ومن مددنا الكف ودفعنا برفق الصرير المتعالي حتى آخره ، في ترقب الرأة التي لاح وجعها وانساب الينا في دفق هاديء ومحير. ما إن تخطينا العتبة حتى غشينا حزن أسقطنا في ذهول امتلكنا ، فتماسكنا نحن الثلاثة في حلقة صغيرة متراصين على بعضنا البعض ، محاولين تبين ما اكتنف بنفحة ضبابية حولنا. حوطتنا السحب ، وتقاطرت ذكرياتنا المفعمة أسى ووحدة انهمرت هكذا بدون أي تحذير مسبق ، لم يدع لنا سانحة الدهشة . رأينا الصور الذابلة تكتسب لهبها المحرق مرة أخرى وتلسع بتعنتها قلوبنا الهرمة ، غير قادرين على صدها، وقفنا في تأهب الضحية محدقين بها كتحديقها بنا، شاد ين الأصابع المعروقة على بعضها حتى الألم . كان علينا ضبط النفس لأننا وجدنا أنفسنا مدفوعين بقوة ما في نفق ضيق ومظلم ، لتمسك يد برأسنا المنزلق في مجابهة نور باهر ،وتنطلق حناجرنا في أصوات بدائية بدت سقيمة لمسمعنا. انهكتنا موجة أثيرية من عصف عابث لعشق خلناه قد تبدد مع روح مرحة زايلتنا. رأينا الوجه ، والشفاه ، والجسد الذي أسر بافراط الرغبة أنفاسنا. ثم انتبهنا للخدعة ، كان ذلك الادراك وميض ثانية انتابتنا فيها الرجفة لتخلق الشرخ المتعرج على نفسه ، القابع في سره وسط فناء رمادي، كشف ويتلاعب للضوء جسد الخالة مردودة المسترخي في استسلام كلي على كرسيها الهزاز الأثير. عندها فقط أصابنا الصحو، ومع ذلك لم نستطع حراكا، فهناك وفي الفضاء الممتد بين كرسي الخالة والسرير الذي كومت في جانب منه العظام في خرقة قماش طبعت عليها زهور ليلكية صغيرة ، شهدنا ظله الذي ما لبث أن أدار وجهه الينا لندير وجوهنا بدورنا صوب الوجه الآخر المسترسل في شبه اغماءة حالمة .
– " أفيقي ".
في البداية كان علينا رفع غطاء سميك من مزيج أعلن عن نفسه في قسوة ظاهرة ثم فاجأنا بملمسه الناعم حين أقحمنا أصابعنا بيأس المضطرب باحثين عن ثغرة تكون دليلنا في الثراء الرمادي المتفتت ندف قطنية ، تطايرت برشاقة لم تفلتها أعيننا. اعتلت الريح أهدابنا لثانية ورحلت ، بعدها وقفنا أمام الباب الذي استترت ألواحه ومساميره وانطوى مقبضه النحاسي الصغير عن ناظرنا يومين متتابعين ، اجتاحتنا أثناءها متتاليات من الحذر، والفضول والرهبة والخوف ، الى أن حاذينا في الساعات الأخيرة من اليوم التالى لحظة الانفلات هذه التي أدخلتنا بدورها في سعير مؤرق للهفة أثقلت صدورنا ولم نجد حيالها بدا من غرس أظافرنا فيما خيل لنا بعد معاينة دقيقة بالرادع الصلب ، لنستسلم لهشاشته الواشية بدقة اللحظة التي سمرتنا أمام هذا الحاجب الخشبي.
نقول للوجه الحبيس فتنة الغلالة . أيادينا تجزم بتماسكنا المنعقد في سحر الدائرة المتكاثف في الكتف والحوض في وجل تناعمنا هذا إزاء العتمة وما تكشفه بتسلط العارف .
هناك تستريح العظام التي ما فتئنا حملها كل أشر اقة شمس ، في الطرق المتجلية للنور، غالبة نعاسنا المفرط . نبحث في المقبرة المستكينة عن الحفرة المظلمة التي فعل بها معول الخالة ما فعل ، هناك نفني للأرض سرها، ونهدهد هاجس التربة الرطبة ونحن نريح العظام ، مر اوحين في مكاننا خشية العيون المتلصصة ، نقرأ ما نقرأ من سور تدفع بالبلية في كنف شأنك وقاص ، ونوشوش بهدوء.
– "استرح يا حارس ، من أجلنا هذه المرة ".
ونتف بلسعة فوق ما تربت عليه من تراب حتى لا يتبدى للعين المستريبة هذا الفعل الليلي الأخرق ، لسعير طالنا وهجه .
هذا هو لبس اللحظة ، فما أن ندير أعيننا حتى تتجاذبنا صور ترقرقت في صفاء تجلى في المحيط المنغلق على جسدها وظله ، هو المتأرجح بين عالمين ، يقف منذورا بالاضطراب بين عظامه التي حضنت عوالمها في الخرقة المثلثة الزوايا، كما خاطتها يد الخالة ، وبين شروع في المجيء ظل معرقلا بكينونته السديمية وبجسا لا يطال . الصور تتماهى ، تتدحرج بينهما ، تتألق وتخبو، مجر جرة في اعقابها الذكريات الصغيرة ، لنواة زيتون تدحرجت وظلت عابقة بأنقاسه ، لقضمه الطيع لشحمة أذنها حين تتلهى عنه بأمورها. في جسديهما تتطاير وتغفو وتتأجج الصور الممتد فحيحها كالشبق المتأني، يتأنى ، يتأنى حتى يتداخلا فلا نعود نرى شيئا.
تنفتق المرأة المفرطة عشقا عن هجس بدا أبديا، نحن الذين عرفنا فتنتها ورواحها اليومي بمبخرتها الصغيرة النفاذة ، تطرد ما يعلق به من أرواح هائمة في سأم نفحها الضبابي، متمتمة بالتعويذات التي سكن رنينها الهامس ذاكرتنا البعيدة ، نتوخى الحرص في تتبعنا لها، هكذا حتى لا نشرخ في هوج تحركنا، الاطار الذي تتبدى فيه صورة الخالة وهي تجثو منكبة بجسدها اللدن المترع عذوبة ، مانحة كل هذا الامتلاء لتربة حوطته ، لتخرج معولها الصفير وتضرب الأرض بصلابة أراقت الأنهار في أجسادنا، نتوخى الحذر كل ليلة ونحن نستتر بظلالنا متابعين ذهابها اليه :
– "يا خالة ، يا خالة ، دعي حارسا يهدأ"
ساعداها القويتان تهويان بدقة وحنكة ، بيقين تنبش جامعة في رفق العظام التي عكست نشأتها في احداقنا، وتلملم خرقة القماش التي تدحرجت على نسيجها كريات الخرز القزحية المشغولة بخيوط الصوف الملونة . القماش الذي يحنو على عظامه في الطريق المظلمة ، حتى تريحها على سريرها في غرفتها المكتظة بذكريات تتمازج وتتصارع وتختلط نشأتها وتاريخها، تاركة سديمية ضبابية مفعمة بالضياع ننكب فيها بدورنا لتتهافت نفوسنا على بعضها في تراص قصد فيه درء ما لنا قدرة على اكتساحه هذا، الذي سمر أقدامنا في الحلقة الضيقة هذه بعشوائية على الجدران الكلسية التي طلاها بنفسه مرات عديدة دون أن ينجح في مقاومة الندى الذي ينز عنه الجدار حيث تراكمت في فجواته الحلزونات الصغيرة التي ظلت تتوالد بشبق مستميت . الأيقونات التي جلب بعضها في صندوق خشبي صفير تآكلت أطرافه وحفرت عل زواياه حروف هيروغليفية طبعت بمفخرة الغموض ، زواجهما الذي تأملاه كثيرا حتى كادا أن يقسما بأنهما رأيا شؤونه اليومية تتخلق وتكشف لهما في الساعات المسائية تلك ، اتحادهما الذي ارتابا فيه حد ملامسته ، الرجل الذي افتتنها لونه الليلي ، وظلت منغمسة في حلكة ثرية وعطرة لجلده الذي اتخذه اللون مقاما له ، ليدخلها بعد ذلك في أرق الفروق العرقية التي باشرتها بها الأشياء ذات صباح حمل معه ثقل القسمات مشيرا الى شأن حارس في عبث أنهكها بدلالاته السقيمة .
– "كيف لي أن أبرح كل هذا الآن ".
تقولها بلا مبالاة ظاهرة وهي تسطر بعناية كلماته التي يمليها في ساعات الظهيرة الطويلة تلك ، رسائل مطولة يناشد فيه محكمة دولية النظر في أمر عبودية ظلت مبعثا للدهشة في قرن كان يطوي شوائبه وينقح تاريخ شكوكه تاركا إياها في عهدة التغيير، لتتبدى حريات قد علقت كالأطر في زوايا ما، باعثة الآن ببريقها، حاسرة الذاكرة . يدير النظر في الحقيبة الجلدية القديمة وف أوراق تناقض بعضها البعض فيما دون من إفادات ،وحكاية هي شهادات القدوم الأول ، يكاد يسمع جلجلة سلاسله غير المنظورة التاركة أشباحها حول قدميه ورسغه ، وانتظاره المعذب أن ينتبه اليه أولئك الحاملون وصايا الانسانية ،المعنيون بالانتهاكات الحيثية المتراكمة في ذاكرة السجلات التي يمررونها بهدوء في جو رصين ، مفتون بحياديته . ثم تختلط عليه الأحداث فيزاوج في الأحقاب التاريخية ويمحو خرائط وهمية يشير اليها بريبة المهاجر، القاطن عتبة القارات ، هو حبيس هذا المرفأ المنكفيء في الولادة الأزلية . وحين تنبهه في استكانة تامة ، يهتاج قليلا، ويطو صوته المتحشرج حد البكاء شارحا أشلاءه المتناثرة آثارها في حزم من يصد ريحا مفرطة في وشم ما حولها بهلوسة النسيان .
ينساق ظله لجدال قديم تجسدت أحداثه أمام رؤانا ، نحن المتملقين حول بعضنا، القابعين في شرك العراك . نشهده وهو يشد ويصرخ مبعثرا الأوراق من حوله ، يعيد عد العملة الأجنبية المربوطة في كيس من القماش حول رقبته ، حتى يتعب ويتكوم في يأس عند قدمتها.
– "أليس الموت مؤامرة ؟ كيف لي أن أستريح يا مردودة ؟".
يخامرنا يقين بالتواطؤ، نحن الذين دأبنا على انتشال عظامه من بين يديها لحظة نعاسها العميق ، لنركض بها في طرقات الفجر في سباق لاهث مع النور المتسلل في شروخ الجدران ، ونلقي بها في تعنت في الحفرة إياها، الفا غرة عتمتها لأحداتنا المرتابة ، هل سينفر لنا ؤ حزنه الصارخ هذا ما ابكينا به من رهبة غانمة كبحت بتناقضها السافر روحه الهائجة في ظلمة هي هزل قدري، ضاعف ني مأزقه الوجودي المتمثل في ملفات سرقت الشهور الطوال من عمر كثرت فيا الشكوك والتساؤلات حول من يمتلك الحقبة الأكبر فيا. الموت المفاجيء بعد الجهد العليل من أجل أن ترأف به قوانين دولية في لاهاي في مبنى هو كالجنين وراء الزجاج المصفح ونقاط التفتيش الالكترونية وبطاقات التعريف الصعبة . هذا الذي خلناه غضبا أهوج ستزول حدته حد أن يعتاد حارس مصيره الأخير، نال من رضوخنا، وأصابنا بهلع الروح المهمشة المخيبة المتضرعة كل ليلة للخالة مردودة أن تهب من رقادها الوحيد لتشاركه ظلمته الحالكة ، ليعيد ويعيد ترتيب تاريخه في ملفات انزوت على غبارها ممعنة في تجاهل مؤامرة الموت هذه التي باتت تؤرق نومه الابدي غير عارف جوهر لتوقيتها الفج وغير مصدق بأنها قد تكون رأفة من نوع آخر.
ومردودة لا تهب الحلول ، تؤرجح جسدها في كرسيها الهزاز ذاك ، وتستسلم لمؤانسة حميمية لا تعي الفقد في أسر ظه تتمرغ في سيل كلمات وصور تكتظ بها أنفاسها المكتنزة برائحة الرغبة الناشرة مفرداتها في الحركة الأخاذة المتناغمة المترائية لنا، نحن الدخلاء المنين في نمي المراقبة ، جاهلون طواعية الحلم وبأسه متمسكون بدليل الواقعية البائسة المتكومة في خرقة القماش التي نخطو تجاهها بحذر خوف ارتعاش الأهداب الطويلة الواقعة في سحر الأزلية . وما أن تمسك أطراف أصابعنا بزاوية القماش متحسسين الخرز القزحي ، حتى تتبدد تعويذة الحلقة التي وقعنا في مجاهلها لدقائق أدخلتنا في اضطراب التردد. تتعالى دواخلنا فجأة في انصياع الركض ، في التخبط في طرقات طبع السكون عليها علاماته الغامضة ، نطبطب على التربة الرطبة بأطرافنا التي علتها برودة الفجر ، ثم ننحني برؤوسنا حتى تمس الأرض جباهنا:
– "استرح يا حارس ، وانضو عنا هجيع الحرقة هذا".
وما ان نرفع وجوهنا حتى نواجه بالعبق الأليف للمكان الذي حوطنا بآلية وجوده الآخر، ومن بعد بتراوح أجسادنا التي ما برحت الحيز الضيق الذي استراحت فيا الى دف ء الالتصاق العادي اليومي بخرافاته المعهودة عندها نعرف بأن ذهابنا لم يكن حقيقيا تؤكدا التفاتاتنا التي ضبطت المشهد كما خلناه سابقا في المكان ذاته الذي رفق بشتات حياتهما وأتاح لهما الزمن المنسي . نفكر في الفواصل ، فيما هو هنا أو هناك ، محاولين أن نجد الشرخ الذي أنضر بنا الى هذا الحال ، مغمورين بندف تناثرت ساحبة ملمسها الحريري على وجوهنا. نقف هكذا، في تبين العتبة والمقبض النحاس.
منيرة الفاضل (قاصة وأكاديمية من البحرين)