المكان: قرية في جبال اليمن.
الزمن: أوقات متباعدة في القرن العشرين.
في وسط المسرح سرير نوم مطروح بالعرض، مصنوع من الخشب والحبال، عليه فراش إسفنجي خفيف ومُغطى بملاءة حمراء مزينة بالزهور.
الخلفية ستارة بيضاء تعكس جبالاً عالية خضراء، تفرّخ في سفوحها بيوت قروية متناثرة، وتعلو الجبال سماء زرقاء مُطرزة بسحب بيض. على جانبي الستارة مدخل أيمن ومدخل أيسر. يبدأ العرض بعزف على المزمار للحن من التراث اليمني، يترافق مع ثغاء قطيع من الأغنام وصياح الديكة.
تدخل حورية مرتدية ملابس طفلة عمرها عشر سنوات: فستان قصير يصل إلى الركبتين، تحته سروال طويل هيلاهوب وتربط شعرها في ضفيرتين، يداها خاليتان من الخواتم والأساور. تروي حكايتها وهي ترقص مع دميتها.
حورية: اسمي حورية، ولدتُ في قرية جبلية مُعلقة بين السماء والأرض وكأنها عش للنسور. نشأت في أسرة محافظة، وتعلمتُ القراءة والكتابة، وحفظت أجزاءً من القرآن الكريم. طفولتي هي أسعد فترة في حياتي، كنت أخرج إلى شوارع القرية وألعبُ مع أقراني إلى مغيب الشمس. لم أكن أشبع أبداً من اللعب، وكنت دائماً أتزعم عصابة من الأولاد والبنات لمهاجمة أطفال الحارة لأخرى وسلبهم ألعابهم هاها..
(تخرج من تحت السرير دراجة، تمتطيها وتجري بها حول السرير وهي ترن الجرس. أصوات صخب أطفال يلعبون. حين تتوقف أصوات الأطفال عن التدفق، تتوقف هي الأخرى وتنزل عن الدراجة، وتعيدها إلى مكانها تحت السرير. تحمل دميتها وتعاود الرقص معها)..
تقول أمي إنني عندما بدأت أتعلم الكلام كنت أترك فراشي وألتصق بظهر والدي، أشم رائحته وأنام! كان والدي رجلاً مربوع القامة مفتول العضلات، له رائحة عذبة تشبه رائحة الخبز الطازج، سببها أنه كان يُقطع الصخور من الجبل ويحملها إلى باحة دارنا، ثم يُكسّرها بمعوله ويصنعُ منها مطاحن حجرية..
(يصمتُ صوت المزمار، الإضاءة تخفتُ تدريجياً، حورية تتوقف عن الرقص مع دميتها، ملامحها تتحول فجأة إلى الحزن وتتندى عيناها بالدموع)..
وفي يوم من الأيام لم يستيقظ والدي من نومه. لقد مات (تحضن دميتها وتبكي. صوت نواح نساء. يحل الظلام. تخرج حورية. في الخلفية يظهر قفص بداخله دمية. نسمع صوت حورية تتكلم من وراء الكواليس).
صوت حورية: وأتى شاب من قريتنا وخطبي، كان عمري آنذاك خمسة عشر عاماً،وكان مُصلح يكبرني بعام واحد. وسيم، لا يعرف القراءة والكتابة، ولكن عمي أعجب به لأنه كان يُجيد الرماية بالبندقية. وهكذا بعد أشهر قليلة من وفاة والدي تم عقد قرآني على مُصلح.
( تدخل حورية وهي ترتدي ثوب زفاف أبيض ووجهها مغطى بالطرحة البيضاء. تخطو ببطء وكأنها تزف محفوفة بالمدعوين. نسمع أغنية زفة يمنية ترافقها الزغاريد. دائرة ضوء تلاحقها، في بنصرها خاتم ذهبي وعلى صدرها قلادة ذهبية).
حورية: وبعد زفافي إلى منزل زوجي، واجهت أقبح موقف في حياتي ( تظهر في الخلفية سمكة على مجلي. نسمع لغط جماعة من الناس) أغلق عليّ بين أربعة جدران، وخلف الباب وقف رجال قبيلتنا وبأياديهم البنادق منتظرين خروج زوجي بالخرقة البيضاء ملطخة بالدم ليطلقوا الرصاص في الجو إعلاناً لعذريتي (ينتابها الذعر وتتراجع إلى الزاوية) اقترب مني مُصلح وهو يرتعش من القلق والتوتر، وفي عينيه تصميم على إثبات رجولته بأي شكل من الأشكال. شعرتُ بخوف شديد منه، وانكمشتُ في زاوية الغرفة مرعوبة، وأنا أرتجف من رأسي إلى أصابع قدمي..
( تتجه إلى السرير وتتمدد عليه)
أمسكني من معصمي وجرجرني إلى السرير وراح يُعريني..
(تصرخ مذعورة، وتحاول بيديها إبعاد رجل وهمي يُحاول اعتلاءها، تقاومه، تتلقى منه ضربات موجعة وصفعات تدير خديها ذات اليمين وذات الشمال، الرجل الوهمي يُثبّت يديها على السرير. ظلام . تظهر في الخلفية سكين صدئة تفتح بطن السمكة وأحدهم يُنظف جوفها مُخرجاً أمعاءها بسبابته، يُنظف ببطء، فينساب الدم من جوف السمكة)
أرجوك ابتعد عني.. أتوسل إليك اتركني، دعني، لا لا، كفى، كفى..
( في الخلفية نرى الذي يُمسك بالسمكة يُدخل خرقة بيضاء في جوفها ويُخرجها ملوثة بالدم. يفرد الخرقة المبقعة بالدم فتملأ مساحة الخلفية كلها. صوت طلقات بنادق. دائرة ضوء تتركز على حورية التي ترقد في وضع جنيني وقد سال الكحل على وجنتيها)
تركني ذلك الوحش البشري حطاماً. هل تعرفون ماذا فعل؟ لقد خرج إلى الرجال الواقفين خلف الباب وأراهم دم بكارتي. كنت أبكي وأتمزق ألماً وحسرة، وهم يحتفلون بإطلاق الرصاص. جرحي ينزف ودموعي تنهمر وهم يتبادلون التهاني!
يُهنئون زوجي ويُقبلون وجنتيه وكأنه مناضل وطني! ثم ذهب هذا الفحل المزيف ليُكمل سهرته مع أصدقائه، مُتباهياً أمامهم بأنه حطم الرقم القياسي، أقل من نصف ساعة ليأخذ عذريتي. صار في أنظار رجال قريتنا بطلاً.
(تنهض وتتحرك جيئة وذهاباً أمام السرير. تظهر في الخلفية سيارة بيجو عتيقة مُحملة بالركاب والحقائب) هذا الزوج الذي لم يمكث معي سوى ثلاثين دقيقة، رحل في صباح اليوم التالي باحثاً عن عمل في مدينة عدن.
وغاب. غاب. غاب ثلاثين عاماً..
( تبهت صورة سيارة البيجو في الخلفية بالتدريج حتى يحل محلها بياض يجهر البصر) ثلث قرن مرّ عليّ وأنا أرتدي هذا الثوب الأبيض كل ليلة سراً في غرفتي مترقبة عودة عريسي..
(تظهر في الخلفية دمية تحترق. حورية تخرج من تحت السرير مقشة وتكنس الأرض)..
ثلاثون عاماً مرت وأنا أبخر البيت وأكنسه وأنظفه متوقعة عودته في أية لحظة. ثلاثون عاماً مرت وأنا أعتني بملابسه وفراشه وأحذيته وأنفض الغبار عنها وأغسلها وأعيد غسلها مئات المرات، لكي يجدها نظيفة عند عودته إلى البيت. مرت ثلاثون عاماً وأنا أنظر من الشباك إلى طريق القرية أملاً في أن أراه قادماً من غربته. لو سألتموني أين قضيت عمري؟ لقلت لكم إنني بددت عمري وزهرة شبابي عند الشباك، أترقب وأنتظر. نعم مرت ثلاثون عاماً وأنا واقفة خلف الشباك أنتظر وأتحسر على نفسي. آه ما أمرّ الانتظار. مرارته استقرت في أحشائي إلى الأبد. ثلاثون عاماً وأنا زوجة بالاسم، زوجة مع وقف التنفيذ، زوجة لم تعرف لذة الحياة الزوجية مطلقاً. ثلاثون عاماً مرت وأنا مخلصة لزوجي، ولم أسمح لأي رجل أن يلمسني، لم يدنس شرفي أحد، رغم جوع الغريزة الذي في أحشائي، صبرت ولم أرم بنفسي في أحضان الرجال.
(تظهر في الخلفية حلقة من الأطفال يلعبون ويضحكون، ضحكاتهم ترن في أرجاء المسرح)..
كان قلبي يذوب كمداً عندما أرى الأطفال وأنا محرومة من الذرية. وكيف سأنجب وزوجي بيني وبينه آلاف الكيلومترات؟! كانت عاطفة الأمومة التي في داخلي تخنقني وتعذبني، وتكاد تدفع بي إلى الانتحار. وبسبب حرماني من الإنجاب صرت أكره الأطفال. أتضايق عندما أراهم أو أسمع ضحكاتهم، وصار العيد أسوأ أيام السنة بالنسبة لي، أثقلها على روحي، لأن البيت يمتلئ بالأطفال وصراخهم ولعبهم. هل تعرفون في أي شيء أفكر؟ أفكر في طردهم من البيت، ولكنني لا أجرؤ خوفاً من غضب عمي وعمتي، لذلك
أنزوي في غرفتي وأغلق بابها على نفسي، لكي لا أرى وجوه الأطفال. لقد امتلأ قلبي بمشاعر سوداء رغم إرادتي..
(نرى في الخلفية شاباً وشابة يرتديان ملابس ريفية، ينظران لبعضهما بعشق، وأصابعهما تتلامس برقة)
أصبحت عندما أرى شابين مُتحابين أفقد صوابي، يُجن جنوني، أتحول إلى امرأة حقودة حسودة، ترغب في أن تحرق هذين العاشقين بالنار!..
(في الخلفية نرى زهرتين حمراوين وسط النيران)
أعترف بأن هذه الأحاسيس الشريرة تمرُ في خاطري، وتجول في صدري، ولكنني لا أقدم على فعل شيء من ذلك،
والعاقبة أنني أمرض، وأستلقي على الفراش محمومة، وتعاف نفسي الطعام، بل وأحياناً أصاب بالخرس، فأعجز عن الكلام، وتستمر هذه الحالة الفظيعة أياماً وأسابيع..
(تتمدد على السرير، تظهر في الخلفية زوبعة غبار) وأنا في
إحدى نوبات المرض هذه، وصل زوجي مُصلح، طرق الباب طرقاً متوالياً، وهبّت أسرته كلها للسلام عليه، وأما أنا فلم أتمكن من الوقوف على قدمي من شدة الحمى، نزلت دموعي من الفرح، ونسيت في لحظة أحزان ثلاثين عاماً من الانتظار. كنت كسجينة يائسة طال عليها الأمد، فأبلغوها أخيراً بنبأ الإفراج عنها..
(في الخلفية نرى كأساً زجاجية تصدعت بسبب تمدد الثلج بداخلها)
حين دخل مُصلح إلى غرفتنا، كنت أنا قد فتحتُ ذراعيّ لاحتضانه، ولكنه لم يفعل، اكتفى بمدّ يده، وصافحني مصافحة باردة، وكأنه يخشى أن أنقل إليه مرضي.
وضع على طرف فراشي هدايا رخيصة، وهو يبتسم لي ابتسامة باهتة. كان ينظر إليّ وكأنني حيوان أجرب مسكين. قال لي في حضور أبيه وأمه وأقربائه إنني لم أعد جميلة، وأن شعري قد غزاه الشيب، وأن وجهي قد احتلته التجاعيد، وأنني أبدو ذاوية مُصفرّة كقشرة موز..
(نرى في الخلفية قشرة موز مرمية على التراب، وقد فقدت نضارتها وصارت يابسة مسودة)
كان يُكلم والديه عني ويُقلب شفتيه باستمرار، وكأنه يلومهما أن الدابة التي تركها أمانة عندهما قد هرمت، ولم يُحسنا التخلص منها! كان يتفرج عليّ من أبعد زاوية في الغرفة متجنباً لمسي واستنشاق أنفاسي، وأما يده التي صافحني بها فقد تخشبت، ولم يعد يُحركها أو يُقربها من وجهه، ففهمت على الفور أنه يتمنى لو يُتاح له الذهاب إلى الحمام ليغسل يده..
(نرى في الخلفية ثمرة باباي متعفنة)
هكذا رآني، امرأة عجوز مريضة، ذبُلت محاسنها، وولت أيامها. وأما هو فقد بدا في عيني رجلاً مكتمل الرجولة، قوياً كالثور، وجهه أحمر من وفرة الدم في عروقه، وأما وسامته فقد تضاعفت، واكتست بشرته مسحة من طراوة المدينة وكأنها مدهونة بالسمن. رأيت في عينيه بريق السعادة، وفي خديه وميض شهواني يعبق في الجو، فأدركتُ بفؤاد الأنثى أن زوجي لم يكن مخلصاً لي، وأنه عرف من النساء أشكالاً وألواناً، وأنه قد اغترف من اللذات والمسرات ما شاء له دون وازع من ضمير. إن هالة السرور التي تشع منه لتدركها كل عين..
( نرى في الخلفية بالتتابع: شارع المعلا بعدن. سفينة ترفع العلم البريطاني. صور من مدن ساحلية في القارات الخمس. صور فتيات جميلات شقراوات وسمراوات وآسيويات. موسيقى مرحة)
لقد عاد غنياً موفور الصحة، مهيباً، آمراً، مُتحكماً، تنحني الرؤوس في حضرته. صار سيداً قوي الشخصية مُطاعاً، واثقاً من نفسه، خبر الحياة وعرف دروبها. عاش في عدن خمس سنوات، ثم سافر مع الأسطول الملكي البريطاني وجال العالم كله، واشتغل وقاداً في البحر، وتاجر شنطة في الموانئ. ذاق كل أصناف الطعام المعروفة في الأرض، ونام مع نساء من كل جنس ولون، ومتع عينيه برؤية مئات المدن، واستمع إلى الأغاني والموسيقى، ورقص وسهر حتى الفجر ..
(الخلفية تبهت حتى تصير بيضاء، تتوقف الموسيقى)
لقد ظل طوال الليل يحكي عن مغامراته مُتفاخراً مُتباهياً، وأنا أفكر في نفسي أنني قد دفعت ثمن مغامراته ثلاثين عاماً من حياتي مسجونة في دار أهله. عندما حان وقت النوم، رفض اقتراح أمه بالنوم في غرفتنا، ورقد في الديوان. عندما قال « لا» للنوم معي، شعرت وكأن خنجراً قد اخترق صدري. فهمت أنه يزدريني، يعافني، يشمئز من جسدي. لم أنم في تلك الليلة، لقد ظللت أبكي بحرقة، وكانت فكرة الانتحار تدق في رأسي كالمطرقة..
(نرى في الخلفية حبلاً في آخره أنشوطة)
ومرت الأيام ولم يقربني مُصلح، هذا الزوج الذي انتظرته ثلاثين عاماً بإخلاص وتفان ٍ ولم أكشف سره لأحد. لم أخبر أي إنسان بأنه في الليلة الوحيدة التي قضاها معي لم يكن رجلاً. أنه عجز عن الدخول فاستخدم إصبعه!
( نرى في الخلفية مجلى السمك وقطرات دم تسيل من حافته على الأرض)
ثم سمعت الجيران يتهامسون أنه ينوي الزواج من بنت صغيرة عمرها أربعة عشر عاماً اختارتها له أمه..
( نرى في الخلفية يد تمسك بسمكة في الهواء وتفتح خياشيمها لتتأكد من طزاجتها، ثم تلقيها على المجلى)
وقع الخبر عليّ كماء بارد في عز الشتاء، تمايلتُ من الصدمة، وهرب الدم من عروقي، واسودّت الدنيا في وجهي. شعرت وكأن قلبي في قبضة جزار لا يرحم يعصره بين أصابعه ويجره لانتزاعه من مكانه..
(نرى في الخلفية صورة ضبابية تتضح شيئاً فشيئاً عن صورة مسخ مُفزع)
فكي الأسفل أصبح يرتعش لا إرادياً، وفمي بات يلتوي إلى الجهة اليمنى. كانت أعصابي تؤلمني بشدة، وانتابتني هلوسات رهيبة، ورحت أكلم الشيطان وأراه مُتجسداً أمامي. قال لي ( تقلد صوتاً غليظ النبرة): «حورية خذي الفأس واقتلي زوجك».
(تميل رأسها للأسفل وكأن صوته آتٍ من أعماق الأرض، تهرول إلى السرير وتخرج من تحت الفراش فأساً)
نعم لقد قررت أن أقتل زوجي وأمزق وجهه الجميل بهذا الفأس، سأقطعه إلى أشلاء متناهية الصغر، ثم سأرمي لحمه للكلاب
(ضوء أحمر يتحرك على الخشبة، حورية تلاحقه وتوجه له ضربات بالفأس وهي تصرخ)
خذ يا مُصلح، خذ يا خائن، خذ يا أنذل الرجال، خذ..
(تمثل أن هناك من يسحبها إلى الخلف وينتزع منها الفأس، يسقط الفأس على الأرض)..
عندما سمعوا صرخاتي الوحشية هبّوا إلى غرفتي وأمسكوني، وانتزعوا الفأس مني، ثم مددوني على فراشي، وقيدوني بالحبال، وتهامسوا بأنني قد فقدت عقلي (إظلام تام. تخرج حورية. في الخلفية نرى غيوماً سوداء ومطراً غزيراً. تتكلم حورية من وراء الكواليس).
صوت حورية: عادوا لنومهم الهنيء وتركوني أهذي. وفي الساعة الثانية بعد منتصف الليل فككت الحبال بأسناني وخرجت من غرفتي. بحثتُ عن الفأس حتى عثرت عليه (تلتقط الفأس من الأرض) وصعدت إلى غرفة مُصلح. فتحت الباب دون صوت، ووقفت فوق رأسه. ولكن فؤادي لم يطاوعني أن أهوي بالفأس على عنقه. وانتبه مُصلح من نومه ورآني.
( تدخل حورية ودائرة ضوء تلاحقها. نراها ترتدي زياً رجالياً: قميص كاكي ومئزر، حزام في وسطه جنبية، وعلى وجهها قناع رجل عريض الشاربين، وعلى كتفها بندقية. تتقمص شخصية مُصلح ومشيته الرجولية وتتكلم بصوت غليظ النبرة).
حورية: أنا مُصلح. أكبر غلطة ارتكبتها في حياتي أنني تزوجت من حورية. كل الكلام الذي قالته عني حورية كذب في كذب. إنها تعاني من حالة نفسية.
اسألوا أي شخص في قريتنا، وسيقول لكم إنها مُعقدة، مجنونة، تقوم بتصرفات غريبة، وتتهم الأبرياء بأشياء لم تحدث. في ذلك الزمان البعيد
كانت تقاليدنا في القرية تفرض على الشاب أن يتزوج في سن مبكرة، ثم بعد ذلك يرحل طلباً للرزق. رتب الكبار أمر زواجي، ولم تكن لي آنذاك خبرة بالحياة. حينها كنت مراهقاً ساذجاً، عمري لم يتجاوز السادسة عشرة، ولا أعرف ما معنى الزواج. أقمنا حفل العرس بحسب الأصول، ولم نشعرها أبداً بأنها يتيمة، وقبل أن أدخل إلى مخدع الزوجية زودتني أمي بمنديل أبيض فيه بقع حمراء صغيرة مأخوذة من قنينة مطهر الجروح، وهمست في أذني بأن أخذه احتياطاً. وكما توقعت أمي لم أفلح. ولم أكن أنا السبب بل هي. تقرّبتُ منها وحاولت معها، ولكنها تصرفت بغباء وهربت مني واختبأت تحت السرير، حاولت سحبها ولكنها كانت تفر من جهة لأخرى. رجوتها أن تخرج ولا تفضحني بين الناس، توسلت إليها، ولكن كل جهودي معها ذهبت هباءً.
في نهاية الأمر اضطررتُ للخروج ومواجهة أهالي قريتنا والقرى المجاورة المتجمعين عند باب دارنا، ورفعت المنديل الذي دسته أمي في جيبي خفية عالياً لتراه أعين الجميع، فعلت ذلك وأنا أتصبب عرقاً ووجهي شاحب من الحرج، وقلبي يخفق هلعاً من أن تنكشف الحيلة. ولكن الله ستر، لأنني ما إن لوحت بالمنديل في الهواء حتى انطلق الرصاص من عشرات البنادق، واختلط الناس وراحوا يرقصون ويرددون الأهازيج، وانتهت الليلة على خير..
(في الخلفية تظهر مدرجات زراعية قاحلة)
وبقيت عندها شهراً كجاري العادة في بلادنا. لقد كذبتْ عندما قالت إنني سافرتُ إلى عدن بعد ليلة العرس مباشرة. هذا غير ممكن، يعد عيباً كبيراً. لأن عاداتنا وتقاليدنا تقول أن الرجل الذي يترك عروسه قبل انقضاء الشهر هو ناقص الرجولة وفحولته ليست كاملة. ومن جهة أخرى إذا أطال الرجل مكوثه بجوار عروسه أكثر من الشهر، فإن الناس سيعيبون عليه ميله للاسترخاء والركون إلى البطالة والدعة. ماذا فعلتُ مع حورية خلال تلك الفترة التي يسمونها شهر العسل؟
لا شيء. لم أتمكن أبداً من النوم معها. ظللتُ عشرة أيام أطاردها، وهي تختبئ مني تحت الأسرة أو تغلق على نفسها في المخزن وتنام لوحدها. عندما تمكنت أخيراً من محاصرتها في غرفة النوم، فوجئتُ بعجزي عن القيام بواجبي الزوجي. حدث هذا بسبب توتري الشديد، والضغط النفسي الهائل الذي تراكم عليّ خلال الأيام السابقة. استسلمتُ لفشلي وارتديت ملابسي. فقالت حورية كلمة حزت في نفسي، وجعلتني أزهد تماماً في معاشرتها، قالت (تتكلم حورية بصوتها العادي): « لو جئنا بأي واحد غيرك لكنا قد انتهينا من هذا الأمر». لم أكرر المحاولة معها مرة أخرى أبداً. كلماتها القاسية قضت على ما تبقى من رجولتي الجريحة. كنت أعدُّ الأيام وأتمنى أن تمر بسرعة. لا أنكر، لقد فكرت في الانتحار. طيلة ذلك الشهر التعيس كنت أتذبذب بين رمي نفسي من شاهق إلى هاوية سحيقة، وبين الضغط على زناد بندقيتي لأفجر دماغي.
أنقذتُ نفسي من الانتحار بالصلاة. فجأة صرت أصلي الصلوات الخمس في مسجد قريتنا. فعادت السكينة إلى روحي المعذبة وهدأت. عندما انقضى شهر العسل الذي كان طعمه في حلقي أمرّ من الحنظل، حزمت القليل من ملابسي في صرة وغادرت إلى عدن. اخترت السكن في حي»كريتر» ووجدت عملاً في معمل صغير للحلوى. بقيت في هذا العمل خمس سنوات، وكنت أرسل إلى عائلتي في القرية مبلغاً من المال كل بضعة أشهر. خلال تلك السنوات الخمس لم أشعر بالشوق إطلاقاً إلى زوجتي حورية. كنت تقريباً أكرهها. لم أرغب في تطليقها، فكرت بأن أشد عقوبة لها هي بقاؤها هكذا زوجة مهجورة تبني العناكب بيوتها على سرير نومها..
(في الخلفية نرى بيتاً للعنكبوت) ثم أعلنت البحرية الملكية البريطانية عن حاجتها إلى يد عاملة، فتقدمت إليهم وتم قبولي.
اشتغلت في البداية وقاداً ثم عملت خبازاً، وفي المناسبات كنت أصنع الحلوى والكيك..
(نرى في الخلفية باذنجانة مطروحة على طاولة) ثم انضم إلى طاقم السفينة عامل يمني جديد اسمه «محمد الكيني» مُولَّد، أبوه يمني وأمه كينية.
سعيت للتعرف عليه، وأخذت منه معلومات لا تقدر بثمن ستجعلني أقرر تغيير مسار حياتي..
(في الخلفية نرى صورة لغابات استوائية كثيفة) عندما رست سفينتنا في ميناء ممباسا الكيني كدت أطير من الفرح، وقررت المضي قدماً في خطتي. قدمت استقالتي من العمل في الأسطول الملكي البريطاني، وذهبت بصحبة رفيقي محمد الكيني إلى أراضي القبيلة الكينية التي تنتمي إليها أمه. وما إن وصلنا إلى حدود الغابة التي تقطنها القبيلة حتى قمنا بخلع ملابسنا العصرية، واستبدلناها برقعة جلد صغيرة تلف حول الخصر. ثم دخلنا الغابة. وبعد أن مشينا ساعة أو أكثر، توقف رفيقي وراح يصرخ: «آهاااااه» عدة مرات، وطلب مني أن أصرخ مثله ففعلت. ثم جاءنا نفس النداء من إحدى الجهات، فتبعنا النداء إلى أن وصلنا إلى مساكن القبيلة.
بعد ترحيب قصير، دار بي على الأكواخ وهو يتكلم معهم بلغتهم حتى وصلنا إلى كوخ فيه بنت زنجية آية في الجمال والرشاقة، حيتني ثم تمددت على الأرض. وبسرعة تفاهمنا على الزواج. طلبت مني المهر المتعارف عليه في قبيلتهم فوافقت دون تردد، طلبت مني أن أخلع خمسة من أسناني وأقدمها مهراً لها! وقتها كان عمري خمسة وعشرون عاماً، تزوجتها وانتهت منذ ليلتي الأولى معها كل متاعبي في الحياة. لأن العادات والتقاليد في تلك القبيلة الكينية تقضي بأن على الزوجة أن تزرع وتحصد وتقوم بكافة شؤون البيت، وما على الزوج سوى أن يلعب السيجة ويدخن، أي أنه طوال الوقت لا يعمل شيئاً. لقد عشت عيشة الملوك مدة عشرين عاماً. لا أنكر لقد تمتعت بحياة طيبة. وفي الشهر الماضي توفيت زوجتي الكينية، ولم يعد أحد يعولني. كان بإمكاني الزواج من أية فتاة من فتيات القبيلة، ولكنني وجدت صعوبة في التخلي عن خمسة أسنان أخرى، فقررت العودة إلى بلادي. تزعم حورية أنني عدت غنياً.
كلامها تخمين خاطئ، واقع الحال أنني عدت فقيراً جداً. أنا لم أكن صاحب سوبرماركت في ديترويت بأمريكا، بل كنت أعيش على الكفاف في أدغال إفريقيا. الله حكم بيننا بالعدل. وهي نالت الحياة التي تستحقها. هي كذبت عليكم عندما قالت إنني أنوي الزواج من بنت عمرها خمسة عشر عاماً، لست مجنوناً لأتزوج من طفلة وأنا في عمري هذا، كما أنني لا أمتلك المال لأحظى بهذه الرفاهية. إنما تلوح أمامي فرصة، ففي قريتنا امرأة أرمل، عمرها فوق الثلاثين، تناسبني تماماً، وقد ورثت من زوجها المتوفى بيتاً متواضعاً وأراضي زراعية صغيرة وعدداً بسيطاً من الأبقار والماعز. حالياً يسعى الوسطاء بيني وبينها للتفاهم حول زواجنا. وعندما نتفق ونحدد موعد العرس، سأطلق زوجتي القديمة حورية وأرسلها إلى بيت أهلها.أموري تسير حتى الآن على ما يرام. لا ريب أنني محظوظ وسأحصل على زوجة جديدة. القدر في صفي لأنني إنسان طيب ولم أؤذ أحداً في حياتي.
(يجلس على السرير. إظلام تام. حورية التي تتقمص شخصية مُصلح تخرج. في الخلفية نرى برقاً ولمعاناً شديداً، ونسمع صوت دوي الرعد. ثم نرى في الخلفية صورة لحورية بالزي الرجالي متقمصة شخصية مُصلح وهي جالسة على السرير. ثم نسمع صوت حورية تتكلم من وراء الكواليس).
صوت حورية: قعد مُصلح في مواجهتي ولم ينطق بحرف واحد. ماذا أقول، ربما مرت ساعة أو أكثر ونحن نحدق في بعضنا بصمت، وكل واحد منا يسترجع ذكرياته الماضية. فجأة قال لي (نسمع صوت رياح قوية، حورية تتكلم بنبرة غليظة): « هيا يا حورية نخرج إلى الوادي لنتفرج على السيل».
(في الخلفية نرى على ضوء ليلي أزرق سيلاً جارفاً يتدفق في أحد الأودية، صوت هطول المطر يزداد عنفواناً، نسمع دوي السيل يخلع القلوب من شدته، تدخل حورية وهي ترتدي ثوب نوم خفيف، تهرول وتقف عند حافة السرير).
حورية: وقف واستل الفأس من يدي ورماه بعيداً (ترمي الفأس) سار وسرت خلفه.
ولأول مرة في حياتي أخرج من البيت حافية وبملابس غير محتشمة وشعري مكشوف. تبللنا ونحن في طريقنا إلى الوادي، ودخل الماء إلى عظامنا.
سمعت هدير السيل يصمُّ الآذان وكأنه وحش يفتك بكل ما يقف أمامه. وعند حافته وقفنا. الساقية الصغيرة تحولت إلى بحر متلاطم الأمواج، وصوت تكسر الأحجار أثار خوفاً شديداً في قلبي، فأخذت أرتعش، وأدركت بالغريزة أن ساعة موتي قد حانت..
(نسمع همهمة مرعبة، يتلوها صوت تقصف جذع شجرة) على الضفة الأخرى من الوادي رأيت وعلاً ينظر نحونا. لقد أتى ليكون شاهداً. ارتفع الماء مُزبداً إلى قدمي بسرعة، فشعرت بروحي تنقبض، وإذا بيد مُصلح تدفعني من الخلف وتقذف بي إلى الظلمة القاتلة..
(ضوء برق وصوت رعد، ريح تصفق بشدة وكأنها تعوي، غمغمة سيل عارم) فابتلعني السيل في غمضة عين، وجرفني التيار الجبار من الجبال العالية إلى البحر..
(تتقلب على الأرض، ثم تغيب الأصوات كلها، الخلفية تصير بيضاء، إضاءة دائرية تتركز على حورية، موسيقى عزف على قيثارة) في المحكمة السماوية صرخت بأنني مظلومة، وأن زوجي مُصلح قد ظلمني ظلماً لم
يسمع به أحد من قبل (تبكي) انتحبت وذرفت دموعاً كثيرة، مرغت وجهي في البلاط السماوي مقهورة وطالبت بالعدل..
(ضوء أبيض ساطع ينعكس من الخلفية، نسمع صوت ثلاث طرقات بالمطرقة، تعقبها موسيقى ذات لحن جليل، حورية تقف بشموخ وكبرياء، نرى في الخلفية على ضوء أحمر منحوتة صخرية، يبرز من نصفها الأعلى رأس رجل وكتفيه) أما زوجي مُصلح الظالم فلم يعد إلى البيت في تلك الليلة. لأن ديكاً أحمر خرج من الماء ونقره ثلاث نقرات، فتحول إلى صخرة، نصفه الأسفل حجر، ونصفه الأعلى رأس رجل. ويستطيع أي إنسان إذا زار قريتنا أن يشاهد بعينيه هذه الصخرة..
( تخرج من تحت السرير لباساً مزيناً بحراشيف فضية في أسفله ذيل سمكة مشقوق إلى نصفين، ترتديه فتبدو كحورية البحر. في الخلفية يظهر بحر أزرق هادئ، أضواء بيضاء ساطعة، موسيقى سعيدة) وأما أنا فقد تحقق حلمي..
(ترقص وكأنها سمكة تسبح وتلعب في أعماق المحيط) وتحولت إلى حورية بحر جميلة، نصفي الأعلى إنسان، ونصفي الأسفل سمكة، وصرت ألعب بين الشعاب المرجانية، وأمضي وقتي في صحبة لطيفة مع السلاحف والدلافين، وأقتات على الطحالب برفقة الأسماك الملونة التي تحبني من كل قلبها.
ستار