في رحاب عصر نعيشه كسرت فيه طاقة الخيال, وغابت عنه أطياف ليل تحركت في ظلامه الأحلام ؟ ذاك الظلام الغامض الذي لم يكشف مستوره وقتها ضوء صناعي أو نور.
في ظل عصرنا هذا نحسب أن ما كان يسوغه الشاعر المبدع وما تشكله قريحته من خيال يهزمه جهاز مرئي يستخدم في صورته لفات جديدة, حيث تتحول الكلمة الى نبض حي وتشكيل وموقع وزمان, وتنطق شاشته بجمال فتاة فاقت قدرتها بإمكاناته كل خيال فأضحى ما ترده العين أشمل وأقدر مما يتصوره الخيال, وأضحت عيون المها التي كانت بين الرصافة والجسر والتي كانت تجلب هوى شاعرها من حيث يدري ولا يدري من حيث يشعر ولا يشعر محدودة الأبعاد والأركان, وأضحت تلك العيون التي انتشى بها شاعرها وانتشى معه المتلقي متخيلا حدودها بمنطق رغبته وحبه وأحلامه, بواقعه وخياله – في ظل هذا الجهاز المرئي شيئا واضحا حتى لو كان مد إبصارها حديدا مترامي الأطراف .
في ظل هذا الموقع الذي يأخذ المتلقي من وجوده المعاصر مرتدا به الى زمان بعيد، حيث المكان غير المكان والناس غير الناس يكون للعجب مجال وللغرابة موطن حين نجيب عن سؤال كيف ساوق إحساسنا إحساس المنخل وتحرك وقعنا تحرك إيقاعه ! للبحث عن هذه المسارقة بين عصرين حديث نبدأه بإبداع شاعر جاهلي قديم في بحث من الممكن أن نضع له عنوانا معاصرا، أي نجعله في ثوب المحدود: حيث كانت الأمور كما قلت فيما مضى بغير حدود فنقول: هو والحسناء والضمير يرتد الى شاعر جاهلي نقرأه الأن هو "المنخل اليشكري".
يقول المنخل ونحن ننصت اليه غير ضائقين بعلميته فدلالتها من دلالة أحداثها وقيمها وصنيعها لا من تشكيل
حروفها ووقع أصواتها:
إن كنت عاذلتي فسيري
نحو العراق ولا تحوري
لا تسألى عن جل مالي
وانظري كرمي وخيري
وفوارس كأوار حر النار
احلاس الذكور
شدوا دوابر بيضهم
في كل محكمة القتير
واستلأموا وتلببوا
ان التلبب للمغير
وعلى الجياد المضمرات
نوارس مل الصقور
يخرجن من خلل الغبار
يجفن بالنعم الكثير
أقررت عيني من أولئك
والفوائح بالعبير
واذا الرياح تناوحت
بجوانب البيت الكسير
ألفيتني هش اليدين
بمري قدحي أو شجيري
ولقد دخلت على الفتاة
الخدر في اليوم المطير
الكاعب الحسناء ترفل
في الدمقس وفي الحرير
فدفعتها فتدافعت
مشى القطاة الى الغدير
ولثمتها فتنفست
كتنفس الظبي الغرير
فدنت وقالت يا منخل
ما بحسمك من قرور
ما شف جسمي غير حبك
فاهدئي عني وسيري
واحبها وتحبني
ويحب ناقتها بعيري
ولقد شربت من المدامة
بالصغير وبالكبير
فإذا انتشيت فإنني
رب الخورنق والسدير
واذا صحوت فإنني
رب الشويهة والبعير
يا هند من لمتيم
يا هند للعاني الاسير
يعكفن مثل أساود
التنوم لم نعكف بزور
في ركب هذا النص السابق يسأل القاريء المعا هو عن غربة ندرة من الألفاظ لو أدركها أدرك معها سياق النص فهو باحث عن كنه دلالة "أحلاس الذكور" ليعلم أن المقصود بها فرسان الخيل الملازمون لظهورها، وعن كنه كلمة "استلأموا" ليدرك أنها تعني لبس الدروع وعن كنه كلمة " تلببوا" ليدرك أن مرادها تخرموا، وليس ببعيد أن يسأل عن مراد "يجفن " ليدرك أنها تساوي يسرعن, وأن المقصود بالرياح التي تتناوح أي التي تهب من كل ناحية واتجاه,وقد يتلبث في الطريق ليعلم أن "الخورنق والسدير" من خلال موروث ثقافي تاريخي قصران لملوك الفرس عجيبان كوفي ء بانيهما بالقتل حتى لا يفكر في بناء مثيل لهما، وقد يقف القاريء أمام السك اللغوي الذي عبر عنه الشاعر بلازمة "الصفير والكبير" ليدرك أن المقصود بهما عملتا المال التي تتراوح بين الصفر والكبر وهي الدرهم والدينار وقتها، وقد يركز على ثوب فتاته التي رفلت به ليدرك أن "الدمقس " هو الحرير الأبيض, يبحث القاريء عن هذا لعله يجزع من بعض اتساخ له من خلال مدافعة الشاعر للفتاة الى الغدير.
إذا استقامت للقاريء دلالة بعض المفردات بان له الطريق في إطار فهم النص وفهم علاقاته ومعايشة تجربة الشاعر الجاهلي سهلا واضحا ميسورا.
الشاعر صاحب النص:
أمامنا عمل شعري سهل المأخذ واضح المعالم رغم غربته الزمنية عن عصرنا وبعد الشقة بيننا وبينه .نحن أمام نص كتبه شاعر مبدع بإمكانه أن يكون فنانا شاملا معاصر أدرك في عطائه دور الحركة الفنية في الأعمال المصورة بالكاميرا، فالنص برشاقة وسرعة حركة يرسم وينسج صورة فنية تتآزر فيها الطبيعة بأشيائها، خلل الغبار والرياح والمطر والخدر والغدير، والخيل المضمرات والفوارس اللائي مثل الصقور، والقطاة والفتاة الجميلة والظبي اللاهث بعد مطاردة . تتآزر الطبيعة لصالح طرفين "شاعرنا الفارس المغامر الكريم وفتاته الوجلى" أو بمعنى أشمل لصالح شيئين الواقع والخيال, الحقيقة والوهم العبث والجد، السطوة والضعف, الرفعة والضعة, العدم واليسر، اليقظة والانتشاء، فالطبيعة في كل ما سبق هي "الكادر" الذي يحقق الثنائية بين هذه الأشياء.
أي عمل هذا الذي يفصح عن نفسه ؟ لمن هو؟ والى من ؟
إنه لمتيم عان, لاه عابث انفرط عقد المال من بين أصابعه كما يقول لفرط كرمه وامتداد خيره, وكما يضيف القاريء – من استبطان نصه – للهوه وعبثه . إنه لفارس يستدعي محبوبته في ختام إبداعه, أي في قمة أرقه وتوقره وهو بين الحلم واليقظة قائلا:
يا هند من لمتيم
يا هند للعاني الأسير
نحن أمام فتاة تسمى "هندا" تقرب وتدنو أحيانا من الشاعر، وتبعد وتنأى أحايين, ومن هنا كانت الاستغاثة بها ومنها مؤشرا يوحى بكونها أرق الشاعر وهمه ومطمحه . ترى أعانت هند بحسها وجسدها الرغبة والمطلب أم كان تحقيق الغايات لديه الهدف والمرام !
دعونا نفتش عن أسرار الداعي والمدعو، المستغيث والمغيث.
إن الداعي شاعر جاهلي لم تذب صورته أمام مناكر الأيام وصروف الزمان . تقول المصادر الأدبية عنه بأنه المنخل بن مسعود بن عامر بن ربيعة بن عمرو اليشكري، وبأن نصه مودع مستأمن عليه في ديوان "الحماسة " لأبي تمام, وبأن الشارح والراصد الأول لحركة مفرداته هو الخطيب التبريزي. ويقول ابن قتيبة عنه في كتابه "الشعر والشعراء "بأنه كان شاعرا جاهليا قديما،وأنه كان صاحب قصة مشهورة مع هند أخت"عمرو بن هند" وهو عمرو الذي يحدثه شاعر المعلقات الحارث بن حلزة مخاطبا إياه في معلقته قائلا له:
بأي مشيئة عمرو بن هند. . .
وتؤكد القصة كيف كان المنخل يشيب بهند هذه, وهي عمة النعمان بن المنذر، والتشييب في حق نساء الملوك والأمراء والعباهلة خطير ينحرف عن العرف والمألوف فكيف به إذا تمادى في التشييب بها وطغى وترك العمة ليتهم في امرأة النعمان نفسه وكانت تسمى "المتجردة " التي تقول المصادر عنها بأنها كانت سيئة الخلق اتهمت في المنخل وانجبت منه, وقد كان يخلو بها في غيبة النعمان الى أن اكتشف أمره فقتل .
هكذا يسرع الايقاع بالرجل فالحياة معه قافزة, فما أسرع الموت عقب الانتشاء والفقر بعد الغنى والخضوع المتوله بعد التفرد والكبرياء، هكذا تقفز قصة الشاعر في حينها كما تقفز أمامنا الآن لاهثة مسرعة .
إنها قصة حياة مشهورة مؤكدة نخرج منها ومن نص صاحبها بأننا أمام ملامح لشاعر زمانه العصر الجاهلي,مكانه على مقربة من مواقع المناذرة, أي من موقع بين بين فلا هو قد اتخذ من البادية عمقا ولا من الحاضرة متنفسا وأرضا، يقال عنه بأنه جميل المنظر صاحب لهو وعبث أخذت المرأة منه نصيبا كبيرا وقد أسلمه ذلك الى نهاية مأساوية خليقة بأن تجعل منه رمزا لموقف واتجاه .
هذا هو المنخل الذي كانت نهايته في الطريق الى "هند",ولو كانت «هند" شبيهة "صنعاء" لكان الطريق اليها محتوما وإن طال السفر، بيد أنه طريق غريب من حقنا أن نسأل عنه . هل كان قبل نهايته موحشا مقفرا ترتعد فيه اوصال الشاعر وترتجف في مسالكه الوعرة جنباته ؟ أو أن المسلك كان رحبا مسعدا، والطاقة كاملة والقدرة واعدة ولم أطراف الزمان والمكان والأشياء في رؤية الشاعر حاصل موجود؟ لعل مكثا أمام النص المنقول الآتي من التاريخ يحكي لنا بوضوح كيف كان الطريق وكيف كانت الغاية ؟
في تتبع هذه الأسئلة تبدو للباحث أمور.
بيان الفارس العاشق:
ترى أعيننا في هذا النص شاعرا فارسا يمثل شخصية العربي الثري المترف الذي ساعته ساعتان, ساعة قتال وكر وفر كما توحي بذلك الأبيات الأولى, ففي حركتها لحظات الفارس المتأهب لاقتحام الغبار، وامتطاء الجياد المضمرات بطاقة تساوي النار، وساعة متعة وانتشاء يصل مجونها الى حد اقتحام المستور المكنون في جرأة من يعلم أن الفتاة الخدر مهما كانت منعتها لا تستعصي عليه كما تريد الأبيات الأخيرة . مثل هذه الشخصية اللاهية تستدعي الينا من موروثنا وسياق شعرنا امرأ القيس, ابن بيئته الذي خلط الجد باللهو والوغى بالخمر والذي أصبح يومه خمرا وغده أمرا إذا ما ادلهم لديه الخطب, ولا تستدعي المخالف الفارس عنترة العبسي ابن ذاك الزمان أيضا الذي كان بأسه ممتزجا بعطش وجده العف الرقيق, فقد كانت فروسيته عشقا وتحنانا، واللحظة لديه لحظة مركبة لا اثنتان ويومه يوم واحد لا يومان, ففي الزمن الواحد رأينا جبروت المقاتل ولهفة العاشق حين قال:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
منى وبيض الحمر تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
هل كان الزمان وقتها زمان الفارس, والعصر عصر القوة والحب معا؟ أين نحن من هذا الأوان !
إن تقبلا معاصرا والفا محمودا لما يدور في هذا الزمان يعتبران دليلا على ظمأ المتلقي الى شيء من روح هذا العصر والرغبة في عودته, عودة أمثال هؤلاء الفوارس في هذا الزمن المصنوع الذي تعرى فيه الانسان وتوارى وراء قناع المذهب والمنفعة والآلة . شاعرنا المنخل لا يعرف له ند أو نظير ولا يجاريه في الرغى مجر، ولا يشق له في الهيجاء والحب غبار. شاعرنا بإمكانه أن يخاطب الناس قائلا:
إن كان هناك شك في قدرتي وطاقتي وشجاعتي وقلة موردي ومالي وحيلتي وهذا لن يكون فتوجهي يا لائمتي وعاذلتي صوب العراق غير سائلة عني، عن كرمي وخيري، وإلا فأنت لست بصاحبة لي, وإذا كان الشك قائما في التصور فكوني في مجرى طاقتي وقدرتي فالشك معي ليس له مجال .
لن يشك في رجل من فوارس واحدهم كالنار، رجل ملازم متن فرسه ملازمة الأبد مرتديا زي الحرب متسلحا بعدتها، رجل من قوم إذا ما تأهبوا للإغارة خرجوا لها وانتفضوا يشقون الغبار من على مترن خيل مضمرات متجر ذات خلقت وأصحابها للقتال سرعة وقوة, كرا وفرا.
وقد يسري في خيال المتلقي المعا هو الذي يتتبع بأس هذا الرجل أنه مخلوق للقتال وحده, ومن ثم فقد جفت ينابيع الوجد في قلبه, وهذا أمر غير جدير بالمنخل الفارس فالحب لديه قرين البأس ومنوه, والغزل والبأس وجهان في بيئته البدوية المكشوفة لعملة واحدة لا زيف فيها.
شاعرنا المنخل في هذا النص أطلق طاقة وجده وشوقه كي تكون معادلا لبأسه وفروسيته ليتابع من خلال رحلته علاقة حب مركبة عبر عنها المكان والزمان والإحساس . علاقة وصفية وجدانية قل نظيرها في الآداب عربية وغير عربية .
فالفتاة في خدرها المكنون الذي من شأنه أن يقوم بسترها يمر عليها شاعرنا ذو البأس في يوم ممطر يختبيء فيه القوم غب المطر فتبقى الطبيعة وحيدة خالية دون ناس اللهم إلا الشاعر والفتاة وبعيريهما هذه الفتاة يخرجها المنخل من مكنونها دافعا إياها الى حضن الغدير محاولا تقبيلها فترتعش له رافضة في خجل مسلمة دون وعي وجهها لقبلة تحيل برودة الكون الممطر البارد الى وهج من حر النار.
هنا في هذه اللحظة تختلط الحدود والأشياء, يلتحم لشاعر بالطبيعة, يلتقي المطر بالغدير كما يلتقي المنخل فتاته, هنا تصبح الطبيعة جزءا من النفس والنفس جزءا من الطبيعة ويستحيل الكون الى شيء واحد، ويكتمل أمر لصورة الفنية أوالكادر الفني لتتآزر علاقة الحب في الوجود بعلاقة أخرى فريدة تؤكد هذه الوحدة وذاك الامتزاج حيث تصبح الناقة وهي حيوان في ظل طرف أخر من خلال حب وتحنان, هذا الطرف الأخر هو بعير الشاعر.
هنا في هذا الكون وهذه اللحظة يبين أن النماء والإخصاب قوامهما التضاد وتلاقي المتنافرين . المطر والغدير، الرجل والأنثى، الناقة والبعير.
حركة الصورة وسرعة إيقاعها:
لا يمكن لهذا النص أن يكون من وادي الموت, لأنه يفيض حركة ونبضا وسرعة إيقاع ويتشكل من مكونات كلها حياة, فالسير نحو العراق دون عروج أو تحول حركة, والإغارة والاستلآم والتلبب وعدو المضمرات حركة, وأوار حر النار التي تخترق الهواء تلسع وتحرق حركة, وتناوح الرياح التي تثن حول البيت الكسير وسقوط الأمطار التي لا تهدأ حركة, وتعثر الفتاة في ثوبها المرفل ودفعها الى الغدير ولثمها, ودنوها بعد تباعد حركة, والتصاق حرارة بحرارة وجسد بجسد والتنفس المتقطع وصرخة النداء والاستغاثة حركة .
مثل هذا النص يرى الصورة الشعرية ليست ثابتة جامدة محدودة الأفق ويقوم بتكثيفها وصوغها في مساحة عريضة ورؤية ممتدة, ومع سيطرة هذه الصورة المتحركة أحسب أن ميلا لها ولأمثالها في الشعر العربي الآن بموجب سطوة العصر يكون أكبر من قبول غيرها فميل المتلقي بوقع حياتنا للمتحرك أكثر من ميله للجامد الثابت, لقد برعت صورة فنية قام بها شاعر عباسي رصد فيها منظر الهلال في السماء هذا الشاعر هو ابن المعتز الذي أبدع حين شكل هذه الصورة مع بطء الحركة فيها حين قال:
أنظر اليه كزورق من فضة
قد أثقلته حمول من عنبر
وبراعة هذه الصورة تجعل الفنان التشكيلي قادرا على بسط سيطرته وذوقه عليها، إذ بإمكانه أن يرسمها رسما غير منقوص فمسطح الورقة مع جملة ألوان محدودة تحوي الأزرق والأحمر والأبيض والأسود تجعل هذا الفنان قادرا على تسجيل ما رامه ابن المعتز في سبك صوره وكلماته ؛ أي تجعله قادرا على تحويل الكلمات غير المحدودة في عطاء لغتها الى شيء محدود.
براعة الصورة السابقة أظن أنها تقل براعة عن صورة أخرى أكثر منها حركة وانطلاقا وأبعد عن منطق الثابت المحدود، وهي صورة لا يقدر الفنان التشكيلي المعاصر على أن يلم بأطرافها؛ لأن قدرته تقف عند إدراك الجزء المحدود منها دون استيعاب المساحة النفسية والحسية فيها وهي صورة الشريف الرضي الشاعر العباسي أيضا الذي يصف مرور الركب على ديار الصبا والأحبة وقد أهلكتها عوادي الدهر وصروف الزمان, تلك الصورة التي يقول فيها:
ولقد مررت على ديارهم
وطلولها ليد البلى نهب
وتلفتت عيني فمذ خفيت
عني الطول تلفت القب
في هذه الصورة المتحركة تمتد مكونات المكان الثابت وتتحرك مكونات النفس, وتتعدد مدارك النظر في العين, فالمكان الذي أهلكته العوادي وأحاله الزمن الى أطلال تحوله حركة الركب المرتحل السائر ونظرة العين المتعلقة به الموصولة معه بحبات القلب والوجدان شيئا مركبا متحركا، وفي هذه الصورة المركبة تقف قدرة الفنان التشكيلي وتعجز الألوان عن أن تسعفه فما عساه أن يصور؟
حركة الركب المرتحل قبل الوصول الى الطلل ؟ أو أثناء رؤيته والوصول قبالته ؟ أو الابتعاد عنه رويدا رويدا في مساحة ضوء يجعل الشيء الواضح حركة وراء حركة وخطوة تلو أخرى أشباح خيال .
أعتقد أن عطاء فنيا آخر بإمكانه بقدر ما أن يستولي على شيء كبير مما صوره الشريف الرضي إنه صورة الكاميرا السينمائية أو لفة الكاميرا كما يقال تلك التي تسجل الحركة منوطة باتساع المكان وحساب الزمان .
هذه الصورة السابقة يبرع في تحقيق مرادها وتمثيل أمرها مخرج سينمائي دون أن يحقق مرادها الشمولي المعتمد على الحركة فنان تشكيلي .
أين نحن من هذا المبدع الأخير وأين سياق المتلقي الآن الذي تحوط به الأعمال المتحركة أكثر من الأعمال الثابتة فمن يلتف حول دائرة السينما والتليفزيون الآن عصبة تفوق في عددها من يلتف حول لوحة أو تكوين أو تمثال .
لقد كفى "المنخل" القاريء المعاصر حيرة الاختيار ؛ لأنه من زمانه السحيق خاطبه بلفة الآن, ومن ثم كان القبول والالتقاء, فليسعد ذلك المخرج السينمائي في تشكيل كادره من المنخل حيث أعطاه المطر والغدير, وخلل الغبار وحركة المضمرات وهزيم الرياح وفتاة تجفل من فتى، تتحرك من ستر الى ظهور ومن خدر الى الغدير، كما منحه ناقة يميل الى هواها من طرف مضاد مغرم من صنف البعير.
إن هذه الصورة التي هي من علاقة بوادينا في ذلك الزمان تنطلق من خلال الماضي الى الاحساس المعاصر حيث نرى وجه القديم في مرآة الحديث وندرك وجه الحديث في مرآة القديم .
إن الشاعر حين يقول قديما
وأحبها وتحبني
ويحب ناقتها بعيري
مؤكدا وجود علاقتين في الجوى والحب, علاقة الحب الإنساني ومعها وذاك هو الطريف الجديد علاقة الحب الحيواني يذكرنا ذلك بالكادر الفني البارع الذي صنعه مخرج هوليود في أفلام رعاة البقر والغرب الأمريكي, حيث تأتي البطلة من أقصى اليمين ممتطية صهوة جوادها والبطل من أقصى اليسار ليحتضن البطل فتاته في حب ويلتقي الجوادان الى أن يلتصق أنف هذا بذاك في علاقة حسية حميمة, وأظن أن هذه اللقطة حين شكلت على هذا النحو الطريف اعتبرت شيئا محسوبا لهذا المخرج السينمائي, واضافة من إضافاته فن أن هذه الإضافة لم تضف كثيرا الى ما شكله المنخل اليشكري من قديم الزمان .
النص كما أحسب رغم قدمه فيه هوى المعاصرة وروحها ولن أغالي أبدا إذا قلت وفي المعاصرة شيء من هوى الموروث .
التوازن بين عطاء اللغة وعطاء الصورة:
حققت لفة النص التوازن المطلوب بين مراد الشاعر ومفرداته فهي في النص متحركة سريعة قافزة متوترة تروح بين الاستقرار والتوفر، بين الاخبار والإفصاح,وإن بلغ الإفصاح فيها مدى كبيرا فحركة الموقع والنفس لهما أثر كبير في تحديد هذا المدى.
في هذه اللغة استطاع الشاعر أن يوظف النداء والاستفهام والأمر والنهي والنفي والإخبار أيضا، ففي تتبع لسياق النداء الذي تحقق مرتين متباعدتين في النص, وجدنا الشاعر في المرة الأولى مدعوا مطلوبا مصرحا باسمه حيث دعي بقوله "يا منخل" وقد تم ذلك وتحقق, لأن الطرف الآخر الأنثوي قد رضي به وأنس اليه بعد مدافعة وتمنع يبدو أنهما لم يأخذا وقتا طويلا. ووجدناه في المرة الثانية وهو يدعو فتاة بعينها لها سماتها وموقعها الخاص داعيا لا مدعوا طالبا لا مطلوبا، وقد وصلت دعوته الى حد الرجاء والاستصراخ والاستغاثة لمسمى محدد لا يهبط بطاقة الشاعر وقوته فالمدعوة "هند" ليست من سقط المتاع فهي المعروفة تاريخيا بأنها من طبقة ارستقراطية يعز على السياق العربي أن يجعلها طالبة, ومن ثم فمسعى الرجاء والتوسل من الشاعر في النداء الثاني يبرره وجودها الطبقي.
وفي تتبع لرصد حركة التركيب اللغوي التي تؤكد حركة الشاعر، وتوضح موقعه وموقع فتاة الخدر ووصمها بالخدر كما نحسب مبالغة في بيان حق الاستتار فالوصف بالمصور يحقق أقصى المبالغات . في تتبع لهذا نجد انسجام الواقع اللغوي واتساقه مع الموقف, فالشاعر وهو يصور لنا لقطة المدافعة وما تم من خلالها قائلا:
فدنت وقالت يا منخل ما بجسمك من حرور
ما شف جسمي غير حبك فاهدني عني وسيري
يبين لنا كيف تدنو الفتاة من خلال نداء فيه علو صوت نسبي، والنداء هنا تقريبي فيه علاقة الف بإلف فالمدعو حبيب قريب ملاصق, ومن ثم فهي من خلال الافصاح النسبي تطلب شيئا أكبر من مطلب النداء,فهي لا تريد إقبالا وإنما تريد بثا للحال الذي عرضته في شكل استفهام انخفض أداؤه لأن فيه شيئا من خصوص ؛ ففيه سر والسر غير مباح, ولذا فقد انتقل المنخل الى الحوار في هذه اللحظة غير فاصل تتابع التركيب بكلمة "قلت "كي تقابل في وجودها كلمة " قالت " حتى يظل الهمس والانخفاض فستمرين, ويظل التواصل قائما في لحظة التلاقي هذه مستخدما طريق النفي سبيلا لتأكيد تأثير حبها عليه قائلا: " ما شف جسمي غير حبك " . ويأتي الأمر وهو من لغة الافصاح وهو غير واقعي غير حقيقي في السياق ليعبر عن أن ما ناله من الفتاة فوق كل ما كان يتمناه,وأن الأمر لو زاد عن حده ما تمكن نفسا0ولا تصورا من تقبل ما هو أكثر، فاهدئي عني وسيري أمران يساويان في عمق النص وباطنه «يكفيني هذا القدر القليل والقليل منك كثير".
لغة النص تثبت موقع الطرفين طرف الشاعر الذي عبر عنه من خلال أفعال يملك حق الإرادة والتصوف فيها من مثل: لثمت,شربت, انتشيت, أقررت, دفعت, وطرف أخر أفعاله من باب المطاوعة وتلقي الأثر وتقبله غالبا وذلك واضح من خلال صيغ الاستفعال والتفاعل والافتعال وذلك كالأفعال: استلأموا, تلببوا، تناوحت تدافعت, تنفست .. فمن مضمون الأفعال المستخدمة في النص نرى الشاعر الباديء بالفعل المرتكب له والأطراف الأخرى دورها المتلقى والمطاوع والمتقبل لأثر هذه الأفعال . وفي محاولة رصد المكون الإيقاعي الذي يتحرك من خلاله لحن النص ووزنه نجد الشاعر استخدم لمحاورته إيقاعا مجزوءا من بحر «الكامل" الذي وحدته اللحنية "متفاعلن " يمتاز بقصر البيت وفي قصر البيت وجزئه إسراع بالجملة يوافق الإسراع في حركة الشاعر الفارس والاسراع في دفع فتاة الخدر والتقاط القبلة, وفي الجن ء ظاهرة تكثر تسمى التدوير حيث يلتصق الشطر الأول بالثاني فكأن البيت كتلة نطقية واحدة, وهذا يؤكد حق الإسراع أيضا حيث لم يترك للقطع والوقف على الشطر الأول من سبيل حتى يكتمل حوار الصورة, وقد تأكدت نهاية الإيقاع بدنة زائدة على تفعيلة متفاعلن جعلت البيت مرفلا يرفل في نغمه ولحنه كما يرفل جمال الفتاة في الدمقس وفي الحرير، هذه الزيادة مقدارها اللحني مقدار دنة في السلم الموسيقي، لأن " تن " تساوي في ذاتها دو، ري,مي، فا… والدنة هذه إضافة الى كونها لحنا منتشرا تؤكد الصخب الموجود في المدافعة والتقبيل وشدة الحركة . وقد انتقت القافية واختارت رويا مطلقا هو حرف الراء التكراري الموصول بياء مد والمسبوق أيضا بمد بادلت فيه الواو موقع اليا، أحيانا حيث جاءت الكلمات: تحوري, الذكور، حرور, زور متآلفة مع مواقع الياء في بقية كلمات القافية .
هذا الروي الذي اعتمد على صوت الراء الصوت التكراري شممنا من خلال تكراره تكرار انهمار المطرواستمرار خرير الغدير.
لعبة فنية ثرية, أوقل عبثية شاعر وحياة تآزرت فيها دلالات اللغة والصورة والصوت والإيقاع لتفصح عن شعر مرئي لا مكتوب, لعبة فنية أنتجت عملا ناهضا قديما حديثا للشاعر الجاهلي المنخل اليشكري.
أحمد كشك (استاذ اللغة العربية بجامعة السلطان قابوس)