تسح رغوة الصابون، هشة، بانتفاخات طفيفة، هابطة السفح الآدمي، لتتلقفها بلاطات القيشاني، ملساء بازرقاق متومج، تقودها إلى عتمة مستديرة، تبقبق فيها المياه، مجهدة عقب مهامها اليومية، فيما يده منهكة تدعك الجلد، الطيات الخفيفة، تلمسها برفق وحنو، الأصابع مرات، هو الآن واقف، تصطحب أعضاؤه غبطة، آن تمسها كثافة ناعمة من منشفة ثخينة بوبر غزير، أحدى يديا ترتفع قليلا، بأهراف أنامله يتفقد الخيط العريض، قصيرا وأسود، فوق شفتيه، يعيد شعيرات شتتتها رعونة الماء، حال انثياله ساخنا بقوة، من السخان الكهربي، وإذ استعد لمواجهة البرودة القارصة، يحسها تتهدده، لحظة تهر من اسفل الباب، خاطفا، بانتعاس، نظرة منيرة لوجهه المدعوك وذقنه الحليقة، من مرآة لصق الباب تحفها أرفف صغيرة عمقها أنبوبة أسطوانية لمعجون حلاقة، وأخرى للأسنان، وعلبة أمواس مختومة، ومكنة بشفرة عارية، وشعيرات مجزوزة متيبسة، لاصقة بحافتها، وقنينة مطهر قاتمة، وسائل يشف لونه خلال جدران البلاستيك، إذ تحرمي فراره.
وإذ ذاك، حين غمرت يده صلابة وملاسة مقبض الباب، شادة إياه قليلا إلى أسفل، وقبل أن تنفتح أمامه طرقة عريضة، حيث البرد تقعي تأهبا، بعد أن جال الحجرات، تاركا أنفاسا عالقة، في الهواء، هاله المنظر خلفه، في المرآة، وإذ لم يلتفت كان بؤبؤا عينيا يحقدان، أبخرة رقيقة تصاعد، تتلوى متكاثفة في الفضاء الصغير، الواجهة الصقيلة للمرآة، تزاحمت عليها الأنفاس، حارة تغبشها، فامحي الوجه، بمشقة راح يشحذ نظرته، فيبصر سحبا رابضة، رويدا تدنو منه، كما لو أليفة تهبط من السماء، لتنحني عليا، دهشا كان يشعر بخفة ذراعيه، إذ راحتا تهومان خلال الكثافة، رخوة ترتطم به، أمس الأرض تتركه وئيدا، تنزلق من تحت قدميه البليلتين، يشف، كان جسده… يطير أخذ الآن، يطير، فيما كانت السماء متباطئة، تتنآى فوق جناحيه العاريين.
فاطمة
الصوت، حاكا الهواء في الصالة، إذ ترقب تخبطات مويجات ضوئية، تدريجا، تخفق عبر مطافات لا نهائية، في ذبذبات تروغ، يكحت وجردات انبنت قبالته، لوحة لطفل يتقدم عربة، تقعي داخلها جراء مغيرة، تكئات من قطن وإسفنج، تطلع من دوار الانقذاقات العالية، أيد صغيرة، في مرأى من شفقة الحيطان، تكات ساعة تطال بتؤدة، الدقائق الخمس بعد منتصف الليل، ازيزا تتقطعه هدآت صغيرة، لبراد رابض هناك، هذا الصوت، صوتها بعد إذ همد الأطفال، تقاسمت رؤوسهم جسدها المهدود، إذ ينفلت مرتبكا وغائرا مياه ترحل طلال أنابيب عميقة، مصطدما بعزلتي، حتى ليسقط الكتاب، أحيانا القلم، فتتشاخب أنفاسه، ينعشني من غفلتي، لأتسلها من ثقب في سقف رأسي، قبل أن تضبطني متلبسا بها، لمح كلتا يديها، اليدان اللتان عما قليل ستحرث أصابعهما يباس جسدي، فأغفو كآخر طفل بين ذراعيها، تمسكان بالقرآن، فيما الكلمات الجليلة ترف بأجنحة رهيفة، في اتجاه الليل..
صفير, متباعدا يلج من بعيد، كأنما قادم من أطراف لبرية نائية، ترهفه أذناه، واهنا، تتقطع أنفاسه، ذلك الصفير، الصفير الذي يهبط الآن ربلة ساقيه، إذ فلتا لزمن عاجزتين، تتوانيان في أن تنجزا حلمه الليلي بأن يلهب هدأة المدينة صفعا بقدميه العاريتين، حتى تصدع الأسوار، وتفيض أعناقهم على حواف الشرفات ثخينة، مسحوبا منه الدم، هلعا، حين الليل يدلي ظلاما هائلا بخيوط سوداء،لينحشر شاغلا الزوايا، ضاغطا الخانات بجسده المتلاين، ما إن تلسعه سخونة الدم، ويركل إحدى ساقيه أماما حتى يبرك خائرا، ووراء يتخيل كل النوافذ عيونا، تجحظ في مؤخرة عنقه، وأن أن راح يخطو قليلا حاسة ببرودة الأسفلت إذ تنفذ إلى مسام أطرافا، تذوي شيئا فشيئا، تستحيل إلى دفء غامر، يجذب قدميه لأن تدبا أكثر، باغته اندفاع كلب وأنثاه، من منعطف فليم، يتزحلق ملويا على بعضه، يلهثان، الكلب وأنثاه، توقف الكلب، باعد بين ساقيه الخلفيتين، نتوء صغير آخذ ينز خيطا ضئيلا، لكن متوترا وبارقا، يتعرج فوق انحدار لامع، ارتعش قليلا دافعا أنثاه أماما، اخذ يغيب فيما صوت دعساتهما على سكينة الشوارع يصله متباعدا، فتباغته بهدوء، رغبة وحشية، تعقبها رعدة يحسها لذيذة تصعق أجزاء جسده، لكنه ناصلا الأن، كما لو صهيل ينفلت من الأعلى فيحفنه بأطراف مسامعه من أين يا ربي أتي هذا الصفير؟ وإذ افترت نظراته بحثا، تدعك جعلكة الظلام حتى.. خطوات مشدودة تخبط الحموات الناتئة للأسلفت، كرق ينهال، سامعا، فوق تموجات أجسادهم، سكين لامعة، رعشات عيونهم، تجرح نوم المدينة، استعرت قدماه، حرائق، تدقها ثقوب جسمه، اندفع باتجاههم، واجههم، عيونهم تحدق أماما، تشع بريقا غامضا، تماهى فيهم، انصهر معهم، ومن فم واحد كان صفيرهم دافقا يلج، وأقدامهم ترج بشدة صلابة الطرقات، رجا أخذت تردد تباعا صداه المدينة.
أحمد زين (قاص من اليمن )