حاوره: عبدالرحيم العلام
كاتب وباحث مغربي
يعرف الأديب والمفكر المغربي الدكتور حسن أوريد، في المشهد الثقافي المغربي بخاصة والعربي بعامة، بحضوره الأدبي والفكري الوازن، وبتأثيره اللافت في الحركتين الأدبية والفكرية، عبر ما يعرف به، أيضا، من غزارة في الإنتاج الأدبي، الشعري والروائي والسيري والقصصي، فضلا عما يشهد له به من آراء جريئة، وكتابات مؤثرة، في مواضيع عديدة ومختلفة وذات راهنية، سواء في مؤلفاته العديدة، أو في مقالاته المنشورة في منابر ومجلات محكمة، محلية وعربية وأجنبية، باللغتين العربية والفرنسية، مع أن الدكتور حسن أوريد يتقن، كذلك، اللغة الإنجليزية، وله منها ترجمات إلى العربية، من قبيل ترجمته لكتاب “الفكر السياسي في إيران” من الإنجليزية، كما في محاضراته داخل الجامعة وخارجها، ومشاركاته في الملتقيات والندوات، هنا وهناك.
والدكتور حسن أوريد، فضلا عن ذلك، هو أستاذ جامعي لمادتي التاريخ المعاصر والعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط، ومنها نال شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية، في موضوع “الخطاب الاحتجاجي للحركات الإسلامية والأمازيغية في المغرب”، عدا رئاسته للمركز الذي أسسه باسم “مركز طارق بن زياد للدراسات والأبحاث” بالرباط، إلى جانب توليه مهمة “مستشار علمي بمجلة “زمان” المغربية المتخصصة في التاريخ، وبها ينشر مقالاته المتخصصة باللغتين العربية والفرنسية.
تقلد حسن أوريد، في فترات سابقة، بعض المهام الرسمية، سواء باعتباره قد عين كأول “ناطق رسمي للقصر الملكي”، ثم “واليا (محافظا) على ولاية جهة مكناس تافيلالت”، فـ”مؤرخا للمملكة”… وهو اليوم متفرغ للتدريس والكتابة والترجمة، ما مكنه من ترسيخ حضوره، في المشهدين الأدبي والفكري، في أشكاله وتلويناته وتوجهاته المختلفة، ومن توسيع انفتاحه على ثقافات ومرجعيات أخرى، تعكسها أعماله الإبداعية والفكرية، وحواراته ولقاءاته الصحفية العديدة، وهو ما جعل تجربته، الأدبية والفكرية، محط ترحيب واحتفاء بها، من قبل الباحثين والقنوات التلفزيونية العربية والأجنبية، والمنابر والمواقع الإخبارية والثقافية، مغربا ومشرقا.
لقد تمكن الأستاذ أوريد، خلال فترة قصيرة نسبيا، من تشييد تراكم أدبي وفكري مهم، قلما تمكن غيره من إدراكه خلال مدة أطول؛ تراكم ما فتئ يحظى باهتمام متزايد وبمتابعات نقدية وإعلامية موازية، الأمر الذي تعكسه مجموعة من نصوصه الأدبية، وكتبه الفكرية، المنشورة داخل المغرب وخارجه، عرف بعضها طريقه نحو الترجمة، بما حققته إبداعاته من تلقيات مختلفة، وهي تتوزع بين كتابة الشعر والرواية والقصة والسيرة، وإن بدا أن كتابة الرواية قد تملكته أكثر من غيرها من الأجناس الأدبية الأخرى.
هذا، إلى جانب دراساته وأبحاثه الفكرية، التي تستمد أهميتها وقيمتها، من جدتها ورصانتها ومن مرجعياتها العربية والغربية المختلفة، وكذا من طبيعة ما تصوغه من أسئلة، ذاتية وموضوعية، وذات راهنية، في ارتباطها بقضايا بلده ومحيطه العربي والإسلامي والدولي، وتلك انشغالات تبرز الدكتور حسن أوريد باحثا منفتحا، وقارئا كبيرا مطلعا وملما بما يجود به المشهد الفكري العربي والعالمي، من كتابات ونظريات ومشاريع معرفية وحوارات ومناقشات وسجالات فكرية، وهو ما يجعل منه، اليوم، أديبا متمكنا ومفكرا تنويريا، منخرطا في صلب الحركية والدينامية الأدبية والفكرية الجديدة، كما تتبلور لدى كبار الأدباء والمفكرين والمنظرين والباحثين في العالم.
في هذا الحوار يقرّبنا الدكتور حسن أوريد من بعض اهتماماته الأدبية، وخصوصا علاقته المتنامية مع الرواية، التي يبدو أنها قد استهوته، بما يستوحيه فيها من موضوعات، وما يجربه من أشكال، وما يصوغه من أسئلة، أكثر من غيرها من الأجناس الأدبية التي يواصل أوريد الإبداع والعطاء فيها. كذلك يقربنا هذا الحوار من قلق مفكرنا حسن أوريد الفكري والثقافي، في دراساته النقدية لبعض الأفكار الغربية، الاقتصادية والسياسية والدينية، في انشغاله المتجدد بقضايا عديدة ومختلفة، لا يتوانى الأستاذ أوريد في مطارحتها وإبداء مواقفه النقدية إزاءها، بحس نقدي حصيف وبكل جرأة ودراية، وبدون تعصب أو شوفينية، من قبيل: إشكاليات الإصلاح والنخب واللغة الأمازيغية والشعبوية والإسلام السياسي والعولمة والحداثة والهوية، وغيرها كثير، وذلك في وقت يُشهد فيه للفكر وللمفكر العربيين بتواريهما وتراجعهما وتلاشيهما، وهو ما يجعل اليوم الدكتور أوريد من بين المفكرين المساهمين بقوة في إيجاد مداخل ومسالك للإجابة عن مجموع تلك القضايا وغيرها، بما يخلق للقارئ والمهتم عموما فضاءات موازية للتفكير والبحث والسؤال.
* ما فتئ إنتاجكم الروائي والفكري يتنامى بسرعة قياسية، وهو ما تعكسه إصداراتكم المنشورة هنا وهناك، في هذا المجال وغيره، قياسا إلى كتاب ومفكرين آخرين، لم يتمكنوا خلال مدة زمنية طويلة من تحقيق ما أنجزتموه أنتم، في فترة زمنية قصيرة نسبيا، من تراكم في الإنتاج، يبقى نوعيا في المجالين المذكورين، فما سر هذا الإقبال اللافت لديكم على الكتابة والإنتاج ومراكمة الإصدارات والمقالات والمحاضرات واللقاءات والحوارات الصحفية، ما ساهم في تحقيقكم لانتشار واسع في الوسط الأدبي والفكري العربي، فهل يعود الأمر إلى رغبة ملحة لديكم في استدراك ما انفلت من زمن، أم أن تفاقم أسئلة الراهن أمامكم، حتمت عليكم النهوض بمجاراتها ورصدها وتحليلها ونقدها عبر القيام بدور ما تجاهها؟
– لا أدري إن كنت غزير الإنتاج، والمؤكد أني مواظب على الإصدار، وقد يكون ما أصدرته يعود لسنين خلت ولم يسبق أن نُشر. أسعى أن أنشر عملا فكريا، يعقبه عمل إبداعي. أشتغل حول قضايا فكرية، بحكم كوني أستاذا للعلوم السياسية. عمليا لا يمكن أن يختمر بحث قبل سنتين. أختار موضوعا في الماستر، في إطار حلقات الدرس المعروفة بـ seminar وتكون السنة الأولى مناسبة للقراءة حول الموضوع، والمناقشة مع الطلبة، وهي حلقة مهمة، من خلال أسئلة الطلبة وتعليقاتهم وملاحظاتهم، مما يشحذ همتي، والسنة الثانية تكون مناسبة للتعمق في الموضوع، مما يجعل عملية التحرير هيّنة فيما بعد.. ما بث في الأذهان أني غزير الإنتاج هو نشري لأعمال كانت في الرف، واطراد الطارف والتالد.. القول بغزارة الإنتاج، قد يعني السطحية والضحالة، فيما توحي به بعض التعليقات. ليس لي ما أرُدّ على ذلك. القارئ هو الحَكم. لكن الثابت هو أني أتعامل مع الكتابة بجدية. لا يمكن أن أكون أستاذا للعلوم السياسية من دون أن أسعى لفهم قضايا سياسية كبرى، من خلال التتبع والقراءة والنقاش. وميزة الكتابة أنها تسعف في الفهم. لا نبقى في دائرة الأحكام الجزافية أو المعرفة الضبابية….. هناك هاجس آخر يستحثني، هو الشعور بالمسؤولية بالكتابة باللغة العربية عن قضايا ترتبط بالعلوم السياسية.. لا أظن أني سآتي بجديد إن كتبت بالفرنسية، رغم أني أدرّس بها. أحتاج إلى اللغة العربية لمن أريد الحديث إليهم، واللغة العربية تحتاجني لنقل معارف جديدة في أسلوب يحمل نسغ اللغة العربية وعبقريتها.
* عطفا على سؤالي السابق، تعرفون اليوم في الوسط الأدبي العربي، بكونكم شاعرا وقاصا وروائيا وكاتب سيرة، لكن يبدو من خلال ما راكمتموه من نصوص أدبية إلى حد الآن، أن الرواية أصبحت تحظى لديكم بأهمية خاصة، مقارنة بالشعر والقصة. فما سر اهتمامكم المهيمن بالرواية. فهل للأمر علاقة ما بموضة العصر وبزمن الرواية الذي يعيشه عالم اليوم، أم أن للموضوع علاقة بأمور أخرى موازية، تتعلق، مثلا، بما قد تتيحه الرواية لكاتبها من إمكانات للتعبير عن العصر وعن قضاياه المتسارعة والتي ما فتئت تزداد تعقيدا وتشابكا؟
– أعتبر علاقتي بالعلوم السياسية، أو إن شئت القضايا الفكرية، علاقة شرعية، أو علاقة الزوج بالزوجة، تقوم على واجبات، وعلاقة بائنة، أما الكتابة الإبداعية فهي شبيهة بالعلاقة مع عشيقة، إن صح أن أستعير تشبيها كما هذا. العلاقة مع الزوجة ومع العشيقة تختلف. العلاقة الأولى موضع واجب، والثانية تدلل. ويظل مجال الرواية هو المجال الذي أخون فيه العلاقة الشرعية التي تربطني بالعلوم السياسية. تجرأت على الشعر، ولكن الشعر مركبه صعب، ولا يقبل العلاقات الجانبية… ينبغي أن يخلص له الإنسان، ولا أدري حقا هل يمكن المزاوجة ما بين النظرة الفكرية، التي تقوم على البحث المضني، والمسافة الزمنية والتحليل، مع الدفق الشعري الذي يقوم على الحدس والإشراق. المفكر يشتغل كسماء ممطرة، والشاعر، كالعاصفة، لا يدري أنّى تنفجر تنتقل من الصحو إلى التلبد فجاءة. يمكن أن نستعير من تجربة الشعر طرق الكتابة والتعبير. التعبير الشاعري أنفذ إلى الأذهان، وكبار المفكرين كتبوا بنفَس شعري.
كتاباتي الفكرية تحمل شيئا من الأدب، من حيث التعبير والأسلوب. لا أريد أن أرهق القارئ. وأستدرجه بل أستغويه من خلال اللغة… وتحمل كتاباتي الإبداعية شيئا من القضايا الفكرية. في عملي الأخير “الموتشو”، عرضت لقضايا فكرية دقيقة، واستدرجت القارئ في لوحات من صور للمجتمع، حتى الجوانب المعتمة، وفي أساليب تعبيرية متباينة حتى الفجة منه… ولكن مدار الرواية فكري بالأساس.
* يلاحظ في مجموعة من رواياتكم، كما في بعض كتبكم الفكرية، حضور لافت للتاريخ والذاكرة، في تنوع تجلياتهما وأسئلتهما وطرائق استحضارهما وتوظيفهما. فما سر هذا الاهتمام لديكم في رواياتكم المتناسلة (الموريسكي- سيرة حمار- زينة الدنيا- ربيع قرطبة، وغيرها) بتوظيف التاريخ المغربي/ الأمازيغي والأندلسي والعربي الإسلامي عموما. فهل توظيف التاريخ في رواياتكم، في أحداثه وشخصياته، هو فقط تعلة تخييلية وجمالية للتصالح مع الحضارة الإسلامية في الأندلس، ومن ثم التعريف بجوانب من تاريخ بلاد الأندلس، وبقضية الموريسكيين، والاغتراب، والاضطهاد باسم الدين، وأيضا لإبراز عمق التعايش والتسامح الديني والحضاري وحوار الأديان في الأندلس، وأساسا لمساءلة قضايا راهننا التي تؤرقك في أسئلتها الوجودية، في محاولة لفهمها، بما يشهده هذا الراهن اليوم من أشكال الصراع والدسائس والوشايات والتطاحن والاستبداد؟
– أتيت إلى التاريخ عن طريق الصدفة.. شغلت منصب مؤرخ للمملكة، لفترة وجيزة، وأنكببت خلالها على قراءة كتب تاريخ المغرب والأندلس، ووقفت على معادن ثمينة مطمورة، وارتأيت أن أحوِّلها، كما تُحوَّل المعادن. عرضها كمادة خام، لن يزيد الجمهور إلا نفورا منها. من يقوَ على قراءة كتاب ناصر الدين عن القوم الكافرين لأفوقاي، آخر من كتب باللغة العربية من الموريسكيين، سوى المختصين؟ نقلت بوح أفوقاي في شكل روائي، “الموريسكي” بالفرنسية أولا، ثم تُرجم إلى العربية. لاقى إقبالا منقطع النظير. وأصبح مصطلح موريسكي ذائعا ومأساة المسلمين الذين طردوا على كل لسان. منذ ذلك الحين استهوتني الكتابة التاريخية.
وقفت على كبوة الربيع العربي، فكتبت “سيرة حمار” مستوحيا سابقة أفولاي صاحب “الحمار الذهبي”. تعرّض البطل لمسخ، لأنه أراد أن ينفصل عن الواقع. كان يريد أن يصبح طائرا، ولكنه أخطأ مقياس المحلول فتحول إلى حمار. أضحى في منزلة بين المنزلتين، ما بين حمار، لأن له شكل حمار، ولا يستطيع النطق، ويخشى أن ينهق، وما بين إنسان، لأنه يفكر، ويدرك. هذا التضارب الذي تتيحه المقارنة هو ما هيأه لأن يدرك أشياء كان يستشعرها دون أن يحيط بها. المسخ هنا يحيل إلى ظاهرة عامة. إلى ظاهرة يواكبها العجز. لأشخاص يدركون، ويفقهون، ولكن تعطلت لديهم لغة الكلام، أو ينظر إليهم بازدراء.
ذيّلت بـ”ربيع قرطبة”، وكتبته رأسا بالعربية، عن توزع الحاكم ما بين ما تمليه طبيعته الإنسانية، وما تفرضه مسؤوليته السياسية. حرّضني نجاحه أن أشفع بتتمة في رواية “زينة الدنيا”.
لا أكتب تاريخا حين أكتب رواية تاريخية. لا أريد من المؤرخ أن يعتمدني مرجعا. لا أتحايل على الأحداث الكبرى، ولكني أتحايل فيما يخص الشخوص. هاجسي في الرواية التاريخية هو قضايا الحاضر.
خشيت أن يُلصق بي وسم كاتب الرواية التاريخية، فلم أنشر بعد “زينة الدنيا” عملا تاريخيا، رغم أنه كان لي عمل تاريخي جاهز. فضّلت أن أنشر رواية عن الواقع المعيش هي “الموتشو” عن صحافي كان شاهدا على تحولات جذرية في المنطقة العربية منذ الربيع العربي، إلى سنة 2019.
* من بين مواضيع عديدة، استأثرت بلاد الأندلس باهتمام بالغ في تجربتكم الروائية، وعلى مستوى مجموعة من النصوص التي تناولتم فيها الأندلس من زوايا مختلفة، ليس كفضاء روائي وجغرافيا وتاريخ، بل أساسا كـ”فكرة”، كما دأبتم على التعبير عن ذلك في حواراتكم وتدخلاتكم. فما المقصود عندكم بالكتابة عن الأندلس كفكرة؟ علما بأن رواياتكم الأندلسية، تبقى، في جوهرها، كما أشرتم، نصوصا عن الأندلس، كحضارة وأدب وفن، وأيضا كقضايا إنسانية كونية، وكقيم مثلى تنتصر للتعايش والتسامح والعقل بدرجة أولى، فضلا عما تكشف عنه رواياتكم من أشكال التطاحن والصراع والاستبداد…
– اكتشفت الأندلس كما يحدث لزائر أن يكتشف شيئا ثمينا أو موضعا متميزا، قبيل المغادرة والحسرة من فوات شيء ثمين تجعله يضاعف الجهد لاغتنام ما اكتشفه. الأندلس لم تكن تعني لدي شيئا. كانت تُذكّرني بموسيقى تذاع في الراديو بعد أخبار الواحدة، كنا نجدها نحن أبناء الجنوب مملة، وكان يقال لنا إنها تذاع في تلك الساعة لأنها تعين على القيلولة. الأندلس تذكرني بأساتذة كان يستهويهم غنج بعض شعرائها ومجون بعضهم. الأندلس كما كنت أراها هي المعتمد بن عباد الذي تحالف مع الأعداء، وكنت لذلك أُكبِرُ صورة يوسف بن تاشفين المتقشف، الذي خشي على دينه لما رأى من بذخ المعتمد بن عباد، فأخرج جرابه ونال من خبز الشعير…
وحدث أن زرت قصر الحمراء في 1997 وزُلزل كياني الفكري. لم يكن العمران البهيج إلا صورة لتصور للإنسان، وتعبيرا عن معارف…. التقيت بعدها بأشخاص استثنائيين، منهم مارية مينولكا، صاحبة كتاب زينة الدنيا The Ornement of the World، (ترجمته دار توبقال بالمغرب بعنوان الأندلس العربية) وآخرين أعانوني على استكناه سر الأندلس.
سنشين إلى الأندلس إن بقينا فقط في الحنين، وفيما انتهى إلينا من الكتابات بالعربية. الأندلس فكرة.. تزاوج الأندلس ما بين العقل والروح. بين الجمال والفعالية. لا تُطلّق الحياة. تعشق الحياة. في طوق حمامها، وفي توابع ابن شهيد وزوابعه. في موشحاتها، في الفلامنكو التي هي بالأساس أنطونيو مانويل موسيقى صوفية إسلامية.
يحز في نفسي مثلا ألا يلقى ابن حزم الاهتمام الذي يلقاه ابن ميمون لدى الغربيين… مع أن دوح العقلانية الذي تفرع عنه ابن نغريلة، وابن باجة وابن رشد وابن ميمون هو ابن حزم.
وأظن أن من مسؤوليتنا كمغاربة أن نرعى هذا التراث، من جهة، ونحمل مشعل الفكرة، مع كل من تستهويه الأندلس الفكرة. الأندلس الفكرة يمكن أن توجد في أي زمان وفي أي مكان.
* تعددت موضوعات رواياتكم، منذ أول رواية صدرت لكم، بعنوان “الحديث والشجن”، في كونها تؤرخ لفترة سقوط جدار برلين، في تسعينيات القرن الماضي، إلى أحدث رواية صدرت لكم بعنوان “الموتشو”، في كونها تقدم “نظرة فاحصة لأوضاع العالم العربي، ولا سيما القضية المحورية، وهي النزاع الفلسطيني الإسرائيلي”، بحيث تعددت موضوعات رواياتك وتنوعت. ومن بين ما يميز هذه التجربة السردية في امتدادها التخييلي والواقعي والدلالي، كونها لا تنسلخ، في جوهرها، عن الجانب الواقعي الذاتي، فجاءت محكيات مجموعة من رواياتك معجونة بجوانب من تجربتكم الذاتية، إلى درجة اعترفتم فيها، على غرار فلوبير، بأن روايتكم (“سيرة حمار” هي أنا، تحمل أفكاري ورؤاي”). فهل اللجوء إلى تضمين عناصر سيرذاتية في أعمالكم الروائية، كما هو الشأن في معظم الأعمال الروائية العالمية، هي فقط تعلة للشهادة، من الداخل، على مراحل ولحظات وتحولات عشتموها وكنتم شاهدا على تبلورها وتفسخها، وأيضا لإرسال رسائل ضمنية أو مباشرة؟
– حينما صدر أول عمل روائي لي “الحديث والشجن” سنة 1999 اعتبره كثير من النقاد والقراء أنه سيرة ذاتية، والحال أن البطل يموت في الرواية، وما أزال حيا أرزق. لم أكتب سيرتي الذاتية بعد، ولكني أستوحي كتاباتي من تجربتي الشخصية. وما الضير في ذلك في نهاية المطاف؟ وهو ما دفع البعض إلى القول بأن فلانًا لا يكتب الرواية، وأضافوا أنه يُصفّي حساباته من خلال أعماله الروائية. قد تكون رواية “الحديث والشجن” سيرة ذاتية ذهنية. ومن المؤكد أن هناك جزءا مني في ربيع قرطبة. فأنا أشبه باشكوال أو هو يشبهني، بل استوحيت شخصيته من تجربتي الشخصية لأنني من اختلقه. لا أنكر ذلك. وقد يكون زيري شبيها لي، أو أكون شبيها لزيري في “زينة الدنيا”.
أقرب الأعمال إلى حياتي هو “رحلة من الجنوب”، وهو أول ما كتبت، منذ 1986، ولم أنشره إلا مؤخرا قبل شهور. الكاتب مولع في بداية مشواره أن يكتب عن حياته، لينتقل بعدها من الخاص إلى العام، وينتهي بأن يكتب سيرته الذاتية. لا عيب أن يمتح المرء من حياته، ويستوحي تجربته، ولكن شريطة أن يُحدّث عن العام. عن الظواهر لا الأحداث. أن ينطلق من الذات ليبقى في الذات غير مجدي. أن ينطلق من الذات ليعبر عن المشترك، أظن أن تلك غاية الأدب، أو على الأصح الرواية.
رواية “الحديث والشجن” تصور حياة تيه جيل آمن بالقومية العربية والاشتراكية، وانهار حلمه بعد سقوط حائط برلين. غار البطل في مغامرات نسوية وفي الشراب، لأن لم يعد له قضية، ولو هو بدأ يغازل خطاب الهوية، ولكنه دون أن ينغمر فيه. لم يعد له مكان في عالم جديد، ولذلك قتلته.
رواية “الموريسكي” تحمل جزءا من صدام الحضارات، القضية الكبرى بعد 11 سبتمبر. “سيرة حمار”، أتت بعد انتكاسة الربيع العربي. “الموتشو” تَعرض للعلاقة الملتبسة مع الآخر، وهو هنا إسرائيل. تصبح موضوعا. وككل موضوع يحملنا العمل في مدى عريض ما بين الأبيض والأسود. الشخصية البطل ليس في دائرة الأبيض والأسود، ويذهب إلى ما بعد الظاهر.
أعمالي الأدبية تحمل قضايا فكرية. وقد يكون ذلك عيبها.
* تفاعلتم، على الأقل في كتابين إبداعيين لكم، مع المكون الحيواني تحديدا، كما في رواية “سيرة حمار”، في تفاعلكم مع كتاب مؤسس، هو “الحمار الذهبي” لأبوليوس، وفي رواية “الأجمة”، عبر تفاعلكم مع كتاب آخر مؤسس، هو “كليلة ودمنة” لابن المقفع. وهو تفاعل قائم لدى المبدعين غربا وشرقا، كما هو الحال عند كافكا وجورج أورويل ودانيال مانيكس وتوفيق الحكيم ونبيل سليمان ومحمد الهرادي وأمين الريحاني، وغيرهم…
فمما لا شك فيه أن اللجوء إلى المكون الحيواني في الأعمال الأدبية، يمنح الكاتب حرية أكبر للتعبير والترميز وإنتاج الدلالات وتوليد المعاني، وأيضا للاختفاء خلف صوت الحيوانات لتمرير الرسائل والآراء والأفكار. فما سر هذه الاستعانة إبداعيا بالمكون الحيواني في كتاباتكم، علما أنكم تملكون قدرة هائلة على ترويض اللغة، وجعلها أداة فعالة للتعبير والجهر بالقول بكل ما يستلزم الأمر من رمزية؟
– أول عمل كتبته على لسان الحيوان، هو “الأجمة”، على شاكلة “كليلة ودمنة”، وأظن موضوعيا أن عملي ذاك لم يكن موفقا. لم تنبع الفكرة من ذاتي، ولكني كنت أنسج على منوال. كنت مقلدا. العمل الثاني هو “سيرة حمار”، وهي فكرة اختمرت في ذهني لأكثر من عشرين سنة، ولم تستغرق عملية التحرير إلا ثمانية أيام، وها هنا كنت أقتدي بسابقة أفولاي. فرق بين التقليد والاقتداء. الاقتداء تمثل لا يلغي ذاتك. التقليد فناء في أصل. وبغض النظر عن الشكل، فالموضوع في “سيرة حمار” مرتبط بقضايا آنية، لأشياء عركتها. “الأجمة” لم تتجاوز الطبعة الأولى. “سيرة حمار” تجاوزت ست طبعات، وترجمت للفرنسية والإسبانية، وهناك طلب لكي تترجم إلى الإيطالية والإنجليزية.
اللجوء للحديث على لسان الحيوانات وُجد في ثقافات عدة، إما للتستر، أو للباروديا… والمهم ليس الشكل، ولكن الموضوع، أيْ إن التعبير على لسان الحيوانات لا بد أن يحمل قضية. ينبغي الذهاب أبعد من الإمتاع، إلى الإفادة.
* لنعرج على الجانب الفكري والنقدي في تجربتكم الثقافية والفكرية، والذي يحظى باهتمام خاص من قبلكم، فبتعدد كتبكم في هذا الباب تتعدد موضوعاتها، والتي تناولتم فيها عديدا من القضايا الراهنة، التي تشغل بالكم وتفكيركم، فتباينت موضوعاتها بين: “الخطاب الاحتجاجي” و”الإسلام السياسي” و”العلمانية” و”الحداثة” و”العولمة” و”الثورة الثقافية في المغرب” و”الشعبوية” و”الهجرة” و”الهوية”، أو “الشخصية” كما تفضلون تسميتها، و”أفول الغرب”، وغيرها من الموضوعات التي تناولتموها بالتحليل والنقد والتفكيك.
من بين تلك الموضوعات التي استأثرت باهتمامكم واهتمام الحقل الفكري العربي والعالمي، موضوع “الغرب”، الذي أفردتم له كتابا مهما ومضيئا، اختار له ناشره عنوان “أفول الغرب” في طبعته العربية، وقمتم فيه بإعادة قراءة نقدية مغايرة وجريئة لواقع الأزمة والانتكاسات التي يعيشها الغرب، إثر سلسلة من مظاهر الأفول التي عرفها.
فما هي الخلفيات المتحكمة في اختياركم لموضوعات أبحاثكم الفكرية، هل للأمر علاقة ما بتتبع ما يعيشه واقعنا العربي من أزمات، هي انعكاس لأزمة الغرب نفسه، أمام تقاعس النخب عندنا وعجزها عن المجابهة، نظرا لكونها ظلت مرتبطة بالغرب، على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية…؟
– لم يكن مُقدرا أن أتوجه للكتابة، ولقضايا الفكر. كان هاجسي هو أن أتقدم في مسالك وزارة الخارجية. لكن عثرة في هذا المسار، من خلال تخرصات وأحكام مسبقة أجهزت على مساري المهني، صرفتني إلى القراءة والكتابة.
في غمرة ما يسمى بالفرنسية عبور الصحراء، اشتغلت على رسالة دكتوراه الدولة عن الخطاب الاحتجاجي في المغرب منطلقا من سابقة الجزائر، وقد وقفت على الخطاب الإسلامي والخطاب الأمازيغي بها. كان السؤال المضمر هو هل يكون حاضر الجزائر مستقبل المغرب؟ وانتهيت بعد أربع سنوات من العمل المضني أنْ لا، رغم تماثل الثقافة. هناك عنصر اختلاف، وهو العنصر التاريخي والسياسي. عضو في اللجنة قال لي أثناء المناقشة، إن العمل كان ينبغي أن يبدأ من حيث انتهيت من أن مستقبل المغرب لن يكون حاضر الجزائر ولا ماضي لبنان، وكنت أحيل إلى ما عرفه هذان البلدان من تمزق. لم أجرؤ أن أرد أني أنتهي إلى ما انتهيت إليه إلا بعد دراسة مضنية لخطابات الحركة الإسلامية، والحركة الأمازيغية، فضلا عن خطابات القوميين والفرانكوفونيين.
بعدها توقفت عن الكتابة، منذ أن توليت مهمة الناطق باسم القصر الملكي، إلى آخر منصب شغلته وهو مؤرخ المملكة. أو على الأصح توقفت عن النشر. كنت أكتب خلسة، وكان مما كتبته في هذه الفترة ثلاثة أعمال أثارت سجالا بالمغرب “مرآة الغرب المنكسرة”، والذي تطور فيما بعد ليصبح “أفول الغرب”، و”رواء مكة”، و”الموريسكي”. لم أنشر “رواء مكة” إلا بعد زهاء سبع سنوات من كتابته.
عموما أنطلق من قضايا حارقة، وأسعى أن أفهمها، من خلال المعرفة أولا، والتحليل ثانيا. تلزم مسافة زمنية وأدوات تحليلية. الحركة الإسلامية وتطورها، الراديكالية الإسلامية، أزمة الغرب، خارطة العالم، الشعبوية…كلها قضايا استأثرت باهتمامي، لأنها جزء من القضايا الكبرى. ولا ينبغي من موقعي أن أبقى في الظاهر.
* في ارتباط بالشأن الثقافي المغربي، أصدرتم كتاب “من أجل ثورة ثقافية في المغرب”، اعتبرتموه بمثابة أرضية للنقاش، ومساهمة منكم في التفكير حول قضية جوهرية في مجتمعاتنا العربية ككل، هي قضية نظام التربية والتعليم، وذلك بدعوتكم إلى جعله نظاما مدنيا يسعى إلى النظر نحو المستقبل، عبر تجاوز المحلي إلى معانقة الكوني، والقطع مع شكل الإصلاحات المرحلية المستنسخة، وهو ما يستوجب، في نظركم، ثورة ثقافية لبناء مجتمع الغد.
فهل يمكن أن نقر بأن عدم نجاعة واقع التربية والتعليم في عالمنا العربي، هو أحد أسباب تخلفنا، وأن تطور مجتمعاتنا وتحديثها، لن يتم دون اللجوء إلى ترسيخ قيم الحرية والاستقلالية والانفتاح. وهل يمكن اليوم أن نتحدث عن بصيص أمل لانبعاث سياسات حكومية للنهوض بمنظومة التربية والتعليم، ولبلوغ الإصلاح المرتجى في هذا المجال في عالمنا العربي، ومن ثم نهوض مجتمعاتنا العربية من غفوتها؟
– السؤال عن الثورة الثقافية، مما اشتغلت عليه فيما يخص المغرب، كان نابعا من حراك “الربيع العربي”. لم يكن يكفي أن تتحرك الشعوب، كان لها أن تكون مهيأة لبناء جديد. هدم القديم بلا بديل جاهز يبقي الشخص في العراء… وأداة بناء الجديد هو رؤية جديدة للعالم، كما يسميها الألمان. ورافعته طموح جماعي. لم آت بجديد في حقيقة الأمر. أمم عدة في منعرجات من تاريخها أدركت أنه لا بد من تصور جديد، ألمانيا بعد هزيمتها من قِبل نابليون، وصرخة الفيلسوف الألماني أو البروسي على الأصح، فيخته: خسرنا كل شيء، ولم يبق لنا إلا التربية… فرنسا حين انهزمت أمام بروسيا، وأرست نموذج المدرسة الجديدة مع الجمهورية الثالثة. كل من اهتموا بالشأن العام، أولوا أهمية كبرى للتربية، منذ أفلاطون، وكاوندورسيه وروسو.
ولا يمكن أن نكون استثناء. تُخلط الثورة الثقافية عندنا بالإصلاح التعليمي، وقضايا جزئية، من دون تصور للعالم ولا طموح جماعي. لا بد أن نطرح السؤال، أي وجهة نريد. يقول طه حسين في كتاب “مستقبل الثقافة في مصر”: من عرف الغاية عرف الوسيلة. لست متأكدا من ذلك. حتى الوسيلة ليست جاهزة. ولا بد أن نفكر فيها انطلاقا من واقعنا، ليس من خلال استنساخ تقنيات غريبة عن واقعنا.
بعض الرؤى التي عبّرت عنها في “من أجل ثورة ثقافية في المغرب” أصبحت متجاوزة. ولذلك أحجمت أن أعيد طبعه. هناك قضايا مشتركة في البلاد العربية، وعوض أن تتشتت جهودنا ينبغي أن نستمع لبعضنا البعض، ونفيد من بعضنا البعض. كنت اقترحت على مركز أبحاث أن نرسي فريقا يشتغل على الإصلاح التربوي في العالم العربي. رحب المركز بادئ الأمر، ولأسباب أجهلها، تخلى عن الفكرة.
في صورة مجازية، أثناء لقاء لي مع جمهرة من المربين بالمغرب قلت إن ما وقع في الربيع العربي، هو توقف سيارة بسبب عجلة متآكلة. أزاح الركاب العجلة المتآكلة، ولكنهم تبينوا أن ليس لهم عجلة استبدال. حمْلُ شعارات الحرية والعدالة والكرامة، لها ما يبررها، ولكن ينبغي وضع الجسور لبلوغها، وإلا ستتوقف السيارة. ولذلك يحن البعض لسيارة بعجلة متآكلة، تتحرك ببطء، ولكنها تتحرك، على سيارة متوقفة. الوقوف كان ضروريا، ولكن يتوجب وجود عجلة استبدال، وسبيلها ثورة ثقافية.
* سؤال أخير أثارني، يتعلق بهذه العلاقة المطبوعة “بالمصادفة” بين بعض أعمالكم وشريحة معينة من القراء. فمباشرة بعد صدور سيرتكم الروائية “رواء مكة”، كان لتلك الخرجة الإعلامية للمفكر الإسلامي المغربي المقرئ أبو زيد الإدريسي، في برنامج رمضاني، حول سيرتكم، أثرها الكبير في الإقبال الجماهيري على الكتاب، وفي خلق جدل حوله والتعريف به.
كما أنه بعد صدور كتابكم الفكري “أفول الغرب”، حصل أن ساهم في “الترويج” له شيخ الأزهر أحمد الطيب، من خلال صورة له وبجانبه الكتاب المذكور، خلال عودته بالطائرة من رحلة علاجية في أوربا، وهما معا (أي الداعية المغربي وشيخ الأزهر) ساهما في لفت الانتباه للكتابين معا، عدا ما أثاره “تدخلهما” من جدل واسع في الأوساط الثقافية والإعلامية العربية.
فكيف تفاعلتم مع حضور كل من المقرئ أبو زيد وشيخ الأزهر كقارئين، في تقاطعهما معا على مستوى المرجعية الدينية، وبم تفسرون هذا الالتقاء بين شخصيتين إسلاميتين حول كتابين للكاتب نفسه، وهو ما ساهم في تحقيق جانب من الدعاية للكتابين، وإن كانت مستحبة بمثل ما ساهم في التعريف بهما وانتشارهما في أوساط القراء في العالم العربي.
– لن أعيد ما تردد بشأن رحلتي “رواء مكة” وما رافق العمل من صخب. كتبت “رواء مكة”، من أجلي أولا كعملية بوح، وبرّا بوالديَّ ثانيا، وقد بلغا من العمر عِتيا، وثالثا، إن أتيح للعمل أن يخرج، أن أبِين عن التحول الذي وقع لشخص مهووس بالغرب، مُعرض عن الشرق، إلى شخص له نظرة ناقدة للغرب، وغير متجنية على الشرق. تبينت أن البيت الذي كنت أسكنه لم يكن ملكا لي، وأني مجرد مستأجر، ولصاحب البيت أن يتصرف في البيت كما يشاء، بل أن يدخل عنوة، ويجري التغييرات التي يريد من دون أن يأخذ برأيي. بيت الغرب لم يكن بيتي، ويحسن أن يكون لي بيت. وألفيت بيتا هو لي، واسع الأكناف، ولكنه مهمل وعلي أن أرممه.
أسهمت الخرجة الإعلامية للسيد المقرئ أبو زيد في التعريف بالكتاب. أشكر له دوما حسن ظنه، ولكني ليس كما رُوِّج، إعلان توبة لشخص ضال. أنا خارج هذه المرجعيات والمصطلحات.
كتاب “أفول الغرب”، أثار ضجة كذلك، لأن فضيلة شيخ الأزهر كان يقرأه بعد رحلة استشفائية من ألمانيا. حُمّل الحدث ما لا يحتمل. أن يقرأ شخص كتابا ليس معناه أنه يتماهى مع كاتبه، ولا مع مضمون الكتاب فبالأحرى عنوانه. وقفت على أن من يدّعون بالتنوير هم أبعد عن روح التنوير، وأن المؤسسات العتيقة، من الأزهر، والزيتونة، والقرويين، والنجف، تحمل جزءا من عبقريتنا، وينبغي أن ننصت لرجالاتها، لأنهم أبدوا الاهتمام بما نكتبه نحن ممن ليسوا من مرجعياتهم.
في لحظات تاريخية معينة، لا ينبغي أن تتفرق بيننا السبل. اليقظة كما نادى بذلك إبراهيم اليازجي، ينبغي أن تكون جماعية، والحال أن ما سمي بيقظة وهبّة، وانتفاضة، وحراك، كانت حروبا أهلية فكرية لا تنقطع. وهذا من أسباب الفتور العام كما يقول الكواكبي في أم القرى. “رواء مكة”، هي صرخة للخروج من الفتور العام، من خلال بوح الفتى العائد أو الضال، إن شئت.