّزوع نحو تشكيل الرؤية السّيرذاتية لشخصية عبدالله الطائي، حين يبرز في ممارسات عملية وإنسانية تطلق مجموعة إشارات في هذا الصدد، على النحو الذي يُظهِر قيمة الوعي المبكّر الذي اضطلعت به الشّخصية، وسعت إلى تعميقه وجوهرته وتمتين أواصره. فقد كتب الطائي مجموعة كبيرة من الرّسائل الجميلة إلى المقربين منه من الأهل والأصدقاء، وممن تربطه معهم علاقة في المبدأ والموقف؛ ولم يلتفتْ إلى هذا الفن الترسلي أحد من الدارسين، سوى محسن الكندي الذي قرأ بعضه، وأخرجه من مخطوطه، وأشاد بقيمته وأهميته؛ لكنّه لم يقف عنده للبحث والدراسة، واكتفى بالتّعبير عن أهميته، وتقرير ريادة الطائي لهذا الفن الذّاتي، ليس في عُمان فحسب، بل ربما في الوطن العربي.
إنّ عبدالله الطائي قد يكون من القلة القليلة في هذا العصر في الأدب العربي، الذين يعنون عناية فائقة قد تكون متخصصة بأدب الرسائل، حتى أنّ كلّ رسالة تعبّر عن حالة، أو وضعيّة معينة نقرأ من خلالها نثرًا فنيًا توثيقيًا للواقع آنذاك، وهي نماذج فنية من الأدب بها الكثير من الحكم والفلسفة والسّخرية والجمال. كما أنّ هذه الرّسائل تميزت بالأبعاد المضمونية ذات قيمة تاريخية لا يستهان بها ووثائق تسجيلية لمحطات أديب رائد يشكل مرحلة من مراحل الأدب في الخليج العربي. لذلك نؤكد أنّ رسائل عبدالله الطائي مازالت في أمس الحاجة إلى إخراج الكثير منها، بل إلى دراسة جادّة تتناول الكتابة الذّاتية، أو الخطاب التراسلي عند عبدالله الطائي إنتاجًا وتحقيقًا ودراسة. نستشهد بهذه الرسالة القصيرة التي كتبها الطائي من تونس، المؤرخة بتاريخ 24/2/ 1972لأستاذه الكاتب البحريني إبراهيم العريض، يقول فيها بعد السلام والتحية: “أكتب إليك من الجو، وأنا في طريقي من تونس إلى المغرب العربي مع الوفد العماني، فما من شك أنّك علمت بما حدث في عُمان، وبالتحاقي وعودتي إلى مسقط، نسأل الله أنْ يوفقنا للبناء وتحقيق ما عشنا نحلم به ونعمل له. لقد سرّني إهداؤك مكتبتك لنادينا العتيد، وسرّني أيضا تقدير النّادي ببنائه لكم جناحًا، وأرجو أن نلتقي قريبا لنطمئن على حلمك وإنتاجك، وسلام من الله وعلى الأخ الجليل وعلى أفراد العائلة والأسرة الكرام.”(24)
تتنوع موضوعات رسائل الطائي الخاصة، ولكن تبرز فيها رؤيته الإصلاحية والسياسية، وقد تبنّى فيها الاتجاه القومي التّقدمي الوحدوي. والأهم أنّها لخّصت تجربة الكاتب في طبقة معينة من طبقات تشكيله السيرذاتي..(25) ولا شك أنّ الفترة الذّهبية لكتابة الرسائل عند عبدالله الطائي، هي فترة الاغتراب والهجرة والتّرحال التي قضاها بعيدًا عن وطنه، وليس ببعيد أنْ يتمخض زمن تجربة الخطاب التراسلي عندنا عن إشكاليات مذهلة، وحقائق مدهشة، وهي أنْ تكون رسائله أعظم وأصدق ما ترك عبدالله الطائي.
إنّ مشروع الكتابة الذّاتية (سيرة، مذكرات، يوميات، رسائل، مقال ذاتي) عند عبدالله الطائي، كان يعني دائما الانعتاق من التّشظي والتجزئة والانشطار، لذلك كان مشروعاً ائتلافيًا، تتجاوز خلاله الذّات مظاهر تصدّعها وشقاقها مع ذاتها والعالم، لتدخل طور التّوحد والتقاط ما يسميه الطائي “مناسبة السّلوان ومغالبة الأشجان” ولكن إدراك هذا المأرب المعرفي السّامي لا يتأتى للإنسان إلّا على مراحل، وخلال أطوار متلاحقة. إنّ فك إشكال “الأنا” هو إذن “أسّ الكتابة السّيرذاتية وأولى غاياتها البعيدة، لذلك حقّ اعتبار هذه الكتابة ممارسة استكشافية، يبحث من خلالها المترجمون لذواتهم عن كشف مقوّمات هويّتهم والتّعرية عنها”(26). ولا يفوتنا هنا- أن نشير إلى أنّ أسلوب المساءلة والجدل والمناجاه والحوار الدّاخلي، هو الذي أضفى على الكتابات الذّاتية عند الطائي مسحة فلسفية وتربوية وعقدية منطلقة من تصوره للحياة، ونظرته للهم الجمعي العُماني والعربي على السّواء. كما وظّف الطائي مجموعة من التّقنيات الأسلوبية التي تتناسب وتكوينه الأدبي والفكري وطبيعة مشروعه الكتابي الذّاتي الذي اضطلع به في تجربته الكتابية، فقد كان الطائي واعيًا بتوظيفه للتّداعي الحر، والحوار الدّاخلي، والدّهشة والاستفهام في تساؤلاته التي يجيب عنها أحيانًا، ويترك أكثرها معلقًا دون إجابة ليستشفها القارئ. ومع ذلك، فلا نعدم من ملامح الحقيقة والصّدق في مرحلة عمره القصيرة التي لم يقدر له المضي فيها لحين؛ لكنّها حظيت بالكثير من التّجارب والتّشظي والغربة والتّجوال، ولعل هذا جعل هاجس التّلقي قويًا عنده، فكثيرًا ما كان يستدعي القارئ الضّمني، وهذا ما يؤكد لنا أنّه كان حريصًا على طمأنة القارئ بمصداقية ما يرويه، الأمر الذي جعله سببًا في استدعائه أولًا، ومن ثَمَّ أنّه كان يعدها للنشر في يوم ما، يوم تتفتح له أسباب الحياة وفكرها.
الهوامش
1- انظر بعضا من مذكرات الطائي ويومياته، محسن الكندي، عبدالله الطائي: حياة ووثائق، ص314-358
2- عبدالله الطائي، مذكرات عبدالله الطائي (1924- 1973) يعدّ رائدا في الكتابات السّردية، ليس في الأدب العماني فحسب، وإنما في الأدب_ الخليجي العربي أيضاً. شرع الطائي في كتابة مذكراته ويومياته مبكرًا سنة 1949حتى 1971 متناولاً فيها حياته الاجتماعية والظرّوف السّياسية التي جعلته يهاجر في مرحلة الصِّبا، كما يبرز نشاطه الأدبي والثقافي وصداماته مع السّلطة السّياسية، ودوافع كتابته لمذكراته، وهي عبارة عن مزيج بين المذكرات المتقطعة، واليوميات المتناثرة مقسمة على ثلاث مراحل: مرحلة مسقط وباكستان، مرحلة البحرين والكويت، ومرحلة الإمارات وعمان. ويبدو أنّ المرحلة الأولى هي التي يمكن عدّها نصاً أدبياً مكتمل العناصر؛ أما المرحلتان الأخيريان فقد كتبتا على هيئة يوميات متناثرة.
3 – من دفتر مذكرات الطائي، ص59-61، أرشيف مكتبته الخاصة.
4 – يدون الطائي بمذكراته عن هذا المهرجان الذي أقيم يوم الخميس، 28/ 3/1057، مشيرًا إلى حال التعليم آنذاك، والجهود التي تبذل لتطويره. ص42.
5 – من دفتر مذكرات الطائي، ص56-57.
6 – محسن الكندي، مرجع سابق، ملحق1، 320.
7 – يشير محسن الكندي، أن النقاط تدل على تآمل الورق، وعدم وضوح الخط. انظر الهامش ص314.
8- انظر محسن الكندي، مرجع سابق، ملحق 2، ص214.
9- محسن الكندي، المرجع نفسه، ص315.
10 – وهذا يؤكد لنا رغبة الطائي في نشر مذكراته ويومياته، لا أن تبقى حبيسة الأرفف والأوراق.
11- محسن الكندي، مرجع سابق، ص352.
12- زكريا إبراهيم، مشكلة الإنسان، ط1، القاهرة، مكتبة مصر، ص26.
13- محسن الكندي، مرجع سابق، ص315.
14- محسن الكندي، مرجع سابق، ص318.
15- محمد غنيمي هلال، المدخل إلى النقد الأدبي الحديث، ط1، القاهرة مكتبة الأنجلو المصرية 1962، ص258.
16- محمد غنيمي هلال، المرجع نفسه، ص776.
17- محمد غنيمي هلال، المرجع نفسه، ص441.
18 من دفتر يومياته، ص29، أرشيف مكتبته الخاصة.
19 من دفتر يومياته، ص63، أرشيف مكتبة المؤلف الخاصة.
20 من دفتر يومياته، ص36، أرشيف مكتبته الخاصة.
21 من دفتر يومياته، ص38، أرشيف مكتبه الخاصة.
22- انظر بعضا من رسائل عبدالله الطائي الخاصة، محسن الكندي، مرجع سابق، ملحق 1، ص141-208.
23 – محسن الكندي، مرجع سابق، ص163-165.
24- محسن الكندي، مرجع سابق، ص204
25- مذكرات عبدالله الطائي، ويومياته، ورسائله الخاصة بحاجة إلى دراسة واعية، وقراءة جادة تنفض الغبار عنها، كونها تعكس مرحلة ذاتية تاريخية تعكس الحال العماني في فترة عاشت فيها عُمان عزلة وانغلاقا بسبب الحكم الظالم في فترة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، حتى السبعينيات.
26- جليلة الطريطر، مقومات السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث: بحث في المرجعيات، ط1، تونس، دار محمد الحامي، 2004، ص671.
عزيزة الطائي