لا أعلم الوجه الآخر للحقيقة لكن قيل لي ان الحسن بن هاني وبعد ليلة أرق خالها دون نهاية كبحر المبصرة الذي كان على شاطئه ليلة داهمه فيها هوى الشعره مضى الى مجلس خلف الاحمر، حينما دخل كان المعلم الذي ذاع ميته فى البلاد ينشد لطلابه ابياتا من رجن مشطور لجرول :
الشعر صعب وطويل سلمه
اذا ارتقى فيه الذي لايعلمه
زلت به الى الحضيض قدمه
ارتكن زاوية محاولا ان يخفى الحيرة التي فيه -وهو لايعلم انه سيصير منذ تلك الساعة الشاعر ابو نواس الذي نحفظه عن ظهر قلب -وجلس مصغيا لدرس المعلم الكبير-سمعه يقول:
اعذب الشعر اكذبه .، فأطرق رأسه ولم يصغ بعد ذلك حتى انتهى الدرس وانصرف الجميع حينذاك قال الفتى لمعلمه ما تخيله المؤرخون :
اريد ان اصير شاعرا
ابتسم المعلم متفرسا فى وجه الفتى الذي يرده لأول مرة ، عبثا حاول ان يتذكر الفرصة التي صادف فيها هذا الوجه فى زقاق مظلل من ازقة المبصرة . حتى ذلك الوقت لم يكن خلف الاحمر قد غادر مدينته ولو مرة واحدة …. لما تأكد ان لا جدوى من البحث فى حشايا ذاكرته فى ساعة مثل هذه قال :
اذهب واحفظ عن ظهر قلب الف بيت من الشعر ثم عد هاهنا وافترقا.
بعد شهور قضاها الحسن بن هاني في حمى الشعر بين جدران غرفة لم يترك لنا المؤرخون وصفا لها، عاد متمنطقا بحزام كتب فيه الف بيت يعرفها عن ظهر قلب ارتكن زاويته وانتظر ان ينتهى الدرس ، فى ذلك اليوم لم يصغ لحديث المعلم فقد كان يستعيد ابياته فى خلوة رأسه .
حفظت الف بيت من القديم والجديد قال للمعلم واشار الى الحزام الذي يلف خصره .
لم يلتفت المعلم الى اشارته للحزام بل ابتسم وقد تذكره الآن ، فقد رآه مرتين يذكر واحدة منهما، فى حزم اجابه قبل ان يعود الى غرفته ليمضى القيلولة :
اذهب وانس ما حفظت وافترقا وقد قيل انهما لم يلتقيا، لكن ما تفسير ذلك الان .
الذي نعرفه ان الحسن بن هاني خرج الى شوارع البصرة فاستقبلته شمس ذلك الصباح الدافىء.
هل اعشت عينيه الشمس وهو يخرج من بيت المعلم المعتم ؟ سيان لنا لكنه ظل تائها بين الف بيت من الشعر تطوى ذاكر ته وتمنعه من رؤية ما حوله ، سار حتى الشاطىء وجلس هناك يتأمل المراكب الشراعية والشوانى الحربية الرأسية فى الميناء القديم ، مراكب كانت تأتى وتذهب للهنا وجزر الواق واق بالتأكيد، أراد ان يقول شيئا فى وصف المشهد فحط فى ذاكر ته بيت شعر جاهلي ، فك حزامه ، حيث أخفى الالف بيت ، وسار حتى غمر الماء ركبتيه ، وقذف الحزام ، ظل يراقبه متنقلا من موجة لاخرى حتى غاب فى اللجة بعيدا عن الساحل لكن بيت الشعر الجاهل ظل طافيا فى ذاكر ته طوال ذلك اليوم ، لم ينم ليلتها كانت ذاكرته محشوة بالشعر ولم يكن يتنشق حتى رائحة البحر القريب فى الصباح ارتحل مع اول قافلة تمضى لبغداد.
فى ايام قليلة تعرف الحسن بن هاني الى المدينة الكبيرة ولم يكن يشعر بغربته وهو يقطع ستة آلاف شارع ، غير انه ظل تائها بين الف بيت من الشعر فى ذاكر ته منذ يقظته حتى منامه تأتيه ابياته متسلسلة كما كتبها فى وقاق الحزام ، فلا تبارحه حتى فى احلامه .
لم يدر بخلده ان هناك حدائق ، تسلب الذاكرة خلف اسرار بيوت كان يمر بمحاذاتها كل يوم يفوح منها شذى القرنفل والياسمين والرازقي.
فى تلك الليلة الحاسمة فى حياته ، تقلب فى فراشه حتى الفجر ولم يطبق له جفن ترك محقته مبكرا وضيع نفسه بين الشوارع والازقة والقنوات بحث عن حانة يداوى فيها تعبه لكن الحانات كانت مغلقة من المؤكد انه كان يوم جمعة وحانات بغداد تفلق ابوابها فى النهار . مضى فى هيامه حتى وصل باب خراسان مكث هناك وضيع بصره فى غرفة الخليفة القائمة أعلى البوابة، تدور حولها عصائب الطير، مرقت فى رأسه فكرة سيسوغها بعد سنوات فى قصيدة . لم يلبث طويلا قرب البوابة فعاد ادراجه الى الازقة مارا بسوق البزازين والعطارين ، دون ان يترك بصره يضيع فى صور الضوارى والطيور التي تزين الاقمشة المعروضة فى العراء . من هناك بعد سوق الوراقين عبر الى الرصافة تجذب بصره القبة الخضراء لدار الخلافة وتمثال الفارس المتحرك مع الرياح اعلاها، حين أتم عبور الجسر اختفت القبة خلف قباب أخرى صغيرة لقصور وزراء وحشم من العباسيين والبرامكة توقف عند مسندة النهر متأملا السميريات التي تقطع دجلة جيئة وذهابا.
هل تراه تذكر البصرة وهو يرى المسافرين والمتنزهين عن بعد؟ راقه المنظر فجلس هناك وقد اشبك يديه ببعضهما لساعات ظل ينظر وكانت الظهيرة تمر دون ان يشعر بها حتى رأى انعكاس الشمس فى النهر فعرف انه الغروب .
حينذاك نهض وسار بمحاذاة النهر ودخل فى اول خمارة على الطريق ، عندما تركها كان الليل فى اوله وعطر النهر يصل اليه ، عاد من ذات الطريق المحاذى للنهر والخمرة تلعب فى رأسه .جلس على مسندة الظهيرة وراح يصيح السمع لخرير المياه التي لم يكن يراها.اراد ان يقول بيتا يفصح فيه عن ليل لن ينقضى وصبح لن يأتي غير ان الف بيت من الشعر مرت فى رأسه دفعة واحدة وبقره مجرى النهر جارفة فكرته ، ترك المكان وسار حتى قلب المدينة وجد نفسه بين حشود مصلين تركوا المساجد بعد صلاة العشاء وشرطة الليل وعسكر الاسرار، ترك نفسه يضيع بين الحشد باحثا عن نسيان للالف بيت التي فى رأسا دون جدوى، فكلما زاد ضياعه زاد ايقاع الابيات فى رأسه .
توقف للحظة وقد تذكر انه ليس بعيدا عن بيت ابو ابراهيم الخراساني كان قد سمع عن هذا الكيمياوى واكسيره المروح عن النفس مضى يشق طريقا بين الحشد وبعد ان قادته قدماه من زقاق لآخر وصل البيت طرق الباب ودخل مستنشقا روائح العقاقير والاحماض والعناصر.
رغم تأخر الوقت استقبله العالم بمرح حين رأى سحنته وشم رائحة الخمرة ، لكنه لم يحظ باكسير النسيان الذي جاء لاجله فخرج الفتى لا يلوى على شىء لكننا نعلم من كتاب اخبار النسيان المخطوطة التي تمت الى ذلك الزمن والمحفوظة فى المكتبة الوطنية بباريس لمؤلف مجهول ما حدث بالضبط كان ابو نواس لايجهل ما اشيع من ان الخراساني قد وجد معادلة لاكسير النسيان كما وجد معادلة أخرى لحجر الفلاسفة لم يكشف اسرارها لاحد خوفا من قيام الساعة وان لم يعطه جرعة من الاكسير فذلك بسبب صفر سنه وقصر عمر ذاكر ته ، فالفتى الحسن بن هاني لم يكن بلغ العشر ين بعد، غير ان حفيد الخراساني اعطى الاكسير للخليفة القاهر بعد خلعه عن عرش الخلافة . هكذا صار الخليفة متسولا امام مساجد بغداد ناسيا انه فى يوم ما كان خليفة للمسلمين واميرهم .
حينما خرج من دار الكيمياوى مضى الحسن فى طريق لا يعرفه ولم يصادف احدا فيه حتى وصل للنهر جلس على الضفة بين احراش صفصاف وترك نفسه يسترخى قليلا كانت الليلة مقمرة وعلى السنة الماء كان ظل القمر يتكسر بصمت مازالت الخمرة تلعب برأسه ، فلم يغالب النعاس . غفا ساعة ثم استيقظ على صوت اجنحة تضرب الماء، هل كان يحلم بالنوارس التي شاهدها فى الظهيرة ؟ وجد نفسه يردد عبارة لم يسمعها من قبل انس يا انس انسك ، تساءل فى قرارته ان كانت العبارة من الحلم ام قرأها فى كتاب حينما كان فى البصرة .
ظل لساعات على حالته هذه لايعلم ان كان فى الذاكرة ام فى النسيان ، لم يكن يسمع من العالم غير خرير الماء الجارى فى النهر، وفى رأسه عادت الاعواج تتلاطم كأمواج بحر البصرة . هل العالم كلمات وخرير مياه ؟ تساءل .غير انه لم يعثر على جواب في الالف بيت التي فى رأسه والتي اختلطت ببعضها، هل الذكرى ما يتبقى بعد النسيان . فكر وهو يشعر ان ابياته الالف ما عادت غير كلمات مبعثرة فى رأسه كان القمر قد اختفى خلف غيوم عابرة تمر فى سماء تلك الليلة . شعر بكل ما حوله مظلما كروحه تلك الساعة حاول ان يتحسس الظلام بكفه فلم تصطدم يده بحاجز، وشعر ان الليل حوله هائل ودون نهاية وانه صار وحيدا مع هواه . اخذته رغبة عارمة بالبكاء وفى قرارته ود لو يعود طفلا لا يعرف الكلمات ولا يعرف الاشياء الا حين يشير اليها، اغرورقت عيناه بالدموع وسالت دمعة مسحها بظهر يده . تساءل فى داخله ما الذي اقترف من اثم كي يصل الى هذا الشعور بالوحدة والضياع …
اهي ساعة النسيان قد حلت ام هي الذكرى الباقية ما ايقظ فيه اشجان طفولته البعيدة .
حاول ان يجد جوابا لكن رأسه كان خاليا من كل شىء سوى ومضة النور التي اتقدت فيه .
استلقى على العشب الرطب وراح يحدق فى السماء التي بدأت تتسع مع خيوط السحر الأولى .
لم ير نجوما تسقط وكان رأسه خاليا من كل شىء، رويدا بدأت خيوطا عبارة تتجمع وكان يشعر بكيانه يرتجف مع اتضاح الكلمات ومعانيها وانغامها فى رأسه . حاول ان يتذكر بيتا من ابياته الالف لكن ذاكر ته مضت به الى كلمات اخري. استوى واقفا مبهورا بالدم الذي يجرى فى عروقه بصوت مسموع وانشد بصوت له ايقاع النهر ودم عروقه :
حامل الهوى تعب
يستفزه الطرب
ثم ترك النهر مسرعا ودخل المدينة الخالية ، كان اول الداخلين ذلك الصباح وفى رأسه كانت ابيات كثيرة تتدافع فلا يستطيع الأ قولها، ابيات لم يعرفها عن ظهر قلب .
جبار ياسين – فرنسا