يحدق في جدران الغرفة – التي تحولت في نظره إلى حدود جغرافية فاصلة. يرمش ببطء ثم يعاود التحديق ثانية في ذات الجدران. هي في الحقيقة ليست جدرانا، يتخيلها حواجز شفافة صنعتها كتب الأديان. يشعر بالسخط. ينهض ويبدأ في استعراض الغرفة جيئة وذهاباً. لم يكن قبل اليوم يبالي بالأشياء المتناثرة على أرضية وجدران الغرفة، لكنه اليوم يملك من الوقت الكثير، ولذا فقد بدأ يتفحص كلاً منها بدقة بالغة: لوحة «سوبها سينج» الأسطورية «سوهني ماهيوال»(1) المعلقة على الجدار، وفي كوة بالقرب منها كأس كانت ابنته الصغرى قد فازت به في مسابقة للسباحة، وعلى الجدار المقابل تتدلى صورة لأخيه الأصغر أخذت يوم تخرجه من الجامعة، وهو الآن يحضر رسالة الدكتوراه في جامعة جواهرلال نهرو، يبدو في الصورة– بابتسامته الواثقة– وكأنه إحدى الشخصيات البارزة. أخوه لا يلبس العمامة ولم يرغمه هو يوماً على لبسها. يؤمن أن السيخية ليست في ارتداء العمامة، بل هي حالة ذهنية قبل كل شيء، وقد احترم باقي أفراد الأسرة آراءه هذه.
على أرضية الغرفة وعلى مقربة من الصورة يوجد مذياع صغير.. يلتقطه.. يديره ، فيصدر منه لحن حزين. يغلقه ويعيده إلى مكانه. يشعر بالاختناق. يُشغّل المروحة فتبدأ بالدوران حتى تصل إلى أقصى سرعتها. يخترق الهواء ملابسه المتعرقة ويدغدغ جسده. يشعر بتحسن طفيف. يُطفىء المروحة. يتأمل شفراتها وهي تدور ببطء تماما كما تدور أفكاره في رأسه. لم يتخيل قط أن الأمور ستؤول إلى هذا الوضع. الوقت يداهمه. هو في الحقيقة ليس سوى إنسان عادي جداً. يقرأ الجريدة يومياً– هذا صحيح– تماما كما يفعل الآخرون، ومؤخراً زار أباه وأمه في البنجاب، لاحظ أن أباه كان منزعجاً من حادثة الهجوم على «المعبد الذهبي» على عكس أمه التي بدت صامته. حاول أن يشرح لأبيه كيف أن المسلحين أساؤا استخدام المعبد. اكتشف أن أباه كان يبحث عن إجابات لأسئلة كثيرة تدور في ذهنه. جلس إليه محاولاً شرح الخلفيات السياسية لما يجري. طلب من والديه ألا يعيرا اهتماما لما يحدث وأن يظل اهتمامهما منصبا على المنزل والقرية. أراد بذلك أن يطمئن على سلامتهما، نظر أمه يضعف كل يوم، وأبوه دائم الشكوى من آلام في ركبتيه، لكنه ما زال يحظى بتقدير كبير في القرية حيث يلقبه أصدقاؤه بـ«عميد أبناء دلهي».
اليوم، وهو في طريق العودة إلى البيت بباصه الصغير، هاجمته مجموعة من العامة. شد كيس النقود إلى صدره، وحالما أخرج رأسه من النافذة عالجه أحدهم بحجر كأنه الصاروخ في رأسه، فسقط من السيارة وهو يتلوى من شدة الألم. تعاظمت الجلبة من حوله ففقد السيطرة وفقد كيس النقود بعدما سحبه أحدهم بشدة من حزامه. سقطت عمامته جانباً. لم يعد يسمع سوى أصوات تتعالى بلا نهاية، ثم لمح أعمدة الدخان ترتفع من باصه الصغير نحو السماء. نهض وبدأ يجري مسرعاً نحو البيت لينجو بنفسه من الأحجار ومن لهيب النار بينما سحب الدخان من حوله تواصل صعودها نحو السماء.
لاهثاً دفع بجسده من خلال الباب الأمامي إلى داخل البيت. كادت زوجته أن تطلق صرخة عندما رأته على حالته تلك لولا أن وضع أخوه الأصغر يده على فمها. نظر كل منهما إلى الآخر، وقررا أن من الأفضل أن يغلقا عليه باب إحدى غرف البيت حالاً. أما هو فلم ينتبه إلا عند سماع دوران المفتاح في قفل الباب. استلقى على الأريكة مُرسلاً بصره في أرجاء الغرفة، استعاد أنفاسه لكن رأسه مازال يلفه الدوار. لمح صورته في المرآة، قميصه مشقوق وجسده مليء بالكدمات، ذراعه الذي كان يعلق فيه كيس النقود تكسوه الخدوش . شعره مُرسل وأشعث ولا وجود للخيط الذي يلف لحيته. يبدو وكأنه حيوان بري جامح.
تتناهى إلى سمعه الشعارات التي تعلو بها أصوات الناس في الشارع .. «يحيا .. «، «الموت ل ..» . تتسارع دقات قلبه. يستعيد صورة الباص والنار تلتهمه. من خلال ثقب صغير في الباب يحاول معرفة ما يجري خارج جدران الغرفة. البيت يلفه الصمت. إنه صمت القبور. لاحظ أن زوجته بدلت ملابسها. خلعت القميص الذي كانت ترتديه واستبدلته بساري أبيض اللون. حلّت ضفيرتها الطويلة وطوت شعرها مثبتة إياه على شكل كرة. ابنتاه ترتديان تنورتيهما القديمتين. أما أخوه فقد فتح بوابة البيت وانضم الى المتظاهرين في الشارع مردداً شعاراتهم وكأنه هو الذي يقود المظاهرة. إنه فطِن. لا يريد لأحد أن يعرف بوجود أفراد من السيخ في المنزل. لربما كان هذا قراراً حكيماً في ظل الظروف الحالية. تماما كالحكمة التي أظهرتها زوجته عندما همّ هو بإرسال أخيه الأصغر إلى البنجاب ليطمئن على أبيه وأمه هناك. يومها قالت له: «لا ترسل سوخبانز إلى البنجاب. إنه حليق اللحية وأنت أدرى بالتهديد الذي يتعرض له غير السيخ هناك، لا يجب أن نعرض حياته للخطر». أما هو بشعره الطويل وعمامته فقد كان آمناً في البنجاب عندما زار والديه. سوخبانز بأمان هنا، بل إنهم جميعاً بأمان بسبب براعة سوخباز وحسن تصرفه. فلولاه لالتهمت النار بيتهم كما التهمت الباص. ما يزال طعم ذلك الدخان الكثيف عالقاً بفمه.
لم يُطبخ في المنزل أي طعام هذا اليوم، فلا أحد يشعر بالجوع. كيف لأحد أن يأكل في أوقات كهذه؟ يشعر برغبة في التبوّل ولكن كيف له أن يفتح الباب؟ يقرع الباب برفق فتسمعه زوجته المتيقظة دائماً. تفتح الباب وبيدها وعاء معدني. تغلق الباب خلفها. تضع الوعاء على الأرض وترتمي في أحضانه باكية. تحاول جاهدةً حبس نحيبها. تقبل وجهه وتتحسس قميصه الممزق. تمرر يدها على جروح ذراعه وهي تبكي. يطلب منها الجلوس على الأريكة. يتناول الوعاء وينزوي جانبا ليتبول. يعود فيجلس صامتاً بالقرب منها. تميل برأسها على صدره. كلاهما صامت. يمرر يده على ظهرها. يشعر بدموعها الدافئة على جسده. يرفع رأسها بكلتا يديه محاولا النظر الى عينيها.
«لا بد أن أخرج الآن ، البنتان خائفتان. أرادتا الدخول لرؤيتك لكن سوخبانز منعهما وطلب منهما الانتظار بصمت كي لا يتسبب ذلك في خسارة لنا جميعاً». أومأ برأسه وخرجت هي محكمة إغلاق الباب خلفها.
يجلس وحيداً في الغرفة لبعض الوقت منكساً رأسه. ينهض محاولاً المشي فيشعر بألم في ساقَيه. الكدمات على جسده بدأت تتورم والمشيُ صار مؤلماً. يقف أمام خزانة الكتب. تستقر عيناه على أحدها. يقرأ العنوان: «اكتشاف الهند». يشعر بشيء من الرهبة فيبتعد عن الخزانة. يلتقط وشاحاً ويلفه حول رأسه.
الأصوات تتعالى في الخارج، يلتصق بالباب محاولاً النظر من شق صغير فيه. يرى السيدة كريشنامورتي– زميلة زوجته في العمل– وزوجها. كعادة الجيران الطيبين جاؤوا للاطمئنان عليهم. زوجته ترحب بهم وتقودهم إلى داخل البيت. يرتفع بنظره إلى السقف محاولاً تخيّل لون السماء في تلك اللحظة . سحب الدخان تسرّبت إلى داخل الغرفة. بدت الأشياء من حوله غريبة. عاود النظر من شق الباب الصغير محاولاً استطلاع ما يجري في الغرفة المجاورة.
«لا تقلقوا أبداً، إننا هنا معكم. والساردار رجل طيب»، قال السيد كريشنامورتي- الذي يعمل في وزارة الداخلية– محاولاً طمأنة العائلة. لاحظ أنهم يستعملون اللغة الهندية في حديثهم. تذكر أن أفراد أسرته جميعهم يتقنون الهندية. فجأة شعر بفوران دمه.. هكذا إذن، هو اليوم مدعاة للشفقة. انتابه شعور بالغثيان. يبتعد عن شق الباب. تمر في ذهنه أحداث حياته كشريط سينمائي. يعاود استعراض الغرفة جيئة وذهاباً. تتلاشى أحداث الشريط السينمائي مع ازدياد سرعة خطواته. تذكر أنه غادر منزل والديه في البنجاب ليستقر في دلهي بسبب وظيفة زوجته وسعيا لتوفير فرصة أفضل لتعليم أولاده. كما أن فرصة أخيه سوخبانز في حياة مريحة- بعد تخرجه من الجامعة- أفضل بكثير هنا. ذهب كل هذا أدراج الرياح الآن. الباص الجديد أيضا ولّى. شدّ شعر رأسه يأساً.. لاعناً تلك اللحظة التي اتخذ فيها قرار انتقاله إلى هنا. توقف برهة ليتساءل إن كان سيبقى على قيد الحياة أم سيموت. أطلق العنان لمخيلته في حين امتدت يده لتدير المذياع الصغير. الحاكم الجديد يؤدي القسم هذا اليوم وسط أجواء من الحزن والحداد. أغلق المذياع وعاد ليلتصق بشق الباب. لقد غادرت عائلة كريشنامورتي. زوجته وأخوه سوخبانز يجلسان في شرفة المنزل. ابنته الكبرى تجلس في الداخل بينما تقف الصغرى معهم في الخارج بعينين دامعتين. يتجاذبون أطراف الحديث بصوت خافت. من المؤكد أنهم يحاولون إيهام الجميع بأن كل شي طبيعي.. مجرد يوم آخر كباقي الأيام. لايريدون أن يتسرب الشك إلى أحد ممن حولهم. يبدو سوخبانز في غاية الهدوء لكن قسمات وجهه تشي للمتفحص بمسحة من الحزن.
يداخله شيء من القلق. يريد أن يعرف موضوع حديثهم. يقرع باب الغرفة لكن زوجته المنهمكة في الحوار لا تسمعه. يود لو يهشم الباب بقبضته لكن قوة ما تمنعه من ذلك. يتجه إلى الأريكة ويلقي بجسده عليها. بعد قليل يفتح سوخبانز الباب. يدخل الجميع إلى الغرفة ويغلقون الباب خلفهم. أحضرت له زوجته العشاء. ينظر إلى الصينية في يدها. لم تطبخ شيئاً. ليس في الصينية سوى بعض قطع من الخبز وعلبة مُربى. تضع الصينية على الطاولة. إنه لا يشعر بالجوع. يحدق طويلاً في قطع الخبز ثم ينظر إلى وجوههم. سوخبانز– رغم محاولاته– يعجز عن النظر مباشرة في عيني أخيه فيحول نظره إلى جدار الغرفة، ثم يقترب ويجلس إلى جانب أخيه ويُقرب صينية الطعام. يبدأ في الكلام محاولاً شرح ما يجري.
«الوضع في الخارج في غاية السوء. المدينة تحترق. الجثث تملأ الشوارع ورائحة الأجساد المتفحمة تملأ الهواء. لو حدث لك مكروه لن نجد من يرعانا. ولذا فقد قررنا.. » .
يحاول قراءة وجوههم. زوجته تبدأ في البكاء وسوخبانز ينكس رأسه.
«تناول شيئاً من الطعام، قطعة خبز ربما. لا يمكن لأحد أن يحيى بدون أكل»، تقول زوجته. لكنه لا يفعل بل يواصل التحديق في وجوههم بذهول. يهمون بالخروج بعدما عجزوا عن إقناعه بتناول الطعام. تقترب زوجته وتجلس إلى جانبه. يُخرج سوخبانز مقصّاً من جيب بنطلونه ويضعه على الأريكة ثم يغادر الغرفة.
تحمرّ عيناه وتسري رعشة في ذراعيه. ترمقه زوجته برثاء ثم تغادر الغرفة هي الأخرى. ينظر إلى صينية الطعام التي أمامه ثم إلى المقص على الأريكة. يشعر أن جميع أحاسيسه قد غادرته. يلتقط المقص ويقف أمام المرآة. يطوي لحيته في قبضة يده ويهم بقصها، لكن أمراً غريبا يحدث. فبدلاً من اللحية يتجه المقص مباشرة نحو رقبته.
هامش
1- سوبها سينج: رسام هندي من إقليم البنجاب اشتهر برسمه لأساطير ورموز الديانة السيخية، وتعد لوحته «سوهني ماهيوال» التي يصور فيها حكاية العاشقة سوهني – التي تعبر النهر كل ليلة لتقابل حبيبها على الضفة الأخرى – إحدى أشهر لوحاته. (المترجم)
——————————-
جلزار محمد جوريا
ترجمة : سعيد الريامي