عبد الغني طليس
الرواية الآتية ثابتة وممهورة بالتوقيع. كانت مجلّة “شِعر” في عزّ انطلاقتها بنظرية التجديد في الشعر العربي، وممارسة ذلك بالنصوص والتجارب، عندما اعتبَر الشاعر سعيد عقل أنها تحاول مصادرة دوره قبْلها في التجديد، وهاجمَ القيمين عليها. فحملَ كبير “شِعر” يوسف الخال أوراقه وذهبَ لإلقاء محاضرة في بيروت عن المجلّة وطموحها في التغيير، وكان بين الأوراق قصيدتان واحدة لسعيد عقل هي “ألِعينيكِ تأنّى وخَطَر” وأُخرى للشاعر الأموي عمَر بن أبي ربيعة هي “هيّجَ القلبَ مغانٍ وصِيَر”. وبين القصيدتين في الزمن أكثر من ألف سنة. تحدّث الخال عن مجلة “شِعر” وأهمية وجودها في عملية تطوير الشعر العربي والخروج به من جلباب الماضي وأدواته.. ثم دعا الجمهور إلى المقارنة معهُ بين قصيدة سعيد عقل وقصيدة عمَر بن أبي ربيعة وهما من الوزن العروضي نفسه، ومن القافية نفسها ومن المضمون الغزالي نفسه (مع اختلاف المدرستين الشعريّتين طبعًا).. وقرأ القصيدتين مستغربًا كيف يكون سعيد عقل مُجَدِّدًا وهو بعد ألف سنة على قصيدةِ بن أبي ربيعة يَكتبُ قصيدةً تقلّدُها وتشكّل محاكاةً لها.. ويطرح في الخلاصة سؤالًا :من هو المُجَدِّد: سعيد عقل أم ابن أبي ربيعة؟!
وللدخول في موضوعيَ الأدبي الثقافي حول دور مجلّة “شِعر” وقيمتها والسجال الشعري الذي حرّكتْهُ وشاركت في عصْفه، لا بد من مقدّمة (في السياسة) قصيرة تُقَرّبُ فكرة هذا البحث إلى الأذهان. ففي لبنان، كلّما اشتدت الخلافات حول تفسير بنود من الدستور اللبناني الذي وُلِد من “اتفاق الطائف” تصدر أصواتٌ دستورية وسياسية تطالب بالإفراج عن محاضر جلسات مؤتمر الطائف ليعرف اللبنانيون ماذا جرى وماذا قيل وماذا لم يُقَل فيه “ليبنوا على الشيء مقتضاه”.. وحتى الآن لا تزال محاضر الجلسات في حمى رئيس مجلس النواب الراحل حسين الحسيني، ولا تزال المطالبات بنشرها قائمة قاعدة بهَبّة ساخنة وهبّة باردة .
مجلّة “شِعر” حضنَت كبارًا جدًّا في الشعر العربي، أيام الخمسينيات من القرن الماضي، وكانت منبرًا عميق التأثير في الواقع الثقافي اللبناني، بعد محاولات متميزة لتجديد الشعر العربي في العراق ومصر. نسي الجمهور دور “شِعر” مع تقدم السنين، فجاء راهب إيطالي هو الأب جاك أماتاييس إلى لبنان، فأخذ محاضر جلسات “خميس مجلّة شِعر” وجاء بها بعد سنتين في كتاب صدر عن “دار نلسن” بالعربية، بعنوان “محاضر جلسات خميس شِعر”.. و”الخميس” كان اللقاء الأسبوعي الذي يجمع شُعراءها: يوسف الخال، أدونيس، أنسي الحاج، شوقي أبي شقرا، عصام محفوظ، فؤاد رفقة، نذير العظمة، خالدة السعيد، محمد الماغوط.. وبعض الآخرين الذين كان حضورهم غير منضبط أسبوعيًا. وكانوا يتناقشون في شؤون الشّعر والشعراء ودواوينهم التي صدرت في تلك الأيام بحضور أصحاب الدواوين مباشرة، وكيفية التواصل مع الجمهور لبث روح التجديد في ذائقته.
في تلك المَحاضر ثروةُ معرفةٍ عن دقائق الأقوال والأفعال لكل من دخَل خميس المجلة وانخرط في الحوار مع تلك الجماعة التي كان يُنظَر إليها لدى التقليديين من الشعراء والأدباء على أنها الأداة لتخريب الشعر العربي.
كان واضحًا أن مسعى الشاعر يوسف الخال العائد من الولايات المتحدة الأمريكية متأثرًا بتجربة الشاعر عزرا باوند، ويريد إصدار مجلة كمجلته “the poet” سيكون صعبًا إن لم يكن مستحيلًا، لكن لقاءه بعدد من شُعراء تلك المرحلة (الخمسينيات) المؤمنين بالفكرة والراغبين في الدفع بها قُدُمًا، وفي مقدمتهم أدونيس، وآخرون، هوّن عليه البدء بالتجربة. وما كان مشروعًا غير واضح المعالِم وفيه مخاطر فشل، تحوّل خطوات تنفيذية بإصدار العدد الأول من مجلّة “شِعر” التي كان يبدو من مواضيعها ونصوصها أنها تهدف إلى مقارَبة أفكار التجديد في الشّعر والأدب، من دون تَحدّ للمجتمع ككل، أو لمجتمع الشعراء والأدباء بالتحديد، فَتحًا في المجال لإيجاد بيئة حاضنة لدى القراء.
العدد الأول من مجلّة “شِعر”
كان انتقائيًا متميزًا
وفي حين اعتقد بعض المتوجّسين أن المجلة سوف تنهال ضربًا بالفؤوس على القصيدة العمودية فوجئ الجميع بنشر “شِعر” قصيدتين كلاسيكيتين لشاعرين كبيرين هما بدوي الجبل (٨٤ بيتًا) ورفيق المعلوف (٢١ بيتًا). مجرّد وجود هاتين القصيدتين خفّف كثيرًا من التصوّرات السلبية لمعارضي المجلة. أما المؤيدون والمعارضون معًا فقد دقّقوا في المواد المنشورة، كلٌّ من جانبه يريد “كشف المستور”. والمستور هو من يموّل المجلة.. فقد كان هناك لغط كبير حول المموّل وهدفه، وكان خوفٌ من أن تكون وكالة المخابرات الأمريكية، بطريقة ما، هي اليد التي “تُهدّم الشعر العربي” عبر “شِعر”. وقد قال أدونيس أخيرًا في إحدى مقابلاته التلفزيونية إن “وكالة أمريكية” عرضت خدماتها المادية علينا أنا ويوسف الخال فرفضنا الأمر”.. وسرّ الجلَبة حول التمويل انطلق من واقعة هي أن مخابرات دولة عربية أبلغت المخابرات اللبنانية في ذلك الزمن أن هناك مجلّة اسمها “حوار” يديرها الشاعر توفيق الصايغ تتلقى “مساعدات مالية” من المخابرات الأمريكية عبر إحدى أذرعها “وكالة أمريكية للتنمية” وكان هذا الأمر مدعاة تخوين ورَذْل في المجتمع، فتم التحقيق مع صايغ الذي اعترف بتلقي المال لكنه أنكر معرفته بسيطرة المخابرات الأمريكية على “التنمية” فأوقف هو المجلة واعتذر للقراء. ومن الغرائب في هذه الواقعة المستهجَنة في الخمسينيات، أنها اليوم تمارَس على رأس السطح، مع تغيير الاسم: ngo.
حَوى العدد الأول من “شِعر”، مع قصيدتَي بدوي الجبل ورفيق المعلوف الكلاسيكيتين، أسماء كبار الداعين إلى كسر العروض التقليدي مُبَدّلينَه بالتفعيلة، وهم سعدي يوسف، نازك الملائكة، فدوى طوقان، ومشَاهد مسرحية شِعرية على التفعيلة لأدونيس، نذير عظمة، فؤاد رفقة، إبراهيم شكرالله، وقصيدة بالمحكية لميشال طراد، وطبعًا قصيدة لرئيس التحرير يوسف الخال بعنوان “الحوار الأزلي” وترجمات شِعرية لعزرا باوند، ومقال نقدي لرينيه حبشي، وهجوم نقدي على “قصائد لنزار قباني” التي وصفَها أنطون غطاس كرم بـ”المراهَقة”.
ليس هذا البحث لاستعادة تاريخ تطوّر القصيدة العربية والتغييرات التي حصلت عبر حركات أو مجلّات أو إصدارات قبل “شِعر” وبعدها، فهذا موجود في كتب ودراسات كثيرة، موضوعي هو مجلّة “شِعر” ومحاضر خميس المجلة التي أصبحت بين الأيدي، والحوارات “الداخلية” بين المؤسسين والشعراء الحاضرين جلسات المجلة بكل ما فيها من المدهش والغريب والمفاجئ. فقد كان واضحًا من البداية أن أدونيس يدعو إلى قراءة التراث قراءة نقدية هادئة لمعرفة ماذا فعل الذين كانوا قبْلنا في الزمن وماذا سنفعل نحن في قضية الشّعر وجمالياته وأغصانه وضروبه ومستواه الإبداعي، في حين كان الشاعر أنسي الحاج مع الهدم.. هدم كل ما تلقيناه من الشعر منذ الجاهلية مرورًا بالعصرين الإسلامي والأموي وصولًا إلى العصر العباسي، وكانت نظريته أننا إذا لم نتخلّ عن هذا الكمّ فلن يكون بإمكاننا البحث في مستقبل الشّعر العربي. أما يوسف الخال كأب جدّي لمشروع “شِعر” فقد حافظ على كثير من الوسَطيّة بين النهجين، أي دعا إلى وعي التراث واستيعابه من دون أن نأخذه كلّه وندعه يؤثّر سلبًا على قناعات التجديد. هذه الأفكار الثلاثة كانت حاكمةً في أغلب نقاشات خميس المجلة، بحيث انقسم جميع من حضَر الاجتماعات بينها، ولم يكن ظاهرًا أن هناك رأيًا سيغلب على الآراء الأخرى، إذ إن كل شاعر منهم كان يحاول إثبات نظرته إلى الشعر، في الحوارات، والحاضرون كانوا يُدلُون بدلوِهم إما لتأييد فكرة من تلك الأفكار، أو لنقض فكرة أخرى. وكانت نقاشات حامية جدًّا لا مهادنة فيها ولا قفازات، وكل “فريق” كان يأتي بأدلّته على صدق نظرته أو على كفاءتها، ويوسف الخال يتدخّل حين تدعو الحاجة حفظًا لرباط الودّ بين المجتمعين وخوفًا من أن تنكسر رقبة هذه التجربة من بدايتها.
كل إصدار شِعري جديد للأسماء التي ذكرتها من شخصيات المجلة، كان يؤتى به للنقاش. ديوان “لن” لأنسي الحاج، ديوان “البئر المهجورة” ليوسف الخال، ودواوين شوقي أبي شقرا وفؤاد رفقة وليلى بعلبكي وغيرهم كثُر كانت عُرضةً لنقد فعال، يابس أحيانا وقاسٍ وصلب ومتوتّر، وأحيانًا قليلة جدًّا كانت هناك ملاطفة أو مسايرة. الطابع العام للجدل كان جديًّا ويحمل صفة المواجهة، ووجهًا لوجه، فديوان “لن” لأنسي “لم أفهم منه شيئًا” قال فؤاد رفقة، وأحد دواوين شوقي أبي شقرا كان “صفّ حكي ومتل الألعاب” كما قالت نازك الملائكة، وديوان لأدونيس “فيه تصنع لغوي فظيع” قال يوسف الخال.. “وهذا كتاب جنسي” علّق أنسي على أحد كتب ليلى بعلبكي .. وهكذا كان يتم النقاش بين الجميع من دون ملاكمة أو مصارعة حرّة، أو «خربطة» أحدٍ على أحد، أو حذف أحدٍ أحدًا، أو استثارة شخصية مجانية، وكان الكل يسمعون ويتفهّمون وينتهي محضر الاجتماع الذي يكتبه الخال أو الحاج أو أدونيس بالتوقيع عليه.
ورغم خوف يوسف الخال من أن “تكون خطواتنا بمثابة قفزات جنونية في العتمة“ بعد سنتين من صدور المجلة، فإن الانطباع الذي بقي سائدًا عنده هو أن ما فعلته المجلة كان “تلك القفزات” التي وصفها “بالجنونية” وتحديدًا “في العتمة”.
على أن خلافات جماعة مجلّة “شِعر” التي روي عنها الكثير حول الشعر وتحديده والأشكال الجديدة التي يمكن أن تتمخض عنها المحاولة كلها كانت مبالغًا فيها إجمالًا لأن الأنواع والأساليب والصّيغ كانت موجودة كلها في المجلة ويتم تنفيذها بنصوص متنوعة الأشكال من العمودي إلى التفعيلة إلى قصيدة النثر إلى الترجمات ولم يكن هناك نوع معين مرفوضًا في المطلق، فاختيار القصائد كان “لا يخضع لأي مذهب فني ينتمي إليه القائمون على المجلة فالمقياس الوحيد ارتفاع الأثر الأدبي إلى مستوى فني لائق”. الخلافات الحقيقية بين الجميع كانت في “الأنا” الفنية التي يصعب ضبطُها لا في الأفكار المتقاربة نسبيًا، فـ”الأنا” في وضعية مجلّة تضم بين جناحيها مؤسّسين، حين تخرج الأنا عن الطوق، تصبح كاسحة ماسحة، فكلٌّ يرُدّ الأثر الكبير للمجلة إلى أفكاره وشِعره، وكُلٌّ يحاول احتكار الأهمية لإسهاماته هو في التجربة “العامة” عوضَ الاعتراف بالعمل الجَماعي وقيمته..
والخلافات كانت لها أسباب سياسية، كامنة، تنتظر فتيلًا يشعلُها. ففي أحد محاضر الجلسات طلَب أحد الحاضرين أن يتم توجيه تحية إلى الثوار الجزائريين الذين كانوا يحاربون الاستعمار الفرنسي فكان اعتراض في مقابلِهِ “لأن هذا الموضوع لا يعنينا” في لبنان الذي لهُ رأي خاص بفرنسا “الأم الحنون” يومها.. هذا الموقف فجّر ما تحت الرماد من جمرٍ لبناني كان بدأ يتكون في مطلع الخمسينيات في أوساط مسيحية بالحيّاد عن “أوضاع المنطقة”، بعد مطالبات شعبية إسلامية بالوحدة مع مصر جمال عبد الناصر، فدخلت من هنا السياسة اللبنانية والعربية إلى “شِعر” وضربَت بنيةَ التفكير الشعري والثقافي بين أعضاء المجلة، في وقت كان يوسف الخال بدأ يفكّر باللهجة المحكية لتكون لغةً له (ولنا) بدلًا من العربية، معتبرًا اللغة العربية قاصرة عن معانقة العصر وشروطه، ومواكبة التجدّد وطبيعته في الحياة ككل.. لا في الأدب وحده.
وهذا، ليس فقط مستحيل التحقق في لبنان، بل يناقض وجوده الحضاري الممتد في الزمن، ويعترض على مجرّد التفكير فيه قسم كبير من اللبنانيين الذين فاجأهم أن هناك من كان يفكّر في خطفِ هوية البلد العربية.. والميثاق اللبناني حمّال الأوجُه (والأسِيّة!) تحدّث عن “وجه عربي” للبنان لا عن أن لبنان بلد عربي، بانتظار اتفاق الطائف الذي أقنع غير المقتنعين بعروبة لبنان بأن يُعَدلوا في آرائهم. فضلًا عن أن فكرة اللهجة المحكية تلغي “لغة القرآن”أي لغة الله بالنسبة إلى المسلمين، ولن نتوسّع أكثر حتى لا ننزلق إلى مهالك التاريخ السياسي. وفي هذه المرحلة كان أدونيس قد سافر إلى باريس لتحصيله العلمي..
فتفرّق عشاق “شِعر” وتوقفت المجلة “عند الأسباب المادية” كما قال الخال في بيان التوقف عن الصدور!
الموضوع الأبرز الذي استطاعت “شِعر” أن تكرّسه وتفرضه وتعمّمه في الشعر هو “التجربة الذاتية”.
مقدمة “لن” لأنسي الحاج حرصت على التجربة الذاتية في أي كتابة. أدونيس طلَع الشَّعر على لسانه وهو ينادي بالتجربة الذاتية في الشِّعر. يوسف الخال دعا إلى اعتماد التجربة الذاتية.. وغيرهم وغيرهم، والكل كان يقصد أمرًا واحدًا هو كتابة “التجربة الذاتية” في الاصطدام بالكون، والسماء، والأرض، والناس. وقد ربح الشعر العربي من كتابة التجربة الذاتية كثيرًا من القصائد التي حاولت الدخول إلى الذات وكشفها ونزع الأقنعة عنها وكذلك عن العالم، لكن المنطق يقول إن هذا الصراع كان موجودًا من قبل “شِعر” وبعدها بشكل أو بآخر، فأي كتابة إبداعية لا بدّ من أن تتخذ من تلك التجربة موادها الخام لتبقى بعد ذلك المسألة: كيف نكتب ولماذا ؟
من هنا يمكن الكلام عن تقاطعات في أساليب مجموعة من شُعراء “شِعر” هم يوسف الخال وأدونيس وبدر شاكر السيّاب خصوصا في المرحلة الأولى من تعاونهم في المجلة في نصوص حول الإنسان وأحلامه وخيباته وتحدّيه، والأقدار السوداء التي تحاصره، ومحاولة ابتكار الخلاص، وبين الثلاثة وبعض سعيد عقل ونزار قباني (من خارج “شِعر) في البدايات حين كانت الرمزية مدرسة “الجميع” تقريبًا، وبينهم وبين شوقي أبي شقرا. وقد يفاجئ وجود اسم أبي شقرا بينهم لكن مراقبة نصوصٍ على التفعيلة كتبها في مطالع اهتمامه الشعري تشي بالتقاطع مع البقية. وهذا في تقديري ناجمٌ عن كشف أشعارهم على بعضهم وللتفسيرات التي كانوا يطرحونها لمقاطع معينة من قصائدهم بعيدًا من الغموض الأوّلي الذي كان ينتابها. المعاني عندهم قادت إلى معانٍ أيضًا فتقاطع المعنى مع المبنى الذي كان على تفعيلة، لا على نثر ولا على عمودية!
كانت روح الجماعة لا الأنا مهيمنة، والكل يعتبر نفسه مسؤولًا عن نجاح المحاولة. ومع أن التغيير الذي حصل في بُنيةِ القصيدة العمودية عبر اعتماد التفعيلة، وكذلك عبر القصيدة النثرية كان قد بدأ قبل سنوات في العراق ومصر، لكنّ صعوبة التواصل بين البلدان العربية وغياب الإعلام عن مواكبة الفعل التغييري الجديد، حال دون انتشار ذلك التغيير كما ينبغي. لكنّ “شِعر” أضافت إلى همومها مهمة اختراع أوزان جديدة (كما تعلنُ المَحاضر) وكان تفكير أعضائها يسعى إلى تبيان كيفية ذلك، وسؤال أهل الموسيقى والشّعر معًا إذا ما كانت لديهم أفكار معينة لأوزان جديدة. ومِمّن سئلوا عن ذلك، الأخَوان عاصي ومنصور الرحباني اللذان قالا إنهما لا يخترعان أوزانًا وتفعيلات للغناء لكنهم يعتمدون طريقًا خاصة هي تقسيم شطور البيت الشعري العربي المعروف إلى قسمين. فمثلًا، هذا البيت المُغنّى “يا زائري في الضحى والحب قد سمَحا/ عيناكَ أعلَنَتا أن الربيع صحا” عمدَ فيه الرحبانيان إلى تقسيم كل شطرٍ قسمين فأصبح على هذا النحو: يا زائري في الضحى/ والحبّ قد سمحا/عيناك أعلنتا/ أن الربيع صحا /.. وقد أُعجبَ يوسف الخال بهذه الطريقة للشّعر الغنائي، لكنه أدرك أن هذا الوزن الغنائي هناك ما يماثلُه في العروض العربي. وكمثل ما توقّف البحث في اختراع أوزان جديدة الذي طالبت به نازك الملائكة وبعض شعراء العراق ومصر، توقّف البحث في “شِعر” عن ذلك لعدم الإمكانية. واستقرّ العمل على التفعيلة وقصيدة النثر أمّا في الشعر العمودي فتُرك لشعرائه أن يقرروا التجديد عبر المعاني والصور والبديع والبيان بأنفسهم وبناء على تجاربهم بالاستفادة من النظرة الحديثة إلى الشّعر، مع أن النظريات الشعرية التي “ناضل” من أجلها جماعة “شِعر” كانت تضع الشّعر العمودي جانبًا وتصنّف تركيبته حائلًا دون حرية الشاعر الكاملة في التأليف انضباطًا بالأوزان والقافية. وشُنّت حروب على أكبر شعراء الكلاسيكية (سعيد عقل/ نزار قباني/ عمر أبو ريشة/ الشاعر القروي/ محمد مهدي الجواهري/ وغيرهم، وبأسلوب يحمل الكثير من مواصفات “الإرهاب” النقدي. وإذا كان هؤلاء الكبار لم يتأثروا، فإن التأثير طال بعض المواهب الجديدة التي اعتبرَت أنه إذا كان كبار الكلاسيكية يُعامَلون باستخفاف النقد حسَب “معتقدات” الحداثة فماذا سيحلّ بهم؟ وذهب أغلبهم إلى التفعيلة، وكان إذا صودفَ أن أحدهم نشَر قصيدة عمودية، فسيتعرّض للتنمّر ممّن حوله أو من صفحات الثقافة والنقد في الصحافة التي كانت ترى الشعر العمودي تخلّفًا عن ركب الحداثة، وشَطَطًا عن جادة صواب الشّعر الذي هو “الحديث”!
وأعتقد بأن اللقاءات الحوارية كما تُظهرُه “المَحَاضر” أفادت جماعة “شِعر” على جهتين:
الجهة الأولى (شخصية نفسية) هي الحوار نفسه، حيث تخوض مع آخرين من وزنك الإبداعي، أقلّ قليلًا أو أكثر، بحثًا في معرفة الذات من خلالهم، في ما يدركون ويفهمون ويَعُونَ ويتصوّرون عنك وعن طريقة تفكيرك وعن مستواك في رؤية الأمور، وأنت في ما تدرك وتفهم وتعي وتتصور عنهم. هذا التداخل الذي له قطعًا بُعد ثقافي وإنساني يعبئُك بالمعلومة الصحيحة في ما تقول وما يقولون، وينوّر صدرك بالصبر. نَعَم الصبر. فأنت مدْعُوٌّ دائمًا لأنْ تسمع وتقرأ وتتقصّى وتتعوّد على الرأي الآخر، لا أعني رأي الأعداء والخصوم، فأكثر ما يتفوّهونه تخاريص، بل أعني آراء العارفين. وعندما يصبح الفنان في نظر نفسه هو العارف الأكبر تنزل معرفته فورًا في وَحْل. أمّا الجهة الثانية (شعريا) فهي تعرُّفُكَ أنتَ على شِعرك من خلال تقدير الآخرين، ونظرتهم إليك. إذ أن تلقّي النقد البنّاء على فنّك ممن هم رفاق رحلة طويلة سيسهم في تَجوهُرِ تجربتك وتماسكها وإدراك ما فيها من ثُغَر قد تَظن أنت أنكَ خال منها. العين الثانية، أي العين التي أمامك، لا تقل أهميّة عن عينك الثانية التي في وجهك والتي تركّز لك النظَر والمسافات والدقة في رؤية الأشياء. وأتفه الفنانين هم الذين يكتفون بذواتهم وما تُطلِعُه من الفنون على قاعدة خرافية هي أنهم الأفضل والأجمل .
معروفٌ أن الثورة تأكل أبناءها. وثورة مجلّة “شِعر” هي أيضًا أكلت أبناءها. فقد اصطدم يوسف الخال بـ “جدار اللغة” باكرًا جدًّا، قبل أن تستفيد اللغة منهُ بنتاج واسع، وبتَبَحُّر حقيقي في أغوارها فلجأ إلى اللهجة المحكية (بعد تأثّره بشارل مالك في الجامعة الأمريكية واعتناقه مبدأ “القومية اللبنانية” المتمايزة عن القومية العربية، مع أنه كان في (الحزب السوري القومي الإجتماعي) ثم انصرف إلى ترجمة “العهد الجديد” إلى “هذه” العربية التي لم تقدّم له شيئًا يُذكر في تاريخه، وما زالت تُحْفَتَه هي هي مجلةُ “شِعر”. أنسي الحاج تْخَلّص من كل أطروحات التهديم والغموض وغرق في روحانية “الرسولة” والتأمل الكوني والإنساني في ما بعدها، أدونيس نعى نفسه وزملاءه معتبرًا أنهم لم ينجزوا كما أمِلوا، نازك الملائكة تراجعت واعتزلت، بدر شاكر السياب رحل طريًّا، نذير العظمة انكفأ، محمد الماغوط أعلن يأسه من الشعر والحياة معًا ولم يقتنع يومًا كما قال مرارًا بأن نصوصه هي “قصائد نثرية” بل كان يسميها نصوصًا فحسب. عصام محفوظ فضّل المسرح والترجمات. خالدة السعيد الوحيدة التي كانت خلال مَحَاضر خميس المجلة الأهدأ والأنقى والأصدق وكتاباتها النقدية إلى اليوم لا أدري لماذا لم تغادر زوجها أدونيس، إلّا نادرًا، فمنفعةُ النقد منها كان ينبغي أن تتمدد… إلخ..
لكنّ تجذّر مجلّة “شِعر” وانتشارها المؤثر، وقوّة هدفها، كلّه بانَ في ما بعد (الستينيات وما وراءها) كونها خلقت أجيالًا في لبنان والعالم العربي متحررة، ومتجاوِزة، من شُعراء التفعيلة إلى النثر إلى الشعر العمودي الذي تطعّم بالمعاني والمجازات وبأفكار الحرية، غير أنّ روتينًا قاتلًا راح يزحف إلى دواوين كثيرة من شُعراء الدفعتين الثانية والثالثة من الحداثة، وأغلبهم استسلم لعدم وجود “رقيب” /ناقد/ شاعر/ متابِع، رأي آخر يعاتب أو يتفحّص أو يمكن أن يتصدّى بمسؤولية، أو دار نشر تمتنع عن طبع ما يُكتَب، فأُلقي الحبل على غاربه، وخلَت الساحة ممن يلعبون دورًا طليعيًا، ما أنذرَ بأن ثورة “شِعر” لم تأكل أبناءها فحسب بل ستأكل على ما يبدو، كثيرًا من الأحفاد الذين تمدّدوا من يومها، على عُشب “شِعر” وناموا عن أي حركة تشي بأنهم .. غير تقليديين لزعمائهم !.. وإلا ما معنى أن يرتضي كبار الماضي القريب في الحداثة الشعرية العربية أن يجلسوا إلى طاولة واحدة، بعضهم مع بعضهم الآخر، لتشريح دواوينهم وتفنيدها سطرًا سطرًا ومقطعًا مقطعًا وقصيدة قصيدة، ويتحمّلون كل النقد الساخن والمارق أحيانًا، والمُسَفّه (في بعض الحالات التي يضيق المجال لذكرها كما وردت في المَحاضر)، بينما يختبئ الورَثة الشرعيون وغير الشرعيين وراء دواوين يصدرونها ولا هَمّ “إبداعيًا” لديهم إلّا إجراء وساطات ومداخلات مع لجان الجوائز العربية لِنَيل مكافآتها المادية العالية فقط لا غير، غير عابئين بأمر شِعرهم أين مكانه وما هو مستواه وهل يبقى أم ينتحر؟
ومن هو هذا الشاعر الذي يقبل اليوم، أن يُناقَش في شِعره من زملائه أو من أي ناقد مهما كانت رتبتُه الثقافية، وكل واحد من هؤلاء الشعراء يرى أن لا وجود لشعرٍ إلا في دواوينه وأن شِعر جميع الآخرين من سقط المتاع؟
وهل يتطوّر شاعر أو فنان راغب في “الخلود” أو أقَلّه في التأثير، بالوقوف أمام المرآة ومديح نفسه، وإطلاق الرصاص حتى على كل من ينظر إليه بحب لأنه لا يحبه كما يريد!
وليَقُل لنا هؤلاء ما هي الإضافة الشخصية التي قدّمها كلٌّ منهم للشعر العربي، في الأشكال الشعرية التي يعتمدونها مأخوذةً من كبار الحداثة، أو في المضامين التي يتلبّسونها “اصطدامًا مع الكون” تمامًا كما استلهموها من الكبار أنفسهم، أو في الرؤية النقدية المُفتَرض أن تسكنَهم، لتقدير وتقييم حالِهم وحالِ أقرانِهم والأجيالِ الجديدة، بدلًا من ادّعاء العظَمة وإقفال الأرض والمدى، بإرهابِ كل مَن يتجرّأ على قولة نقدٍ؟
إن المقارنة بين “زعماء” تجربة الحداثة الشعرية، ومَن خَلَفَهُم، مدعاةُ سخرية بالغة في الأغلب الأعمّ، وهذا الأغلب الأعم يمتد من المحيط إلى الخليج، فلا تخترقه روح شِعرية جديدة حقًا، ولا يعبره طيرٌ لهُ أسلوبُ تحليقٍ آخر. والقصائد (اليوم لا تنتهي) ومنذ سنوات طوال، هي عملية تدوير صناعية لِما قالَهُ روّاد أولئك الشعراء في سنيّ عزّهم وباتَ موضعَ شكّ حتى عندهم كرواد بينما هي في حسابات الخَلَف… قصائد خلاقة وكاملة ومولودة للتوّ.