لا تزال شخصية البطلة التاريخية الفرنسية جان دارك تثير اهتمام السياسيين والمؤرخين والمبدعين المعاصرين مهما اختلفت توجهاتهم السياسية والثقافية. وتستعيد فرنسا اليوم شخصية جان دارك بمناسبة مرور ستة قرون على ولادتها من خلال مجموعة كبيرة من النشاطات والمؤتمرات التي ستقام على مدار السنة في عدد من المدن الفرنسية ومنها بالأخصّ منطقة «اللورين»، مسقط رأسها.
جان دارك ليست فقط بطلة تاريخية وشخصية أسطورية بالنسبة للفرنسيين بل هي أيضاً شخصية عالمية كانت ولا تزال مصدر إلهام لعدد من كبار السينمائيين منذ مطلع القرن العشرين ومنهم الايطالي روبرتو روسيليني في الفيلم الذي أنجزه عنها عام 1954 وكان من بطولة الممثلة الشهيرة إنغريد برغمان.
منذ وفاتها حتى اليوم، لم تغب جان دارك عن المشهد السياسي والثقافي الفرنسي، وهذا ما يؤكد عليه المشرفون على التظاهرات المقامة بمناسبة ذكرى مولدها. ومن الثابت اليوم أنّ جان دارك المولودة عام 1412 في مدينة دومريمي شمال شرق فرنسا تعتبر واحدة من أشهر وجوه حرب المائة عام بين الفرنسيين والانجليز والتي استمرت من عام 1337 حتى عام 1453 وكانت جان دارك من رموز مقاومة الاحتلال الإنجليزي.
ابنة الشعب
يجمع المؤرّخون على أنّ جان دارك ولدت في كنف أسرة مزارعة ومتوسطة الحال، ولا يزال منزلها قائماً حتى الآن على الرغم من التعديلات التي أدخلت عليه على مدار الزمن. وبالإمكان زيارته وزيارة الكنيسة الملاصقة له والتي كانت تتردد عليها وقد أعيد ترميمها بمناسبة الاحتفالات التي تقام حالياً تكريماً لذكراها.
تروي الأسطورة أنّ جان دارك، ومنذ طفولتها، كانت تستمع إلى أصوات تخاطبها وتطالبها بترك مسقط رأسها تلبيةً لنداء الواجب الوطني الذي يدعوها إلى طرد الإنجليز. في البداية اعتقد البعض أنّ الطفلة مصابة بالجنون لكن مثابرتها وإصرارها على تلبية المهمة التي ظنّت أنّها موكلة بها دفع المقربّين منها إلى تعديل موقفهم وإرسالها مرتدية الثياب العسكرية مع مرافقين الى مدينة شينيون حيث كان يقيم الملك شارل السابع. استغرقت الرحلة أحد عشر يوماً واجهت فيها الكثير من المشقات بسبب سيطرة الانجليز على البلاد. بعد لقائها بالملك أعلنت أنها جاءت لتحرير مدينة أورليان ولإجراء مراسم تطويب الملك رسميا كما جرت العادة آنذاك مع ملوك فرنسا في كاتدرائية مدينة ريمز التاريخية.
بغية التحقّق من صدق نواياها، أرسلها الملك الى مدينة بواتييه حيث أشرف على استجوابها مجموعة من المحققين. بعدها تم الاتفاق على إرسالها مع جيشها لتحرير أورليان. في طريقها حررت العديد من المواقع والحصون وتمكّنت من فك الحصار عن المدينة في الثامن من شهر (أيار) مايو عام 1429. ومنذ ذلك التاريخ تحتفل المدينة بهذه الذكرى وباستعادتها لحريتها على يد جان دارك التي تمكّنت، وفي غضون أيام قليلة، من تحريرها بعد حصار دام أكثر من ستة اشهر.
توالت الانتصارات وكان الهدف منها طرد الانجليز من فرنسا وتوحيد جميع المحافظات الفرنسية تحت حكم الملك شارل السابع، لكن الهزيمة جاءت في مدينة كومبياني حيث أسرت جان دارك على يد الجنود البورغونيين (نسبة الى منطقة بورغوني) وكانوا من أتباع الانجليز ثمّ تمّ تسليمها إلى هؤلاء فحوكمت بتهمة السحر والشعوذة وأحرقت حيّة وهي في التاسعة عشرة من عمرها في مدينة رووان في منطقة النورماندي.
ثمثّل جان دارك شخصية نسائية استثنائية جعلها موتها أسطورة خالدة فصارت بطلة وأيقونة. كتب عنها بعض أشهر المؤرخين والأدباء والمفكرين والفلاسفة ومنهم ميشليه وفولتير، واستوحى من سيرتها المسرحيون والسينمائيون الفرنسيون والأوروبيون، كما تصدر عنها باستمرار الكتب التاريخية التي تروي قصة حياتها وموتها.
هنا لا بد من التوقف عند الدور الذي لعبه المؤرخ الفرنسي ميشليه الذي رأى أن سيرة جان دارك أدت الى ولادة مفهوم ابنة الشعب وبطلته لدى الجمهور في فرنسا. فهي متحدرة من أصول ريفية متواضعة كما أنها غير متعلمة وترمز بتضحياتها من أجل تحرير بلدها إلى صعود الشعور القومي. يقول ميشله في هذا الصدد: «لنتذكر دائماً، نحن أبناء فرنسا، أنّ وطننا ولد في قلب امرأة، من حنانها ودموعها، ومن دمها الذي وهبته من أجلنا.» ولقد استمرت هذه الرؤية لدى المؤرخين من أتباع النظرية الاشتراكية والذين ركزوا في كتاباتهم على جان دارك بصفتها ضحية خانتها الملكية المتحالفة مع الكنيسة.
بالمقابل، طالعتنا أصوات أخرى رأت في جان دارك رمزاً من رموز السلطة الملكية والكاثوليكية. في هذا السياق، اتهم بعض المفكرين هذه الأصوات بالتعصب الذي سيؤدي لاحقاً إلى نظريات اليمين المتطرف. وخلال القرن الثامن عشر عمل العديد من المفكرين المعارضين لهيمنة الكنيسة في المجتمع الفرنسي، وفي مقدمتهم فيلسوف عصر الأنوار فولتير، على تحطيم أسطورة جان دارك في كتاب له صدر عام 1762 وأثار ضجة عند صدوره بسبب أسلوبه المتهكّم والساخر بهذه الشخصية لما تمثله، بالنسبة له، من قيم تتناقض مع قيم الحداثة والفكر العقلاني التي نادى بها.
باختصار، وبالتحديد منذ القرن التاسع عشر، صارت جان دارك أيقونة يتهافت عليها السياسيون والمؤرخون لتبرير أطروحاتهم الإيديولوجية، وقد استمرت هذه الظاهرة في القرن العشرين فتبنّى هذه الأسطورة الاشتراكيون واليمينيون على حد سواء كما تشهد على ذلك الكتب المتنوعة الصادرة حولها ومنها كتاب المؤرخة والروائية اليسارية إديث توما الصادر عام 1947. في هذا الإطار أيضاً، اختار جان ماري لوبان، مؤسس «الجبهة الوطنية» المعروف بنزعته العنصرية والشوفينية عند مطلع السبعينات من القرن العشرين، شخصية جان دارك كأحد رموز حزبه لما ترمز إليه من قيم «قوميّة»، بحسب رأيه.
جان دارك والتعبير الإبداعي
تمثّلت جان دارك، كما سبق أن ذكرنا، في عدد لا يحصى من النتاجات الإبداعيّة لا سيّما في المجال السينمائي. أكثر من أربعين فيلماً حولها من أقدمها فيلم أنجز عام 1895 للأمريكي ألفريد كلارك، وآخر أنجزه عام 1927 المخرج الدانماركي كارل تيودور دريير وينتمي إلى السينما الصامتة ويتميّز بحسه الجمالي العالي. لا يركّز الفيلم على الحروب التي خاضتها جان دارك بل على محاكمتها غير العادلة والتي أدت إلى حرقها حيّة. وتظهر جان دارك في هذا الفيلم أيضاً كامرأة معذبة ومضطهدة كونها ضحية بريئة للمؤسسات الفاسدة.
أما فيلم «جان دارك» للمخرج الإيطالي روبرتو روسيليني فهو من كلاسيكيات السينما الإيطالية (انطلق من عمل مسرحي للشاعر الفرنسي بول كلوديل) وقامت ببطولته زوجته الممثلة السويدية إنغريد بيرغمان. تنبغي الإشارة هنا إلى المقالة التي كتبها الكاتب السياسي المصري جميل مطر تحت عنوان «جان دارك قديسة التحرير» ويروي فيها كيف شاهد هذا الفيلم ما لا يقلّ عن عشرين مرّة، وكيف عكس بالنسبة له «قصة فتاة حرّة في مواجهة تعسف أهلها وتطرّف المفسدين لدينها وقسوة وأنانية ونفاق بعض حراس التقاليد في مجتمعها.»
بالنسبة للسينما الفرنسية فقد أنتجت أفلام كثيرة حول جان دارك قام بها عدد كبير من المخرجين من بينهم المخرج روبير بروسون (1962) وجاك ريفات (1994). في فيلم هذا الأخير، قامت بدور البطولة النجمة الفرنسية ساندرين بونير. والفيلم يتألف من جزأين: يركز الأول على لقاء جان دارك بالملك شارل السابع وتحريرها لمدينة أورليان، والثاني يتناول محاكمتها وإدانتها في مدينة رووان. أما فيلم المخرج لوك بوسون والذي تمّ إنجازه عام 1999 فيتناول الحروب التي خاضتها جان دارك مسلطاً الضوء عليها كمقاتلة. والفيلم يكمل مسيرة المخرج كما عرفناها مع فيلم «نيكيتا» الذي يركّز على شخصية المرأة الشجاعة والمحاربة. هنا لا بد من الإشارة إلى أن الدراسات التاريخية الحديثة، ومنها تلك التي أعدتها المؤرخة كوليت بون عام 2004 عن سيرة جان دارك، أكّدت أنها كانت متوسطة القامة، نحيلة وتتمتع بقوة جسدية كبيرة حتى أنها كانت أثناء المعارك تظل ممتطية حصانها من الصباح حتى المساء ممتنعة عن الطعام والشراب.
من السينما إلى الأدب والشعر والمسرح والرواية، يؤكد البحاثة الفرنسيون ومنهم إيف أفريل ورومين فيسيرمان أن آلاف القصائد روت ملحمة جان دارك بمختلف اللغات الأوروبية، ذلك أنّ جان دارك ليست أسطورة متعددة القراءات بالنسبة للسياسيين فقط، بل بالنسبة للكتاب أيضاً، والأسماء التي تحضر هنا كثيرة منها برنار شو وبريخت وشيلير وشكسبير وجان أنوي ومارك توين وغيرهم… من أقدم القصائد الفرنسية المعروفة في هذا المجال تلك التي كتبها فرنسوا فِيّون، الشاعر الأكثر شهرة نهاية مرحلة القرون الوسطى.
من جهة ثانية، استوحى الفنانون التشكيليون والموسيقيون والمغنّون من أسطورتها على مرّ العصور ومنهم فريق الروك الياباني الذي يحمل اسم «البطلة» وكان تأسس عند نهاية التسعينيات من القرن الماضي وعرف شهرة كبيرة حتى انكفائه عام 2007.
تقتضي الملاحظة أخيراً أنه يوجد في مدينة أورليان الفرنسية مركز للأبحاث يدعى «مركز جان دارك» وهو مخصص للأبحاث التاريخية حولها ويديره المؤرخ أوليفييه بوزي الذي التقينا به في مسقط رأسها في مدينة دومريمي في إطار النشاطات المقامة حالياً بمناسبة مرور ستمائة سنة على ولادتها. سألناه عن الأسباب التي تفسر هذا الاهتمام الدائم بشخصها فقال إنّ القراءات المختلفة التي خضعت ولا تزال تخضع لها سيرة حياتها تجعلها مثار اهتمام للجميع مهما اختلفت توجهاتهم. ويضيف: «عاشت جان دارك في مرحلة مهمة جداً من تاريخ فرنسا وهي شهدت الصراع الطويل الأمد الذي عرفه وطنها مع الإنجليز».
كثرت الروايات التاريخية حولها وبعضها كان متناقضاً لأن كتابة التاريخ في تلك الأزمنة القديمة لم يكن قائماً على أسس علمية، والتحقيق العلمي في التاريخ هو ظاهرة حديثة بدأت بعد الثورة الفرنسية. في فرنسا ارتبط اسم جان دارك ببروز الوعي القومي والتحرر الشعبي، أما في الدول الأخرى فلطالما اعتبرت ظاهرة نسائية فريدة كما الحال في اليابان وكندا حيث ينظر إليها بصفتها نموذجاً للتحرّر النسوي. وما ترمز إليه جان دارك بالنسبة للمخيلة الشعبية هو التحرر ومواجهة الطغيان.