ترجمها: محمد مظلوم
كولن ولسون عن آخر الملائكة:
رواية مُدهشة تكشف عن جذور ثقافة تعود لقرون
كثير منَّا لا تبدأ معرفته عن العراق إلا مع الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003. وكلُّ ما تشكَّل لدينا من صور ذهنية عن ذلك البلد تتعلق بأبي غريب، والعنف الطائفي وصور المصابين في التفجيرات التي تنقلها لنا الأخبار. بيد أنَّ رواية «آخر الملائكة» تتيح لنا أن نواجهَ عِراقاً مختلفاً.
تجري أحداث الرواية في حي «جقور» بمدينة كركوك خلال خمسينيات القرن العشرين. حيث مجتمع مُتعدِّد الثقافات: فنتعرَّف على عرب وتركمان وبدو وكُرد وغجر وبضعة أفارقة. وغالبية شخصيات الرواية مسلمون -رغم أن الكثير منهم يشربون الخمر بكمية كبيرة- في حين يحضر اليهود والمسيحيون أيضاً، لكنْ في خلفيَّة مسرح الرواية غالباً. كما ينطوي مجتمع «جقور» كذلك على حصته العادلة من أشباح وهياكل عظمية متحركة وملائكة ترتدي البياض، وإضافة إلى كلِّ هؤلاء ثمة الإنجليز، الذين يتولون إدارة صناعة النفط المحلية، والذين عادة ما يتسم سلوكهم بالسوء والغرابة. وتتبنَّى شخصيات الرواية وجهات نظر سياسية مختلفة، فالشيوعيون المحليون يسهل على رجال الأمن اكتشافهم، بما أن كلَّاً منهم أطلقَ شاربين ثخينين اقتداءً بستالين. وثمة شبحٌ يحضر في خلوة دينية ويوجه نقداً للرئيس المصري ناصر من مفهوم إسلاميٍّ.
تتحكَّم الكوميديا الاجتماعية بمعظم فصول الرواية، خاصة فيما يتعلق بسخافات النخب الصغيرة في البلدة. وثمة تفكّهٌ موجَّه بسخريته نحو الملالي، يشبه إلى حد ما، وعلى سبيل المثال، ما وجهه «الأب تيد» من توبيخ للكهنة. ومع ذلك فإنَّ للكتاب أسلوباً مشوَّشاً نسبياً لتحدِّي النوع الأدبي. فيما تلقي الكوميديا بظلالها على سرديات الصراعات الاجتماعية، التي تفسح المجال بدورِها أمام حدوثِ وقائع لا دنيوية.
فعلى سبيل المثال، في مرحلة ما من الرواية، اكتشفَ الأهالي أنَّ شركة النفط الخاضعة لسيطرة الإنجليز تنوي شقَّ طريق يمر عبر مقبرة البلدة. فأقدموا على أعمال شغب غاضبة- قتل على إثرها حلاقٌ بنيران رجال الشرطة، فدُفن في جنازة شعبية حاشدة. وفي الليلة التالية تحدث معجزة إذ ينفتح قبر الحلاق ويخرج منه نورٌ خاطفٌ تعشى منه الأبصار، ويرتقي القتيل إلى الفردوس الأعلى على ظهر «البراق» وهو حصان النبي، بينما تظهر الطير «الأبابيل» لتلقي أحجاراً «من سجِّيل» على رجال الشرطة الفارِّين.
وتتغير نبرة الرواية في الفصول الأخيرة التي تصوُّر انقلاب عام 1958 الذي أقام النظام الجمهوري في العراق، تليها قصة نفي الشاب وهو أحد الشخصيات الرئيسية من المدينة وعودته إليها كهلاً. وتعيدنا هذه العودة إلى الزمن الراهن.
رواية «آخر الملائكة» عملٌ أدبيٌّ يكشف لنا، أكثر من سواه، جذور الثقافة العراقية التي تمتدُّ إلى قرون. ويعكس لنا عبر منظار النماذج المتغيرة في هذه الراوية ثراءَ هذا المجتمع وتعقيده.
إنها رواية رائعة في حدِّ ذاتها، ومع هذا فإنَّ العديد من القرَّاء سيجدونَ فيها، كذلك، مصدر إلهام لمواصلة النضال من أجل إنهاء الحرب.
الشاعر الانجليزي جيمس بيرن عن «صانع المعجزات»
شاعر من سلالة شعرية نادرة
فاضل العزاوي (قصائد مختارة 1960 – 2002) (ترجمة خالد مطاوع)
إصدارات: بوا ايديشن
رغم المكانة التي استحقَّها فاضل العزاوي بجدارة خلال السنوات الأربعين الماضية بوصفه أحد أبرز الشعراء المعاصرين في العراق، إلا أن: «صانع المعجزات» هو أوَّل كتاب لمختارات شعرية شاملة يصدر له باللغة الإنجليزية.
ولد فاضل في مدينة «كركوك» شمالي العراق، ويعيش (منذ ما يقرب من ثلاثين عاماً) في المنفى. وقبل مغادرته العراق عام 1977 إثر تلقيه منحة دراسية في «لايبزك» بألمانيا، كان العزاوي قد سُجن ثلاث مرات بسبب كتاباته السياسية، وأمضى أطول مدة له في السجن في عام 1963 بعد انقلاب البعث (الذي شارك فيه صدام حسين في شبابه) حيث حكم على الشاعر الشاب بالسجن ثلاث سنوات. على خلفية تفوِّهه بـ «كلام خطير»
وقد هُرِّبت القصائد التي كتبها فاضل خلالَ محكوميته تلك، من سجن «الحلة» سيئ الصيت، حيث كان هو والسجناء الآخرون يتعرَّضون للتعذيب (أو للإعدام في بعض الحالات) داخل أسواره. وبعض من القصائد التي كتبها فاضل في تلك الفترة منشورة في «صانع المعجزات» ومن أمثلتها المؤثرة بشكل خاص قصيدة «السجين رقم 907» حيث يقع الشاعر في حب «الفتيات المعتوهات» في محاولة لاستعادة السعة التي عاش فيها في العالم الخارجي. لتبلغ القصيدة ذروتها في نهاية حاسمة ومؤثرة، كما هو متوقع (وما يجعل هذا التوقع ممكناً أن الأبيات الأخيرة من قصائد فاضل عادة ما تكون مدهشة) حيث يغادر الشاعر مطروداً لكنه يأمل دائماً في أن:
«يتحرَّى عَنْ لحظةِ حبٍّ
في وَجْهِ العَالم»
يغطي «صانع المعجزات» فترة 42 عاماً من تجربة فاضل العزاوي، بدءاً بمجموعتين نُشرتا في العراق «صاعداً حتى الينبوع (1960 – 1974) والشجرة الشرقية (1975)1
قد يساء تفسير القصائد المبكرة إذا ما قُرئت على أنها أسطورية محضة، وستفهم على نحو أفضل إذا ما وضعنا الجغرافيا السياسية التي كتبت في أجوائها في نظر الاعتبار. فرغم تلك السلسلة المتصلة من العزلة والشعور بالإحباط فإنَّ الشاعر يوظفها ببراعة، من خلال التكيُّف مع الظروف التي كُتبت فيها هذه القصائد، ويضفي على القارئ شعوراً بالتحدي اللافت لدى الشعراء في بلدٍ متقلِّب، حيث يكون مستعداً لأن يغامرَ:
«… في الدنيا لو صَفْعَة
تمسحُ عَنْ أهْدَابي الدمعة»
كما تظهر أمثلة أخرى عن الشاعر الذي يقف بثبات (في وقت كانت فيه الطغمة العسكرية البعثية تفرض نفوذها) في قصيدة «روميو العجوز» المكتوبة بأسلوبٍ جميل، وكذلك على امتداد تلك اللوحة المترامية الأطراف (تعاليم ف العزاوي الى العالم). وفي الواقع فإن «التعاليم» تبدو وكأنها إشارة إلى اتجاه جديد في تجربة الشاعر. فمن خلال سلسلة من الأشكال المتجاورة (تخطيطات مدمجة بظرافة وفراغات تركت كي يملأها القارئ) يحقق فاضل مستوى مُدهشاً للغاية من الوحدة الميتا شعرية. وهو لا يزال شاعراً وكاتباً شاباً تحت وطأة مثل هذه الظروف القاسية (بما في ذلك سجنه المذكور سابقاً) وينجح فاضل العزاوي بوضع بصمته شاعراً طليعياً في عراق يزدادُ فيه القمع.
المجموعة الثانية التي تضمنتها «صانع المعجزات» تمثل آخر كتاب نشره فاضل في وطنه. وهي تعبر في جميع ثناياها عن شعور متزايد بالعزلة، ويعتمد ديوان «الشجرة الشرقية» أساساً على حكاية رمزية. إذ يشرع بطلها الرئيسي «عبد الله» بسلسلة من الرحلات عبر البراري ليكتشف أسلوباً جديداً للعيش ويجد مكانه في العالم. ويحاول أن ينجز ذلك من خلال التجوال، فعبد الله متسكع في أرض مضطربة. وفي تظهير رائع للأصالة من قبل الشاعر، تستسقي إجابات عبد الله من الينابيع غير المتوقعة، ففي إحدى قصائده، يتبادل عبد الله الأدوار مع حمار طاحونة، بعد أن راقب عن بعد ورأى طحاناً وهو يجلد هذا الحيوان المنهك. وبينما يتلقَّى عبد الله جلدات السوط على ظهره، يستدير الحمار نحوه ويشكره.
تنقسم «الشجرة الشرقية» إلى قسمين. وعلى الرغم من أن قصائد الحكاية الرمزية قائمة بذاتها، فإن القصائد الأخيرة مثل: «في المعتقل» و«سعادة» تمثل نقطة تحول أخرى بسبب صراحتها الصرفة في مواجهة التعسف والتوحش. وفي هذه القصائد يجري الاحتفاء ببضعة من الإنجازات المتواضعة. كما جاء في قصيدة «السعادة»:
«يَكْفِيني إنِّي أَحْيَا…
يَكْفِيني إِنِّي إذْ أصعدُ سلَّمَ موتي
أتركُ أَشْعاري بَعْدي للناسِ وأعيش»
لحظات كهذه تعني أن «الشجرة الشرقية» بلغت ذروتها كأحد أكثر أجزاء الكتاب فجائعية. وعلى امتداد قصائد «الشجرة الشرقية» يبدو الأمر كما لو كان فاضل يعرف أن مغادرته وشيكة، فيستعد للمنفى.
سيكون من السهل المضي على هذا المنوال، في الإشادة بجميع قصائد المجموعة، وعلى وفق تسلسلها الزمني. فكل منها يستحق التنويه، وكلها قصائد متينة.
وفي حين أن العديد من الأمثلة المبكرة لـ«صانع المعجزات» تبدو «قصائد شاعر» إلى حد ما، فإن أفضل أعمال فاضل وأكثرها حضوراً يمكن تقصيها بسهولة في المجموعات الأربع المتبقِّية. إذ يبدو الحال كما لو أن هذه القصائد أتيحَ لها الآن أن تتنفس بسهولة أكبر، لأن الشاعر لم يعد يواجه مخاوف يومية من العسف أو القمع. بينما تركز قصائد «رجل يرمي أحجاراً في بئر» و«في نهاية كل الرحلات» غالباً على الشاعر الذي يتكيَّف مع الحياة في المنفى بوصفه عربياً يعيش في الغرب، إلا أنه يسافر عبر الزمن أيضاً إلى العراق بإتقانٍ لا يخلو من صفاءٍ، وبشعور مُستمدٍّ من التجربة. وهو ما يتجسَّد في نبرة الحنين إلى الماضي الوامضة في قصيدة «أغنية نفسي» ولعلها الترجمة الأكثر اكتمالاً في الكتاب. وفيها يستعرض فاضل تجاربه على مدى عقد من الزمان، من القمع إلى المنفى، إلى الاقتلاع النهائي، مطمئناً نفسه باستمرار أن:
«كلُّ شيءٍ سيكونُ على ما يُرامُ، يا فاضل»
أما نهاية القصيدة فهي شقشقةٌ جديرةٌ أنْ تورد كاملة:
«والآنَ ماذا ستقولُ لنفسِكَ يا فاضل
وقدْ أحرقتَ وراءك السُّفنَ كلَّها؟
آه، لا أريدُ أنْ أقولَ شيئاً،
لنْ أقولَ أيَّ شيء.
دعوني، اللعنة!
فقد بلغتُ النهايةَ في لحظة واحدة
وختمتُ كلَّ حكمةٍ في العالم
حتَّى قبلَ أنْ أعرفَ
ما الذي حَدَث»
ويتضح في (أغنية نفسي) المستوى الجديد من الشعور الذي بلغته ترجمات خالد مطاوع.
ومطاوع، المولود في ليبيا، هاجر بلاده وهو في سن المراهقة، وكان عليه أن يبني لنفسه حياة جديدة في أمريكا. إن الشعور بالنفي، والكفاح الذي يتجلَّى في القدرة على تجاوز القهر، والمستوى العام للحساسية نشيدٌ متواصل على امتداد «صانع المعجزات» ومطاوع لا يقصر اهتمامه على لغة الشعر فحسب، بل يولي عناية تامة للشاعر نفسه. وهو ما يتجلى في جميع قصائد الديوان وفي المقدمة الزاخرة بالمعلومات.
ومع أن الكتابة من المنفى تصبح حيزاً لاستقطاب المزيد من الحكايات الرمزية المتأصلة أساساً في أعمال فاضل، إلا إنه لا يفقد شيئاً من قدرته على تذكرها وهو يعيش في الخارج. حتى وإن تنامى أي شيء منها في غيابه. فقصيدة «مرثية الأحياء» المكتوبة عشية حرب الخليج عام 1991، تجسدُ رؤيا مروعة ومهولة وتستشعر المزيد من سفك الدماء، في وقت أصبحت فيه القنابل الأمريكية جاهزة لأن تُسقط على العراق.
توظف هذه القصيدة سلسلة من الأشكال المتنوعة كما هو الحال في قصيدة (تعاليم ف العزاوي) فهي زاخرة بالمقاطع الرائعة، وجديرة بأن تشكِّلُ كتاباً لوحدها. وفي المناخ الراهن من النزاع بين الشرق والغرب، ومع وجود الكثير من القصائد الجهول التي كتبها أشخاصٌ لم يجرِّبوا الآثار المباشرة التي يخلفها هذا الصراع، فإننا نجد في عمل فاضل هذا، شاعراً مجرباً يكتب عن الواقع، وعن تجربة. في اجتناء شيء من الحقيقة من صراع اليوم، وفي معرفة مدى تأثيره على الثقافة الأخرى، مما يضفي على هذه القصائد أهمية أكثر من سواها. وتعد قصيدة «مرثية الأحياء» تحديداً، عملاً بارعاً وفذَّاً في حدِّ ذاته.
ولعلَّ ما يثير الدهشة أن فاضل (رغم كلِّ ما مرَّ به) ظلَّ مُتمتِّعاً بموهبة استثنائية في السخرية والفكاهة في أحدث قصائده، حتى في أكثر اللحظات اضطراباً ففي «مرثية الأحياء» يخبر فاضل الأمريكيين كيف سيرسل لهمْ «أكفَّ الأطفال العراقيين» وهي مقطوعة، ليليها ببضعة أسطر ما يلي:
«… افعلي ما تَشَائينَ بِصواريخِكِ الإلكترونيَّةِ، اصطادي بها الحِيتَان، أو فجِّريها في مُؤخِّرتكِ…»
ثمَّ يعلن في القصيدة، الكيفية التي سيعيد بها إرسال هذه القنابل «من دون حقد» إلى كثير من الأمريكيين أمثال «ويتمان» و«غينسبيرج» و «إلفيس بريسلي» وراقصي «الروك أند رول»….ولعله رأى في هؤلاء أفضل مراقبين للأسلحة. وثمة أمثلة أكثر وضوحاً عن نباهة فاضل في المفارقة والظرافة، تظهر في قصائد مثل «كتاب الأكاذيب» و«تفَّاحة نيوتن» والقصائد المستوحاة من كافكا مثل: «الصرصار» و«المفاجأة»
إن المفارقات الواضحة في أواخر القصائد المختارة تجعل الكتاب أكثر اكتمالاً لشاعرٍ أصبح الآن واثقاً تماماً، وهو في قمته وأبعاده المتعدد.
وفي الخلاصة فإنَّ «صانع المعجزات» كتابٌ مذهلٌ تماماً، تُرجمَ بذكاء واصطدم بشاعرية مضيئة. الجانب السلبي الوحيد هو أن فاضل العزاوي ليس لديه ناشر إنجليزي بعد. ونأمل أن يتغير الحال قريباً.
فاضل العزاوي من سلالة شعرية نادرة، جريء، ومرح، وتجريبي، وخلاق بلا حدود، وموسوم بالعبقرية.
الناقد الأمريكي ريتشارد ماركوس عن «آخر الملائكة»
فاضل العزاوي يخلق عالماً يتداخل فيه الواقعي بالسحري
الهجاء الساخر موضوع بالغ الحساسية، أو هكذا ينبغي أن يكون في النهاية. بيد أنه عادة ما يبدو ملتبساً مع المهزلة لسبب ما، وهو التباس يشبه الخلط بين المنشار الآلي واللمسة الحساسة لمبضع الجراح. صحيح أن كليهما سيقتربان في قطعهما من العظم، لكن الفرق بينهما أن المهزلة تترك فتحة شقِّيةً كبيرة بحيث تجعل ما يحدث داخلها واضحاً، في حين لا يكاد الهجاء الساخر يخلِّف سوى ندبة صغيرة على الجلد. وإذ لا تكون للمهزلة صلة بالواقع، فإن الهجاء الساخر يعكسُ ما يشبه صورة مرآة عن موضوع يجري مسخه بحيث يصعب التمييز بينهما أحياناً.
وقدْ يكون الهجاء مُضحكاً، لكن ليس من المحتَّم أن يبدو هكذا دائماً، إذ من السهل أن نبكي كأننا نضحك على مثالب مجتمعنا. كما أن الهجَّاء الممتع بمقدوره أن يلتقطَ فكرة في غاية الشناعة ويجعلها تبدو مقبولة. غاية الهجاء سخرية من الغرور، والقداسة، والطاعة العمياء، والجهل الذي يدَّعِي الحكمة. فلا غرابة إذن أن لا يهتمَّ الهجَّاؤون بأن يحظوا بشعبية بين مَنْ يعوِّلونُ على التلاعب بالجماهير لدعم موقفهم، وأنه كلَّما ازداد الاستبداد في المجتمع ازدادت إمكانية أن ينتهي بهم الأمر إلى السجن.
هكذا كان الحال مع الكاتب العراقي فاضل العزاوي الذي أمضى ثلاث سنوات في السجن خلال ستينيات القرن الماضي قبل إطلاق سراحه ليغادر العراق إلى ألمانيا عام 1977 حيث لا يزال يعيش حتى اليوم.
الشاعر والروائي وكاتب القصة القصيرة، يجري الآن ترجمة رواياته إلى الإنجليزية. وإذا كانت رواية «آخر الملائكة»، التي ترجمت مؤخراً تتيح مؤشراً على نوعية أعماله بشكل عام فثمة المزيد مما يمكن الاطلاع عليه (وللمهتمين، ثمة موقعان على شبكة الإنترنت نشرت بعضاً من شعره، هما: الشعر العربي المعاصر وجهة الشعر يمكن أن يقدِّما لك فكرة طيِّبة عن نوعية كتابات الرجل)
قبل أن يشفطَ الأمريكيون النفط من العراق، كان البريطانيون قد سبقوهم إلى هناك. عقب «تحرير» العالم العربي من براثن الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وفي أوائل الخمسينيات كانوا لا يزالون يحكمون قبضتهم على صناعة النفط في العراق.
في رواية «آخر الملائكة» تعدُّ شركة نفط العراق المملوكة للإنجليز المستثمر الأكبر في مدينة كركوك، ويعتمد أهالي حي «جقور» المنكوب بالفقر على توسُّع عمل الشركة من أجل البقاء. وبينهم «حميد نايلون» الذي يفقد وظيفته (ومعها اكتسب لقبه المنحوس) حيث كان يعمل سائقاً لزوجة المدير البريطاني وكانت وظيفته هذه تضطره أن يقلَّ زوجة المدير إلى مواعيدها الغرامية المتعددة مع عشاقها، ففكر أنه من العدل أن يحصل هو أيضاً على قطعة من الكعكة، فقدَّمَ لها جورباً من النايلون مقابل الحصول على مطارحة على التبن2
ومن هنا طرد من عمله واكتسب لقبه، وكانت العواقب المالية المحتملة وخيمة فعلاً. لذا أعقبت فصله مظاهرة نظمتها نساء الحي احتجاجاً على فصله المجحف، فالمرأة الإنجليزية ليستْ سوى عاهرة في نهاية المطاف، وهو ما أدى إلى نوع من التعويض عمَّا أصابه، وارتفاع مكانة حميد بين أهالي الحيّ. ونظراً لمكانته الجديدة، فقد حسم أمره بأنه عليه أن يقتدي بالرئيس «ماو» وأن ينظم ثورة فلاحية. وبناء على قراءات فإنه يعرف بأنها لا بدَّ أن تندلع بوصفها تعبيراً عفوياً عن غضب جماعة من المضطهدين ضد ساداتهم، وأنها يجب أن تنطلق من الريف، بعيداً عن التأثير المفسد للمدينة. وكل ما يحتاجه بعض الحوادث من حوله حتى يتمكَّنَ من تدبير فورة عفوية من الغضب العارم.
وما أن أعلنت شركة النفط أنها تنوي شقَّ طريق يمر عبر مقبرة البلدة، حتى جعلت الحي بأسره في ضجة. فقرَّر الأهالي إرسال وفد من البلدة لمناشدة الملك لحفظ كرامة الموتى. وكان من بين المشاركين في الوفد حميد وصديقه خضر موسى. الذي نال شهرة هو الآخر بسبب ذهابه إلى روسيا بحثاً عن شقيقيه اللذين أُسِرا في نهاية الحرب العالمية الأولى ولم يرهما أحد منذ ذلك الحين. وكان الجميع قد رفضوا خطة خضر بوصفها جنوناً، حتى رآه سكان كركوك ذات يوم وقد هبط هو وأخواه في كركوك بمنطاد. حتى أن الملك نفسه حضر إلى المدينة لرؤية الإخوة المشهورين، وكان مفتوناً بالقصَّة.
ولهذا السبب كان «خضر» خياراً مثالياً لضمه إلى الوفد – فإذا كان ثمة شخص يمكن أن يصغي له الملك فسيكون هو- لكن لسوء الحظ، لم يكن الملك سوى زعيم شكلي، فبينما كان الوفد في بغداد، انفجر الوضع في كركوك. فقد طلب الأهالي من عمال البلدية إبعاد آلياتهم عن الموقع في محاولة لنزع فتيل الأزمة، لكن ما أن بدأوا في تشغيل محركاتها، حتى بدا أنهم ماضون في شقِّ طريقهم عبر المقبرة. فأدت أعمال الشغب التي تلت ذلك إلى وقوع ضحيةً لم يكنْ من بين المحتجين المرشحين للقتل! (كان الضحية حلاقاً يجلس ثملاً على كرسي أمام دكَّانه حين أصابته رصاصة طائشة) ولكن ما أن حلَّتْ نهاية النهار، حتى كان هناك عدد كاف من الشهود على استعداد أن يشهدوا أنه لم يكن بطلاً فحسب، بل انه شهيد إسلامي صعد بالفعل إلى السماء على ظهر البراق – الحصان الذي حمل النبي عندما صعد إلى السماوات السبع – وأن كونه عبداً أسودَ لا يقلِّل من مكانته.
هذه مجرد عينة صغرى من النكهة التي يمكن أن تتوقعها من رواية فاضل العزاوي المعنونة «آخر الملائكة» في وقت كان فيه العراق يسقط في فوضى الثورة والانقلاب الذي يعقبه آخر، ومع ذلك، فهي ليست مجرد سخرية مُرَّة، ففي غمار الرعونة والهستيريا الجماعية الموصوفة في صفحات الكتاب، ثمة لحظات من الجمال الرفيع مكتنزة كما الأحجار الكريمة الجميلة المتلألئة بين أكوام الدِّمْن. وإذ يتهكم الكاتب على الإيمان الأعمى للحماسة ويدين الطموح الذي يتحول إلى طمعٍ، فإنه يصور، كذلك، الجمال الحقيقي للإيمان، وقدسية الرحمة، وحرمة الحزن الأصيل.
شأنه شأن أفضل كتاب أمريكا الجنوبية، «غابرييل جارسيا ماركيز» و«جورج لويس بورخيس» خلق العزاوي عالماً يتداخل فيه الواقعي بالسحري. إنه عالم يمكن فيه لصبي صغير أن يفتح صندوقاً مخبأً في عِليِّة ويغطيه الغبار، ليجد نفسه في محادثة مع ثلاثة ملائكة، وحيث الموت يتنكر بهيئة بشرية ويتجوَّل بين أهالي كركوك. ولا تقلقوا فهو رغم ذلك لا يهمل واجباته، لأنه يحمل دفتر حساباته معه دائماً ويحتفظ بسجلاته بدقة كما هو شأنه دائماً.
مثل الرسام الذي يوازن بين الألوان على لوحة، فإن لمسة فاضل العزاوي في غاية الرشاقة لدرجة أننا نتحرك بين ما هو وضيع وما هو رفيع دون أن نلاحظ الانتقال. لكأنه أراد أن يقول إن الإنسانية، في الآن ذاته، قادرة على الصعود إلى الأعالي فيما نحن ننحدر إلى أحطّ الحفر، والفرق في المسار المؤدي، إلى أحدهما أو إلى الآخر طفيف للغاية حتى لا يكاد يميز
«آخر الملائكة» كتاب رائعٌ يفعل ما يبدو مستحيلاً: إثقال كاهل البشر بالسخرية، والإشادة بقدراتهم في الوقت نفسه.
1 «صاعداً حتى الينبوع» نشرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر-1993 وضمت الأعمال الشعرية لفاضل العزاوي المكتوبة في العراق بين عامي 1960-1974. وبينها مجموعته الأولي «سلاما ايتها الموجة سلاما أيها البحر» المنشورة عام 1974 (المترجم)
2 تعبير متسمدٌّ من المجتمع الزراعي البريطاني ويعني: «ممارسة جنس سريع» وعادة ما يستخدم على سبيل الدعابة «المترجم»