عيسى الناعوري وعلاقته بأدباء المهجر
بدأتْ صلةُ الاديب الأردني الراحل عيسى الناعوري بالأدب المهجري منذُ عام 1946، وكانتْ اتصالاتُه مباشرةً بالمراسلَةِ وكانَ اعتمادُه بعدئذٍ في جميع ما كتبه عن الأدبِ المهجريِ، على هذه الرسائلِ، وعلى ما كان يبعثُ به المهجريونَ إليه من مؤلفاتِهم.
ولقد اجتمع لدى الناعوري من أعمال المهجريين مكتبةٌ جيدةٌ، شغلتْ مكتبته، كما واجتمعتْ لدى الناعوري ما يزيدُ على (450) اربعمائة وخمسينَ رسالة، وتعدُّ هذهِ الرسائلُ ثروةً أدبيةً نفيسة، أما مكتبةُ الناعوري فقد كانت أغنى مكتبةٍ مهجريةٍ اجتمعتْ في مكانٍ واحد، وما يؤكدُ ذلكَ ما قالهُ الشاعرُ جورج صيدح حين زارَ الأديب الناعوريَّ عام 1957، فلم يصدقْ ان كل هذه الكتبِ من أعمالِ المهجريين »كما يصف الناعوري في إحدى مقالاتِه« في عام رحيله 1985.
من رسائل المهجريينَ ومؤلفاتِهم استطاعَ الناعوريُّ أن يكتبَ كتابهُ الشهيرُ »أدبَ المهجر«، في (828) صفحةً من القَطعِ الكبيرِ، وقد أُعيدَ طبعه ثلاثَ مراتٍ في دارِ المعارفِ في القاهرةِ، ثم تم تزوير الطبعة الثالثة منه على الأوفست في طبعات جمة!.
أكثر ما توطدتْ به صلةُ الناعوري مع المهجريين، كانت مع الشاعر إلياس فرحات، فقد بلغَ عددُ رسائِله إلى الناعوري ومثلها عددُ رسائلِ الناعوري إليه (121) مائة واحدى وعشرين رسالة، وبعضُ هذه الرسائل مفقودةٌ، ويلي ذلك من المراسلاتِ مراسلاتُ الناعوري مع الشاعر جورج صيدح، وبلغ عددُ الرسائل ما يزيد على (70) سبعين رسالةً، ولكن من المؤسفِ أن علاقةَ الناعوري وصلتَه بصيدح وفرحات، قد انتهت إلى القطيعةِ في المرحلةِ الأخيرةِ من عمرِه، أما سبَبُ القطيعةِ كما يصفُ الناعوري في مقالته »مع رسائل المهجريين«: »أما سببُ القطعيةِ بيني وبين فرحات والقروي، انهما، في أحرجِ الظروفِ التي مرّ بها الاردن، لم يتورعَا عن نظم الشعر في شتمه، حين كانت اذاعة »صوت العرب«، وصحافة مصر تشن عليهِ الحملاتِ المسعورةِ، فوقفا إلى جانبِهما في هذهِ الحملةِ، ولم يسئ إليهما الاردنُ قط، فرأيتُ أن الدرب قد افترقتْ بيني وبينهما، فانقطعتُ عن مراسلتهما وقوفاً مع بلدي، ولم أعد أجيبُ على رسائلِ فرحات التي استمرتْ متقطعةً متباعدةً إلى عام 1973. وقد جاء فـرحات والقروي إلى الشرق عام 1959، وأقامَا في سورية ولبنانَ ومصر، وشبعا من حفلاتِ التكريم التي أقيمت لهما في كل مكانٍ طوال سنةٍ كاملة، فلم أحاول أن اذهب للسلام عليهما، على الرغم من الحاح فرحات المتواصل في رسائله للقاء في دمشقَ أو بيروت. وأما القروي فقد عاد بعد ذلك من جديدٍ إلى الشرق، وأقامَ نهائياً في ضيعته (البربارة) في لبنانَ، وراحَ ينتقلُ بين بيروت، ودمـشقَ حتى وفاتِه في أواخر عام 1984، ولم أحاولْ قط أن اذهب للقائه«.
وحول سبب الجفاء بين جورج صيدح وبين الناعوري فيحدِّدُها الناعوريُّ بقوله: »قد بادأني صيدح، بعكسِ ما وقعَ بيني وبين فرحاتَ والقروي. والسببُ هو أنني لم أنتبه لحساسيةِ الشيخوخةِ عند صيدح، فقد كتبت في الطبعة الثالثة من كتابي »أدب المهجر« أقولُ أن شعرَه – مثلَ شعر القرويِّ وفرحات وغيرهما – قد شاخَ، وصارَ في المدةِ الأخيرةِ يميلُ إلى العنترية والخَطابية، وفقدَ زهوتَه الماضية«، ويصف تلك الإساءةَ الناعوري بقوله: »لكن وصف« صيدح في شعرِه الأخيرِ (بالعنترية) أغضبه عليَّ فراحَ ينشرُ ثورَتَهُ عليَّ شعراً ونثراً ورسائلَ، يبعثُ بها إلى هنا وهناك: إلى الأصدقاءِ والمجلاتِ والجرائدِ المشرقيةِ والمهجرية«، وفي عددٍ من رسائلِ صَيدَح إلى عدنان الخطيب، ومحمد عبد الغني حسن، وإلى عبد الله يوركي الحلاق… وغيرهم ما يؤكدُ غضبَ صيدح من الناعوري.
ولنعد إلى رسائلِ المهجريين: إذ تجيءُ مراسلاتُ الناعوري مع الشاعر القروي رشيد سليم خوري وقد بلغت (22) اثنتين وعشرين رسالةً، من الأهمية إذ إن هؤلاء الشعراءَ المهجريين الثلاثةَ الكبارَ كانوا من أحبِ الشعراءِ المهجريينَ إلى الناعوري وأقربـِهم إليه.
أما الرابعُ بعد القروي وفرحات وصيدح التي طالت مراسلاتُه مع الناعوري فهو الشاعر جورج كعدي، إذ لدى الناعوري منه (48) ثمانٍ وأربعونَ رسالةً، ثم يأتي الشاعرُ نعمة الحاج من الولايات المتحدةِ الأمريكيةِ، ولدى الناعوريِّ منه(21) احدى وعشرون رسالةً ثم راجي الظاهر، صاحب جريدَة البيانِ في نيويورك، وقد كان الناعوريُّ مراسلها في فترة ما، وعددُ رسائله (18) ثماني عشرة رسالة، ثم مراسلاته مع الشاعر أحمد زكي أبو شادي، ولدى الناعوري منه أكثر من (٧١) سبعَ عشْرةَ رسالةً، ثم الشاعر الياس قنصل، من الأرجنتين (٥١) خمسَ عشْرةَ رسالة، فالكاتب جبران مسوّح من الأرجنتين(11) احدى عشرة رسالة، ثم الشاعر شكر الله الجر، من البرازيل ولدى الناعوري منه عشر رسائل، ومن ثم الشاعر زكي قنصل، شقيق الياس قنصل، ولدى الناعوري منه (10) عشْرُ رسائلَ، وشفيق معلوف (8) ثماني رسائل، وشقيقيه رياض معلوف (9) تسع رسائل. ثم يأتي الشاعرُ ايليا ابو ماضي وعددُ رسائله(8) ثماني رسائل. والباقون يتراوحُ عددُ رسائلِ كلٍّ منهم ما بين رسالةٍ واحدةٍ وثلاثِ رسائلَ وعددُهم خمسّة عَشَرَ أديباً وشاعراً، من كلِّ أطرافِ المهاجرِ الأمريكيةِ.
إن رسائل هؤلاء المهجريين جميعهم اصبحت تعتبر مراجعَ كبيرةَ الأهميةِ للدارسينَ والباحثينَ في الأدبِ المهجري، وهي غنيةٌ بما فيها من معلوماتٍ أدبيةٍ وتاريخيةٍ ووطنية.
رسائل القروي إلى الناعوري
في عام 1946 بدأت صلة الناعوري بالأدب المهجري، عن طريق جبران خليل جبران في قصته الطويلة (الأجنحة المتكسّرة) وايليّا أبي ماضي في ديوانه (الجداول). وكانت صلته بهما سعيدة؛ فقد أحب قصّة جبران وشعر أبي ماضي. وبدأ الدرب نحو معرفة أدباء المهجر وأدبهم، وكلّما عرف واحداً منهم، دلّه على الآخر.
وفي أوائل عام 1947 كان عيسى الناعوري يعمل مدرّسا في كلّية »تيرّاسانتا«، في القدس – وحينها كتب أول رسالة الى الشاعر القروي، رشيد سليم خوري. لا تاريخ معين للرسالة تماماً، ولكنّه كان خلال شهر ابريل (نيسان) من ذلك العام.وأوّل رسالة تلقاها منه كان تاريخها12/5/1947.
كان في رسالته قد طلب إليه أن يزوّده بنبذة عن الأدب المهجري الجنوبي، وعلى الأخصّ أدب (العصبة الأندلسيّة) في البرازيل؛ فقد كان القروي ثاني رئيس للعصبة، بعد رئيسها الأول الشاعر ميشال معلوف؛ وكان رئيسها الثالث والأخير الشاعر شفيق معلوف. فردّ عليه القروي في رسالته يقول إنّه قد دفع برسالته »ثاني يوم وصولها« إلى رفيقه في العصبة الأستاذ نظير زيتون، أحد أمناء العصبة. وفعلاً كان نظير عند الأمل به؛ فقد كتب إليه تقريراً طويلاً عن العصبة الأندلسيّة، وأدبائها، وأدب المهجر البرازيلي. واستفاد كثيراً من تقريره، ومن الأسماء الواردة فيه،؛ ثم نشرها الناعوري بعدئذ في العدد الثاني عشر والأخير من مجلّته »القلم الجديد«، المخصّص برمّته للأدب المهجري؛ وقد صدر في مطلع شهر اغسطس (آب) عام 1953.
يقول القروي في رسالته: »وقد اخترت لكم نموذجين فقط من شعري الذي لم يجمع بعد في كتاب مطبوع: أحدهما يرمز الى أدبي من الناحية الاجتماعيّة الإنسانيّة، والآخر إلى أدبي القومي – وهو آخر ما نظمت في موضوعه- وقد طبع على حدة، ونشر في كراس باسم »اللاميات الثلاث«، ليصرف ريعه على تعزيز قوّة الدفاع العمليّ عن فلسطين. وقد بعنا منه ثلاثمائة نسخة، راعت مائتين وخمسين ليرة انكليزيّة، قدمناها منذ شهرين، وجاءنا العلم بوصولها«.
و»اللاميّات الثلاث« هي ثلاث قصائد تبادلها القروي مع الأمير شكيب أرسلان؛ وقد طبعها عام 1947.
وكان مع رسالته قد أرسل إلى القروي نسختين من مجلّة كانت تصدر عن دائرة المطبوعات في القدس باسم »المنتدى«، واحدة للقروي وواحدة لرفيقه الياس فرحات، الذي لم يكن يعرف عنوانه آنذاك، وقد طلب إلى القروي أن يتفضّل بذكر عنوانه له. وكان في المجلّة مقال للأديب عيسى الناعوري في موضوع الأدب المهجري. لقد كانت المجلّة رسميّة؛ وقد بُدّل اسمها فيما بعد من »المنتدى« إلى »القافلة«. ويبدو أن المجلّة قد أثارت اهتمام القروي، فأضاف في رسالته يقول:
»قرأت ما بعثتم به إليّ من أعداد مجلّة »المنتدى« التي شاقتني أبحاثها، وسرّني منظرها. وأرسلت إلى رفيقي فرحات ما خصّه عنها؛ وهذا عنوانه إذا شئتم مراسلته« – ودوّن في الرسالة عنوان فرحات – ثمّ تابع قائلاً: »وقد لحظت أنّه محظور عليكم التدخّل في السياسة؛ وإلاّ فكيف تفسر خلو مجلة تصدر عن فلسطين من أثر لقضيتها التي ملأت الدنيا؟ اللّهم إن كنّا ظالمين فأنذرنا، وإن كنّا مظلومين فانصرنا!«.
وطبيعيّ أن القروي ما كان ليقول هذا الكلام، ويتساءل هذا التساؤل، لو كان يعلم أن المجلّة كانت تصدر عن دائرة رسميّة عن دوائر حكومة الانتداب البريطاني.
هذه كانت أول رسالة تلقاها من القروّي؟ ثم توالت المراسلات بينهما. وكان قد أذاع الناعوري حلقة إذاعية في القدس عن القروي، وأرسل اليه بواسطة الشاعر فرحات نسخة مخطوطة منه، دوّنَ عليها تاريخ إذاعته. فجاء كتاب منه بتاريخ 22/12/1948، وصل إليه في الحصن، شماليّ الأردن، حيث كان قد انتقل يعمل معلّماً في مدرسة اللاتين الثانويّة فيها. وبعض ما جاء في الرسالة قول الشاعر القروي:
»أخي الأستاذ الناعوري، دام برّه وفضله – تناولت إذاعتكم القيّمة المرفقة برسالتكم على يد أخي ورفيقي فرحات. أسأل المولى أن يقدّرني على إيفائكم، ولو بعض هذا الدَين الأدبي الذي تركّبت فوائده على أخيكم ؛مع أني لا أرتاب في أنكم في كلّ إذاعاتكم الأدبيّة لا ترمون إلاّ إلى خدمة الفنّ، إرضاء لروح النقد النزيه الذي تتحلّى به ثقافتكم«.
ثمّ يختم الرسالة مهنّئاً بعيد الميلاد، وداعياً للناعوري »بكمال الصحّة، واطّراد النجاح، وللأمّة العربيّة الخالدة بزوال الغمّة، وبالنصر القريب المبين، إن شاء الله«.
وكان الناعوري قد نشر عنه مقالاً في جريدة (النسر)، التي كان يصدرها في عمّان المحامي الأستاذ صبحي جلال القطب، وذكر في رسالته أنه أرسل إليه الأعداد الني نُشر فيها المقال. فهو في نهاية رسالته يسأل عن موعد وصول هذه الأعداد. ولكنّ أعداد »النسر« تلكّأت في الطريق طويلاً جداً، ووصلت إلى القروي بعد أكثر من عام من تاريخ إرسالها. فكتب للناعوري بتاريخ 10/3/1949 يقول:
»اليوم تسلّمت أعداد جريدة (النسر) التي أنبأتني بها في كتاب سابق – أي بعد عام ونيّف من ارسالها – وكم للبريد مثلها من خارقة! – وقد قرأت إذاعتك اللطيفة عن قصيدتي الربيع الأخير«، فدلّتني – كغيرها من سوابقها – على حسن تذوّق للشعر، واستشفاف لمعانيه، وبصر حديد بمرامي الخيال«.
وقصيدة »الربيع الأخير« هذه كان الناعوري قد اطّلع عليها لأول مرّة في عدد قديم من أعداد مجلّة »المقتطف« المصريّة، كما يشير الناعوري بانه قد أعجب بها إعجاباً شديداً. ويستهلّ الشاعر هذه القصيدة قائلاً:
»لمياء هذا جبين الفجر قد سفرا
وموسم الحبّ عنّا مزمع سفرا
وأضيع الناس من يمضي الشباب ولا
يقضي من الحبّ في أيّامه وطرا
طيري ننقّر مع الأسراب في فرص
إن طرن لن تجدي حَبّا ولا ثمرا
عيب علينا نكون البلبلين ولا
نشارك الطير في أعيادها سحراً
غداً نذوب إلى الأعناب من ظمأ
ونهبط الكرم لا نلقي لها أثرا«
والقصيدة تقع في مائة وثلاثة أبيات، بقافية واحدة »رائيّة«، ولكنّها – على طولها ووحدة قافيتها – متحف يعجّ بصنوف من أجود أنواع الشعر الوصفيّ، والغزليّ، والقوميّ، والإنسانيّ كما يصف الناعوري. وكان قد جاء في إحدى رسائل الناعوري إلى القروي، بتاريخ ٨١ (ابريل) نيسان 1950 – أنه قد أذاع حديثه عنها من اذاعة القدس عام 1947؛ وسمعها الأديب الشاعر عصام حدّاد، مدير البرامج الثقافيّة في إذاعة القدس آنذاك، ولشدّة إعجابه بها سجّلها على أسطوانة، وأعاد إذاعتها من القدس مراراً. وحين انتقل عصام بعد ذلك إلى العمل في اذاعة دمشق، أذاعها من هناك مراراً كذلك. وقد أحب الناعوري أن يخبر القرويّ بهذا، ليدخل السرور إلى نفسه.
وتلقى الناعوري رسالة من القروي تاريخها 10/1/1950، يستهلّها بقوله:»وأنّي مدين لأدبك بكثير من الجميل، وأنّي لألمح على ما تخطّ يمينك فيّ عاطفة صديق، بالرغم ممّا يبدو من تحفّظك، وكبحك لجماح القلم. وأنّي مقيم عذرك في ما توجبه عليك الحكمة، في زمان عمّت فيه فوضى النقد«.
كان الناعوري آنذاك يعمل في إدارة مدارس الاتّحاد الكاثوليكيّ، وكان مقرّ الإدارة قرب المستشفى الإيطاليّ في عمّان، وكان بريد الإدارة يأتي عن طريق المستشفى، وكذلك بريد الناعوري، حين لم يكن للناعوري صندوق بريد. ولذلك يتساءل القروي في رسالته عن سبب هذا العنوان، ويقول »أرجو أن تكون معافى، وألاّ يمسّك الضر«. ثمّ يهنّئه بالعام الجديد، راجياً أن: »يكون هذا العام الجديد فاتحة خير عليك، وعلى الأمّة العربيّة التي تجتاز اليوم أكبر محنة عرفها تاريخها القديم والحديث«.
رسالة القروي هذه قطعت في البريد مدّة طويلة، ووصلت للناعوري في 30/3/1950، أي بعد شهرين كاملين تقريباً من تاريخها. وكان ردّ الناعوري عليهـا بتاريخ 18/4/1950.
وفي ذلك الحين كان الناعوري يعدّ كتاباً في تاريخ الأدب العربي المعاصر للمدارس، بعنوان »الجديد في الأدب العربي«، أراد الناعوري فيه أن يدرس الطالب – أول ما يدرس – الأدب الحديث، لأنه أسهل وأقرب الى نفوس الطلاّب مع البداية بدراسة الأدب الجاهلي، ويستطيع الطالب أن يفهمه دون صعوبة، ويحسّ بوجود أصحابه من حوله، وفي بيئته. ولأول مرّة يدخل الأدب المهجريّ في كتاب مدرسيّ،إذ اختار من أصحابه ثلاثة من الناثرين، هم: جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وأمين الريحاني؛ وثلاثة من الشعراء هم: أبو ماضي، والشاعر القروي، وفوزي معلوف، مع نماذج من أدب كلّ منهم.
ولقد أخبر الناعوري القرويّ بذلك في رسالته، وطلب منه صورة جديدة له لتظهر في الكتاب مع ما كتبه عنه، وما أختاره من شعره. ولكنّه انتظر ولم تصل الصورة. وصدر الكتاب وأهدى إليه نسخة عنه. وجاءته رسالة منه تاريخها 30/9/1950، يستهلّها وفيها:
»أخي عيسى – وصلتني هديّتك الثمينة »الجديد في الأدب العربي«، فشاقني أسلوبك، وأعجبتني غايتك النبيلة من وضع الكتاب. وإنّي لشاكر لك رأيك الجميل في شعر أخيك، وما أضفيت عليه من المدح والتقريظ في أكثر من مناسبة وقصد«. ثمّ ينبّه إلى عدد من أخطاء الطباعة وردت في الكتاب.
وكانت رسالة القروي التالية بتاريخ 22/11/1950، ويستهلّها بقوله:
»أخي عزيزي عيسى – كان بودّي أن أجاوبك حال تسلّم رسالتك، لولا سفرة مستعجلة، عدت عنها – لسوء الحظّ- محمولاً في سيّارة إسعاف مدى ستّ ساعات، لداء أصابني وهدّد حياتي. وأنا الآن أكتب إليك من السرير، بعد إن نقهتُ، والحمد للّه، وعدت أقضي حقوق الإخوان واحداً واحدا«.
بعد هذه الرسالة صارت الشكوى من المرض والضعف تردّد في رسائل القروي، وصار يتبرّم بالشيخوخة، ويرى أمامه شبح النهاية القريبة. ولكنّها، في الواقع، لم تكن قريبة، فقد عاش القروى بعد ذلك أربعة وثلاثين عاماً، حتى قضى أجله في السابعة والتسعين من عمره.
ومع الرسالة بعث القروى قصيدة عنوانها »تسبيحة الحب«، وقال: »إنّي مرسل لمطالعتك بقصيدتي »تسبيحة الحب« التي لا أدري إن كان سبق لك الاطّلاع عليها، فانّ معظم شعري لا يزال مبعثراً في المجلاّت والصحف، ينتظر الجمع في ديوان… اخترتها لك لأنها تبيّن ناحية من شعر أخيك تقابل ما عُرِف به في باب الحماسة. ولي من هذا النوع أكثر من قصيدة، ولكنّني أحسب »تسبيحة الحب« أفضلهن«.
القصيدة خماسيّة، وتقع في ثماني عشرة خماسيّة. ويقول القروي في ذيل الصفحة الأولى منها ما يلي: »نظمها سنة 1923، بعد أن توالت حملات بعض مواطنيه الاحتلاليّين عليه كلما نفث قصيدة من قصائده الاستقلاليّة المثيرة«. أمّا تحت العنوان »تسبيحة الحب« فقد كتب: »من »ديوان القروي« المعدّ للطبع – باب الأزاهير«.
وفي ما يلي مقاطع من هذه القصيدة الملأى بالعنفوان والتحدّي، ومع العنفوان والتحدّي المحبّة والسلام والصفح:
»سأجرف بغضكم بالحبّ جرفا
وأنسف غيظكم بالحلم نسفا
وأُنهلُكم رحيق الصفح صرفا
وأطفىء فيكم ما ليس يطفى
وأشفي منكم ما يشفى
بني أمّي الجياعَ الى خصامي
ألا ذقتم يسيرا من طعامي؟
أضرّ بكــــم لهيــب الانتقـــام
فهاكم من يدي كأس السلام
تفيـض محبّة وتسيـــل عطفا
فرشتُ لكم طريق الحبّ زهراً
فلِمْ تطؤون بالبغضاء جمرا؟
ولِمْ خضتم من الشبهات بحرا
وقـد أنشأت للـــورّاد جسراً
من الإخلاص لم أنشئه زلفى
لماذا كلّما ألقي نشيدا
ألاقـــي منكمو سهمــاً جديدا؟
تريدون الشكائم والقيودا
لِحُرٍّ لا يريدكمو عبيدا
ولا يرضى لكم ذلاّ وخسفا
ويختم هذه الخماسيّات الجميلة بالخماسيّة التالية:
عدوّي قف على درج الماء
وطالع بعض آيات السماء
فان لم يُشْفَ قلبك من عدائي
فانّك جاهل ألفي ويائي
ومن تسبيحتي لم تَتْلُ حرفا
وبتاريخ 16/12/1950 أجاب الناعوري على رسالة القروي برسالة قال فيها:
»أخي رشيد – بين يديّ كتابك الأخير المؤرخ 22/11/1950، والذي حمل اليّ نبأ السفرة المشؤومة التي عدت منها محمولاً في سيّارة إسعاف، ثمّ نبأ ابلالك من المرض. ولقد سررت كثيراً لشفائك بقدر ما آلمني مرضك. فالحمد لله على سلامتك، ومتّعك الله بالصحّة التامّة، لتظلّ بلبلا يغرّد للعروبة ألحان الوطنيّة الصادقة والإخلاص الصحيح«.
أمّا قصيدته »تسبيحة الحب« فقد قال عنها في الرسالة أنه: »طبعت منها بضع نسخ على الآلة الكاتبة، وقد وضعت إحدى النسخ في غلاف تمهيداً لإرسالها الى مجلّة »الأديب« في بيروت، وسأدفع نسخة ثانية منها إلى مجلّة نصف شهريّة تصدر في عمّان كانت طلبتها منّي مساء أمس. وقد أُرسِل نسخة أو نسخاً أخرى إلى مجلاّت وجرائد سواها. فالقصيدة انسانيّة في روحها أكثر ممّا هي وطنيّة، وهذا الشعر الإنسانيّ يهزّ الروح هزّا، أو يهدهدها على أنغامه الرقيقة المؤثّرة«.
ثمّ حدّث القروي عن الطبعة الثانية عن كتابه »الجديد في الأدب العربي«. وكان قد تأخر القروي في الردّ. وفي 28/2/1951، عاد فكتب اليه الناعوري من جديد، وأرسل اليه مع الرسالة قصاصة من مجلّة »الأديب« فيها قصيدته »تسبيحة الحب«؛ وقد كان أرسل إليه قبلها نسخة من مجلّة »الفكر«الأردنيّة ظهرت فيها القصيدة نفسها.
وفي 17/6/1951 كتب إليه القروي يشكو من المرض ويقول:
»صحيح أنّي عدت أحسن منّي قبل السفر، ولكنّ هذه العلّة تهادن ولا تصالح؛ فالحمّى لا تفتأ تزورني غبّا، وهذا القدر الضئيل من زاد العافية الأرجنتيني… سأعيش به عيشة انكليزيّة مقنّنة، ضانّا منه بالكسرة، حريصاً على الفُتات، لأنّه لا يكاد يكفيني لتحقيق الأمنية الوحيدة الشخصيّة التي أبقتها لي الشيخوخة من هذه الدنيا، وهي طبع دواويني كلّها في مجلّد واحد«.
ثمّ يتحدّث عن مكرمة الجالية العربيّة في البرازيل في محاولة تكريمه عمليّا، فيقول:
»وإنّها لمكرمة عظمى تسوقها الجالية العربيّة إليّ، بعد أن أبيت، مع الشكر والاعتذار، النزول على ارادتها في قبول هديّة البيت«.
وتتلخّص الحكاية في أن الجالية العربيّة في المهاجر الجنوبيّة، تقديراً منها لوطنيّة شاعرها القروي، وشاعريّته الفذّة، كما ذكر الناعوري في كتابه »أدب المهجر« تنادت – وعلى رأسها الوطني الغيور والاقتصادي الثري إلياس عاصي، في البرازيل، والشاعر جورج صيدح، في الإرجنتين – إلى جمع مبلغ من المال لشراء بيت يقدّمونه له. وقد جمعوا لهذا الغرض ما يعادل ثلاثين ألف ليرة لبنانيّة.
غير أنّ القروي أبى أن يقبل هذه الهديّة منهم، وقال أنّه يفضّل قبراً في وطنه على قصر في غربته. وطلب ردّ المبلغ إلى المتبرّعين، واعتبر هذا التبرّع إهانة له، وكتب إلى الشاعر جورج صيدح يقول له:
»أرجوك أيها الأخ أن تسعفني في هذا الملتمس، وتشاركني في عقيدة منزّهة عن الأجر في هذه الدنيا الفانية، فمرادنا أكبر منها. والذي نطلب لأوطاننا يجلّ عن الجزاء، مهما عظم. وحسبنا أن نرضي الله والضمير في جهادنا الأدبي. وهل نحن خير من الشهداء الذين لم ينالوا من خدمة الوطن غير الذكر الجميل، وقد بذلوا له أغلى ممّا بذلنا ؟«.
عند هذا الإباء من القروي لم يَرَ المهاجرون بدّا من تخصيص المبلغ الذي جهزوه ليطبع به شعر القروي كله في ديوان واحد، بدلاً من شراء المنزل الذي أرادوه ولم يسمع القروي إزاء إلحاحهم إلاّ أن يقبل المال للغرض الأدبي. فعكف على جمع شعره كلّه، المنشور في دواوين سابقة وغير المنشور من قبل، في ديوان واحد دعاه »ديوان القروي«.
إلى هذا يشير القروي في ذات الرسالة، ويقول: »إنّ هذا العمل الكبير الشاقّ سيستغرق على الأقلّ سنة كاملة؛ فتراني مكبّا عليه ليل نهار، لا أجيب إلاّ على الرسائل الهامّة، مختصراً ما وسعني الاختصار«.
في ذلك الحين كان الناعوري يكتب كتاباً عن الشاعر إلياس فرحات، واعتزم بعده كتابة كتاب آخر عن القروي. ولكنّ القرويّ طلب إليه في رسالته التريّث ريثما يصدر ديوانه الكامل. وقال: »إنّ كتابك عن أخيك القروي لن يجيء كما يرام إلاّ إذا تريّثت حتّى صدور ديوانه، الذي يطلعك على شعره كلّه منقّحاً، مصحّحاً عن أخطاء الجرائد المطبعيّة. وستجد حياته بحذافيرها مصوّرة فيه، ممّا يغنيك ويغنيه عن ترجمتها. فما أحراك بهذا الإمهال الذي يضمن لكتابك الإحاطة والإصابة والإنصاف، ويجعله مرجعاً كافياً وافياً لمن تهمّه هذه الأبحاث«.
ويختم الرسالة مبدياً إعجابه بجهد الناعوري المستمر في هذا النوع من الأدب. إذ يقول إن الناعوري يتفرّد في »التوسّع فيه والتفرّغ له«. القروي يعني بهذا »الأدب المهجري«، الذي كان الناعوري فعلاً منقطعاً ومتفرّغاً له، والذي كان لا يفتأ يكتب الدراسات عنه للصحف، وللإذاعات – ولا سيّما إذاعة القدس وإذاعة لندن – حتّى أصبح اسمه مرادفاً للأدب المهجري، وأصبح الأدب المهجري مرادفاً لاسمه.
لا نزال في عام 1951. حيث 1951 أصدر الناعوري أول كتاب أدبيّ له، وعنوانه »إيليّا ابو ماضي – رسول الشعر العربي الحديث«؛ وقد طبع في دار الطباعة والنشر، في عمّان، وأهدى نسخة منه إلى القروي. فكتب إليه بتاريخ 24/10/1951 يقول:
»وجدت هديّتك النفيسة في انتظاري، في إضبارة كبيرة من الرسائل والكتب التي وصلت أثناء غيابي شهرين عن الحاضرة. كلمتك – يقصد الكتاب – عن أخينا الشاعر الفذّ ابي ماضي بليغة دسمة رغم إيجازها، وزادها جمالاً أنها مطرزة الحاشية بمقدّمة من قلم مفخرة الشعر العربي الأنثوي الحديث، الآنسة فدوى طوقان. لا شكّ أنك تمتاز بسبقك – يتابع القروي – إلى ابراز كتاب خاصّ عن شعر إيليّا، ولكن كم بعدك من أديب سيوفّيه أضعاف ما وفّيته من البحث والتحليل. إنّ هذا الشعر الذي لا تخلق جدّته، ولا ينقطع أبد الدهر رنينه، لجدير بأن يشغل ألباب المفكّرين المختصّين مثلك بهذا النوع من الأدب«.
وكتابه هذا عن إيليّا أبي ماضي، لم يلبث أن أعيد طبعه بعد وفاة الشاعر أبي ماضي، بطلب من أحمد عويدات، صاحب منشورات عويدات في بيروت. وقد توسّع فيه، وإضاف دراسات جديدة إلى فصوله السابقة. وكان ذلك عام 1958. ثمّ صدرت الطبعة الثالثة منه عام 1977.
أمّا القروي فقد كان شغله الشاغل الإشراف على طباعة ديوانه، الذي استمرّ شهوراً طوالاً »تحقيقاً لأمنيته الوحيدة الباقية« – كما كان يقول -.
وفي 18/7/1952 كتب القروي رسالة موحّدة للناعوري وإلى الأديب المرحوم يعقوب العودات (البدويِ الملثّم) يبدأها بقوله:
»أخويّ العزيزين يعقوب وعيسى، لا عدمتهما – أقبّلكما وأهزّ يديكما مصافحاً بشوق يُصْعِد الزئبق إلى الأربعين….«.
كان العودات آنذاك »في عام 1952« قد عاد منذ فترة قريبة إلى عمّان، من جولة قام بها في الربوع الأميركيّة استمرت ستّة عشر شهراً أو تزيد، والتقى في أثنائها بالقروي ورفاقه من أعلام الأدب المهجري الجنوبي.
وكان الناعوري في رسالة سابقة إلى القروي، بتاريخ 28/2/1951، قد سأله إن كان يعرف مكان الصديق العودات، الذي يزور المهاجر منذ شهرين فقط؛ ورجاه أن يبلّغه تحيّاته كونه تلقى منه رسالتين لم يذكر فيهما عنوانه، ولكنّه قال في احداهما أنّ القروي زاره في الفندق.
يخبر القرويِ في رسالته(18/7/1952) عن المرحلة التي قطعها في طباعة (ديوان القروي)، فيقول: »أخبركما أن الديوان ينقصه بعد ملزمة واحدة فقط، هي (المقدّمة والترجمة) التي سأكتبها بنفسي، وجمع الفهارس والأخطاء المطبعيّة. وبما أنني قد خرجت منهوك القوى من هذه الورشة الأدبية، التي استغرقت أكثر من سنة كاملة في تصحيح وتنقيح، ومراجعات عديدة لنحو ألف صفحة من الشعر، فإنّي مضطّر إلى مغادرة الحاضرة إلى بعض القرى القريبة، عسى أن تسعفني العزلة والهدوء على إنجاز مهمّتي بعناء أقلّ ووقت أقصر«.
وفي الرسالة يعد بأن يرسل إليهما »بالطيّارة نسختين قبل تجليدهما، تعويضاً – كما يقول – عن بعض الوقت الذي أضعتماه بالانتظار، ودلالة على أنّي أشاطركما شعوركما الأخويّ الرقيق«.
ويقول إنّه يكتب الرسالة إليهما معاً: »اختزالاً للوقت، وتفاؤلاً بصداقتكما واجتماع قلبيكما النبيلين على حبّ أخيكما«.
وصلنا إلى النصف الثاني من شهر يونيو (تموز) عام 1952، ولم يكن »ديوان القروي« قد خرج بعد من المطبعة، وقد مضى عليه أكثر من عام؛ وجاء شهر اغسطس (آب) من العام نفسه والديوان لم تكتمل بعد طباعته. وقد كتب القروي بتاريخ (أول اغسطس (آب) 1952) مرسلاً للناعوري »بروفة« من »باب الأزاهير« في الديوان الذي تعوزه المقدّمة والترجمة فقط« – كما يقول. ثمّ يضيف قائلاً:
»صحّتي، والحمد لله، أحسن؛ ولكنّي مكدود الذهن والأعصاب لدرجة الانفعال من أمور كنت أحتمل أضعاف ثقلها وقوّتها؛ فأنا افتقر الى الراحة والاستجمام لأستعيد قواي بعد أعنف جهاد عقليّ ونفساني في هذه الغربة المضنية«.
ثمّ يعلّق في النهاية بقوله: »في مثل هذا اليوم من سنة 1913 ركبت البحر إلى البرازيل. إنها 39 سنة مشقّات وأهوال، وصراع مع الدهر والغربة (والخونة)، وأهولها هذا الصراع الأخير«.
هذه الرسالة كلّها مع التعليق، كانت على الهوامش. وفي الوسط صفحة من صفحات الديوان، وفي رأسها التعليق التالي: »تلحظ من هذه الصفحة ٤٠٩ أننا صرنا على وشك النهاية«. أمّا وسط الصفحة فيتضمّن »بروفة« قصيدة عنوانها »الفقير«. جاءت في وقتها؛ اذ قَصَصْتُها من وسط الصفحة ونشرها على الصفحة (14) من العدد الأول من مجلته »القلم الجديد«، وقد صدر في أول سبتمبر (أيلول) سنة 1952. وهذه هي القصيدة:
»جاء الفقير اليّ ذات عشيّة
يشكو الزمان كسائر الفقراء
قال: المروءة! لي ثلاثة أكبد
ناموا على قِدْر الحصى والماء
فنفحته شيئاً؛ فسالت جمرة
من عينه وقعت على أحشائي
ومضى، فَبَكَّتَني ضميري قائلا:
»أقللـت؛ بئس عـواطـف الشعـراء!«
وذهلت عن فقري، وطرت وراءه
خجـــلا أحــاول أن أزيــد عطـائي
ولكم فقيرٍ، يا لُمَيَّة، بائس
خــفّفتُ بعــض شقائــه بشقـــائي
فوجدته، والحزن يكسو وجهه
بسواده، في القاعـة الخضـــراء
شاء المعثّر أن يجرّب حظّه
بدريهمات أخيه في البأساء
حتّى اذا خسر الذي أعطيته
لعشائه، لعن الفقير مسائي!«
لقد أرسل القروي هذه القصيدة لتكون من موادّ العدد الأول من »القلم الجديد«. ولم يستطع آنذاك أن يرسل قصيدة جديدة لهذه المناسبة، لأن انشغاله بطبع الديوان – كما قال في رسالة سابقة – لم يكن يمنحه فرصة نظم شيء جديد؛ وفي قصائد الديوان ما يكفي ويغني.
في تلك الفترة صدر ديوان فدوى طوقان الأول »وحدي مع الأيام«. وشاءت طوقان أن تهدى نسخة منه بواسطته إلى الشاعر القروي. وعلى الأثر جاءته الرسالة التالية؛ وقد نشرها في رسائل المهجريّين، في العدد الثاني عشر من »القلم الجديد« الخاص بالأدب المهجري، والصادر في مطلع شهر اغسطس (آب) 1953. وفي ما يلي نصّ الرسالة:
»تلقيّت هديّتك النفسية، ديوان »وحدي مع الأيام«، للشاعرة المتفوقة الآنسة فدوى طوقان، مع تحيّتها العذبة. فشكرا لك ولها.
»أقرأ لفدوى ولنازك، فكأنّي أسمع جواباً واحداً، وقراراً لنغم واحد. كلتاهما يرسل الاخلاص ضياءه من شعرهما بريئاً من كلّ شائبة تَصَنُّع، وتتفجّر اللوعة من قلبيهما، مصبِّغة أوراقهما بدم زكّي طهور.
إنّهما رمز للمرأة العربيّة في عهد انبعاثها، وتفتيح عينيها على الحديد الذي يعضّ ساقيها ومعصميها. وكل أخ عربي ذي شعور يرافقهما في هذه المرحلة القاسية، وقلبه ينضح لهفة عليها ورحمة بها. أخذ الله بيدها، لتجتاز منطقة الخطر بأمان، لتنعشها النسمات، ولا تجرح خدّيها، ويهديها الشعاع ولا يزيغ بصرها. عندئذ يحلّق العربي من أخته المتحرّرة بجناحين، وتدرأ العربيّة من أخيها بمنسر ومخلب«.
ولا ينسى القروي بعد هذا التعليق على ديوان فدوى طوقان الأول، أن يضيف حاشية في ذيل الرسالة، تتحدّث عن المرحلة التي وصل إليها من طباعة »ديوان القروي«، فيقول:
»آسف لأن المطبعة لم تسعفني على انجاز وعدي في حينه. لقد انتهينا من طبع الديوان ومقدّمته والفهرس آخر الشهر. بقي تصحيح الأخطاء، والتغليف والتجليد، وهمّة القائمين بالعمل… حيِّ عنّي الأخِ عودات«.
حتّى بداية شهر تشرين الثاني من ذلك العام 1952، لم يكن قد انتهى طبع الديوان، وليس هذا غريباً، فالعمل يجري في البرازيل، لا في البلاد العربيّة، والطباعة العربيّة هناك ضعيفة، وليس لدى المطابع العربيّة الاستعدادات الكافية لسرعة انجاز الأعمال الأدبيّة الكبيرة، كديوان القروي. ولكنّ الديوان صدر في أوائل العام التالي، وانتشر بسرعة، ونال شهرة واسعة جداً في العالم العربي كلّه. ثمّ تكرّرت طباعته بعدئذ، في مِصْرَ وفي غيرها، وآخر طبعة صدرت منه كانت في دمشق في العام 1984.
وفي تقديمه لرسالة القروي، في الصفحة »49« من العدد الأخير من »القلم الجديد«، ذكر أن الشاعر القروي كان حينئذ »في طريقه الى لبنان، حيث ينتظر أن يستقرّ نهائيا«؛ ولذلك لم يدون عنوانه المهجري، كما دوّن عناوين سائر المهجريّين الذين شاركوا في العدد المهجري من المجلّة، والذين لم يشاركوا، لكي يُهيىء الفرصة لمن يشاء للاتّصال بهم عن أدباء المشرق العربي. ومنذ ذلك الحين كثر الذين صارت لهم اتصالات ومراسلات مع بعض أدباء المهجر وشعرائه.
وكان الناعوري قد طلب إلى »القروي« أن يبعث إليه بقصيدة خاصّة من شعره الجديد، لكي ينشرها في العدد الخاصّ بالأدب المهجري، الذي كان مزمعاً أن يصدره في نهاية السنة الأولى من عمر »القلم الجديد«، فردّ عليه بتاريخ 14/4/1953 يقول:
»أحيّيك مباركاً جهودك في سبيل الأدب العربي الواقعي المثمر. ثمّ أعتذر إليك لعدم تمكّني من تلبية طلبك جديداً من شعري للعدد الذي خصّصته بالأدب المهجري. فانهماكي منذ سنتين إلى الآن، وربّما حتّى الصيف القادم، بأمر ديواني، بين تجهيز، وتصحيح، وتجليد، وتوزيع، وشحن إلى خارج البرازيل وداخلها، مع انعدام المساعد، وكثرة المراسلات، وغيرها من الشؤون الشخصيّة والعائليّة، قد شغل كلّ وقتي، وضيّع على قلمي الفرصة التي لابدّ منها لمن يغار على أدبه، وينحت عن قلبه، ولا سيّما الذي أمسى في مثل حالتي من الاعياء الجسدي والذهني«
لا يزال يشكو، كما نرى، من سوء صحّته، أو »من الإعياء الجسدي والذهني«، وقد طالت شكواه هذه في رسائله في ذلك الحين.
ثمّ يضيف في رسالته قائلاً: »ولكنّي لمّا كنت قد قرأت في »القلم الجديد« – عدد أول السنة – قولكم في صفحة الألعاب الرياضيّة »رمي القلّة«، و»الوثب العريض، والعالي«، وكنت، من قبيل التسلية والاستفادة في سويعات الفراغ الماضيات، قد جمّعت أثناء مطالعاتي في معجمنا عدداً غير يسير من »جوامع الكلم، وتقنّي الألفاظ« التي لا يستغني عنها كلّ كاتب كبير، فقد أحببت أن اختار لكم جدولاً منها في موضوع الرياضة…«.
ويعني القروي فيمطره بمصطلحات في الألعاب الرياضيّة عجيبة غريبة، يريد منه نشرها باسمه في »القلم الجديد«. ولم يكن من الممكن أن يقبل مثل هذا المقال من الشاعر القروي، المعروف بشعره الجميل القويّ؛ فرد عليه الناعوري بتاريخ 24/4/1953 قائلاً:
»… أمّا الألفاظ الجديدة التي وَضعَتها لبعض الاصطلاحات الرياضيّة، ورغبت في عرضها على القرّاء، فاسمح لي أن أقول بصراحة أنّ القرّاء لن يصدّقوني إذا نشرتها حاملة توقيعك، لأنهم يعرفونك شاعراً يقدّم لهم أدباً جميلاً يتغنّون به بطرب ونشوة، ولا يريدون أن يعرفوك »لغويّا« ينحت لهم ألفاظاً جافّة، على طريقة المجمع اللغويّ. وثق بأنهم سيتّهمونني بالتزوير والتلفيق لو نشرتُ هذه القائمة حاملة توقيعك، وسينسبون إليّ محاولة الإساءة إليك بها«.
وأضاف قائلاً: »والحقيقة أنه أسهل ألف مرّة أن أتجرّع شربة خروع من أن ألفظ كلمة (مِكَّج) لملعب الكرة. ولفظةُ (العَفْدَة) للقفزة القصيرة، لا تهضم ولو غمستها في جرّة عسل كاملة….ومثلها (المحاوذة)؛ وأبشع منها »الطبطابة، والرجيلاء، والمراساة، والرِبْع، والتمنين، والمواسمة، والمَقْط، والاستيفاز« وغيرها. إنّك تعرف ما يتندّر به الكتّاب والنقّاد على المجمع العلمي لاهتمامه بمثل هذه الألفاظ التي لا تجد من يلتفت إليها. ولذلك يهمّني أن تظلّ في أذهان الناس صورتك الجميلة الحلوة، صورة الشاعر المبدع؛ فهي أبقى وأحلى ألف مليون مرّة من صورة »اللغوي« الذي ينحت ألفاظاً لا حياة فيها!«.
من حسن الحظّ أن الناعوري لم يكن آنذاك عضواً في مجمع لغوّي، وإلاّ كان عليه أن يحاذر من مثل هذا الكلام. ومع ذلك فإنه شعر بالرضى كونه لم يجامل القرويّ في ما قاله. وقد كان الأديب عيسى الناعوري، عدواً للتنطّع في خلق ألفاظ ومصطلحات ترفض الحياة وترفضها الحياة، وأحبّ الألفاظ التي يستطيبها الذوق، وترتاح إليها الأذن، وتتقبّلها النفس، ولو لم ترد في أيّ قاموس قديم أو حديث؛ فالقواميس »نواويس…« أو قبول للألفاظ، كما يقول الناعوري، ولكنّ قبول اللفظ في الاستعمال، واستساغة الذوق له، هما اللذان يعطيانه الحياة، جاء بالعامّيّة، على حد تعبير الناعوري.
وتتوقّف المراسلات فترة فالرسالة التالية من القرويّ إليه كانت بتاريخ 18/1/1955؛ أي بعد نحو عشرين شهراً من تاريخ رسالته السابقة.
خلال تلك الفترة – وعلى وجه الدقّة في عام 1954 – توفّيت والدة القروي فكتب إليه الناعوري يعزّيه بوفاتها؛ فردّ عليه قائلاً في الرسالة المذكورة:
»الأخ المفضال الأستاذ عيسى الناعوري، مدّ الله عمره – أتاني كتابكم الكريم يقطر منه بلسم الحنان والتعزية. إنّي من صميم القلب أشكركم، وأبارك روحكم المحبّة الوفيّة، وأضرع إليه تعالى أن يعظّم أجركم، ويجزيكم الحسنى بما خفّفتم من ألم، ولطفتم من حزن، وأن يجنّبكم الأذى، ويسربلكم بالعافية بمنّه وإحسانه – أخوكم الوفيّ: رشيد سليم خوري«.
كانت هذه أقصر رسالة تلقاها من القروي، وما كان يمكن أن تكون أطول ممّا هي وهي ردّ على تعزية، وإن تكن تعزية بأعز عزيزة على قلب القروي. فلقد كان القروي يحبّ أمه حبّ تقديس وعبادة، وقد مجّدها في عدد كبير جداً من القصائد الجياد الرقيقات منها:
قصيدة طويلة من النوع القصصي – ليس من أفضل شعره نظماً- كما يصف الناعوري – فيها أسطورة ابتدعها خياله في جلسة الى جانب أمّه، أطال فيها التحديق بعينيها وتقاطيع وجهها، كما يتأمل العاشق المتيّم حبيبته؛ فكأنما جعله ذلك التحديق يتغلغل في أعماق نفسها وصميم أمومتها، فيختبر مشاعر الأمومة المقدّسة التي تعتلج فيها. وفي تلك القصيدة يروي أن شاعراً مات، فحملته الملائكة إلى السماء. فرق له الخالق العظيم وهيّأ له مكاناً في حضن إبراهيم أبي الأنبياء. ولكنّ الشاعر لم يهدأ له بال، ولم تُرقأ له دمعة. فنقله الله إلى حضنه، فلم يقنع ولم يهدأ له دمع. فسأله الله عما به، فأجاب بأنّه يودّ لو ينقله الله إلى حضن أمّه، لأنّه أحن عليه من كلّ حضن آخر. فتعجّب الخالق من هذا الطلب، وأدهشه أن يرى مخلوقاً يفضّل على أحضانه الإلهيّة حضن امرأة على الأرض، وصمّم على أن يختبر بنفسه حضن الأم.
ويختم الشاعر قصيدته – أو حكايته الشعريّة – بالبيت التالي:
وكانت ليلة، فاذا صبيّ
صغير نائم في حضن مريم
وفي هذا البيت يلخّص القروي عقيدة المسيحيّين أصدق تصوير، وبأصدق عبارة، ويصوّر حنان الأمهات، ومكان الأم، وقدسيّة الأمومة على حد تعبير الناعوري.
و من قصائده في (الألم) قصيدة يقول فيها:
علّقت فوق سريري رسم والدتي
تعويـــــذة لي مــن أشبــــاح أتراح
ورحت أغمض أجفاني وأفتحها
على رضى الأم إمسائي وإصباحي
وعلى الرغم من العديد من القصائد التي كتبها القروي في حبّ أمّه، وفي تمجيدها، فإنّه حين توفّيت أمّه عام 1954، لم يستطع أن يرثيها وحدها؛ فقد كانت المأساة الفلسطينيّة تملأ آفاق نفسه. فجعل رثاء أمّه رثاء للشعب الذي تشرّد عن أرضه، فقال:
كفى الميــت منّـا أن يُحَسَّ لـه فقد
أبعد هلاك الجمـع يفتقد الفردُ؟
أبعـد فلسطينٍ ينـــاح عـــلى فتى
وهل بقيت في مقلة دمعة بعدُ؟
بكائي على المليون أنضب أدمعي
فما أنا إلاّ النار والحجر الصّلد
ثمّ يذْكر أمّه في القسم الأخير من القصيدة فيقول:
ألا دمعة من لاجىء أستمدّها
فأبكي بالبحر الذي جَزْره مدُّ
وأندب أمّا لم يجد مثل حبّها
وحبّي لها لا الوالدات ولا الوُلْدُ؟
وفي عام 1955 صدر كتاب الناعوري »طريق الشوك«، وهو المجموعة الأولى من أعماله القصصيّة، وكانت كلّها من وحي النكبة الفلسطينيّة. ثمّ تلاه كتابه »بطولات عربيّة من فلسطين« في طبعته الأولى. وتقرّر تدريسه للمطالعة الإضافيّة في الصفّ السادس الابتدائي في مدارس ضفّتي الأردن. فأهدى إلى القروي نسخة من كلّ من الكتابين. فجاءه كتابه بتاريخ 19/5/1955 يقول فيه:
»عزيزي عيسى -تلقّيت منذ أسبوع قصّتك »طريق الشوك«. وكنت قد قرأت ملخّصها في مجلّة »الأديب«. وأمس وصلني كتاب »بطولات عربيّة«، فما ألقيت نظرة على أوله، حتّى مضيت في مطالعته إلى النهاية، ونفسي كالريشة في مهبّ رياحه، أو كزورق رفيقنا الشاعر المهجري المغموط الفضل، المرحوم حسني غراب، الذي يصف نفسه بقوله:
»زورقي تائه وزادي قليل
وشراعي بالٍ ونجمي خاب«
ويضيف قائلاً:
»أجل، كنت أقرأ وأنا من زفراتي ودموعي زورق تائه في عاصفة من بحر لجّيّ. إنّي أهرب من مطالعة هذه المآسي يا صديقي، فقد نالني من آلامها ما لا أحتمل معه مزيداً. لقد كنت أتعذّب وأشقى وأثور قبل حدوثها خوفَ حدوثها، حين كنت أحسّها وأتوقّعها وأنذر بها، ثم حين كنت أعيشها، وأناضل مع المناضلين فيها بكلّ ما يقع في دائرة إمكان وطنـيّ مغترب مثلي«.
وأخيراً يختم رسالته بقوله:
»عندي أن خردلة عمل… لا يوازنها اليوم جبال من كتب الفلسفة والشعر والنثر. أمّا إذا كان لا بد من القول، وكان للأدب في مثل حالنا قيمة، فإنّ آثره عندي ما كان على غرار قصّة »طريق الشوك« و»بطولات عربيّة«.
إذا كانت مجموعة »طريق الشوك« مجموعة أقاصيص مستوحاة من النضال الفلسطيني ومن النكبة. فإن »بطولات عربيّة من فلسطين« قد دون فيه للصغار وقائع القضيّة الفلسطينيّة من بداياتها الأولى، والثورات الفلسطينيّة المتعاقبة، والبطولات التي أبداها المجاهدون الفلسطينيّون ومن شاركوهم من العرب والمسلمين، خلال تلك الثورات، لكي تظلّ رفيقة لمشاعر الصغار، يتذكّرونها ويعملون على غرارها، ويُعِدّون أنفسهم ليوم الثأر. وقال في مقدّمة الكتاب مخاطباً الصغار:
»لا تقفوا ولا تضيعوا الوقت في لومنا، لأن هذا لا يفيد، بل يؤخّر سيركم. واعلموا أننا الآن نعمل في ظروف سيّئة لنكفّر عن خطايا الماضي، ونسهّل الطريق أمامكم للغد. ولا تظنّوا أن ماضينا وحاضرنا كلّها أخطاء وخيانات. هذا غير صحيح، فقد ظهرت فيهما بطولات عظيمة جداً، قام بها أبطال كبار وصغار: كبار مثلنا وصغار مثلكم وأصغر منكم سنّا. ونحن نقصّ عليكم في هذا الكتاب، وفي كتب أخرى قد تليه، أشياء منها لكي تتعلّموا من هذه البطولات دروساً للمستقبل، فتنسوا بها الأخطاء وأعمال الضعف التي ارتكبها أناس منّا«.
وحكاية هذه البطولات العربيّة أن الناعوري كتب هذا الكتاب أولآً، وكان يريد أن يجعله بداية سلسلة كتب عن البطولات العربيّة، تتناول ثورات العراق، وسوريّة، والجزائر. وعرض الكتاب والفكرة على المغفور له الشيخ إبراهيم القطّان، وكان مفتّشاً للدين واللغة العربيّة في وزارة المعارف، وقال له أن يكتب هوكتاباً عن ثورة الجزائر، وكتاباً آخر عن الثورة السوريّة الكبرى (1952-1927)، وأن يكتب الناعوري كتاباً آخر عن ثورة العراق عام ٠٢٩١، ويظهر اسماهما معاً على كلّ كتاب من هذه الكتب الأربعة. غير أن الأيام مرّت وهما يجمعان المصادر لهذه الكتب، ولكنهما لم يكتبا شيئاً. وظلّ كتاب »بطولات عربيّة من فلسطين« الحلقة الوحيدة التي صدرت من السلسلة، وعليه اسم الشيخ القطان وعيسى الناعوري. وقد لقي الكتاب إقبالاً واسعاً، واستقبلته الصحافة العربيّة في الأردن وسوريّة ولبنان أحسن استقبال، وأعيد طبعه أربع مرات في أربع سنوات متوالية.
من عام 1955 تلكأت المراسلة بين القروي والناعوري إلى عام 1957. وفي ذلك العام كان المرحوم الشيخ إبراهيم القطّان مفتّشا لمدارس لواء البلقاء. فطلب إليّه أن يكتب اليه القروي ويطلب منه ثلاثين نسخة من »ديوان القروي« ليوزّعها الشيخ على مدارس اللواء الثانويّة. فكتب إليه بذلك، وجاء جوابه بتاريخ 11/2/1957، وفيه يقول:
»تحيّة ودعاء. حال وصول كتابك، شرعت أرسل تباعاً ما تفضّلتَ والشيخ القطّان بطلبه من نسخ ديواني، مرجئاً الجواب، لعلمي أنّه يصلكم قبلها بالطيّارة. وعند تسلّمي كتابك الثاني نهار أمس، كنت قد أرسلت بالطيّارة 12 نسخة باسمك و13 نسخة باسم الشيخ. وأنا بسبيل إرسال الباقي خلال هذا الأسبوع ان شاء الله. وما تمهلي إلاّ لأن الكتب ضخمة ثقيلة، ويقتضيني لفّها وحزمها وشحنها جهداً كبيراً بالنسبة إلى صحّتي المتوعّكة، وسنّي المتقدّمة؛ وأنا لا مساعد لي في أيّ عمل«.
ثمّ يضيف قائلاً: »لعلّك طالعت قصيدتي »منبر العمل« في مجلّة »المواهب« الأرجنتينيّة… في هذه القصيدة أبيات وصفت بها الشهيدة »رجاء«، ويهمّني الآن أن أعلم منك أهلها، وحالهم وعنوانهم ببعض التفصيل، إذا تفضّلت«.
والشهيدة رجاء التي يشير اليها، والتي كتب فيها قصيدته »عنبر العمل«، هي الطالبة رجاء حسن عماشة التي استشهدت في القدس في تلك الفترة. وكان قد كتب الناعوري الى القروي عن قصّة استشهادها، -كما أراد- وبعد ثمانية أيام من تاريخ الرسالة السابقة – أي في 19/2/1957 – كتب إليه القروي رسالة أخرى جاء فيها ما يلي:
»يوم الثلاثاء الماضي طيّرتُ إليك أنّي أرسلت 25 نسخة من الديوان، وأخبرك الآن أنّي أرسلت الخمس الباقية خلال الأسبوع. وهاك البيان لتراجع بريد عمّان إذا لزم«. ثمّ يسرد قائمة بالنسخ، والأيام والتواريخ التي أرسلها فيها، وأرقام الإيصالات لكلّ منها، والاسم الذي شحنها إليه »الشيخ القطان، أو الناعوري« ويرجو أن تتسلّمها وتكتب إليه ليطمئنّ عليها«.
وقد وصلت النسخ جميعها، وكتب إليه يطمئنه إلى وصول الشحنة الأولى منها.
وفي 24 مارس (آذار) 1957 – أي بعد شهر أو أكثر قليلاً – جاءته رسالة منه. هذه المرّة جاءت الرسالة من مدينة »برزدنتي برودنتي« وليس من (صنبول) – كما اعتاد أن يكتبها في رأس كلّ رسالة، بدلا من (سان باولو)، كما هو اسمها – وفي هذه الرسالة يقول:
»أخي عيسى – أكتب اليك فور تسلّمي جوابك من يد ابنة أخي العائدة الساعة بالطيّارة من العاصمة، شاكراً لك التطمين عن وصول أول شحنة من الكتب. والأمل أن يصل سائرها قريباً، إن شاء الله«.
ثمّ يأتي المهمّ من هذه الرسالة، اذ يضيف القروي قائلاً:
»وأمّا الغرض الأهمّ فهو استيقانكم عن إرسال ثمنها إليّ، لأني وقفته على عائلة الشهيدة الخالدة »رجاء«، باستثناء تكاليف الشحن والتسجيل البالغة عشر ليرات أردنيّة، تحفظونها لحسابي مع أحدكما لحين الطلب. وأنّي أقدّم سلفاً جزيل امتناني لقيامكم عنّي بهذا الواجب المقدّس، مع الرجاء بأن يصلني بواسطتكم وثيقة من أسرة رجاء بتسلّمهم القيمة. وأفوّضكم منذ الآن بتوزيعها عليهم حسب فهمكم وإنصافكم، أو تقديمها لوالد الشهيدة أو والدتها«.
ثمّ أرسل إليه قصيدته »منبر العمل« التي كان قد أشار إليها في رسالة سابقة، وفيها تمجيد لما عملته الشهيدة رجاء. وهذه أبيات من القصيدة، أقدّمها في ما يلي، وهي من الشعر الوطني المثير والمؤثر الذي اشتهر به القروي:
»تبدّلـــت لغــة الأحــرار وانتقلــت
آي الجهــاد مـــن الأقـلام للأســــلِ
والحـــبّ آيتــه بـــــذل وتضحيـــة،
لا أَشْطُرٌ مــن رخيص الشعر مبتذلِ
بنت الحمى ليس يحميها القريض ولا
ترضى عن السيف يوم الثأر من بدلِ
أما أتــاك عـــن الأردنّ حـين فـــَدَت
إخوانها مـن إســـــار الــــذلَ والنكـلِ؟
لهف الشباب عليها حـــرّة ربأت
بعلمها عــن خـــدور الـدلّ والكســـلِ
ماتت، فعاشت »رجاء« في النفوس كما
عاش اسمها الحلو في الأفواه والعُقـل«
وفعلاً راح الناعوري يبحث عن ذوي رجاء، فوجدهم يقيمون في أريحا. فاتّصلت بهم هاتفيّا؛ فجاء شقيق رجاء، السيّد أحمد حسن عماشه، وزاره في مكتبه في وزارة التربية والتعليم، فسلّمه خمسين ديناراً تقدمة من الشاعر القروي رشيد سليم خوري، وسألته ماذا سيفعلون بهذا المبلغ؟ فأجاب بأنه سينفق على اقامة ضريح لشقيقته الشهيدة. فطلب إليه أن يكتب إيصالا بالمبلغ، يشكر فيه القروي. فكتب الإيصال وذيّله بالشكر، وبعث به مع رسالة إلى القروي.
القروي كان أحوج الى هذا المبلغ – على ضآلته – من ذوي رجاء. ولكنّه كان يفضّل أن يجوع لكي يقوم بعمل وطنّي كهذا. وكذلك كان رفيقه الشاعر إلياس فرحات.
القروي كان يطبع »اللاميّات الثلاث« ويرسل ريعها- وهو 255 ليرة انكليزيّة -إلى أمين الجامعة العربيّة آنذاك لكي ينفق على تعزيز قوّة الدفاع عن فلسطين.
وروى جورج صيدح في كتابه »أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأمريكيّة« – نقل الناعوري ذلك عنه في كتابه (أدب المهجر)- أن القروي أهدى نسخة من ديوانه إلى الشيخ أحمد حسن الباقوري، في مصر، فأرسل إليه الشيخ حوالة ماليّة، تقديراً له، مقدارها مئتا جنيه مصري. فأعاد إليه القروي الحوالة شاكراً، وطلب إليه أن ينفق المبلغ على تسليح الجيش المصري.
وذكرالأستاذ أكرم زعتير في كتابه »مهمّة في قارّة« حسب ما أشار الناعوري ما يلي:
»حدّثني الصديق إلياس عاصي أن القروي كان، حين يتطوّع بالطواف على القرى والأقاليم النائية لجمع الإعانات للقضايا العربيّة، يصطحب معه جوارب لبيعها في الحين ذاته، ولينفق من ربحها على أجور رحلته، مُؤْثراً هذا على أن ينفق من الأموال العامّة شيئا«.
لقد عاش القروي فقيراً في مهجره، ولم يستقرّ به الحال إلاّ بعد أن قدّمتْ له الحكومة السورّية راتباً شهريّا مدى الحياة، مقداره ألف ليرة سوريّة. وقد عاش القروي على هذا الراتب بقيّة حياته في لبنان إلى حين وفاته.
وفي 29 يونيو (حزيران) 1957، وعن »ثغر سنطس« هذه المرّة، كتب إلى الناعوري يقول:
»أخي عيسى – في 17 الفارط بعثتُ إليك وإلى أخينا المفضال الشيخ إبراهيم القطّان رسالة واحدة مشتركة الفحوى، معنونة الغلاف باسمه فقط، وهي بمثابة جواب على خطابك المؤرخ في 14/4، وترضية واجبة لأخينا المذكور الذي شاركك الفضل في طلب كتبي وتوزيعها، ولم أخصّه بتحرير طيلة تراسلي وايّاك بشأنها. وقد ضمّنتُ رسالتي الشكر لكليكما على إتاحتكما لي هذه الفرصة السعيدة للقيام بواجبي نحو الشهيدة رجاء وأسرتها. بتقديمكما عنّي خمسين ديناراً من ثمن الكتب إلى السيّد أحمد حسن عماشة، شقيق الشهيدة، لينفقها في بناء ضريح لها. والتمستُ أن تتقبّلا العشرة دنانير الباقية هديّة منّي، عربون اعترافي بجميل مسعاكما. ولقد أقلقني إبطاؤكما غير المألوف عن مجاوبتي، فثنّيت إليك خصّيصا، راجياً التطمين إذا تفضّلت. والسلام والمحبّة الأخويّة لك وله من أخيكما – رشيد سليم خوري«.
بعد المرحوم الشيخ القطّان، شاء الصديق الأستاذ وهيب البيطار، مفتّش مدارس لواء نابلس يومذاك أن يبتاع لمدارس لواء نابلس الثانويّة عشرين نسخة من »ديوان القروي«. وطلب إلى الناعوري أن يكتب إلى القروي بذلك. فكتب إليه وجاء جوابه »من صنبول هذه المرة، كما كان من قبل« يحمل تاريخ 21/اغسطس (آب)/1957 وفيه يقول:
»كتابك المؤرخ في 8 الجاري تبلّغته اليوم. أنّي شاكر للصديق الأستاذ وهيب البيطار ولك عشرين نسخة من ديواني لتوزّع على مدارس لواء نابلس الثانويّة. وأنيّ سأبدأ بشحنها بالتدريج من نهار غد، إن شاء الله… وسأبعث بنسختين لتقدّمهما عنّي لمن تشاء من إخوان الأدب، كاتباً عليهما بخطّي (هديّة من القروي). وأنا لا أشكّ في أنك تحسن الاختيار… وأهدي إليك وإلى الأخ وهيب أطيب تحيّاتي وتمنيّاتي« – صديقك رشيد سليم خوري.
ثمّ تلتها، بتاريخ 30 اغسطس (آب) 1957 – أي بعد تسعة أيام فقط – رسالة أخرى تؤكد أن القروي أرسل نسختين من ديوانه ليهديهما إلى من يشاء من »إخوان الأدب«.
ويقول القروي في ختام الرسالة إنّه سيكتب إلى الأخ وهيب.
كان القروي كثيراً ما يخطىء اسمه، فيدعوه »إبراهيم«. فهو حيناً يبدأ رسائله إليه بـ»أخي عيسى«، وحينا بـ»أخي صديقي عيسى«، وحينا آخر بـ»أخي إبراهيم«. وقد جاءت منه رسالة تاريخها 18/11/1957 يستهلّها بقوله:
»أخي إبراهيم، وقاه الله – تحيّة المودّة الأخويّة الصادقة«… وفيها يخبره بأنّه تسلّم رسالة منه تاريخها 29/10/1957، ورسالة مماثلة من الأستاذ وهيب البيطار، تؤكّد فيهما وصول 19 نسخة فقط من النسخ العشرين المطلوبة. ثمّ طلب منّه أن يحول إليه الثمن قبل حلول الأعياد. ويضيف إلى الرسالة جدولاً بتواريخ شحن النسخ العشرين، وأرقام تسجيلها، وباسم من أرسلها.
وفعلاً حوّل إليه الثمن كما يشير بتعليقه على الرسالة بتاريخ 3/12/1957، وكتب إليه بذلك في اليوم التالي، 4/12/1957. وانتظر جوابه ليطمئنه إلى وصول المبلغ. فجاءه الجواب »من صنبول« يحمل تاريخ 7/1/1958 وفيه أن المبلغ وصل، وقبضه من أحد البنوك. وطلب منه أن يطمئن الأستاذ وهيب البيطار إلى ذلك. ويقول في الرسالة إن النسخة العشرين قد عادت إليه، وعليها بالفرنسيّة أن سبب إعادتها إليه هو»نقص في العنوان«. وفي الرسالة يتعذر إليه عن عدم تمكّنه من تزويده برسم جديد له، »لأن هبوطه إلى المدينة نادر، بسبب مشقّة النقل في هذه العاصمة الهائلة الازدحام والضجيج، والخطر المحيق بكلّ عابر سبيل. أضف إلى ذلك تهدّم أعصابي- كما يقول- وسوء صحّتي، وتبرّمي المفرط بكلّ ما أرى وأسمع حولي من هذه المدينة المصبوغة بأقبح ألوان الذوق الأمريكي المقرف«.
لقد انقطع الأديب الناعوري عن مراسلته منذ عام 1958، حين رآه يتحامل في بعض قصائده، ومنها (رثاء إيليّا أبي ماضي) على الملكين الهاشميين الراحلين الحسين بن طلال وفيصل بن غازي، ويتجنّى عليهما وعلى الهاشميّين انسياقاً مع التيّار الناصري كما يصف الناعوري، وانخداعاً بالدعاية الناصريّة، ولم يُفِد فيه وفي زميله الشاعر فرحات أي اقناع لتحويلهما عن هذا الانجراف مع التيّار، مع أن القروي – ومثله زميله فرحات – كانا يملآن الدنيا فخرا واعتزازاً لأن سطراً أو سطرين وصلا إليهما من الملك فيصل بن الحسين، أو من أبيه الشريف حسين؛ فكانا يكتبان القصائد الطوال في مدح فيصل والحسين والهاشميّين. وحين مات فيصل، ذهب القروي وفرحات إلى الأرجنتين للمشاركة في حفلة التأبين الكبرى التي أقيمت لفيصل هناك، وألقى كلّ منهما قصيدة من عيون شعره القومي. فآلم الناعوري هذا التحوّل العجيب، وهذا التنكّر للماضي القريب، وراح الناعوري يستاءل: »هل من العروبة في شيء أن يُشْتَم سادة العرب وقادتهم لأن واحداً منهم برز فجأة وراح يشتمهم ويتّهمهم بالخيانة«.
من هنا انقطع الناعوري عن المراسلة مع القروي، وعن مراسلة فرحات، وكانت المراسلات بين الناعوري وبين فرحات متواصلة آنذاك، وبلغت أكثر من (103) رسائل، وكان عند فرحات مثلها. وقد حاول فرحات مراراً أن يستعيد ما كان بينهم من مودّة ومراسلات دون جدوى. أمّا القروّي فلم تعد بينه وبين الناعوري صلة على الإطلاق؛ وعلى الرغم من أن فرصاً كثيرة أتيحت للقائه في سوريّة ولبنان، منذ عودته الأخيرة إلى الإقامة في بلده، وأتيح للناعوري مثلها للقاء فرحات حين جاء إلى الشرق، وظلّ مدّة عام يتجوّل فيه، وكتب إليه مرار من سوريّة ولبنان لكي يذهب للقائه، ومع ذلك فإن الناعوري لم يلتق قطّ بأي منهما.
ولا ينفي الناعوري عن القروي وفرحات عروبتهما المتينة، ووطنيّتهما المخلصة، ولم يحاول أن يقلل من قيمة شعرهما، وهو في الذروة من القوّة والجمال.
وتبرز المراسلات مدى المجاملات الشخصية فيما بينهما وكذلك التوثيق الدقيق للوقائع الأدبية والسياسية عبر فترة من أهم فترات التاريخ العربي.
وفي السابع والعشرين من شهر اغسطس (آب) من عام 1984، رحل الشاعر القروي، رشيد سليم خوري بعد سبعة وتسعين عاماً من العمر، قضاها بين لبنان والبرازيل، مغرداً دائماً للعروبة بشعر يفيض وطنية وإخلاصاً لأمته العربية، وصادحاً بألحان إنسانية رقيقة ملأى بالعذوبة.
فيما رحل الأديب الناعوري في ٥ نوفمبر (تشرين الثاني) 1985 وهو في تونس للمشاركة في ندوة أقامتها مجلة الفكر تاركاً فراغاً في ساحة الأدب العربي باعتباره من أعلامها على حدّ تعبير العلامة حمد الجاسر في مقالته »عيسى الناعوري فارق الحياة باسما« في جريدة عكاظ 2 نوفمبر عام 1985.
تيسير النجار (كاتب من الاردن)