برحيل فاطمة المرنيسي،يكون المغرب قد فقد أحد أصواته المسموعة، إذ لا شك أنها كانت على مدى عقود أكثر من عالمة اجتماع، وأكثر من مناضلة حقوقية،كانت قوة ثقافية ينصت إلى أسئلتها وإلى شغبها الفكري وإلى مغامراتها الإبداعية، عدد هائل ومتنوع من الباحثين والقراء والسياسيين والإعلاميين وطنياً وعربياً ودوليأ، وبهذا المعنى فقد كانت صوتا مؤثرا في بناء الأفكار الجديدة والصور المضادة للمحافظة والنمطية.كانت تعي ذلك، وتقاوم كل محاولة لعزلها عن محيطها وجذورها واختياراتها الحرة، وتحويلها إلى ظاهرة إعلامية، أو إلى أيقونة.وقد كان مثيرا للانتباه أن تلجأ فاطمة المرنيسي بتزامن مع النجاح الكبير لأعمالها في العربية وفي اللغات الأجنبية، إلى مزيد من الأعمال الميدانية، وإلى مزيد من الحفريات في التراث العربي الإسلامي،وإلى مزيد من إعارة صوتها للذين لا صوت لهم،وكل ذلك كان يجعلها في حالة تعبئة مستمرة،تعدد المشاريع وتنتقل بينها بشغف عجول ،كأنها في سباق مع نفسها ومع أسئلة الواقع المتناسلة،وكأنها تريد أن تحقق في كل لحظة ولو انتصاراً صغيراً على الجمود والوثوقية،وكم كان يدهشنا فرحها بكل شرخ صغير تلحقه بجدار الصمت والاستسلام،كم كانت تبدو سعيدة كلما عثرت على فكرة أثناء قراءة أو حوار أو حديث عابر.
كلما قرأت فاطمة المرنيسي، التقيت بهذا الشغف الذي تقاسمته مع الآخرين ،بإصرارها على تحرير الكلام،على تحويل الصوت إلى تدوين،أي إلى شهادة قابلة للتأويل والمقارنة،وقادرة من حيث هي كذلك على الربط بين إنتاج خطاب عن الذات وبين انخراط الذات في مقاومة الواقع،وهي المعادلة التي كانت دائماً مثار التباس في الحركة النسائية العربية، التي أنتجت خطابها في أغلب الأحيان مكتفية بمطالب المساواة التي تؤطرها القيم الكونية،لقد نجحت فاطمة المرنيسي من خلال أعمالها الميدانية عن المرأة القروية والمرأة العاملة والمرأة والسياسة وغيرها في إعطاء مدلول جديد للعمل النسائي قائم على فهم دقيق لتحولات الواقع ولصورة المرأة عن نفسها في هذا الواقع.وبموازاة مع ذلك انتبهت الباحثة المهووسة باستنطاق نساء من عصرها، إلى ضرورة الاستماع إلى نساء من عصور بعيدة،في محاولة لإعادة تركيب الصورة المتشظية للمرأة،كما رسمها خطاب الاستبداد، والخطاب الديني،وخطاب الغرب،وكما رسمتها استيهامات ذكورية عن الحريم المستحيل والحريم الذي لا «شفاء منه»
في قلب المشروع الذي شغل فاطمة المرنيسي لعدة عقود، هناك هذا الافتتان بالعوالم السرية لتاريخ الحريم وأسطورته وتجلياته الواقعية أو السحرية ،افتتان شخصي بنساء منفيات وبسلطانات منسيات وبملهمات كن شريكات في العشق وفي الرسالة،إنه افتتان فكري يسمح بقراءة نقدية للخطاب الغربي عن الحريم كما يسمح باستحضار متفهم للسياقات التاريخية والدينية التي أنتجته في هندسة السلطة والمجتمع وفي المخيال المشترك،لكنه أيضاً افتتان جمالي بالحريم كفضاء لإنتاج الغواية والفتنة والحكي،لذلك سنجد في كل الأعمال التي كرستها فاطمة المرنيسي لهذا الموضوع تماسا مدهشا بين البحث التاريخي ونقد الخطاب وبين البعد الرومانيسك في الكتابة ليس فقط في الأعمال التي أرادتها الكاتبة إبداعا سرديا أو سيرذاتيا ولكن في كل أعمالها الأخرى، ولا شك أن «نساء على أجنحة الحلم» وطفولة في الحريم»يقدمان ملمحاً قوياً على الافتتان الجمالي الذي يجعل من الباحثة روائية بين السطور، ومن الروائية باحثة تشتغل بمنطق الرواية التسجيلية،وفي السياق نفسه يمكن فهم شغفها بتعدد الأصوات والبورتريه ونحت الشخصيات وما إلى ذلك من خصائص البناء الروائي،في نهاية المطاف نكاد نعثر في «حريم فاطمة المرنيسي» على جرح جماعي سعت إلى تفكيكه ثقافيا دون تهويل دراماتيكي ولا تنازل فكري أوأخلاقي،وفي نفس الوقت نعثر على فردوس سري تمنحه فاس العتيقة وتمنح معه منجماً من الأحلام والكلمات والحكايات، ولعل الجاذبية الدائمة لهذا الفردوس هي التي جعلت فاطمة المرنيسي تشارك أمام دهشة الجميع بمشهد قصير وفاتن في فيلم محمد عبدالرحمن التازي»البحث عن زوج امرأتي،وهو الآخر فيلم عن الحريم.
في مرحلة مخلخلة كالتي نعيشها، تهيمن عليها مشاهد تحويل المرأة إلى غنيمة حرب،يعود سؤال فاطمة المرنسي ولو من خارج سياقه ليهزنا «هل أنتم ملقحون ضد الحريم؟» ولولا أن الكاتبة توجهت بالسؤال في عنوان فرعي للكتاب للسادة الذين يعشقون النساء،لأجبنا بالنفي
وداعاً أيتها السلطانة التي لا تنسى.
محمد الأشعري