أحمد الصغير
رفعت سلام (1951ـــ 6 كانون الأول 2020) شاعر مصريّ من كبار شعراء الحداثة العربيّة، أسهم بشكل واسع في الحركة الشعريّة على مدى نصف قرن، بدءا من أوائل سبعينيّات القرن الفائت، وبتأسيس جماعة إضاءة 77، امتلك سلام بداية الخيط الشعري، فراح متمرّدا، صاخبا على القصيدة التفعيليّة آنذاك، معترضًا في جرأة بالغة على لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للفنون والآداب بالقاهرة، وقد تفتّقت عن هذا كله روحٌ شعرية مغامرة، تبحر في المجهول الشعريّ، بحثًا عن الشعر في عيون الفقراء، والبيوت الطينية والقطارات التي لا تعود في المساءات الحزينة في «منية شبين» مسقط رأسه، شمالي مصر.
أصدر رفعت سلام الكثير من الدواوين الشعرية بدءا من ديوانه (وردة الفوضى الجميلة عام 1987)، (إنها تومئ لي 1993)، (إشراقات رفعت سلام 1993)، (إلى النهار الماضي 1998)، (كأنها نهاية الأرض2000)، (حجر يطفو على الماء 2008)، (هكذا تكلم الكركدن 2012)، (أرعى الشياه على المياه،2018). كما قدم سلام ترجمات مهمة عن الفرنسية والإنجليزية من أهمها الأعمال الشعرية لشارل بودلير، ورامبو، وكفافيس، والت ويتمان، وريتسوس، وغيرهم.
• تعدّد الأصوات:
تتجلى تقنيات تعدّد الأصوات في الخطاب الشعري عند رفعت سلام، بصفة خاصة، وفي قصيدة النثر بعامة، حيث إنّ الشاعر الحداثي، يلجأ إلى هذه التقنية؛ رغبة في تشابك الأصوات، وتداخلها في النص الشعري، كي يخرج المتلقي من النص بمعانٍ لا نهائية، مفادها أن النصّ أصبح عالمًا من الأصوات المتشابكة والمتداخلة، بل صار الصوت الواحد مفردًا بصيغة الجمع ، حيث تمتد ألسنة النص الشعري إلى العالم الخارجي ، بل صار النصّ في تعبير آخر هو العالم نفسه بكل تناقضاته، ومشاهده المربكة، وطموحاته وآلامه وآماله؛ مما يجعلنا نستكشف أرواحنا من خلال الموسيقى البوليفونية، التي تعبّر عن أصوات كثيرة في وقت واحد على حد قول ميخائيل باختين في كتابه شعرية ديستوفسكي فيقول: «قد ترسم البوليفونيّة صورة الإنسان المأساوي أو الفجائعي، وتجسّد الشخصيّة غير المنجزة أو غير المكتملة، وتعبّر عن تنوّع أصوات الحياة بصورها كافة، ومن ثمّ فهي ضدّ تشيُّؤ الإنسان وضدّ تشيُّؤِ العلاقات الإنسانية وكلّ القيم الإنسانية في ظل النظام الرأسمالي.»(1) الذي صارت مساحاته محملة بالتناقض الاجتماعي والهوة الطبقية الموجودة الآن بين فئات المجتمع، فصار الخطاب الحداثي في الشعرية العربية خطابا مرآويًّا، يحمل أعضاء جمادات وحيوانات متآكلة، فيبعثها من جديد، في صورة معكوسة تتجسد من خلالها العبثية التي سيطرت على العقل الجمعي الذي يجمع بين الغنائي والدرامي. «بل إن المزاوجة بين الغنائية والدرامية في النسق التعبيري للبناء الشعري تعدّ حداثة شعريّة استطاعت أن تُلغي المسافة بين الذاتي والموضوعي، حيث أصبح الموضوع هو الحركة الداخلية التي تقسم الذات وتعيد توحيدها، إذ يلجأ الشاعر إلى الحوار المنكر للأطراف الذي يأتي على شكل تداعيات داخلية تقسم الذات على نقيضين متحاورين»(2)
وقد تجلّى ذلك التفاعل، والتداعي الحواريّ من خلال انشطار الذات إلى مجموعة من أصوات حقيقيّة، وأخرى خياليّة تصدر عن كائنات حيّة وكائنات غير حيّة. وأعتقد أن سمة تعدد الأصوات لدى رفعت سلام، قد جاءت بوصفها ظاهرة شعرية في ديوانه الكاشف عنها (هكذا تكلك الكركدن، القاهرة ،2012)
• عتبات صوتية متعددة:
جاء هذا الديوان في قصيدة شعرية طويلة اتّسمت بالملحميّة والدرامية والكونية؛ تحمل الصفحة البيضاء مجموعة من النصوص المتقاطعة التي تتجسد في المتن والهامش، والبياض، وعلامات الترقيم، والموسيقى النصيّة التي تتخلل النصّ الكلي في شكل جمل شعرية قصيرة، ونصّ معلوماتي قصير وكأنه خارج النصوص المتقاطعة؛ إضافة إلى ذلك اللعب الشعريّ بتقنية الخط العربي، وكأننا أمام مجموعة من المشاهد المختلطة التي يمكن قراءتها منفصلة مرة ومجموعة مرة أخرى.
فنحن في حقيقة الأمر أمام غابات متعددة الأصوات وطرائق نصية مختلفة الأطوار والأشكال معتمدة ومستفيدة في الوقت نفسه من العوالم الافتراضية المفتوحة وأعني شبكات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعية بوصفها أصواتا متشابكة داخل النص الشعري عند رفعت سلام مثل «الفيس بوك FACEBOOK ،وتويتر twitter، ويوتيوب YouTube»،ومحركات بحثية عالمية هذه الكائنات الافتراضية مرصودة على صفحة الغلاف الخارجي للديوان الذي يمثل مؤشرا دلاليا مهما في قراءة الديوان؛ فقد جاء الغلاف يحمل صورة الحيوان الخرافي الكركدن (وحيد القرن) وعلى جسده الضخم أصوات/ أيقونات العوالم الكونية المتعددة منها ما هو حقيقيّ ومنها ما هو افتراضي، إنّ جل هذه العوالم تتحرك بفاعليّة الذات المحترقة داخل هذه العوالم فهي ذات أسطورية تحمل الماضي بكل آلامه وخروقاته وحواجزه وتحمل الآني الراهن بكل فتوحاته وانهياراته وتداخلاته وإشكالياته الفكرية والفلسفية والجغرافيا والتاريخ وصراعات حضارية تمتد لآلاف السنين، كما تحمل المجموعة (مجموعة النصوص المتقاطعة) أيضا تناصّات ديوانية مختلفة تجسد المشروع الشعري لقصيدة سلام والإحالات والمرجعيات التي ذكرها في نصوصه السالفة والقادمة، هذه النصوص المربكة التي تفكك العوالم المزيفة.
• صوت الآخر الـ(هو):
بدأ سلاَّم منذ سبعينيّات القرن الفائت مؤسّسا؛ لشعرية تتمرد على الشكل المألوف للدواوين الأخرى، فهو شاعر مُشْكلٌ يبحث عن الفتنة الكونية المنبعثة من رحم الأرض الأخرى في كل زمان ومكان، ومن ثمَّ فهو يخلق نصه الشعري من خلال عوالم الـ (هو) الآخر، متجسدة في أصوات حيّة متعددة، ومتفاوتة. هذه العوالم/ الأصوات تستظل بالكائنات الحية في عمومها مثل النباتات والحيوانات والطيور والإنسان والجمادات والنصوص الحية أيضا من التراث العالمي والعربي بخاصة، مرتكزة نصوصه على شعرية الأساطير الكونية التي تلتحم بروح النص، والذات الشاعرة في ماء نصي واحد، هذا الماء الشعري الذي يكمن في خلايا وأنسجة الوحدات الصرفية الصغيرة في أبدان المفردات العابرة من جيل إلى جيل ومن مرحلة إلى أخرى، ومن ثمَّ فإن جلَّ دواوين سلام لها شكل شعري مائز، تتخذ من المخاتلة الكونية الشعرية طريقا للتعبير، وفي ظني أن أفضل الطرق للولوج في هذه العوالم الشعرية أن تعتمد على القراءة البصرية مدعومة بقراءة سيميائية تأويلية مغايرة، وقد تجلت هذه المغايرة في هكذا تكلم الكركدن. يجيء هذا الديوان؛ ليفتح أرضا جديدة في شعرية قصيدة النثر العربية، إذ يعتمد على أساطير الحيوانات القديمة، مستعيدًا أصواتها الأسطورية، وهنا نذكر أسطورة ( اليونيكورن) Unicorn، الحصان وحيد القرن ذلك الحصان الذي فتن الناس قديما بجماله وقوته وفرائه المطرز بالألوان، ويمكن أن نعتبر الكركدن هو الخرتيت ( وحيد القرن ) مع الفارق بين الحصان وحيد القرن، والكركدن وحيد القرن؛ فقد منحنا النص الشعري مجموعة من العبارات المعرفية / المعلوماتية، وذلك في قوله:
«هو حيوان في جثة الفيل، خِلْقَتَه خِلْقَةِ الثور؛ إلا أنه أعظم منه، ذو حافر، وهو سريع الغضب، صادق الحملة، يخافه ساير الحيوانات. على رأسه قرن واحد حاد الرأس. يعيش سبعمائة سنة، وهيجان شهوته بعد خمسين سنة»(3)
إن الوصف الدقيق للكركدن (الخرتيت) الذي اتخذته جمهورية السودان رمزا وطنيا لها بعد الاستقلال قبل أن تتخلى عنه لاحقا لما فيه من القوة والصلابة، مخيفا لجميع الحيوانات، فهو رمز أسطوري ينتمي إلى الميثولوجيا القديمة، التي تقدس الحيوانات الخرافية. ونلاحظ أن الكركدن يستدعي لغة خاصة به تناسب الحال التي عليها روحه وكيانه: فتشير المصادر إلى أنه: وبالرغم من مظهره الرائع وجماله فإنه يقاتل بوحشية وعنف شديدين، ومن المستحيل إمساكه خصوصا إذا حوصر لكنه يستجيب بسهولة للمسة أنثى عذراء. أي إن الونيكورن الكركدن (وحيد القرن) بشكل عام يرمز للقوة والجمال الفريدين من نوعهما، بالإضافة إلى أنه كان رمزا خاصا بالنبلاء والأمراء والسلاطين في القرون الوسطى.
• صوت الشاعر/ الكركدن:
أعتقدُ أن عنوان الديوان جاء بصيغة لغوية تشي بالكثير من الإشارات المهمة في حياتنا الثقافية؛ فعندما نقول هكذا تكلم الكركدن تستدعي الذاكرة الثقافية الكتاب الأشهر في تاريخ الفلسفة الحديثة للفيلسوف الألماني نيتشه وكتابه هكذا تكلم زرادشت؛ ومن ثمّ فإن النص الشعريّ لدى سلام يعتمد على إغراء المتلقي النموذج (المثالي) للبحث عن علاقة ما مكنونة بوجه أو بآخر بين زرادشت والكركدن، أظن أن العلاقة القوية تكمن في أن كلاهما يبحث عن الحقيقة المطلقة في الأكوان المختلفة ولن يجدها، والإصرار المطلق على البحث هو ما جعل الذات الشاعرة تلتحف بذات أكبر وأضخم وأوقع أثرا وهي ذات الكركدن نفسه؛ لأن الكركدن هو الشعر نفسه الذي يعلن دائما عن عصيانه وتمرده وسيطرته على سائر الأنفس والمخلوقات الواقعية وغير الواقعية، حتى إن العوالم الافتراضية كانت قد احتفت بكائن الأكبر (الشعر) منذ ولادتها على سطح العالم، متخذة منه سلاحا في مواجهة الظلام والتشويه اللذين لحقا بالعالم المحيط بنا. فيقول:
«لست ديناصورا، لا وألف كلا؛ لست هولاكو ولا هتلر ولا الحجاج لا موسوليني ولا بينوشيه، أنا أصل السلالة والكل ظلال باهتة ………….أنا اللحظة المارقة الفالتة استعاروا قامتي وسيرتي سلبوني مني، وارتدوا قناعي الذهبي في غفلة من الزمن.
وكل غفلة: محنة
كل محنة: ميتة
وكل ميتة: صراط وأسن»
يتكئ نص سلام على استدعاء شخصيات تاريخيّة بعينها أمثال هولاكو، هتلر، الحجاج، موسوليني، بينوشيه، تحمل هذه الشخصيات في طيّاتها أحداث الماضي البغيض الذي ارتبط بشخصيات ديكتاتورية أذهبت جمال العالم وبهاءه الأرضي، فالذّات لا تبحث عن فراديس أرضيّة أو علويّة بقدر بحثها عن الخلاص الحقيقيّ من الكيانات المتجسدة في الكون؛ لتخلق واقعًا يفترض فيه الطهر وتنتزعه اللحظات المارقة التي تسكنها الذات. إن سلطة الذات الشاعرة في هكذا تكلم الكركدن تتجلى في أصوات متعدّدة، هذه الأصوات التي تتداخل و تتآزر فيما بينها مكونة حوارًا درامتيكيّا من خلال تكرار ضمير المتكلم (أنا) أكثر من مرة يومئ إلى أصلها ونسبها وأنها لا ترى ظلا إلا ظلها فالكل ظلال باهتة لا ظلال لها، تتحدث الذّات عن الآلام القديمة التي يومئ إليها استخدام الفعل الماضي كثيرا، مثل: (استعاروا، سلبوني، ارتدوا ) نلاحظ أن الأحداث المتعاقبة في عملية السلب الممنهج والمتطور الذي يجسّد صراع الحضارات كما ذكرنا، وتأتي الأحداث أولا بالاستعارة ثم السلب الجسدي والسلخ الروحي، ثم الارتداء الذي يمزّق ويشوّه الوجه الحقيقي للذات الأصلية، إضافة إلى المحنة التي وقعت في غفلة من الزمن الميّت؛ فكل محنة ميتة كما تشير الذات إلى ذلك كثيرًا داخل الديوان، ويقول في مقطع آخر:
«سرقوا مني القاموس والأبجدية، عرّوني مني قبل حلولي، وسبقوني إلى المدائن المنذورة للنار،
إلى القطعان المنذورة للسفك إلى السبي والهتك».
تتجلى في المقطع الفائت شعريّة الجحيم التي ترصدها الذات عبر مشاهد مكتنزة، هذه المشاهد التي تحتاج من المتلقي النموذج الوقوف عليها واستكمال رؤيتها الراسخة في جبينه، كما تشمل المشاهد الممحاة مفارقات مختلفة على مستوى الرؤية والتصوير مثلا في قوله: إلى الآيات المحكمات مما لاعين من قبل رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر: المفارقة تكمن هنا في المشهدين المتناقضين مشهد الجحيم ومشهد الفراديس السماوية الذي يتجسد من خلال بنية تناصّية تستدعي الحديث القدسي الذي يقوم بإغراء البشر وترغيبهم في جنان الخلد ومتاعها وجمالها الذي لا تستطيع العقول الجمعية تخيّله، نحن إذن أمام مشهدين متناقضين ينتميان إلى المفارقة التصويرية التي أصبحت ركنًا رئيسًا في شعرية الحداثة العربيّة؛ لأنها تمثّل وقعًا وصدمة إدراكية لدى المتلقّي. ومن ثم فقد اعتمد سلام على التجريب اللانهائي في الفعل الكتابي لنصوصه؛ مما يجعلنا أمام نصوص تحتاج لقراءة مختلفة تجريبية (إن جاز القول)، حتى يتم للمتلقي التواصل مع مثل هذه الكتابات المربكة.