مكسيم غوركي الترجمة عن الروسية: أحمد م الرحبي
كان نيقولاي مولعًا بتعليمي، يغتنم كل سانحة ليدسّ في رأسي شيئًّا من المسائل الجوهريّة التي لا يستقيم العيش من دونها. وكنت أنصت إليه بشغف حتى اختلط الأمر عليَّ، فاجتمع فوكولت ولارشفوكو ولاروشجاكلين في شخص واحد، وما عدت أميّز من قطع رأس الآخر: لافوازييه أم ديمورييه؟ وقد كان الشابّ مخلصًا في سعيه لجعلي “آدميا”، ووعدني بإنجاز مهمّته، لولا أن الوقت لم يسعفه لذلك، ولم تؤاتِهِ الظروف لتأديبي كما يجب. وقد حجبت عنه نرجسيّة الشباب وطيشه، ما تكابده أمه من مشقّة، وما تتوسل إليه من حيلٍ لتدبير شؤون المنزل، وأقلّ منه كان إحساس أخيه، طالب الثانوية، ذلك الكئيب الصموت. أما أنا فكنت مدركًا منذ أمدٍ بعيد لحيل الطهي المعقدة، وطرق تدبير الأطعمة، ففطنتُ جيدًا لمراوغات المرأة في خداع مِعدتيْ ولديها، وإطعام فتى طائش آخر (مثلي) مظهره لا يسرّ، وطبعه قبيحٌ. والحال كذلك، كانت كل كسرة خبز أقتسمها معهم، حجرًا يسقط في روحي. فشرعت أبحث عن عمل. أخرج من البيت صباحًا لأتحاشى الغداء، وفي الطقس السيئ كنت ألوذ بالأرض المهجورة وأحتمي بقبوها. هناك، حيث أستنشق نتانة القطط والكلاب الميّتة، وتحت دمدمة المطر وهدير الرياح، أدركت أن الجامعة محض خيال، فلو أنني غادرت إلى بلاد فارس لكُنت قد أصبت في قراري. وهكذا رحت أتمثل لنفسي بهيئة ساحر له لحية بيضاء، أستحضر الوسائل لإنبات الحنطة بحجم التفاح، وحبة البطاطا تزن بودا كاملا، وتمكنتُ، عمومًا، من خلق كراماتٍ كثيرة لهذه الأرض، التي لستُ وحدي من يقاسِي عيشه فيها.
تعلمت أن أرسم بأحلامي مغامرات فريدة ومآثر عظيمة. وقد أعانني ذلك، أيّما عون، على الأيام الصعبة في حياتي، وبما أنّها كانت أيامًا كثيرة فقد زاد تفنّني في أحلام يقظتي. لم أنتظر غوثًا من الخارج، ولم أركنْ إلى المُصادفات السعيدة؛ بل رحت أنمّي في نفسي إرادة عنيدة، وكلما اشتدت ظروف الحياة قسوة، تعاظمت قوّتي؛ بله ذكائي أيضا. وقد أيقنتُ في زمن مبكّر جدًّا أن الإنسان يتشكل عبْر مقاومته محيطه.
وكيما أسدّ رمقي، عكفت على ارتياد الفولغا، وقصدت المرسى حيث يمكن اكتساب ما بين خمسة عشر وعشرين كوبيكا بدون عناء. وهناك، وسط العتالين، والمتشردين، والمحتالين، ألفيتُ نفسي كقضيب حديديٍّ غُمس في جمرٍ ملتهب، كل يوم أفعمُ بكثير من الانطباعات الحادة واللاسعة. هناك، كان يجوس أمام ناظريَّ أناسٌ ذوو جشع سافر، وغرائز سمجة، وقد جذبني إليهم حنقهم على الحياة، وسخريتهم اللاذعة من كل شيء في العالم، فضلا عن كونهم لا يعبأون بأنفسهم. كان كل ما خبِرته في الحياة يشدني إلى هؤلاء البشر، ويشعل رغبتي للانغماس في وسطهم الكاوي. وقد أججت روايات بريت هارت، ومعها الكمُّ الهائل الذي قرأته لأدب “الشوارع”، من تعاطفي مع هذه البيئة.
وكان باشكين، اللصّ المحترف، والطالب السابق في دار المعلمين، المسلول، والمنذور أبدا للضرب المبرح، كان ينشدني بفصاحة قائلا:
– ما بالك تتذلل هكذا مثل فتاة، أم تراك تخشى فقدان عفتك؟ شرف البنت هو كل ما تملكه، أما الشرف بالنسبة لك فليس سوى نير في عنقك. فالثور شريف أيضا ولكنه يعيش بالعلف وحده.
كان بشعره الأصهب، وذقنه الحليق كالممثلين، وبالحركات الرشيقة الحاذقة التي تندُّ عن جرمه الضئيل، يشبه قطة صغيرة. معاملته لي قائمة على التلقين، والرعاية، وقد لمستُ أنه يتمنّى لي النجاح والسعادة من صميم قلبه. حادُّ الذكاء، قرأ عددًا لا بأس به من الكتب الجادّة، وكان يولي “الكونت دي مونت كريستو” إعجابًا خاصًّا. يقول عنه:
– تجد في هذا الكتاب الفحوى والغاية معا.
مولع بالنساء، يتحدّث عنهنّ فيتمطق بشفتيه متلذّذًا، وينتاب جسده المكدود نوعٌ من الاختلاج؛ تشنّجٌ يشي بسقم ما، جلب لي نفورًا نفسيًّا، إلا أنني بقيت أستمع إلى أحاديثه، وأشعر بما تنطوي عليه من جمال.
– المرأة، المرأة! – يترنم بكلامه، فيتورد لون وجهه الأصفر، ويسطع الحبور في عينيه الغامقتين. – مستعدٌّ أن أقترف أي شيء في سبيل المرأة. ومثلما لا إثم على الشيطان في شيء، كذلك هي المرأة، لا يؤثمها أحد. عِش حياتك وأنت عاشق، فليس مثل العشق حياة.
كان حكّاءً موهوبًا، قادرًا على تأليف أغنية مؤثّرة في حقّ المومسات اللواتي خذلهن الحب. وكانت مدن الفولغا بأسرها تنشد أغنياته. وبالمناسبة؛ فإن تلك الأغنية التي ذاع صيتها إنما تعود إليه.
لست جميلة لأني فقيرة
وملابسي خرقٌ بالية،
فمن ذا الذي سيقترن
بهكذا فتاة بائسة؟
وهناك تروسوف الذي أحسن معاملتي، وهو شخصٌ غامضٌ، بهيّ الطلعة، أنيق الملبس، أصابعه ناعمة موسيقيّة. كان يُدير محلًّا صغيرًا في حيّ الأميرالية، كُتب على لافتته “محل لتصليح الساعات”، بينما يشتغل في السر بالمسروقات.
– إياك وأحابيل اللصوص يا بيشكوف! – يخاطبني وهو يمسّد لحيته الشائبة، ويقرص بعينيه الماكرتين الوقحتين. – أنت شخص روحاني، وأرى أن طريقك مغاير.
– ما الذي تعنيه بالروحاني؟
– إنه الشخص الذي لا يعرف الحسد، ولا يحدوه شيء سوى المعرفة.
لم يكن حكمه عليَّ صائبا، فما أكثر من حسدتهم وما أعظم الأشياء التي اشتهيتها لنفسي؛ ها هنا باشكين يثير حسدي على موهبته في الكلام، وقريحته الشعرية، وما يبدر عنها من تشبيهات وتركيبات غير متوقعة. وإني لأتذكر مطلع إحدى قصصه عن المغامرات العاطفية:
“في ليلة ظلماء وجدتني وأنا قابع مثل بومة في جوف شجرة، كان ذلك في فندق مدينتنا سفياجيسك الفقيرة. الفصل خريف من شهر أكتوبر، والمطر يهطل زخات كسلى، بينما يتنسم الهواء وكأن تتريا حزينا يمد أغنيته في نفسٍ واحد؛ أغنية لا تنقطع: أ – و – و – و – و – و – و…
… ثم هلّت عليَّ، تمشي الهوينى، وردية الطلة، كسحابة في ساعة الغروب، في عينيها نقاء الروح المخاتل. “حبيبي، – تقول بصوت صافٍ، – لم أذنب في حقك. تقول وأصدقها، مع علمي بأنها كاذبة. عقلي يؤكد لي، ولكن قلبي لا يصدق خداعها ولا بأي حال من الأحوال!”
يتمايل وهو يقص حكايته بحركة منسجمة وقد أغمض عينيه نصف إغماضة، وكان غالبًا ما يلمس صدره، جهة القلب، برفة يدٍ حانية.
كان صوته فاترًا لا نغم فيه، أما كلماته فكانت جزلة، وكأنّ العصافير تغرد فيها.
كما حملتُ الحسد لتروسوف، – هذا الرجل الذي يتحدث بطريقة أخّاذة عن سيبيريا وخيف وبخارى، ويتطرق إلى رجال الكنيسة بنبرة مضحكة ملؤها التهكّم، وذات مرة تحدّث بخفوت عن القيصر ألكسندر الثالث:
– هذا القيصر ماهرٌ في عمله.
لقد بدا لي تروسوف واحدًا من أولئك “الأشرار” الذين يفاجئون القارئ في نهاية الرواية بصورتهم البطولية المشرقة.
كان يحدث في الليالي الخانقة أن يعبر أولئك الناس نهرَ كازانكا الصغير، وهناك، في المرج، وبين الشجيرات، يشربون ويأكلون، ويتجاذبون الأحاديث في شؤونهم اليومية. بيد أن ضنك الحياة، والالتباس العجيب في العلاقات البشريّة تغلب على كلامهم. وكانوا كثيرًا ما يتحدثون عن المرأة خاصةً، مُظهرين شيئًا من الحنق، والأسى، وأحيانا ببالغِ العطف، إلا أنهم، وعلى الدوام تقريبًا، كانوا يتحدّثون عنها كما لو أنّهم يُطلّون على ظلمة ملأى بالتوقّعات المريعة. رافقتهم ليلتين أو ثلاث ليال، فاجتمعت بهم تحت سماء مُعتمة، نجومها خافتة، وكنا نحلُّ في وهدة حرارتها الخانقة، والصفصاف يحفّ بها بكثافة. في هذه الظلمة المشبعة بالرطوبة لقربها من الفولغا، كانت فوانيس المراكب تزحف من كل صوب مثل عناكب ذهبية، وتتلصص من منحدر الشاطئ الأسود أضواء قوامها كتلٌ وأوردة – تلكم هي النوافذ المنيرة للحانات، وتلكم هي بيوت قرية أوسلون الغنيّة. وفي الأثناء كانت دواليب المراكب تدوّم وهي تضرب الأمواه بأجنحتها، وبحّارة يعوون كالذئاب من سطح قاطرة شحنٍ. وفي مكانٍ ما ثمّة مطرقةٌ تدقُ على الحديد، وأغنية حزينة تتمادى، هناك حيث تذوي روح أحدهم – وعلى إثر تلك الأغنية، تغشى القلب كآبة كالرماد.
وكان الاستماع إلى الجماعة وهم يطارحون أحاديثهم بسكينة وهدوء هو أكثر ما يدعو للشجن – أناسٌ يفكرون بحياتهم، فيتكلم أحدهم عن شؤونه الخاصّة، ولا يكاد يستمع إلى جاره. جالسون أو مستلقون تحت الأغصان، تراهم يدخنون لفافات التبغ، وبلا شرهٍ يطارحون الفودكا وأحيانا البيرة، وشيئا فشيئا يعودون إلى الوراء حيث الطريق المؤدي إلى الذكريات.
– هاكم ما حدث لي مرة – يقول أحدهم وقد أناخت عليه هامةُ الليل.
فيستمع الرهط إلى القصة ويسلّمون لما قاله:
– وهذا يحدث أيضا، كل شيء ممكن…
“كان” و “حدث” و “وكان يحدث” – تردني هذه الكلمات، فنما إلى خلدي أن الجماعة يعيشون آخر ساعات حياتهم في هذه الليلة… فكل شيء قد حدث ولن يأتي شيء آخر من بعد!
قادني هذا بعيدًا عن باشكين وتروسوف، وإن أبقيت بحبي لهما، علمًا بأن الأمر كان سيغدو طبيعيا إذا ما سلكتُ طريقهما، ولم يكن ذلك ليخالف منطق تجربتي في الحياة. كما أنّ الأمل المرير للارتقاء، والانخراط في التعليم، كان يشدني هو الآخر إليهما. وقد كنت في ساعات الجوع، والغضب، والحرمان، على أتمّ الاستعداد لارتكاب جريمة ما، أيا كانت، وليس فقط ضد “حق الملكية المقدس”. ولكن رومنسيّة الشباب حالت دون جنوحي عن الدرب، فدفعتني للمضي في الطريق الذي كتب عليَّ أن أسلكه. فإلى جانب أعمال بيرت هارت الإنسانية، وروايات الشارع، كنت قارئًا لعدد غير قليل من الكتب الجادة، أيقظت في نفسي رغبة نحو شيء غامض ولكنه أثمن من كل ما شهدته.
وقد حظيتُ، في الوقت نفسه، بالكثير من المعارف الجُدد، وخبِرتُ انطباعات طريّة. ففي ذلك القفر، بجوار مسكن يفرينوف، كانت ثلّة من طلبة الثانوية تجتمع لرمي الكعاب، وكنت منجذبا إلى واحد منهم يُدعى غوري بليتنيوف. كانت له بشرة يخالطها سْمار، وشعر فاحم كشعر اليابانيين؛ وجهه مبقع بنمش أسود فكأنّه عُرك بالبارود. فائض المرح، ماهرٌ في اللعب، أريبٌ في النقاش، وكان ممتلئا بأجنّةٍ من مواهب مختلفة. ومثل جلّ المواهب الروسية، كان يعيشُ بالملكات التي وهبتها له الطبيعة من غير أن يسعى لتقويتها وتطويرها. مغرمٌ بالموسيقى، يُرهف لها سمعه ويلتذ بها، فكان يعزف الغوسلي والبالالايكا والهرمونيكا بطريقة مسرحية، ولكنّه لم يُمنّي نفسه بالعزف على آلات أكثر نبلًا ودقة. كان فقير الحال، رثّ الثياب، ولكن جسارته، ومناورات جسده المفتول، وإيماءاته الخاطفة تلائم قميصه المجعد الممزق، وسرواله المرقّع المبقع، وحذاءه المهترئ.
كان أشبه بشخص عاود الوقوف على قدميه بعد مرض عضال أقعده زمنا طويلا، أو بسجين أخلي سبيله بالأمس، فكل ما في الدنيا جديدٌ عليه، مثيرٌ لغبطته، وكل شيء يبعث في نفسه بهجة صاخبة، فتراه يقفز على الأرض مثل المفرقعات.
حين عرف بضائقتي والخطورة التي أحيا بها، عرض أن أقيم معه وأحضّر للالتحاق بسلك التعليم. وهكذا وجدت نفسي في دار غريبة، “ماروسوفكا” مكتظة بالسكان، وكان مما لا ريب فيه أن عدة أجيال من طلبة قازان قد مرّوا عليها. كانت الدار عبارة عن مبنى كبير، متداع، يقع في شارع ريبنوريادسكايا، وكان يبدو وكأنه استلب من أصحابه بيد طلبة جياع، ومومسات، إلى جانب أشباح بشرية أبلاها الدهر. احتل بليتنيوف مكانه في الممر، تحت السلم المؤدي إلى العِلّية، فأقام هنالك سريره، ووضع كرسيًّا وطاولة عند النافذة، في نهاية الممر، وهذا كل ما يملكه. ثمة ثلاث غُرف تشرع أبوابها على الممرّ، تشغل العاهرات اثنتان منها، ويأوي في الثالثة مدرس رياضيات مصدور، طويل القامة، هزيل لدرجة تبعث على الروع، يغطي رأسه شعر أحمر خشن، ويتشح بأسمال قذرة بالكاد تستره؛ وكان جلده المزرّق يتراءى من بين خروق ثيابه تلك، ويلوح هيكله العظمي بصورة رهيبة.
كان يبدو أن غذاءه مُقتصر على أظافره التي يواظب على قضمها حتى ينز الدم منها. ليل نهار تراه منكبًّا على إنجاز رسومات وحسابات ما، مُطلقا سعالًا جافًّا مكتومًا لا ينقطع. تخشاه المومسات، وتحسبنه مجنونًا، ولكنهنّ يشفقن عليه، ويضعن الخبز والشاي والسكر عند بابه، فيتناول الرزم من الأرض ويحملها إلى غرفته وهو ينخر مثل حصان منهك. فإذا ما نسين، أو منعهن عارض عن تقديم عطاياهن، كان يفتح الباب، ويجأر في الممر:
– الخبز!
تومض عيناه الغائرتان في ظلمة محجريه بزهو المهوسين، ويستخفّه الفرح لإدراكه عظمة نفسه. وكان يزوره بين الفينة والأخرى، مسخٌ قصيرٌ أحدبٌ، بساق ملتوية، ونظارة سميكة تتربع على أنفه الشحيم، أشيبُ الشعر، له وجه خصيّ مُصفرّ وابتسامة ماكرة. كانا يُحكمان إغلاق الباب ويقبعان هنالك ساعات طويلة في صمتٍ، يلفهما سكون عجيب. ذات مرة استفقت في منتصف الليل على حشرجة مدرس الرياضيات وكان يصيح مغضبا:
– أما أنا فأقول إنها سجن! الهندسة قفص، نعم! بل هي مصيدة فئران! سجن!
راح المسخ الأحدب يقهقه بصخب، مكرّرًا كلمات غريبة، ولكن المُدرس، وعلى حين غرة، انفجر في وجهه قائلا:
– اخرج من هنا واذهب إلى الجحيم!
وبينما الضيف يدرج في الممر، مهسهسًا ومعوّلًا وطاويًا نفسه بعباءته الفضفاضة، كان مدرس الرياضيات واقفًا على عتبة بابه، سامقًا بقامته، منظره مريع، وكان يزمجر وقد دسَّ أصابع يده في شعره الأجعد:
– إقليديس! أيها الأحمق… سأثبت لك أن الله أكثر ذكاء من الإغريق!
وصفق الباب بقوة جعلت شيئا في غرفته يسقط محدثًا قرقعة عالية.
سرعان ما عرفت بعدها أنه كان يبتغي إثبات وجود الله من خلال الرياضيات، ولكنّ الوقت لم يسعفه، فوافته المنيّة قبل أن يحقق مراده.
عمِل بليتنيوف في مطبعة إحدى الصحف كمدقق لغوي ليليّ، يتقاضى أحد عشر كوبيكا في الليلة، فإن لم يسعني الوقت للعمل بدوري، فإننا نستهلك ليومنا أربعة أرطال من الخبز، ونشتري شايا بكوبيكين، وسكّرًا بثلاثة كوبيكات. وبما أنني قد اصطفيت نفسي للدرس؛ فقد كان الوقت ضنينا عليَّ لأعمل. لقد ذقت الأمرّين في درسي، ولاقيت عنتا في النحو الذي واجهني بصيغه الضيقة اللعينة، وأشكاله المتحجرة، وقد فشلت فشلا ذريعا في أن أحشر فيه لغةً حية كاللغة الروسية، بكل صعوباتها ومرونتها وتقلباتها. ولكن سرعان ما اتضح أنني بدأت دروسي مبكرًا جدًّا، وبأنني لن أُقبل في سلك التدريس لصغر سني؛ حتى وإن اجتزت الامتحانات، وكان ذلك من دواعي سروري.
تقاسمنا أنا وبليتنيوف السرير نفسه، أنام عليه في الليل وهو في النهار. كان يعود عند بكور الصبح مبعثر الهيئة، وجهه أكثر حلكة من ذي قبل، وعيناه ملتهبتان، فأهرع من فوري إلى الحانة لجلب ماء مغلي، إذ لم يكن لدينا سماور بطبيعة الحال. نجلس بعدها بجوار النافذة ونحتسي الشاي مع الخبز. يُسمعني أخبار الصحف، ويتلو عليَّ الأشعار التي ينظمها كاتب الأهاجي المدمن الذي يوقع باسم “الدومينو الأحمر”. وكان غوري يثير دهشتي بعلاقته الهازئة بالحياة، وظننت أن علاقته تلك تماثل علاقته بغالينكا ذات الوجه المكتنز، القوادة وتاجرة الملابس النسائية المستعملة.
من لدن هذه المرأة كان غوري يستأجر ذلك الركن، أسفل السلم، وبما أنه لم يمتلك ما يسدد به أجرة “الشقة” فقد كان يعوضها بالنكات المضحكة، والعزف على الهرمونيكا، وبالأغاني العاطفية؛ وكان يشدو بها بصوت رخيم وفي عينيه تومض ابتسامة لؤمٍ. وقد كانت غالينكا في شبابها عضوًا في جوقة الأوبرا، فهي تفقه أسرار الغناء، وفي أحايين كثيرة كانت تذرف من عينيها الوقحتين المنتفختين دموعًا رقيقة، فتنهمل العبرات على وجنتيها المزرّقتين من فرط الشرب، والشحيمتين جرّاء الشره، وكانت تنشُّها عن وجهها بأصابعها الشحيمة، ثم تمسح أصابعها بعناية مستخدمة منديلا قذراً.
– آه يا غوروتشكا، – تقول متنهدة، – إنك فنان! فلو أنك على قدرٍ من الوسامة لكنتُ قد جئتك بنصيبك! فكم من فتية جمعتُهم بنسوة مزقت الوحدة قلوبهن.
أحد أولئك “الفتية” كان يعيش معنا، أعلانا مباشرة. طالبٌ وابنٌ لعاملٍ في صناعة الفرو. شابٌ متوسّط القامة، عريض الصدر، له وركان ضيقان شائهان، يشبه مثلثًا يقف على إحدى زواياه، وكانت تلك الزاوية متصدّعة قليلا، أما قدما الطالب فصغيرتان كأقدام النساء. رأسه صغير كذلك، ينغمر عميقا بين كتفيه وتزينه فروة بشعر أحمر، وفي وجهه الأبيض الخالي من الدماء، كانت عيناه الجاحظتان الخضراوان ترنوان بعبوس.
بعد مشقّة عظيمة، تضوّر فيها من الجوع ككلب ضال، ورغما عن رغبة أبيه، تمكن من إنهاء الثانوية والالتحاق بالجامعة، ولكنه اكتشف أنه يمتلك صوتًا جهوريا يتميز بالنعومة والعمق فاغترّ بدراسة الغناء.
اقتنصته غالينكا برغبته هذه، وعلّقته بامرأة أربعينية تنحدر من عائلة تجّار، لها ابن يدرس في السنة الجامعية الثالثة وابنة قد أنهت دراسة الثانوية. كانت امرأة نحيفة، مسطحة الصدر، منتصبة الجذع كجندي، وجهها جلفٌ كوجه راهبة متنسكة، وعيناها رماديتان واسعتان، تتواريان في حفرتين قاتمتين، وكانت تتشح بملابس سوداء، وتلف رأسها بمنديل حريري مضى زمانه، ومن أذنيها يتدلى قرطان يسفران عن حجرين أخضرين.
أحيانا كانت توافي تلميذها مساءً أو عند الصباح الباكر، وفي غير مرّةٍ أبصرتُ هذه المرأة وهي تنهب الطريق، تكاد تقفز عبْر البوابة، وتسير حول الفناء بصرامة وحزم. كانت تبدي آنئذٍ وجهًا مرعبًا، تزم شفتيها بقوة حتى توشك أن تخفيهما، ناظرة أمامها بقنوط وقد أفرجت عينيها باتساعهما، ومع ذلك تبدو وكأنها عمياء. لم يكن من العدل القول إنها قبيحة، ولكن التوتّر كان محسوسًا فيها، ويعمل على تشويهها، فكأنّه يتمدد على جسمها ويعتصر وجهها إلى حدّ الألم.
وقد كان الطالب يكره المرأة التاجرة، ويعمد إلى الاختباء عنها، ولكنها كانت تتعقبه كجاسوس أو دائنٍ لا يرحم.
– لست سوى امرئٍ بائس، – كان يندب حظه حينما يشرب– فما حاجتي بالغناء؟ لن يأذنوا لي باعتلاء الخشبة وأنا بهذه السحنة وهذا الجسم، كلا لن يأذنوا!
– فلتكفَّ عن هذا الأمر إذن! يخلص له بليتنيوف النصيحة.
– ولكنّي أرثي على حالها، ولا يمكنني تحمل الإساءة إليها! آه لو تعلمون ما الذي يبدر منها، آآه..
وقد كنا نعلم ذلك، إذ كنا نسمع هذه المرأة عندما كانت تقف ليلا على السلم وتجأر متوسلة بصوت مرتعش:
– حبًّا بالله… يا عزيزي، حبًّا بالله!
كانت تمتلك معملًا كبيرًا، وكانت لديها عقارات، وخيول، وتبرعت بالآلاف لتدريس القابلات، ولكنها تتوسل المحبة مثل شحاذة.