طاهر العميري *
لا تستطيع القصيدة الشعبية الحديثة أن تكون في منأى عن الهم الإنساني ملامسة وترجمة ومشاركة، فالتحولات الأخيرة التي تمر بها تستوجب أن تنيط بها مهمة ملامسة الشعور الإنساني، ذلك الشعور القادم من عمق المعاناة الإنسانية والبشرية والذي تشكل الكتابة الشعرية والأدبية جزءاً من ترجماته. هذه الكتابة الجديدة التي تحاول أن تحاور الوجود وأن تسبر كوامنه بوصفه حقيقة وأن تقدم شكلا كتابيا متقدما ومغايرا قادرا على ترجمة هذه الحقيقة ملامسا عمقها لا قشرها متجاوزا أشكال الكتابة التقليدية التي لا تذهب بعيدا في محاولة نبش هموم هذا الكائن وتعرية خفاياه.
تشكل القراءات الحديثة قيمة معرفية كبيرة بما تسقطه من ظلال على ما يُكتب من شعر عامي حديث، فالسياق القرائي والمعرفي العام يحدث أثره في كافة أشكال الكتابة الإنسانية، والذي نكاد أن ندرك أثره في التحول الكبير الذي تعيشه القصيدة الشعبية الحديثة سواء على المستوى اللغوي أو على قيمة الأفكار التي أصبحت تستحضر قضايا تهم الكائن البشري في المقام الأول، إذ تغوص بعيدا في همومه ككائن “مفرط في إنسانيته”(1)، فتحاور قلقه الوجودي والكوني ورؤيته تجاه قضاياه المصيرية والحياتية، كما أنها لا تغفل تفكيره الماورائي ممثلة في الكثير من الأفكار الميتافيزيقية التي تشغل ذهن هذا الكائن.
إن فعل كتابة القصيدة الحديثة لا يمكن أن يتم بعيدا عن كل هذا، فهذا الكائن القلق المهزوم الذي يشعر بمأزقه الوجودي والمحاط بالكثير من القضايا التي تشعل حساسيته الإنسانية لا بد أن نجد أثر كل ذلك في منتجه المعرفي والكتابي، هذا الكائن المشغول بذاته وبهمومه كقضايا الفقر والغربة والموت والرحيل الى جانب قضاياه العاطفية المتمثلة في القرب والهجر والخيانة والشوق والغياب.
تشكل هذه التحولات الجديدة والتي نرى أثرها في القصيدة الشعبية الحديثة قيمة جمالية فريدة وذلك من خلال تجسدها في بنية النص الشعبي الحديث، إذ تعيد صياغته بنائيا وإيقاعيا ودلاليا وجماليا، فيغدو النص الشعبي الحديث أكثر شمولية ورؤيا في طرح قضاياه، كما يغدو أكثر جرأة في طَرقه للأشكال الكتابية الجديدة وفي قدرة هذه الأشكال الحديثة على احتواء الأفكار التي تشغل الشاعر الشعبي الحديث.
بطبيعة الحال – وبعد كل هذه المقدمات القرائية والتأملية– سنرى نصا عاميا يساير مرحلته ويقدم منتجا كتابيا يتمثل هذه الحالة الثقافية، وفي تجربة الشاعر حمد الخروصي ذلك الحضور الطاغي لهذا الفعل الثقافي. فالخروصي يكتب قصيدة جديدة تستحضر الهمّ الإنساني بكامل تنويعاته وتتناوله تناوليا شعريا، هذا التناول الذي يحاول من خلاله أن يوصّف الحالة الواقعية والجمالية للكائن البشري من خلال لغة ذاتية تارة وجمعية تارة أخرى. هذه الأنا – في قصيدة حمد الخروصي – التي تواصل تحولاتها بين ذاتية في آن وجمعية في آنٍ آخر تقدم صورة واقعية من خلال رؤية عين شاعر يبصر الموجودات ويتأملها، يحزن لأجلها وينوب فمه للصراخ باسمها، “لذلك ما كانت القصيدة لديه تجربة جمالية فنية صافية فحسب، بل كانت في أحيان كثيرة، فاعلية سياسية/فنية، تسعى بحرقة واضحة إلى هدف يقع خارج القصيدة؛ هدف، أو أهداف، تمس واقع الناس وتلبي مطالبهم في الحرية والعدالة” (2).
إنسانية مفرطة
في تجربة حمد الخروصي يبرز الجانب الإنساني كإحدى الثيمات المهمة التي تصف تجربته الشعرية، ونكاد نلحظ انغماسه الشديد وبالذات في قصائده الأخيرة التي التزمت المنحى الإنساني الصرف، إذ تماست تماسا مباشرا وانحازت للإنسان محاولة إبراز جانبه المأساوي نحو الحياة، وفي قضية كهذه لا يمكن الفصل فيها بين الذاتي والعام يظهر صوت الشاعر كحالة إنسانية مشبعة بالوجع يختلط فيها الألم بالرفض والصراخ بالوجع:
الوحدة: نار
الواحدة قبل السهر كل حي يِموت
رغم المصابيح الكثيرة
يصحى الظلام والحزن
في بعض البيوت
وأشباه ناسٍ
يفرشون الليل ضحك
ويعلكوا سُم الدخان
إن عين الشاعر اللاقطة المشبعة بالوجع والوحدة والتي تتمثل الحالات الإنسانية حولها وتتشارك الحلم والأمل معها تحاول أن تترجم تنوعات الحياة بين قلقها ورغبتها في البقاء، وبين محاولات رفضها للواقع الذي تعيشه.
أصبح الشاعر الحديث بعد تحولات الكتابة الشعرية الحديثة جزءا مهما وفاعلا في محاولة تلمس الوجع والهم الإنسانيين وأصبح أيضا بوعي منه يحاول أن يغوص بعيدا في قضايا مجتمعه وهمومه، ولأنه فرد في هذا المجتمع فهو مفرد ناطق بصيغة جمع بل “أنا جمعية” في مواجهة هذا القلق الوجودي للحياة.
“نسمع ممدوح عدوان يقول في مقدمة ديوانه (الظل الأخضر): إن الفنان إذ يكتشف صفاءه، يكتشف عكر العالم، وتصطدم صلابة صفائه بصلابة العالم . . وهذا الاصطدام يولد الشرارة المضيئة للعالم.. إن الفن ينبع دائما من هذا الصدام، من الرغبة في أن لا يفقد الإنسان صفاءه.. ويصبح هذا الهم الذاتي جدارا لهموم الناس جميعا”(3)
تثمر الرحلة غريب اسمه أنا
شوفني في كلّ شي أحمل مكاني
البيوت . . غبار. . شارع حيّنا
أصدقائي . . لذة اللعب . . الأغاني
شكلنا والباص يحمل حلمنا شكلنا والباص ينسفنا أماني
للشعر وظيفة واحدة هي الدفاع عن إنسانية الإنسان في هذا العالم -كما يقول الروسي ماياكوفسكي، وهذا الكلام يقودنا إلى فهم العلاقة بين الشاعر والمجتمع، الشاعر بوصفه “رائياً” في مقابل المجتمع كحالة إنسانية جمعية، فتبرز ظواهر كالعدالة الاجتماعية والفقر والتفاوت الطبقي تتوقف أمامها عين الرائي/الشاعر ويحاول الاقتراب منها متلمسا إياها وكاشفا عنها.
يالباطنة يا أمنا يالعانس
مرت سنين ولاطلع بك فجر !
صبحك ظلام ونور شمسك دامس
يومك طويل وذكرياتك قهر!!
حتى نخيلك صار يـ امّي يابس
والماي مالح صار وانتي قفر!
عاد الغريب ورد عنك اليائس
واللي بقى ماعاد يملك ظهر!!
هذا شبابك عالمقاهي جالس
وهذي بناتك فاتها كم قطر!!
الجهل أصبح عالمدارس حارس
والفقر ساكن من زمن عالبحر!
يالباطنة “ساحل حزين وبائس”
يالباطنة “فقر ورطوبة وحر”!!
حنّا كبرنا وصار فقرك هاجس !!
وانتي بسذاجة تكنزين التمر!!
إمّا نصومك يالبلاد العانس !!
وامّا فطرنا فيك بعد الفجر
إن الشاعر الحديث ومن خلال قصيدته وبوصفه فنانا ملتزما يغوص في عمق مجتمعه مستمدا قوته و طاقته منه ذاهبا بعيدا في سرد همومه، متحليا بالمطلق من الإيمان، مدركا أهمية وجوده فردا وكينونة، ومدركا أكثر الوظيفة الثورية للشعر كفعل إنكار ومقاومة وللعلاقة بين الأدب والحياة بوصف “الأدب نقدٌ للحياة”(4).
فـِ حارتنا الفقر يلعب
مع الأطفال
ويسولف مع الشيّاب
ياكل من تمرنا المُرّ
ويمضغ فلحنا بلا ناب
ويحرجنا
مع
الأغراب
فـِ حارتنا البيوت ابواب يا جاري
الفقر بوّاب
الموت ورثاء الذات
“فرق كبير بين أن تعيش المأساة وأن تدركها”(5)، وفي تجربة حمد الخروصي الشعرية ثمة مفارقة عجيبة بين الحضور الكثيف لفكرة الموت في شعره وبين رحيله المبكر. هل حدس الشاعر نحو الرحيل المبكر هو ما كان يجعل من فكرة الموت ثيمة حاضرة كثيرة التردد في شعره؟ تكاد لا تخلو قصيدة عاطفية أو ذاتية إلا والموت حاضر تلميحا أو تصريحا، مندس بين الفواصل والكلمات.
إن الانشغال بالموت كفكرة هي حالة إنسانية تطارد الكائن البشري وتظل فكرة غامضة تفتح باب السؤال الكبير ولا تجد الإجابة. وفي تجربة الخروصي يستطيع قارئ شعره فكّ الكثير من الإشارات حول الموت، فالخروصي في تجربته مع الموت انتقل من حال الإدراك الى حال التعايش والشعور الحقيقي بها.
شِعْر للذكرى وشعرٍ للمقابر
شوف يا (شاعر) طريقك للخلود!!
كيف تقوى بْجوف زنزانة تسافر؟
تسكن المنفى وكل ليلة تعود
وانْتَ مُفلس تحلم بعشق وتذاكر
وانْتَ ميّت تمتلك كل الوجود !!
إن حالة رثاء الذات التي تبرز في شعر الخروصي لا يمكن فصلها عن فكرة الموت التي تنتشر في الكثير من نصوصه، فما هي سوى مقدمات لهذه الحالة المصيرية التي ينتظر حدوثها، فعناصر كالحزن والغربة و القلق والمرض والرحيل والألم جميعها إشارات تحيل الى الموت الذي يراقبه ويحاول محاربته بالكتابة. كان الخروصي في سباق مع الوقت لإدراكه قرب هذا المنتظَر، فاستبق رثاء نفسه كما فعل مالك بن الريب قبله، فظهر هذا الرثاء على شكل نصوص شعرية وكتابات نثرية.
يا حياةٍ ما تساوي عود كبريت وسِجارة . .
يا مماتٍ
لو يريح
الروح
من هـــــــذي المرارة !!
يتعاطى الخروصي مع الموت في شعره كقدر قادم يختبئ وراء المجهول، كقدر قادم ينتظره، يتحدث عنه أحيانا كخلاص فردي وفي أحايين أخرى كقدر لا بد من مواجهته ولا يملك أمر دفعة فهو حقيقة وجودية تنتظره، وهو في نفس الوقت وجع ترك أثره في نفسه من خلال اختطافه لأشخاص يعيشون حوله (كأخيه وابن عمه)، فمن أجل هذا ندرك تعدد أشكاله بين قصيدة وأخرى. وفي ظل هذا التعدد وفي ظل هذه النصوص التي يرثي بها الخروصي أخاه وابن عمه فإنه يرثي ذاته أيضا، وتظهر إشارت ذلك بين ثنايا أبيات قصائد الرثاء التي يتنبأ فيها بموته هو أيضا حيث يتحول الموت الى سر يحتفظ به لنفسه.
“الوداع الروحي هو ذلك الوداع الذي تسربه الروح إلى الحياة قبل رحيلها، يظهر في التصرفات الأخيرة التي لا تفهم في لحظتها ولا تأخذ معناها الكامل إلا بعد الوفاة. هناك تحت تأثير حدث الفقد علينا أن نعيد قراءة تلك الأحداث الأخيرة والكلمات القليلة في حياة الراحل بضوء الفقد فيظهر معناها واضحاً وجلياً. كان حمد الخروصي مؤمنا في شعره بأن الروح تشعر بموتها”(6)
يا ابوي انا ميّت وهذي وصاتي
حافظ على طيبك وأوصيك بالفقر
هذا المرض يا ابوي دمّر حياتي
وش هي حياتي والجسد أحمله قبر
من يوم عمري كان كبر امنياتي
لين امنياتي اليوم صارت بلا عمر
يا ما بكيت من التعب في صلاتي
هذي صلاة الموت يا ابوي في السر
آسف خذلتك معْ خَواني وخَواتي
آسف . . يـَ أولادي و يـَ اهْلي . . وَ يا الشعر
باكر مماتي وْراس ماليْ وِصاتي
والفقْر ثم الْفقر ثمّ الفقْر
وإذ يأخذ الموت أشكالا كثيرة في شعر الخروصي فهو يأخذ أيضا بعدا أسطوريا عميقا، فنرى حضور الموت من خلال الأسطورة التي يتخذها الخروصي قناعا ليمرر من خلالها ذات الفكرة التي تسكنه، فقد “صار في مقدور الشاعر ابتكار قناع خاص به ابتكارا محضا، أو استعارة شخصية من الماضي والتعبير من خلالها باعتبارها قناعا”(8)، فنجده يستحضر شخصية (إلعازر) -الذي قام من قبره ليعود الى الحياة- من خلال مونولوج داخلي، ومرة أخرى في نص آخر يستحضر شخصية (جلجامش) الباحث عن عشبة الخلود والحياة الأبدية، ونص (يوميات شاعر مسحور) الذي يستحضر فيه أسطورة “المغيّب” في الميثولوجيا العمانية.
نقرأ في نص “لعازر”:
اِتكدس الموت في عيني
وانْسـلّــت الروح يا مريم
واتبخّر المايْ من طيني
والدود حاصرْ سُواقي الدم
ما عادت يْديني . . يْديني
والكون في داخلي أعتم
يا كثْر خوفٍ نَما فيني ومرّوني امْوات قَبْل آدم
لولاهْ عيسى مصحيني
لا زلت يا مريمي أحلم
ونقرأ في نص “يوميات شاعر مسحور”:
وانا مُعلق بين ما صخرة وجحر !!
واشْعر بريح ٍمن فراغ تمرني
واطيح في جُب احتضار الأسئلة !
منهو أنا يا يا
يا أنا ؟
متى اختفى ظلي ومُتّ؟
كيف اندفنت؟
وكيف جيت لكهف هذ الانتظار ولا أثر للقبر
ولاتراب ولاحديث اتذكّره لْأهلي وأحبابي و أصحابي!!
يا هل ترى
لي أم هي تبكي عليّ كل ليل
لي إبن هو يذكرني لاصْحابه
من وين انا وفي وين ؟
ما الذي يجعل الشاعر يكتب موته؟ هل هو الحزن؟ الضجر من الحياة؟ الألم؟ السوداوية التي تحيط بوجوده البشري نتيجة الخذلان والانكسار؟ كل هذه الأشياء مجتمعة؟!
تشكل ظاهرة الحزن في الشعر العربي المعاصر نواة للكثير من النصوص الشعرية، وهذه النزعة باتجاه الحزن يختفي وراءها ذلك الشعور “بالغربة والضياع والتمزق. . وحين يستجيب شاعرنا المعاصر لهذه المحاور فإنه يصدر في استجابته لها عن موقف ذاتي لا يمليه عليه إلا الذات نفسها”(9)
ما عدت اشوف السما والأرض ضاقت بي
واشعر بِأني مُجرد ظلّ في غابة
إن كان باقي عُمر أطلبْك يا ربي
خذني إليك (وعطَهْ) إنسان يحيابه
كرهت نفسي وضايق واحترق قلبي
وأشعر وجوه البشر أشباح تتشابه
ثِقلت ما عدْت قاويْ أَمشي بْذنبي
تعبت ما عِدْت قادر نوم أهنا به!!
أمّا الوطن صار دربه بْعيد عن دربي
فيه السّما مظلمة والأرض كذابة!!
الحُب كخلاص فردي
هل يمكن التعاطي مع تجربة الحب كشكل من أشكال الوجود الإنساني، بما يمثله الحب من نزوع بشري نحو الآخر؟ الحب بمعناه الإنساني وبما يحمله من معنى مساوئ للديمومة والاستمرار في مقابل الموت الذي يعني التوقف والنهاية.
تمثل عشتار في حضارة ما بين النهرين والتي تأخذ شكل (أفروديت وإنانا وفينوس) لدى حضارات أخرى، تمثل رمز الحب والجنس والجمال وتحمل في باطنها معاني الخصب والديمومة والاستمرار، فهي آلهة الحب والأنوثة والخصوبة، وكل هذه المعاني المتولدة تحمل رمزية نقيضة للموت، ولا يمكننا الفصل بين الحب والجنس الذي هو فعل استمرار للوجود البشري.
من أجل هذا تحمل قصائد الحب غير قيمتها الجمالية قيمة إنسانية أيضا، فهي تترجم تحولات الكائن البشري ونزوعه نحو العشق والجمال، وهي القادرة على التعبير عن كتلة المشاعر المتناقضة بين الجنسين.
إن تجربة كتابة قصائد الحب عند الشاعر الحديث أصبحت تتجاوز الـ “غزل”، “النسيب” و”الوقوف على الأطلال” الى معان كلامية أخرى، فأصبحت أكثر قربا من المشاعر الجوانية، هذه المشاعر المتمثلة في: الشوق والرغبة والخيانة والخوف من الفقد والمعاني الأخرى التي ترتبط بالشعور الدخلي في مقابل الغزل الحسي.
لكن ماذا عندما يتحول الحب الى منتِج للحزن وللكره ومعادل للخيبة وللخيانة وللموت، في وقت يفترض أن يكون الحب مبددا لكل معاني الحياة السلبية لا منتجا لها؟ هنا تبرز فلسفة الشاعر ورؤيته تجاه الحياة وتعاطيه معها وتعاطيه مع الحب ومع حالة العشق بوصفها مكونا من مكونات الحالة الإنسانية، فتبرزعندها صفة الكرة كقيمة إيجابية محفزة نحو الثورة والرفض والتمرد.
على أي حال مشكــــورة أنا استاهل تخونيني
ينام العاشق بطعنةْ وِيتْعوّد على الأحـــــزان
وانا اتنفّس كتبت اغلى القصـــايد لجْل تقريني
وانا ميّت وذي آخر قصيدة واحفظي العنـــوان
“كرهتك” كثـْـر مـا حزني طويل وْيحفر بعيني
“كرهتك” كثْـر مـا كُرهي يثور بداخلي بركان
ويتنامى هذا الرفض والذي تشكل فيه (الخيانة) حجر زاوية، فالحاجة الى الاتحاد بالمحبوب والتي تنتهي بالفشل تفرز كل المعاني السلبية فيغدو فرح المعشوق وعرسه موتاً في عين العاشق وتغدو تجربة الحب الجديدة خيانة وتصبح كل مظاهر الفرح حزنا لا يغتفر، ولا يبقى سوى ذلك (الحب القديم) عزاءً صغيرا يحتفظ به العاشقان لنفسيهما.
وانا اتصور تمريني جنازة ليلة الفرقا وْزفاف الحزْن والدّخلة ( كذا عرسك)
وانا واقف على ركن الطريق وْلا بقى فيني مكانٍ يحتضن هالمشهد المؤلم
أنادي بالدموع اللي تسافر خلْف هالليلة الحزينة وصورتك . . لونك. . دفا حسّك
ولا ألقى سوى بعض الغبار اللي تناثر يوم مروا يحملوا نعشك ولا اتكلم
هناك انتي تناجيني وأدري انك تحبينيْ كِثِر شعري وْكثر ما تكرهي نفسك
وإنك ما بخلتي بشيّ غير ان الزمن طبعه مع العشاق (لحظة عدل/ ليلة ظلم)
وانا لو قلت لك : مبروك أو حتى : فمان الله أو حتى : رحمْك الله في عرسك
عزاي إني أحبك موت . . عزاك إنك تحبيني . . عزانا كنت قبل الكارثة أحلم
ثمة ربط عجيب في تجربة حمد الخروصي بين الحب والموت، بين الحب والحزن، بين الحب والخيانة، وبين الحب والغياب. تأتي هذه المفردات أحيانا مجتمعة في قصيدة واحدة، إلى جانب تلك الذاتية العالية التي تطفح بها أكثر نصوصه العاطفية، ففي نصوصه العاطفية ذلك الحزن الوجودي الشفيف العالي الذي لا تخطئه عين قارئ. وبرغم هذه الحالة يظل الخروصي محتفظا بالحب كقيمة رغم الطعنات التي تأتي، والتي تأتي على شكل (خيانة) في أكثر نصوصه، ويظل وفيا رغم جراحه التي تنزف بل ربما تصبح هذه الجراح (أغلى الجروح الوفية).
أحبك تنطق جروحي أحبك تصـــــرخ آلامي
أحبك والعُمُر مـــــا عاد يسوى لحظة غْيابك
يـَ إنتي وش بقى منّي بعد يستاهل اعــــــدامي
وانا الميّت في هالجثّة وانـا المدفون بترابك
أبيك (الرغبة. . الغُربة) أبيك الشارع اقـــــدامي
أبي لو (مرّة المرأة) أبيك اوســــــع من ثْيابك
يـَ إنتي وْعطـــــرك بْصوتكْ وِحزنك طفل قدامي
يكسرّني وأجمّع له حيــــــــاتي ضمْن ألعابك
ذكرتك يوم قلتي لي : (مصيري بيت أعمــــامي )
أكيد انّك بِتطرينيْ فـِ جلسة حزْن لاصْحـابك
قبل لا تنطفي الشمعة دخيلك داخلي نـــــــامي
أنا ما عدت متاكد أمــــــــوت الا على بابك
إن حالة العشق/الإنكسار التي تغلف معظم نصوص الخروصي العاطفية تقدم صورة لروح مكسورة تسكن جسد هذا الشاعر/العاشق، هذا الشاعر الذي تطفح معظم نصوصه بمفردات من قبيل (الغياب، الغدر، الخيانة، الجراح، الأحزان، الرحيل، الطعون) لا بد وأن تختبئ وراءها روح مثقلة بالتعب، روح باحثة عن الخلاص؛ الخلاص في الشعر، في الحب، في المرأة، لكنها في كل مرة تعود منكسرة.
كِلْما أفتش عن مَرَةْ في جُيوبي
أخرج يديني كلّها وَحْل وطعون
حاولت أمسك شمسها في غروبي
وانير نصْف الأرض وازعّل الكون
ثامن سنة وآنا أرقّعْ فـِ ثوبي
وآقول : بنسى كلّها (بنت) وِتْهون
اِلين طاحت في عيوني هدوبي
وما عدت اشوف الا تماثيلْ وِظْنون
أرمي ورق فقريْ وَأنفخْ هُبوبي
واضرب شمال الصدْر وآقول: ملعون
“إن الحب قد يكون قوة تبدد الحزن، وتسقطه من نفس الشاعر كما تسقط الأوراق عن الشجرة، ولكن هذا شيء آني حين يقترن كل ذلك بالتفكير في الموت، وفي الحياة التي يمتلك طرفاها الرعب والسأم، وهذا وإن كان وليد فلسفة وجودية عامة، فإنه وليد الإحساس بصدمة ذاتية أسقطت الشاعر فوق الزمن”(10)
قالت : أحبك، قلت: يا بنت كفِّي
أنا بعمر آبوك والرِجْل بالقبر
قالت : أحبك، قلت: لا تستخفِّي
القلب ميّت من بعد طعنة الغدر
قالت أحبك، قلت: يا بنت طفِّي
نارك بقطعة ثلج من غيمة الشعر
قالت أحبك، قلت يا بنت: خفِّي !!
ما ناقص الا اْحبّ في آخر العمر!!
لكن وبرغم كل هذه الانكسارات والإخفاقات يظل الحب/الأنثى مطلبا وجوديا وحياتيا تتحول فيه الحبيبة الى (حاجة) ضرورية، فبها يتجسد الحزن والفرح والغياب، و معها يأخذ الحب أشكاله المتعددة (روحيا وجسديا) بين القرب والبعد، حتى وان كانت هذه الحبيبة هي أحد أسباب هذا التشظي والضياع.
أقول احتاج لك بحر وسفينة ونوخذة ومجداف
وأقول احتاج لك مثل الحزن للناي والراعي
وأقول احتاج لك حد الجنون وآخر الإسراف
ولين الشمس ما تصبح ظلامٍ والقمر واعي
وأقول احتاج لك خد وعيون وخصر وأشيا رهاف
مثل ذيك الرموش اللي ذراها أول اطماعي
وأقول احتاج لك مثل الوطن لا ملت الأكتاف
ولا صار السحاب احمر وصار الريح بشراعي
أجيك اطلب من الدنيا عشق ما يجلبه عرّاف
ولا يوصل مداه الهمس والأصوات والناعي
وأرحل تصبح الدنيا بعد جوعي رغيفٍ حاف
ولا ألقى العشق جنة وأرحل. . يثمر ضياعي
شعرية اليأس واللاجدوى
تشكل ثيمة اليأس واللاجدوى نزعة تكاد تسم الكثير من نصوص الشعر الحديث، فذهاب الشاعر نحو العبث واليأس، وراءه ذلك الشعور بالغربة والإحباط في محاولة يائسة لإيجاد عالم بديل يخفق الشاعر في صنعه.
إن روح الشاعر التي تتوق الى المطلق وإلى العالم الصافي والنقي تجعلها ترفض السياق الحياتي الذي تعيشه فتنكفئ على نفسها مفضلة الوحدة عوضا عن الخسارات الكثيرة التي تلحقها بها الحياة، فالشاعر يستنكف “من أن يغدو صوتاً عاماً له ما لبقية الأصوات وعليه ما عليها، أي من أن يخسر فرادته وتميزه من الآخرين”(11)
وش غايتي والعمْر سُحبٍ من دخان
والموت كلّ ليلة يِنام بْشرْشَفي؟!
هذا النّصيب اللي زرعني بْذا المَكان
في وسْط ناسٍ يِجْهلوا حمْل اكْتفي
اللي أخذ منّي حَياة العنفوان
واللي عطاني دور إنسانٍ وَفِي
راهنْت عـ الطيبةْ وَلا كْسِبت الرّهان
خسرت أصحابي وقررت انْكفي
ما عاد في قلبي حبيب الا وخان
ما عاد في عيني قريبٍ أصطفي
ترفض روح الشاعر السياق العام الذي تعيشه فتحاول أن تتمرد عليه رغم “النصيب” الذي جعلها تعيش في “وسْط ناسٍ يِجْهلوا حمْل اكْتفي”، إلا أن هذا التمرد لا يعود إلا بالخسارات. والشاعر بما يحمله من صفات النبوة والاستشراف والوعي يشعر بغربة الروح وأن الطيبة والسذاجة لم تعد تجدِي نفعا فقرر مواجهة الخسارة، بما فيها خسارة الأصحاب واختيار العزلة والانكفاء كملاذ أخير.
لمّا يضيق الكونْ ويرفضني الشـارع
أرجع لبيتي بضيقْ واحاصر الغُرفـة
أغلق ورايِ الجرح وبْحلمي الضايـع
أشب بعض النور والياس بالصدفـة
حالة الانكفاء هذه التي تجعل من “الغرفة” وطنا بديلا، وراءها سيل من الجراح والإنكسارات، فرغبة الشاعر في إحداث التغيير والتي يقابلها الشارع بالرفض تشعل حالة الضيق التي يشعر الشاعر بعدها أن الكون باتساعه أضيق من أن يحتمل وجوده. إن الشعور باللاجدوى من القيام بفعل التغيير والذي بدوره يفرز حالة الوحدة يوقظ في الشاعر ذلك الهم المخبوء في داخله، ذلك الهم الذي يكبر ويصر على التعملق أكثر فأكثر لدرجة أن يتحول إلى احتراق داخلي. هذا الاحتراق الذي يلتهم الشاعر من داخله كما تلتهم النار الحطب، فيخرج على هيئة دموع يظنها الشاعر عزاءً، إذ يتحول الدمع إلى سحابة لا تكف عن النزف والبكاء محرقة كل ما تجده في طريقها.
مِثِل ما تاكل النار الحطب تاكلني هْمومي وانا كلما بغيت اطفي همومي أشتعل أكثر
أقول الدمْع ما غير الدّموع تبلل عزومي حسافة لا غدى دمعي سحابة تنزف وتكبر
يمر الدمع أعتاب الجروح ويحرق هدومي ولا ألقى سوى بعض الدخان يواري الدفتر
يجد الشاعر في الموت نجاة من الوقع الأليم الذي يضطهده، فهو يذهب إليه هاربا (وهذه حالة يأس بطبيعة الحال)، فتتساوى الحياة والموت لديه وتتماهى ذاته مع الموت فيتحول الى شجرة عارية تساقط ورقها (طاح الورق. . أنا شجر عاري)، فوطن الشاعر الذي لا يكترث بأفكاره يعزز شعور الغربة الذاتية لديه، فهو مفقود داخل وطنه وهو حي لكنه مقبور.
فكّيت لاجل الموت أزراري واخرجت روحي وخاطري مكسور
كسّرت لوح الشعْر يـ احْباري وكبّلت في روح القفص عصفور
مابه وطن محتاج لافكاري مابه جَماد يجسّدك يا شْعور
ما به غريب الااااي في داري
ما به فقيد بداخلي مقبوور
إن حالة الخذلان تبدو أليمة وموجعة، حين يشعر الشاعر أن هناك يدا تمتد لتكمم فمه وتمنعه من الصراخ والألم، و يصور حمد الخروصي هذه المعاناة في قصيدته (أنا الحطاب يا غابة) حيث يتحول الكلام في قصيدته الى غابة من الاشجار يحتطب الشاعر منها ما يشاء، فلا الشاعر تكل يده ولا الغابة تكفيه. لكنه الخذلان الذي يوجع الشاعر ويقف أمامه عاري اليدين في وقت استطاع فيه الشاعر أن يفضح الكثير من المسكوت عنه وأن يعريه. لكنه يعود في النهاية منكسرا ومنكفئا على ذاته.
وانا احْطب من لُغة شِعري كلامٍ – لين ورّيته يـَ فاسي مَـ اتْعبَتْ إيدي ولا هالغابة تكفيني
أبرحل في طريقٍ بعْد ما دستهْ وِمريته مـَ دام الخطوة تحملني، مـَ دام الوقت يمديني
مـَ دام انك فضحت الظلّ يا فاسيْ وِعريته وشكّلت اللغة أُنثىْ!! يِنام البحر في يْديني
خذلتك يا زمن قحطيْ بَعد ما الجرح أبريته!
ورجعت اكتبْك يالغيمةْ وَأهذي في وحل طيني!
بعد حالة اليأس و الخذلان و اللاجدوى هذه، لن يتحول الشاعر إلا إلى راثٍ لنفسه، فهو بعد حالة النفي التي يعيشها وفي عدم قدرته على تحقيق حلم جماعي و تحويله إلى واقع فردي معاش، تستفحل عنده حالة الاغتراب الداخلي، فيعيش حالة التشرد الذاتية، فيموت آخر بصيص أمل كان يعوّل عليه، فيحمل نهايته بيده ويبكي الطريق الذي شابت أهدابه من كثرة الركض عليه.
طــــــــال الطريق وشابت ايامي
ما عاد شيٍ هالعمر يســـــــوى
موج ٍ يذر الملح بـاحــــلامي
وقلبٍ بلا أي أرض أو مأوى
اتبع بصيص آمااال قداامي
واقول أقوى لو أنا ما اقوى
حامل حصاري ولابس اعدامي
وذيب القصايد داخلي يعوى
جايع ظما غرقان باوهامي
شكّيت صدري حابس الشكوى
أنا الغريب وساكن اقدامي
ذنبي كفرتك يا نبي حوا
مات البصيص ويا سنة : نامي
ظاهر عليه العمر ما يسوى!
المصادر:
1 – إنسانيّ مفرط في انسانيته، فريدريش نيتشه، ت علي مصباح، منشورات الجمل 2013م
2 – الشعر والتلقي: دراسات نقدية، علي جعفر العلاق، ، دار فضاءات للنشر والتوزيع 2013م.
3 – اتجاهات الشعر العربي المعاصر، احسان عباس، دار الشروق للنشر و التوزيع، الطبعة الثالثة 2001م.
4 – “الأدب نقد للحياة” عبارة مأثورة للناقد والشاعر الإنجليزي كولردج، المصدر: الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، عز الدين اسماعيل. دار الثقافة.
5 – الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، عز الدين اسماعيل. دار الثقافة
6 – “لماذا على الشاعر أن يرحل مبكراً؟”، مقال لإبراهيم سعيد، المصدر كتاب: طاح الورق أنا شجر عاري، دار سؤال 2016م
7 – الشعر والتلقي: دراسات نقدية، علي جعفر العلاق، ، دار فضاءات للنشر و التوزيع 2013م.
8 – الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، عز الدين اسماعيل. دار الثقافة
9- نفس المصدر.
10 – اتجاهات الشعر العربي المعاصر، احسان عباس، دار الشروق للنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة 2001م.
11 – في القصيدة العمانية الحديثة، خالد البلوشي، جامعة نزوى بالاشتراك مع منشورات الجمل 2015م.