محمد أوريا
باحث مغربي
يقول المفكر السوري صادق جلال العظم في مقدمة كتابه “النقد الذاتي بعد الهزيمة”: “أرجو أن يكون التفكير العربي الواعي قد وصل إلى مرحلة تجاوز فيها اعتبار النقد مجرد عملية تجريح أو تعداد لعيوب ومثالب ونقائص لا تنتهي.1” إلى أي حد يمكن القول إنّ الفكر التنويري العربي قد وصل إلى هذه المرحلة مستفيدًا من الفكر الغربي؟ تذهب هذه الورقة إلى أنّ بعض المفكرين العرب المعاصرين قد مارسوا هذا النوع من النقد، الذي يرتبط بالتنوير وفلاسفته، في المجال المعرفي. وتأخذ كمثال مفكرًا سوريًا آخر هو جورج طرابيشي الذي ظلّ وفيّا للفكر النقدي منذ أن تصدى لذلك في بداية التسعينيات من القرن الماضي2، حتى وفاته. يمكن رصد علاقة طرابيشي بالفكر الغربي عبر ثلاث مراحل. المرحلة الأولى هي مرحلة الترجمة، حيث نقل إلى اللغة العربية أهم كتب الفكر العلمي والنفسي والفلسفي الغربي. من بينها ترجمته موسوعةَ الفلسفة لإميل بريهيه وأعمال سيغموند فرويد بالإضافة إلى العديد من أعلام الفكر الغربي. وهي مرحلة يمكن اعتبارها مرحلة التعليم الكبيرة في مسار طرابيشي الفكري، حيث تشبع بالفكر الغربي الذي كان جيل “مثقفي الثورة” الذي ينتمي إليه المفكر السوري، يرى فيه الخلاص، خصوصا في شقِّه الماركسي. المرحلة الثانية هي مرحلة تطبيق جزء من هذا الفكر الغربي لنقد إنتاج الفكر العربي المعاصر. والكتاب الذي يهم هذه المرحلة هو “المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي3″، ويتبنى فيه طرابيشي التحليل النفسي الغربي موظفًا فكرة “النكوص” كمفهوم مركزي يتعقّل على أساسه ما يسميه بالردة التي شهدتها الساحة الفكرية العربية بعد هزيمة عام 1967. كما أنه يستعمل المعجم الفرويدي والمعجم اللاكاني من قبيل “الأب الفعلي” و”التوظيف الفالوسي” للتراث، إلى غير ذلك من المفاهيم التي يزخر بها علم النفس الحديث. المرحلة الثالثة هي مرحلة “ضبط وتصحيح” المفاهيم الغربية الموظفة من طرف محمد عابد الجابري في تحليلاته للتراث في مشروعه نقد العقل العربي (وحصرًا في التكوين والبنية). وقد خصص طرابيشي لذلك كتابين هما: “نظرية العقل4″ و”إشكاليات العقل العربي5” من مشروعه “نقد نقد العقل العربي6”. بدءًا بمفهوم العقل عند أندريه لالاند، ثمّ “الابيستيمي” عند ميشيل فوكو والبنية اللاشعورية عند كلود ليفي شترواس، و”اللاشعور المعرفي” عند جان بياجي. حيث يقرّ طرابيشي أنّ قراءة الجابري لهذه المفاهيم، يشوبها الاختزال والبتر، واستعماله لها كان في غير محله. وقبل هذا سينتقد طرابيشي إلغاء الجابري للحضارات السابقة على الحضارة اليونانية، التي كانت تفكر في العقل فلسفة ومنطقا. فبالنسبة للمفكر السوري سقط ناقد العقل العربي تحت تأثير النظرية المركز-الاثنية الأوروبية التي سادت في القرن الـ19، معتبرًا أنّ الحضارات الثلاث، اليونانية والعربية والأوروبية، هي وحدها التي مارست التفكير بالعقل والتفكير فيه أيضا. وهذا شيء يرفضه طرابيشي ويؤكد أنّ حضارات قديمة مارست التفكير بالعقل وأنتجت تفكيرًا منطقيًا قبل اليونان، بل إن آثارها اعترف بها فلاسفة اليونان ومؤرخوهم أنفسهم. من هنا تطرح هذه الورقة الإشكالية التالية: كيف ساهم ضبط طرابيشي للمفاهيم الغربية المستعملة في “نقد العقل العربي” في إرساء “العقلانية الإبستمولوجية” التي تعتبر الحجر الأساس لأي تنوير عربي؟ من أجل ذلك ستحاول الورقة مقارنة استعمالات بعض هذه المفاهيم من طرف الجابري وطرابيشي. ممّا يتيح الوقوف على بعض الصعوبات التي تعتري استعمالات بعض المفاهيم الغربية في المجال التداولي العربي الإسلامي.
1- العقل بين الجابري وطرابيشي
يبدأ المفكر السوري مشكِّكًا في استعمال الجابري لمفهوم العقل، كما قسمه الفيلسوف الفرنسي أندريه لالاند (1867-1963)، إلى عقل مكوِّن وعقل مكوَّن، والأمر يتعلّق هنا بتعريف العقل المكوِّن والعقل المكوَّن الذي اعتمده الجابري في “تكوين العقل العربي”. بالنسبة للعقل المكوِّن، وفي معرض شرحه لهذا المفهوم يضع ناقد العقل العربي العبارة التالية بين مزدوجتين: “الملَكة التي يستطيع بها كل إنسان أن يستخرج من إدراك العلاقات بين الأشياء مبادئ كلية وضرورية. وهي واحدة عند جميع الناس7”. ثم بعد ذلك يحيل الجابري قارئه إلى العديد من الصفحات من كتاب لالاند “العقل والمعايير” الصادر سنة 1948. سيراجع طرابيشي الصفحات المشار إليها من طرف الجابري، ليقارن بين ما قاله هذا الأخير وما جاء في كتاب لالاند، ويلاحظ أنّ “عبارة” ناقد العقل العربي لا توجد في “العقل والمعايير” الذي يقرّر طرابيشي أنّ المفكر المغربي لم يقرأه، بل إنّ الجابري استقاها من “معجم اللغة الفلسفية” لبول فوكييه (1893-1983)8. ويتكرر ذلك أيضًا في ما يتعلق بالعقل المكوَّن، حيث ينبش طرابيشي بنفس الطريقة في مرجع الجابري، ليؤكد أنّ هذا المرجع هو حصرًا معجم الفلسفة لفوكييه.
بعد ذلك يناقش طرابيشي مرجعًا آخر يستند إليه الجابري في عودته إلى مفهوم العقل عند لالاند، وهو “الفكر الوحشي” لكلود ليفي شتراوس (1908-2009). ففي فقرة أخرى9، يؤكد الجابري على علاقة التأثير والتأثر بين العقل المكوِّن والعقل المكوَّن. ولتأكيد طرحه، ينهي كلامه مستعينًا بجملة يستقيها من كتاب ليفي شتراوس المذكور، وهي: “فكلّ عقل مكوِّن يفترض عقلًا مكوَّنًا.” لكن في عودته إلى كتاب “الفكر الوحشي”، يكتشف طرابيشي أنّ ليفي شتراوس لا يصحح لالاند ولا يذكره كما تفيد القراءة الجابرية، بل كان يرفض القراءة التي قدمها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1905-1980) في “نقد العقل الجدلي” لكتابه “الأنظمة الأولية للقرابة”. حيث يرفض ليفي شتراوس تصور سارتر عن أولوية التاريخ المطلقة في تكوين الجماعة البشرية “البدائية”، مُقِرًّا بأسبقية العقل على التاريخ. من هذا المنطلق، ودون أن ينفي ليفي شتراوس صفة العقل المكوِّن باستمرار على العقل “المتحضر”، فإنّه لا ينفي أيضا صفة العقلانية عن العقل الوحشي “البدائي”. وهذا الأخير يبقى ضروريًا لعمل العقل “المتحضر” المكوِّن الذي يعمل انطلاقا منه10. إذن فالنقاش بين سارتر وليفي شتراوس لا يهم تعريفات لالاند للعقل. الشيء الذي دفع بطرابيشي للبحث عن سبب إقحام الجابري جملةَ ليفي شتراوس. وسيجد الجواب أيضًا عند فوكييه الذي كان همّه بيداغوجيًا، فكان يضيف العديد من شواهد الفلاسفة على كلّ مفردة في “معجم اللغة الفلسفية”، ومن بينها شاهد ليفي شترواس، دون اعتبار وروده في سياق فكري معينّ، لأنّ هذا لا يدخل في اهتمام فوكييه البيداغوجي. الشيء الذي “ضلّل” الجابري في استعمال شواهد معجم فوكييه بتلك الطريقة التي رآها طرابيشي تعسفية وخاطئة11.
لكن في سياق النقد الذي يوجِّهه طرابيشي لقراءة الجابري تقسيم العقل عند لالاند، تجدر الإشارة إلى أنّ هناك لَبسًا عند ناقد الجابري في مسألة العقل المكوَّن، حيث يعتبر أنّ الجماعة “التي تنتسب إليه”12 تضعه “على أنه مطلق”13. فبالعودة إلى الصفحة 17 من كتاب “العقل والمعايير” المشار إليها من طرف طرابيشي، يتبيّن أنّ الجماعة التي تريد الانتساب إلى ذلك العقل المكوَّن ليست هي المعنية، باعتبار هذا الأخير مطلقًا. بل يأخذ هذا العقل وضع المطلق، حسب لالاند، لدى من لم يكتسبوا الروح النقدية اللازمة، في مدرسة المؤرخين والفلاسفة14. وإذا ما تمّ تجاوز هذه النقطة15، فيمكن القول إنّه من المؤكد حسب لالاند وطرابيشي أنّ للعقل المكوَّن دورًا في توحيد الجماعة المنتسبة اليه. وهذا الدور ينفيه عن هذا العقل الجابري الذي يؤكد أنه “قد يختلف من فرد إلى آخر16”. فهذه القراءة غير المباشرة عبر فوكييه لعقلي لالاند، أي دون العودة إلى كتاب هذا الأخير مباشرة -ولذلك طالها الاختزال والبتر- ستقود صاحبها إلى نكران الوظيفة التوحيدية للعقل المكوِّن، ثم إلى تقطيعه إلى ثلاثة عقول: بياني وعرفاني وبرهاني. وسيفضي تجاهل هذه الوظيفة التوحيدية إلى تصادم بين هذه “العقول” أو “النظم المعرفية” يعتبره جورج طرابيشي حربًا أهلية “يديرها ناقد العقل العربي”17. وأكثر من هذا أنّ الجابري سيكون طرفًا في هذه “الحرب”. فكما هو معلوم، على المستوى المعرفي، قسَّم الجابري العقل العربي تفاضليا إلى عقل بياني يتضمن علوم اللغة والفقه وعلم الكلام، ويسميه الجابري بالمعجزة العربية. وعقل عرفاني يتكون من التصوف والفكر الشيعي والسحر والتنجيم وكل ما يقوم على الكشف أو ما يسميه الجابري اللامعقول العقلي. وعقل برهاني، يتكون من المنطق والرياضيات والطبيعيات وكل العلوم التي تقوم على التجربة والملاحظة والاستنتاج العقلي18. على هذا المستوى ينتصر الجابري للعقل البرهاني على العقل البياني، وللعقل البياني على العقل العرفاني. وعلى المستوى الأيديولوجي، وكنتيجة للتقسيم الإبستمولوجي، انتصر الجابري للعقل السني على العقل الشيعي. أما جغرافيًا، فسينسب الجابري إلى المشرق كل ما هو لاعقلاني، وإلى المغرب كل ما هو عقلاني19، ليجعله صلة وصل بين عقلانية اليونان وعقلانية أوروبا الحديثة، منتصرًا لـ”عقلانية المغرب” على “إشراقية المشرق”.
2- حضارات العقل
بعد ذلك وعلى مدى عشرات الصفحات20 يفكك طرابيشي إلغاء الجابري الحضاراتِ التي سبقت الحضارة اليونانية إلى التفكير بالعقل فلسلفة ومنطقًا. إذ يعتقد الجابري المتأثر، حسب طرابيشي، بنظرية المركزية الإثنو-أوروبية التي سادت في القرن الـ19، أن الحضارات الثلاث، اليونانية والعربية والأوروبية، هي وحدها التي مارست التفكير بالعقل والتفكير فيه أيضًا21. إلا أن هذا الطرح الذي ربّما قد يدغدغ المشاعر القومية والدينية، يجد تفكيكه عند طرابيشي عبر العديد من الشواهد، وبالعودة إلى مصادر غربية كثيرة22 تبيِّن أن الحضارات الفينيقية والهندية والصينية مارست التفكير بالعقل وفيه، وأنتجت فلسفات عقلية ومنطقًا قبل اليونان بمئات السنين. كما توضح أيضا اعتراف فلاسفة اليونان ومؤرخيها أنفسهم بتأثرهم بتلك الحضارات، بالإضافة إلى أنهم هم أيضا كانوا يؤمنون بالسحر والعرافة والشعوذة، أي بما يرفضه العقل الذي يضع الجابري التفكير به وفيه في مرتبة أعلى، خاصًا به ثلاث حضارات فقط.
القراءة التي يقدمها طرابيشي لنقد هذا التعارض بين العلم والسحر -وبالتالي إذا كانت الحضارات الثلاث المذكورة أعلت من شأن العلم، فبالمقابل، فإنّ الحضارات التي يُنفى عنها هذا الأخير، كانت حضارات يطغى عليها السحر-، تعتمد على إعلاء ما هو عقلي في “حضارات اللا عقل”، وفي المقابل إظهار الهامش السحري في “حضارات العقل”، حسب تصنيف الجابري.
هكذا يعود ناقد الجابري إلى حضارة بابل والحضارة الهندية، عبر كتابين يعتبران مرجعين أساسين في هذا الموضوع. الأول “ما بين النهرين” لجورج رو المتخصص في تاريخ منطقة ما بين النهرين والثاني “حضارة الهند القديمة” لآرثر باشام المؤرخ والمتخصص في العالم الهندي. بالنسبة لحضارة بابل، يكشف التحقيب الذي اعتمده رو أنّ انتشار السحر والتنجيم الشعبي لا يمثلان الحكمة البابلية في أوجها، بل “كان ظهورهما مثابة عرض دالّ على الانحطاط في حضارة قيد موت بطيء.23” ثم يناقش طرابيشي حضور الرياضيات وعلم الفلك عند البابليين بصفة منتظمة ومكثفة اعتمادا على كتاب جورج رو. وربما يكون جديرا بالذكر أنّ العديد من الدراسات الحديثة التي اعتمدت النقوش الحائطية في بلاد ما بين النهرين، أعادت الاعتبار إلى البابليين في ما يخص خاصية فيثاغورس التي كانت معروفة في بلاد الرافدين قبل اليونان24. لكن ما يهمنا هنا هو إبراز هفوة ربما قد يكون سقط فيها جورج طرابيشي وهو يعيب على الجابري وضع الحضارات الأخرى (غير اليونانية والعربية والغربية) في خانة “اللاعقل” والسحر. فإنه يأتي بشاهد رو ليؤكد على أنّ تفشي السحر تلازم مع انحطاط حضارة بلاد الرافدين. لكنه في مقارنة بين العقل والسحر في فقرة سابقة، يستعين بكتاب “العقل” الشهير لجيل غاستون غرانجيه والمتداول على نطاق واسع، والذي يقر بأنّ الموقف السحري-الأسطوري والموقف العقلي لهما أصل واحد، ومن ثمّ فكلاهما عقليّ25. فإذا سلمنّا بهذا الأمر، لا يبقى داعٍ لاعتبار موقف رو دليلًا على أن حقبة تفشي العقلية السحرية في بابل مرتبطة بانحطاط حضارتها. والعكس صحيح، فإذا اعتبرنا موقف رو صحيحًا، فلا داعي للأخذ بفكرة غرانجيه حول السحر كرؤيا كانت تبني نظاما للكون في الحضارات البدائية ولا تقل احتراما عن العقلية العلمية في الحضارة المعاصرة.
أمّا في ما يخص “حضارة الهند القديمة” لآرثر باشام، فإنّ طرابيشي يستعين به للتأكيد على أنّ الهند القديمة كانت حضارة معارف علمية. وباشام لم يخصص في 566 صفحة المكونة للكتاب سوى صفحتين لحديث عن المظاهر السحرية بما فيها الطقوس الدينية. أما باقي الصفحات فيخصصه لمعارف الهند القائمة على التفكير العقلي، من فلك ورياضيات مجردة وعلوم تجريبية26. بل وحتى علوم اللغة، وهنا يعتمد طرابيشي على مؤلف جماعي وهو “تراث اليونان وروما”، ليشير إلى الجهد الفكري والمنطقي الذي اعتمده علماء اللغة الهنود لتقعيد السنسكريتية وتأليف المعاجم. وكلّ هذا كان له سبق وفضل على الحضارات اللاحقة بما فيها العربية وحتى نشوء علم اللغة في الغرب الحديث27.
بعد ذلك ينتقل طرابيشي إلى توثيق المظهر السحري عند اليونان بالرجوع، كالعادة، إلى المراجع الغربية، مثل كتاب المؤرخ الإيرلندي إريك دودس “الإغريق واللامعقول”28 وكتاب الفقيه اللغوي السويدي مارتن نلسون29 “الديانة الشعبية في اليونان القديمة”، وكذلك كتاب المؤرخ الفرنسي إدوار ويل “العالم اليوناني والشرق”. وعبر شواهد كثيرة، يكتشف القارئ أنّ أثينا القرنين الخامس والرابع، أي عصر الفلاسفة، كانت دائمة اللجوء إلى الخرافة، من رُقى وتعاويذ وطقوس سحرية، شأنها في ذلك شأن الشعوب البدائية، وأنّ “أمْثَلَة” عقلانية اليونان لم تحدث إلاّ مع مطلع عصر النهضة الأوروبية30، وظلت بالتالي نظرة أوروبية محضة. وهذا الموقف يمكن فهمه من خلال إصرار الفكر الغربي على الرجوع إلى أصل يوناني أُريدَ له أن ينتمي إلى المجال التداولي الغربي، دون وسيط عربي-إسلامي31. بعد ذلك يخلص طرابيشي إلى نكران وجود “معجزة يونانية”، مؤكّدًا أن ما وصل إليه اليونان هو ثمرة تراكم تاريخي، بدأته حضارات سبقتهم زمنيًا كالكلدانيين والمصريين32.
3- النظام المعرفي والبنية
اللاشعورية واللاشعور المعرفي
من جهة أخرى، وفي معرض نقده لتقسيمات الجابري الشهيرة، يعود طرابيشي إلى مفهوم النظام المعرفي أو الإبستيمي الذي يستعيره ناقد العقل العربي من الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926-1984). ويرى طرابيشي أنّ الجابري يستعمل هذا المفهوم في غير محله لأنه يرى التاريخ الفكري العربي تاريخًا اجتراريًا وميتًا، على عكس فوكو، الذي أكد على دينامية الإبستيمي في دراسته للفكر الأوروبي.
وعلى جَرْيِ عادته، سيرجع طرابيشي إلى المصدر الفرنسي الذي استقى منه الجابري مفهوم “الإبستيمي”، وهو كتاب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو “الكلمات والأشياء”. ولكن خلافًا لعادته لا يفصِّل كثيرًا في ذلك. فهو لم يخصص لاستعمال الجابري مفهومَ “الإبستيمي” سوى بعض الصفحات33. ومن خلالها يظهر هَمُّ طرابيشي في إبراز عدم جدوى استعمال مفهوم “النظام المعرفي” الفوكوي من طرف الجابري. وتجدر الإشارة إلى أنّ استعارة “الابستيمي” من طرف الجابري ظلت في الحد اللغوي للمفهوم الذي يترجمه الجابري بـ”النظام المعرفي” ولم تتعدَّ إلى اصطلاحه، وذلك باعتراف ناقد العقل العربي نفسه. فهو يقول مختصرًا: “النظام المعرفي هو جملة من المفاهيم والمبادئ والإجراءات تعطي للمعرفة في فترة تاريخية ما بنيتها اللاشعورية.34” لهذا يمكن القول إنّ طرابيشي حمَّل استعمال الجابري للمفهوم الفوكوي الأشهر، أكثر ممّا يحتمل. لكن بالإمكان التماس العذر لناقد الجابري، لأنّ هذا المفهوم ظل عشراتِ السنين بعد ظهوره في 1966، مفهومًا ملتبسًا تسبب في سوء فهم كبير بين المثقفين في فرنسا والغرب عمومًا. لهذا اضطر فوكو لشرحه في مقابلة أجريت معه عام 1972، قائلًا: “ما أسميه في الكلمات والأشياء بـ “إبستيمي” لا علاقة له بالمقولات التاريخية. أقصد كل العلاقات التي كانت موجودة في وقت معين بين مجالات العلوم المختلفة… إنها كل ظواهر العلاقة بين العلوم أو بين الخطابات المختلفة في القطاعات العلمية المتعددة التي تشكل ما أسميه بـ”إبستيمي” عصر معين.35″ بهذا المعنى إذن، يُظهِر تحقيب العلوم، الذي يقترحه فوكو في “الكلمات والأشياء”، فترات زمنية تتميز بوجود بعض الشروط الضرورية لبناء “حقيقة معينة”، ومعرفة حدود الإمكان والقبول فيها سواء بالنسبة للعالم أو للسياسي. من جهة أخرى يعني نظام فوكو المعرفي أيضًا “الفجوة، المسافات، المعارضات، الاختلافات” وأيضا “مساحة للتشتت، ومجال مفتوح، ودون شك، وصفي للعلاقات على الدوام.36″وربما هنا تكمن مجانبة الجابري للصواب عند استعارة مفهوم الإبستيمي الفوكوي. حيث النظام المعرفي متغير في المكان وثابت في الزمان37، على عكس فوكو تماما.
على كلّ حال، ينتقل طرابيشي بنا مباشرة إلى مفهوم آخر انطلاقًا من تعريف الجابري لنظامه المعرفي. ويتعلّق الأمر بمفهوم البنية اللاشعورية الذي قال به كلود ليفي شتراوس ولا يرِد البتة عند فوكو. وهنا أيضًا، يرى طرابيشي” عائدا إلى كتاب شتراوس “الأنثروبولوجيا البنيوية”، أن الجابري يستخدمه استخدامًا معرفيًا، أي لوعي الثقافة العالمة المكتوبة وليس كما استعمله صاحبه في الإثنولوجيا لدراسة لاوعي الثقافة الشفاهية للشعوب البدائية38.
خاتمة على شكل بداية
كان موضوعُ السطور السابقة لحظةَ الجابري-طرابيشي، عبر بعض النقاط المفصلية والعالقة بينهما في ما يخص مفهوم العقل واستعمالاته. تلك اللحظة الموسوعية التي بدأت منذ أكثر من 30 سنة، ولا تزال مستمرة إلى الآن وربّما لم تنل حظها من التحقيق والدراسة والعرفان بالجميل على ما قدمته للفكر العربي المعاصر، الباحث عن تنويره، من خدمة تتيح الغوص في التراث العربي لقراءته من جديد باستعمال آليات معرفية أتاحتها العلوم الإنسانية والاجتماعية، الابنة الشرعية للأنوار الغربية. هذا الفكر العربي المعاصر، وفي لحظات بحثه عن خيوط “أنواره”، عرَف عدة مشاريع فكرية تصب كلها في اتجاه واحد، هو نقد التراث بأساليب جديدة، سواء جدلية مادية كما نجد عند الطيب تيزيني وحسين مروة، أو فينومينولوجية تارة وتأويلية تاريخية تارة أخرى عند حسن حنفي. إنّ هذه المشاريع رغم أهميتها لإقامتها جسرًا بين كتب التراث الضخمة والثقافة العربية المعاصرة، أوجدت إشكالية أخرى. فقد حلّت هذه المشاريع محل التراث، وأصبحت هي الأخرى مقدسة عند مُريديها، وأضحى أصحابها “آباء مضطهِدين” بتعبير جورج طرابيشي39، وبالتالي يصعب نقدهم أو إخضاعهم لمجهر المساءلة العلمية. وهذا، كما هو معلوم، يناقض أهم مبادئ التنوير والحداثة40. من جهة أخرى، جاء كل مشروع من هذه المشاريع وكأنه الوحيد في عالمه، لا يلتفت إلى المشاريع الأخرى. لذلك جاءت هذه منفصلة عن بعضها البعض تعيد قراءة التراث من البداية وكأن شيئا لم يكتب قبلها.
في هذا الاتجاه، يمكن اعتبار إهمال الجابري الردَّ على نقد طرابيشي دليلا على تعذر الحوار الفكري العربي41. على أن قبول النقد في الفكر الغربي يظلّ عامل تحصين وقوة لهذا الفكر42. فبتواضع يتعامل الفكر الليبرالي مع النقد الذي يتجاهله جانب كبير من الفكر العربي. ويظهر ذلك فيما تُستعمَل مراجع دون ذكر مؤلفيها، مثلما يظهر التخبط إزاء إشكاليات تراثية تعاد قراءتها من جديد مع إغفال لما سبق من قراءات لها.
لكن لحظة الجابري-طرابيشي قد تكون الاستثناء الذي تفادى، في جزء منه، هذه النواقص، حين جعل طرابيشي من مشروعه نقدًا لمشروع الجابري في دراسة التراث. وهذا ما يُخوِّل إرساء روح النقد، الضروري لكل تنوير، وتطويرها حتى لا يتحول المشتغلون بصنعة الفكر، هم أيضًا، إلى أقانيم تراثية لا تتقبّل النقد.
هذه الورقة إذن كانت فرصة لمقاربة جزئية لمشروعين من أهم المشاريع الفكرية العربية في العصر الحديث. وتكمن هذه الأهمية في أن المشروعين اللذين يبدوان متناقضين، حيث إنّ الثاني ناقد للأول عبر البناء على أسسه ومحاولة تجاوزِه معرفيًا، يكمّلان في الحقيقة لحظة نقدية تاريخية واحدة، ما زال الواقع الفكري الراهن محتاجا إليها وإلى آلياتها. هذه اللحظة تتعامل مع التراث كموضوع علم، تفككه وتخضعه للتحليل. لهذا أمكن القول إنّ من الصعب تجاوزَها من طرف الفكر العربي الراهن. فهي تمتلك الآليات التي تحكّمت في التراث، سواءٌ أكان فلسفة أو كلامًا أو نحوًا أو فقهًا، كما تمتلك الآليات المعرفية لمقارنة هذا التراث بثقافات أخرى، أقدم منه أو معاصرة له أو جاءت بعده، كما رأينا في الأمثلة الثلاثة التي حاولت الورقة مقاربتها. فالمطلوب، إذن، لكيلا تتحول لحظة الجابري-طرابيشي هذه إلى كهنوت هي أيضا، هو استهلاكها بالمعنى المعرفي للكلمة واستعمال مفاهيمها وهي عديدة ومتنوِّعة. من جهة أخرى، استوعبت هذه اللحظة جوانب عديدة من التراث المعرفي العربي، ولا معنى إذن لإعادة قراءة هذا التراث من جديد من دون المرور عبرها، بعد ذلك الجهد المعرفي الذي قام به صاحباها، الجابري وطرابيشي، لتفكيك مركزية التراث في الفكر العربي المعاصر. وأخيرًا نخلص إلى أنّ كل حديث عن التنوير لا يستقيم بالتوقف عند أبواب العموميات، وإنما ربما بالاقتراب من “الشيطان الذي يكمن في التفاصيل”، حسب التعبير الاصطلاحي الإنجليزي الشهير.
الهوامش
المصادر
– الجابري، محمد عابد، بنية العقل العربي، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1991، ط2.
– الجابري، محمد عابد، تكوين العقل العربي، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1991، ط 4.
– جورج طرابيشي، إشكاليات العقل العربي، لندن، دار الساقي، 1998.
– جورج طرابيشي، العقل المستقيل في الإسلام، لندن، دار الساقي، 1998
– جورج طرابيشي، نظرية العقل، لندن، دار الساقي، 1996.
المراجع
– العظم، صادق جلال، النقد الذاتي بعد الهزيمة، دمشق، دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، 2007.
– سومر، آندرياس أورس، «قراءات نيتشه على سبينوزا. دراسة سياقية، خاصة عن استقبال كونو فيشر»، مجلة الدراسات النيتشوية، المجلد. 43، رقم 2، 2012، ص. 156-184.
– طرابيشي، جورج، المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي، لندن، رياض الريس للكتب والنشر، 1991.
– طرابيشي، جورج، من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، بيروت، دار الساقي، 2010.
– عبدالرحمن، طه، روح الحداثة. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، الدار البيضاء- بيروت، المركز الثقافي العربي، 2006.
– غوغنهيم، سيلفان، أرسطو في جبل القديس ميشيل، باريس، دار النشر سوي، 2008
– فيليب دوازي، في جذر الأرقام: تاريخ الحساب العددي من البداية إلى اليوم، باريس، دار إليبس للنشر، 2006.
– لالاند، أندريه، العقل والمعايير، باريس، منشورات هاشيت، 1948.
– لالاند، أندريه، العقل والمعايير، ترجمة د. نظمي لوقا، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997.
– ميشيل فوكو، أقوال وكتابات، 1954-1975، باريس، دار غاليمار للنشر، المجلد الأول، 2001.
الهوامش
صادق جلال العظم، النقد الذاتي بعد الهزيمة، دمشق، دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، 2007، ص 29.
الحديث هنا عن النقد الفكري والفلسفي. أما النقد الأدبي فقد كان لطرابيشي نصيب منه منذ سبعينيات القرن الماضي.
جورج طرابيشي، المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي، لندن، رياض الريس للكتب والنشر، 1991، 284 ص. تجدر الإشارة الى أنّ الكتاب كان في الأصل مشروع أطروحة دكتوراه باللغة الفرنسية، لم يتقدم بها طرابيشي في جامعة السوربون الفرنسية، لاعتبارات عدّة يشرحها طرابيشي في مقدمة الكتاب. وقد صدر بعد ذلك في جزأين تحت عنوان « المرض بالغرب» عن دار بترا للنشر والتوزيع.
جورج طرابيشي، نظرية العقل، لندن، دار الساقي، 1996، ص 376.
جورج طرابيشي، اشكاليات العقل العربي، لندن، دار الساقي، 1998، ص 319.
في خمسة أجزاء، بالإضافة الى «نظرية العقل» و»إشكاليات العقل العربي» صدر «وحدة العقل العربي الإسلامي» في 2002، و»العقل المستقيل في الإسلام» 2004، ثم بعد ذلك صدر «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث» في 2010، وهو لا يدخل مباشرة في مشروع «نقد نقد العقل العربي»، لكنه يكمله باعتبار استقالة العقل العربي مسألة داخلية وتهم الآليات التي تتحكم في الثقافة التراثية العربية الفقهية ، ردًّا على طرح الجابري الذي يربط استقالة العقل العربي أو أفول العقلانية العربية الإسلامية بعوامل إشراقية ولا معقولة خارجية ودخيلة عن الثقافة العربية من الموروث القديم في مدارس الاسكندرية وأفامية وحرّان. يضاف إلى هذه الكتب «المعجزة أو سُبات العقل في الإسلام» 2008، حيث يبحث طرابيشي أسباب ظهور أدبيات المعجزة في الإسلام السني والشيعي على حد سواء، والتي كانت غائبة في الإسلام المكي. ومع إسلام الفتوحات سيقع ما يسميه طرابيشي بالتضخم الروائي في مدونات الحديث للمعجزات المنسوبة إلى الرسول وآل بيته، وذلك لعدة اعتبارات.
محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1991، ط 4، ص 15. أما الإحالة فهي في الهامش 3، بنفس المرجع، ص 35. تجدر الإشارة إلى أن طرابيشي يستعمل الطبعة الأولى الصادرة عن دار الطليعة سنة 1984. وعلى كل حال، فإن الطبعات التالية في دور النشر الأخرى التي أعادت نشر الكتاب احتفظت جميعها بنفس ترقيم الصفحات.
طرابيشي، نظرية العقل، ص 14. ينقل طرابيشي لقارئه جملة فوكييه ليقارنها مع جملة الجابري، ويؤكد اضطراب ترجمتها، مضيفًا أنّ هذا المعجم كان صاحبه قد وضعه «للجمهور العريض وغير المتخصص».
الجابري، تكوين العقل العربي، ص 16.
طرابيشي، نظرية العقل، ص 17.
ربما كان مناسبًا هنا القول إنّ قراءة فكر معيّن على نحوْ غير مباشر عن طريق مفكر آخر، معمول به في عالم الفكر لاعتبارات عديدة منها صعوبة الحصول على المرجع مباشرة. ونضرب مثالًا بـ نيتشه (1844-1900). فرغم إعجاب هذا الفيلسوف الألماني بسبينوزا (1632-1677) واستعماله بعضَ مفاهيمه، فإنه لم يقرأه مباشرة، حسب بعض دارسيه المعاصرين. بل قرأ نيتشه فلسفة سبينوزا من خلال كتاب «تاريخ الفلسفة الحديثة» للفيلسوف الألماني كونو فيشر (1824-1907). انظر مثلًا: سومر، آندرياس أورس، «قراءات نيتشه على سبينوزا. دراسة سياقية، خاصة عن استقبال كونو فيشر»، مجلة الدراسات النيتشوية، المجلد. 43، رقم 2، 2012، ص 156-184.
اعتُمِدت هذه الترجمة التي استعملها مترجم الكتاب إلى اللغة العربية نظمي لوقا. انظر أندريه لالاند، العقل والمعايير، ترجمة د. نظمي لوقا، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997، ص 12. بينما يستعمل طرابيشي عبارة «التي تنتمي إليه» لترجمة «qui se réclame d’elle». أنظر: طرابيشي، نظرية العقل، ص 19.
طرابيشي، نظرية العقل، ص 19. ويحيلنا إلى كتاب لالاند مباشرة في الهامش 13 في نفس الصفحة.
أندريه لالاند، العقل والمعايير، باريس، منشورات هاشيت، 1948، ص 17.
يبدو أنّ عبارة أخرى للالاند هي التي ساهمت في هذا الخلط عند طرابيشي. إذ يقول لالاند : « كل من يشارك في عقل مكوَّن يضعه، حتى يثبت العكس، على أنّه صالح لكل الأزمنة والأمكنة المعروفة.» لالاند، العقل والمعايير، ص 18. هذا النوع من التمرين الذي يبدو تقنيًا، تتيحه قراءة طرابيشي نفسها لناقد العقل العربي، أولاّ للعودة الى المصادر الأصلية، وهذا ما يميز الفكر التنوير الغربي عموما، وثانيا لتحديد المفاهيم بمزيد من الدقة إذا ظهر لبس في ذلك، حتى لو تطلّب الأمر هدم ما سبق لبناء صرح معرفي على أسس معرفية صحيحة.
الجابري، تكوين العقل العربي، ص 15.
طرابيشي، إشكاليات العقل العربي، ص 278.
انظر تفاصيل تقسيم هذه النظم المعرفية في: محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مرجع سابق الذكر، ومحمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1991، ط2.
طرابيشي، نظرية العقل، ص 24.
طرابيشي، نظرية العقل، ص 25-115.
الجابري، تكوين العقل العربي، ص 17-18. وذلك في شاهد طويل ينقله طرابيشي كاملًا، لتفادي ربما تهمة الاجتزاء. انظر طرابيشي، نظرية العقل، ص 25-26. وتجدر الإشارة هنا الى انّ الجابري توخّى الحذر في إطلاق هذا الطرح حيث أضاف بين عارضتين جملة «في حدود ما نعلم».
تجدر الإشارة إلى أن العديد من هذه الكتب صدرت بعد سنة 1984، أي بعد نشر «بنية العقل العربي»، لهذا تصب جملة الجابري «في حدود ما نعلم» في الحياد المطلوب. الشيء الذي تجاهله طرابيشي في نظرية العقل» لكنه سيُقرّه في موضع آخر. الأمر يخص «كتاب الفلاحة النبطية» الذي ترجمه ابن وحشية في القرن العاشر، وخصَّه الجابري ببعض السطور فقط مصنٍّفًا إياه في فئة السحر والغنوصية، مستندًا إلى أن مقال للويس ماسينيون ورد في إحدى موسوعات العلوم الغامضة. انظر الجابري، تكوين العقل العربي، ص 141. أمّا طرابيشي الذي أُتيح له الحصول على الكتاب، إذ تمت إعادة طبعه وترجمته في فرنسا في تسعينات القرن الماضي، فقد قدّم إضاءة تفصيلية دقيقة للجانب العلمي والعقلاني في ذلك الكتاب شغلت أكثر من مائة صفحة. وفي هذه الإضاءة يكشف طرابيشي عن تناقض منهجي جليٍ آخر في «التكوين» و»البنية» يكمن في كون الجابري الذي يعتبر «المغرب» عقلانيا، لم ينتبه إلى أن كتاب ابن وحشية هذا كان موضع احتفاء من جانب أعلام في المدرسة العقلانية الأندلسية كابن خلدون والزهراوي، مثلًا. انظر جورج طرابيشي، العقل المستقيل في الإسلام، لندن، دار الساقي، 1998، ص 177-286.
طرابيشي، نظرية العقل، ص 38.
انظر على سبيل المثال: فيليب دوازي، في جذر الأرقام: تاريخ الحساب العددي من البداية إلى اليوم، باريس، دار إليبس للنشر، 2006، ص 112.
طرابيشي، نظرية العقل، ص 35. في مقارنة مع النص الأصلي، يورد طرابيشي الفقرة مقتضبة لكنها تَفي بالمعنى، دون بتر أو اجتزاء. قارن مع جيل غاستون غرانجيه، العقل، باريس، المنشورات الجامعية الفرنسية، ص 29-31.
طرابيشي، نظرية العقل، ص 42.
طرابيشي، نظرية العقل، ص 44-45. تجدر الإشارة إلى انّ طرابيشي يلجأ أيضا إلى أحد أهم الكتب في تاريخ المنطق وهو «تاريخ المنطق» لأليكسندر ماكوفلسكي، الصادر سنة 1978 بترجمة فرنسية عن دار التقدم في موسكو. وفيه يؤكد الكاتب على أنه لا توجد فقط فلسفة هندية، بل أيضًا منطق هندي سبق المنطق الأرسطي ولا يقل عنه عقلانية. انظر تفاصيل ذلك في طرابيشي، نظرية العقل، ص 103.
صدرت الطبعة الأولى من الكتاب سنة 1951، ويعتمد طرابيشي، كما في المراجع الأخرى غير الفرنسية، على الترجمة الفرنسية الصادرة سنة 1977.
البروفيسور مارتن نلسون هو صاحب مقولة «اليونانيون مناطقة بالفطرة»، لكنه في كتابه هذا سيضطر للتسليم بأنّ «الخرافة والاعتقاد بالسحر والشعوذة كانت عامة للغاية وواسعة الانتشار في العصر الكلاسيكي.» انظر تفاصيل ذلك في: طرابيشي، نظرية العقل، ص 47.
حسب روبير فلاسيير في كتابه «الحياة اليومية في اليونان في عصر بريكليس». انظر تفاصيل ذلك في طرابيشي، نظرية العقل، ص 53-56.
انظر مثلا آراء مؤرخ القرون الوسطى الفرنسي، سيلفان غوغنهيم، أرسطو في جبل القديس ميشيل، باريس، دار النشر سوي، 2008.
طرابيشي، نظرية العقل، ص 57. وسأكتفي بهذا القدر فيما يخص هذه الفقرة الخاصة بحضارات العقل، لتجنب الإطالة على القارئ. وإلا فإنّ طرابيشي يناقش في صفحات طويلة مسألة أصول أغلبية المفكرين وعلماء اليونان والذين لم يكونوا ذوي أصول يونانية، ولكن جذبتهم مدن اليونان، خاصة أثينا القرن الخامس قبل الميلاد، لعدة اعتبارات، سياسية واجتماعية، … إلخ.
طرابيشي، إشكاليات العقل العربي، ص 277-287.
الجابري، تكوين العقل العربي، ص 37. ويضيف الجابري في هامش توضيحي: «واضح أننا نستوحي هنا، على صعيد التعريف، ميشيل فوكو. ولكننا، …، لا نحذو حذوه…». انظر: الجابري، تكوين العقل العربي، ص 55.
ميشيل فوكو، أقوال وكتابات، 1954-1975، باريس، دار غاليمار للنشر، المجلد الأول، 2001، ص 1239.
فوكو، أقوال وكتابات، 1954-1975، ص 704.
يستعيد طرابيشي فقرات طويلة من «التكوين» الذي يذهب فيها الجابري الى اعتبار الزمن الثقافي العربي زمنًا راكدًا، لم يعرف القطائع. انظر: طرابيشي، إشكاليات العقل العربي، ص 281-282. وفيها يتبين أن ناقد العقل العربي يرفض أي مبدأ للتحقيب سواء كان باشلاريا أو فوكويًا.
طرابيشي، إشكاليات العقل العربي، ص 288. لا نريد الإطالة في هذا الموضوع أيضًا لتفادي التكرار أولا، ولاعتبارات تهم حجم المقال ثانيا. لهذا نكتفي في هذا الهامش بالتذكير بأنّ هناك مفهومًا آخر وهو «اللاشعور المعرفي» الذي يستعيره الجابري من عالم نفس الأطفال= السويسري جان بياجيه، والذي يؤكد طرابيشي أن الجابري لم يقرأه قط. ويوجه لناقد العقل العربي عدّة انتقادات، منها على سبيل المثال، أنّ الجابري قام «بعملية إزاحة ميكانيكية لمفهوم «اللاشعور المعرفي» من مجال تداوله … علم نفس «الفرد الواحد من البشر بتعبير الجابري نفسه، إلى مجال تداولي جديد هو «بنية عقل «الجماعات والشعوب»، … وهذا دون أي تركيب فلسفي أو تسويغ أيديولوجي، كما بدون أي تأصيل نظري وأي تكييف… للمفهوم بحيث يتلاءم مع موضوعه… الثقافة العربية الإسلامية.» انظر: طرابيشي، إشكاليات العقل العربي، ص 292. بالإضافة أيضا إلى أنّ الجابري حسب ناقده، يوظف مفهوم “اللاشعور المعرفي» مصورًا – أو متصورًا أنّ- بياجيه كان نصيرا كبيرًا للاشعور. وهذا خطأ في نظر طرابيشي الذي يستشهد بكتابات بياجيه ليتأكد ويؤكد للقارئ أن الجابري لم يقرأ بياجيه قط. انظر: طرابيشي، إشكاليات العقل العربي، ص 307-308.
العبارة مستعارة من فصل بعنوان «التراث كأب مضطهد» من كتاب طرابيشي، المثقفون العرب والتراث، ص 216-239.
في تأكيده على الفرق بين «واقع الحداثة» و»روح الحداثة»، يحدد المنطقي المغربي طه عبدالرحمن ثلاثة مبادئ أساسية لهذه الأخيرة: مبدأ الرشد، أي الانتقال من حالة القصور إلى حالة الرشد، حسب الطرح الكانطي لفلسفة الأنوار. مبدأ النقد، أي الانتقال من حالة الاعتقاد إلى حالة الانتقاد. ومبدأ الشمول الذي يقضي بانتقال الحداثة من حال الخصوص إلى حال الشمول. انظر: طه عبد الرحمن، روح الحداثة. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، الدار البيضاء- بيروت، المركز الثقافي العربي، 2006، ص 25- 29. ويؤكد عبد الرحمن أن هذه المبادئ هي التي تعطي المبادئ الأخرى المستخدمة لوصف الحداثة كمبدأ العقلانية ومبدأ الحرية… إلخ. عبدالرحمن، روح الحداثة، ص 24، الحاشية 4.
يسمي طرابيشي لحظة الجابري-طرابيشي «ربع قرن من حوار بلا حوار»، لأن الجابري لم يرد على نقده. انظر: جورج طرابيشي، من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، بيروت، دار الساقي، 2010، الهامش 1، ص. 636.
نضرب مثلًا بالكتاب الشهير الذي أصدره فيلسوف السياسة الأمريكي جون راولز (1921-2002) تحت عنوان «نظرية العدالة» ويمتاز بالعمق وصرامة المفاهيم، إلا أنه كان مدة ثلاثين عامًا موضع نقد من طرف العديد من المفكرين، ورَدٍّ وتصويب واعتراف بالأخطاء من قبل مؤلِّفه حتى وفاته. وقد صدر الكتاب عن جامعة هارفارد سنة 1971، وصدرت آخر طبعة منقحة عام 1999، أدرج فيها راولز التعديلات التي أجراها على المفاهيم المستعملة.