خ . ن
الآن وقد استسلم لوران غسبار إلى نومه الأبدي أحسست بشيء مزيج من الحزن والراحة. الراحة لراحة جسده لخلاصه من معاناة استمرت حوالي ثماني سنوات غرق فيها في وهدة الزهيمر. فجأة صارت الشاشة سوداء. لم أعد أستطيع التحاور معه. غاب لوران إلى الأبد رغم حضوره أمامي في غرفته بدار العجز شارع شارش ميدي بباريس… وأنا أحاول أن استعيد أشياء من ماضيه وماضيا، كان يبدو قريبا نائيا وهو يتأمل من النافذة الأشجار العملاقة وضوء الغروب المتلاشي في حديقة الدير الذي يقع وراء المشفى مباشرة والذي يعود للقرن التاسع عشر. أتذكر زيارة أخرى له؛ كان الوقت بعد الظهر ونور حزيران يغمر الزجاج الذي يفصل الحديقة عن قاعة الاستقبال. جلست إليه لم أكن أدري ما أقول؛ أحيانا أذكر بعضا من عناوين كتبه علي أفتح خط تواصل… ظل برهة يتأمل حوض الأسماك التي تزين القاعة وهي تنزلق في حوضها منبهرا وابتسامة سعيدة تضيء وجهه تعيد لي تلك الأيام البعيدة في بيته بسيدي بوسعيد ظل يتأمل الأسماك وهو يقول لي أنظر وأتطلع لتلك الأسماك ذات الحراشف الفضية المضيئة كما لو انها تعوم في المحيط. لعله كان يتأمل ضوءها؛ تذكرت قصيدة البيت قرب البحر والمقطع الذي يتحدث فيه عن حركة ظل الفراشة على الماء في شاطئ البحر الأحمر. هكذا هو لوران يلتقط الجزئي الشاعري ومن خلاله يدخل إلى سردية الحياة فهو يرى أن الشعر والحياة شيئا واحدا…
ومرة أخرى كنا في حديقة المشفى التفت فجأة يتبع بعينيه دجاجة تدرج في الممشى الترابي وقال هي تأتي كل يوم في مثل هذا الوقت من بعد الظهر. تذكرت، جل قصائد لوران تنقدح من ملاحظة جزئية في الطبيعة مثل حركة ظل فراشة البحر الأحمر فوق الماء. قلت في نفسي هل هو السيلان الشعري للحياة في أعماق الانسان يستمر في غياب الذاكرة الآنية؟ إنه سيلان كوني يتخلل النصوص الشعرية والأعمال الفنية عبر العصور والثقافات وأن انتماء الانسان الحقيقي هو لهذا العالم الروحي الخيالي عالم الأدب والفن، لعل هذا هو ما يجعل الانسان يتواصل مع أعمال فنية من شعر وتشكيل مهما كان انتماؤها لعصور وثقافات متباينة ومتنائية في الزمان والمكان، وإلا، لماذا تظل قصيدة الحب الفرعونية أو نحوت جزيرة الفصح تبعث تلك الرعشة الغامضة في أعماقنا؟!!!
يصمت يقول جملا كما لو كانت قادمة من بعيد يتطلع صوبي بتلك الابتسامة القديمة وبذاك البؤبؤ الخاوي، هو الذي كانت تتقد عيناه بنور سعيد ويكتب تلك الأوراق والقصاصات الورقية الصغيرة الملونة والمتناثرة فوق منضدته والتي لم أجرؤ على الاقتراب منها وقراءتها؛ فكرت بعد غيابه أن أسأل باتريسيا ابنته عن مصير تلك الورقات ثم عدلت عن ذلك. أتذكر قالت لي جاكلين أنها جمعت أوراقا مثلها منذ سنوات وشكلت منها ديوانه الأخير عند ظهر الرب أو من وراء ظهر الرب وهو الاسم الذي يطلقه الفلاحون على جبل الكاربات. وهو الديوان الذي ظهر في غاليمار ربما ديوانه الوحيد الذي لا يدري لوران بوجوده…
عندما ذهبت أول مرة إلى لقائه في مقهى تونس الذي كان يقع على ركن شارعي باريس ويوغسلافيا التابع لفندق ترنزتلانتيك البناية ذات العمارة الأرابو موريسك كان هناك قمر فوق الكنيسة وأشجار الجير وكندة الزرقاء الخبازية تتناثر زهورها فوق الرصيف وشارع قرطاج يموج بالناس وبالأضواء. كان لوران في عز رجولته… بعدها بأسابيع كان لقاؤنا الثاني في عيادة جاكلين بشارع جمال عبد الناصر أمام مبنى البريد… الأرائك المغلفة بالقماش تشينز الإنجليزي الوردي المشجر، وصيف تونس في عزّه… كانت أيام اصدار كتابه الحالة الرابعة للمادة حيث تتمازج تجربته الشعرية بتجربته كطبيب في تماس يومي مع الحياة والموت كان أيامها قد بدأ يميل إلى فلسفة سبينوزا وهو يرى أن الحياة والشعر ينبثقان من نبع واحد… وأن كيمياء الابداع الشعري هي نفسها كيمياء الخلايا لدى توالدها… لقد حور وحدة الوجود لدى سبينوزا إلى وحدة بين المادة والإبداع الفني.
عادت لي تلك الأزمنة الشعرية. الذهاب في قطار التي جي أم T G M الخشبي الأبيض الذي يمضي إلى حلق الوادي وقرطاجنة حتى سيدي بوسعيد حيث بيت لوران غسبار المزروع في سفح جبل المنار كما نسميه في تونس أو جبل سيدي بوسعيد الباجي مشاهد خط الأرض في الناحية الأخرى من ميناء تونس الذي يحاذي مستنقعات سان غوبان وطيوره الشتوية الهائمة على حافة اليابسة باحثة عن غذائها من الحشرات تحت سماء رمادية: مشاهد صورها الفنان بوشارل وجماعة مدرسة تونس و مشهد القوارب التقليدية التي كانت تحمل الزيوت والأصواف إلى الإسكندرية وتلك الباخرة الإيطالية بأبراجها ومدخنتها البيضاء والسوداء والحمراء التي تتراقص حولها الطيور… وهي تنساب فوق مياه القناة المحاذية لخط القطار وصفيرها الذي صحبني في طفولتي كان يصلني حتى باحة البيت المشمسة كانت سنوات اكتشاف الشعر في العالم والعالم من خلال الشعر. كان لوران غسبار بجملة بسيطة قد نبهني إلى أن الشعر يأتي من الحياة بل هو تمظهر الحياة في اللغة ولا يأتي من البلاغة التي تعلمنا في المدرسة وعن طريقه اكتشفت الشعر اليوناني أحببت قصيدة يوميات بحار لصديقه جورج سيفيريس نشرها أيامها في مجلة ألف التي أصدرها في تونس. كان صديقا لسان جون بيرس وعندما مرض بيرس في اخريات حياته بسرطان المخ عاده ببيته في شبه جزيرة جيان في خليج مدينة طولون الفرنسية وبعد غياب بيرس دعا زوجته دوروثي النيويوركية إلى زيارة تونس واجتمعنا بها في بيت جاكلين قرب البحر في حي الميغارا شمال المرسى في تلك القاعة الرخامية حول النافورة وكان حديث عن بيرس روت دوروتي أن ديوانه الأخير ( أنشدته التي كانت هنا ) كان في حجمه الأول ضعف ما نشر ولكن بيرس الذي يشتغل كثيرا على تشذيب نصوصه فسخ الكثير ليظهر الديوان في ذاك الشكل المختزل…
وهناك رأيت الكتاب الروس ذات مساء لأول مرّة تحت الضوء البرتقالي جاءا في زيارة للوران وبعد كلمات ترحيب بالفرنسية انطلقا يتكلمان لغة بدت لي أصواتها التي تتردد فيها حروف السين والزاي والباء كما لو أنها لغة سلافية ربما كانت الرومانية لغة لوران الأصلية كان الكاتبان يرفعان أيديهما في الهواء ويتكلمان بحماسة كبيرة وفهمت من لوران عندما غادرا أنهما كانا يتحدثان في السياسة عن أوضاع الكتاب الروس كانت الحقبة ما قبل البسترويكا بقليل…
أتذكر المرأة النحيفة ذات الملامح الآسيوية وهي تتحرك بصمت في الغرفة المستطيلة المكتظة بالكتب إنها فانكام ارملة هنري ميشو الفيتنامية جاءت بعد غياب زوجها… يعودني الماضي مثل شريط سحري، هناك التقيت بالرسام الصيني الفرنسي زاووكي وأجريت معه مقابلة في الركن من قاعة المعيشة التي هي في الآن مكتبة لوران وصف مجموعة غاليمار الشعرية البيضاء على الرفوف التي ورائي ولوران يضرب على آلته في الناحية الأخرى ومن ورائه مربعات الزجاج المفعمة بزرقة البحر وزرقة المساء وطقطقة الآلة الكاتبة الصغيرة وجاكلين مع تمضي وتجيء وتتكلم مع المرأة الآسيوية، كان لوران كثيرا ما يعود إلى نصحي بقراءة اسبينوزة وهو يرى أن اسبينوزة ضرورة للفكر النهضة العربية الذي لم يكن نهضة بقدر ما كان استعادة للماضي… قلت له يوما أن التأثير الثقافي الفرنسي في تونس كان كارثيا، أوجد نوعا من المثقف المسخ لا هو عربي ولا هو فرنسي و أن المستعمرات الفرنسية القديمة أربكتها سياسة التبشير الفرنسي… كان هو أيضا يرى أن الفرنكوفونية أوقفت نمو الثقافات في لبنان وشمال افريقيا عن طريق سياسة التبشير وخلق وهم الحداثة لدى النخب في تلك المستعمرات القديمة… ذكرت له في حوار آخر أن المثقف الفرنكوفوني لا يتعلم اللغة الفرنسية كأي لغة أجنبيه و إنما يتعلم أن يصير فرنسيا عن طريق تبني النموذج الفرنسي في الحياة، وهو يغترب عن نفسه بقدر ما يوغل في هذه الثقافة… لذا عندما طلب مني المشاركة في تحرير ألف و حررت العدد الأخير بعدها بسنوات التقيت بالشاعر الفرنسي الآخر برنار نويل و استقلال الجزائر وسجن ضمن قضية أصحاب الحقائب برنار اختزل الأمر قال التبشير الفرنسي La mission française هو اغتصاب ثقافي… لم يكن لوران مثقفا فرنسيا كان مثقفا كوسموبوليتيا يتكلم الفرنسية وهو كمثقف حافظ على استقلاله الفكري ونظرته النقدية…
ذات صباح هاتفني لوران ليسأل هل أرافق صديقه ميشال بيتور إلى القيروان؟ لم أكن أعرف بيتور ولم أقرأ له شيئا… وهكذا وجدت نفسي في شارع رومة أمام الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية وذهبنا إلى القيروان؛ وجلست إلى ذلك الرجل بلحيته الكثة وكلامه الناعم يحاول أن يعرف شيئا عن الأدب العربي قلت له لم نعرف الرواية كما هي في الغرب كانت لنا شيء قريب هي المقامة وهي قص أحداث ولكن بلغة وأسلوب مغرق في البلاغية ليس فيها أثر التجربة اليومية. الكتاب الذي كان بلغة الشعب هو ألف ليلة وليلة كان الراوي يجلس في القهوة ويجتمع حوله الناس ويسرد القصص في تونس نسميه الفداوي ويسمى في الشرق العربي الحكواتي. التفت إلي ميشال بيتور. اتذكر وجهه بسحنته الآسيوية واللحية الصينية الخفيفة وقال بصوته الهادئ الناعم والسيارة توغل بنا في مناطق السباسب التونسية الصفراء: ونحن أيضا لم نكتب الرواية باللغة اللاتينية الرواية هي ملحمة الحياة اليومية تعتمد الكلام Le langage وليس اللغة La langue . نموذج أبطالها الدون كيخوتي. سرفنتيس هو الذي ابتدع دون أن يدري الرواية كما نعرفها اليوم في الغرب والشرق…
في القيروان أحب المخطوطات الأغلبية ذات الخط الكوفي المزهّر التي على الرق… لا أدري كيف وصلت تلك المخطوطات إلى متحف قطر الإسلامي وللتعمية كتبوا تحتها مخطوط مغربي وهو في الحقيقة قيرواني أغلبي…
باختصار كان لوران من تلك الأرومة من الشعراء الذين يجمعون بين الحس الشعري العميق بالعالم والرؤية الفكرية التي تتخلل القصائد كما كان شأن كل الشعراء الكبار عبر التاريخ من تأملات أبي العلاء إلى رؤى المتنبي حول الانسان إلى رؤية دانتي الكونية لذا تراه يحاول كامل الوقت يبدع شعرا يمنح القارئ شيئا يوسع مداه.