إبراهيم سعيد*
يبقى النص ويرحل كاتبه، هذا هو الرهان المبدئي، فالنص بعد رحيل الكاتب هو المرجع الوحيد، وفي النص ستنعكس كل أصداء الحياة التي عاشها الكاتب، بما في ذلك ما لم تقله الكلمات وما بقي بين السطور، زادًا زمنيًا للمستقبل، مثلما أشار الشاعر مبارك العامري إلى طريقة نمو غابة الذاكرة في قصيدته:
إخْفَاقاتُنا المُتواتِرَةُ
في هذا العَالَمِ ،
لا سيَّمَا في الحُبِّ ،
ليسَتْ خَسَائِرَ فادِحَةً
كما تَبْدو وهِيَ طَرِيَّةً
لكنَّها زادٌ وفيرٌ
لرحلةٍ قادمةٍ
شحُّ فيها الدروبُ
فنحتطبُ الذاكرة ..
في غابة الذاكرة تنمو الأشجار ليس من النجاحات وحدها بل حتى من الإخفاقات، وفي تلك الأشجار طاقة، نارٌ يمكن إشعالها، يومًا أو ليلةً ما في المستقبل، كهذا النهار، لكن في النص المكتوب فإنه، يا للعجب، يعطي الطاقة ولا يفقدها، نفس هذا النص الذي يمكن العودة إليه مرارًا وتكرارًا من الآن فصاعدًا، مرة لقراءة غابة الذاكرة، مرة لتذكر الخسائر والإخفاقات الطرية، ومرة للبحث عن زوادة الرحلات المستقبلية، حين تشح الدروب فتسعفنا الذاكرة بدرب جديد، وقد كان الشاعر غنيًّا بتلك الذكريات، وهو ما أسعفه حتى النهاية، بمفاجآت جديدة:
لَمْ أَكُنْ أُدْرِكُ البَتَّةَ ،
مِثْلَمَا لَمْ يُدْرِكْ سِوَاي ،
أَنَّ الكائِنَ حين يَخْتَزِلُ
في رحلةِ الطينِ المريرةِ
صُوَرَ الأحلامِ المطمورةِ
في بئرِ الذَات
يُمْسي أَكْثَرَ شَغَفَاً بالوَرْدَة ..
طمر الأحلام في طريق الحياة (رحلة الطين) يزيد الشغف بالوردة، هي التي على خفتها ورهافتها ولطفها تحمل عنا حمولة قوافل من الخيالات، تؤدي لنا أدوارًا من التمثيل، وهنا تقبل الوردة أن تمثل صورة الحلم المطمور، الحلم الذي لم يتحقق، وبقي هناك في بئر الذات، يجد نفسه ذات يوم في الوردة، يعيد بعث نفسه، في إطلالة خاطفة كإطلالة الوردة السريعة، ليوم واحد على نهار أرضي، كالذكرى، قبل أن تتناثر الوردة بددًا وتطفو على بئر الذات، حاملة لون الغروب الوردي الطافي في سماء اليوم الذي مر، وتستعيده الذات حتى في الريح الزمنية:
سأستل من مفرق الروح
شعرة الإرادة التي لا تلين
وأمضي كما نفس عميق
في أحشاء الزرقة
حتى لا يرى نشيجي أحد
طافيا على فم الريح ..
كان مبارك العامري بكل تأكيد في وجه معركة شرسة امتدت أكثر من عقد ونصف مع المرض، ولم تكن للشاعر من أسلحة فتاكة في تلك المعركة غير المشاعر، مثلما نرى الإرادة في هذا النص، الإرادة التي لا تلين، شعرة ضئيلة، هي ليست شعرة حقيقية ولكنها مكافئ للشعور، كما أنها نوع من التحضير السحري، بواسطة تلك الشعرة وذلك الشعور سيمضي المحارب كأنه نفس عميق في أحشاء الزرقة، والزرقة زرقتان زرقة البحر وزرقة السماء، ولتكن زرقة متحدة مكونة من السماء والبحر، سيعبرها المحارب حتى لا يرى أحد نشيجه الطافي في فم الريح، وفي فم الريح هنا لأن الإشارة تعبر عن أنين صوتي، أنين الألم، ذلك ما يحاول المحارب أن يخفيه، لكن إذا كان يحاول إخفاءه فلماذا يعلنه هنا؟ ببساطة لأن كل شاعر هو اثنان واقعي متماهٍ في واقعيته له بابٌ خفيّ يسمى الشعر، مثلما أنه في نفس الوقت شاعرٌ متماهٍ في شعريته حين يكتب، لكن حين لا يكتب يعود ذلك الإنسان العادي، كالآخرين، يتألم ويمرض ويغضب ويسأم ويخطئ ويصيب، وما يريد الشاعر في النص إخفاءه ليس عن الشاعر فيه، فعن الشاعر لا يمكن إخفاء شيء، لكنه يريد أن يخفيه عن كيانه الإنساني الذي يمثله، يحاول الشاعر أن يخفي نشيج الجسد الواقعي الذي يتألم، لأن النشيج في النهاية سينسب كذلك لكيان الشاعر، لكنه لا يخفي ذلك في نصه، لأن النص والقصيدة موضع الصدق مع النفس والآخر ولا محل فيه للمداورة والكذب، هكذا يفصح هنا ويخفي هناك، وما يفصح عنه هنا هو الباقي، لكنه يريد أن يخفف بقوته الشعرية السحرية من ألم الجسد، محاولة شعرية دون أدنى شك، مثلما باقي محاولات الشاعر كهذه الصورة:
شطرا غير بسير
من العمر
أفنيناه في غرس
بذرة المحبة
بأرض قاحلة
دون ندم ..
غير الشاعر يكون حريصًا على أن ينفق عمره في غرس ما سيجنيه من مصالح وفوائد شخصية، وأحيانًا نجد شعراء يسخّرون شعرهم معهم من أجل تحقيق تلك المصالح الشخصية، لكن هناك كما نعرف من الجمحيّ وابن المعتز طبقات شعرية، وهنا نحن أمام طبقة شعرية مختلفة يصعد إليها هذا الشاعر الذي يسجل في نصه هذا المحاولة الشعرية الجامحة في استزراع الأرض القاحلة ببذور المحبة، والإشارة إلى الندم ليست مجرد شطحة تعبيرية، أو محاولة قفلة لفظية للمقطع، بل هي إشارة موجعة إلى كمية السخرية والنقد التي كان على الشاعر مواجهتها، وإلى التشكيك الدائم في الجدوى، ما الجدوى في أن تزرع المحبة في أرض قاحلة؟ أمر غير منطقي، لا واقعي، لا معنى له، غير معنى شعري واحد، فما لا ينمو في الأرض القاحلة سينمو في أرض أخرى خصبة، هي قصد العمل الشعري كله، هي أرض القلوب.
العمل الشعري الأساس هو القصيدة، وهناك دائمًا قصيدة يتركها الشاعر بعد رحيله غير مكتوبة، وتلك القصيدة التي لم تكتب تستطيع كتابة نفسها بنفسها:
حين يرحلُ شَاعِرٌ
تستحيلُ قَصيدَتُهُ
التي لَمْ يَكْتُبْهَا بَعْدُ
إلى غيمةٍ ماطرةٍ
تَجوبُ الآفاقَ
باثَّةً روحَ الجمالِ
في ألأَرْجَاءِ
نَاثِرَةً بِذارَ الخصبِ
في رَحِمِ الكَوْن ..
هل تلك واقعة حقيقية أم مجرد شطحة شعرية؟ خيال شاعر مبالغ في عدم واقعيته، أم صورة حقيقية صادقة لما يحدث إثر رحيل الشاعر؟ لنساير النص ونكتشف، فإذا كان الحديث هنا عن قصيدة، وهذه القصيدة لم تكتب، فإن المراد هو الشعور، شعورٌ يتسبب فيه رحيل الشاعر، وذلك الشعور له صورة غيمة ماطرة، تجوب الآفاق، تستثير ذكرى الشاعر، تقود الآخرين إلى مراجعة قصائد الشاعر وإعادة بثها في الأرجاء، بتلك الطريقة تبذر الخصب في رحم الكون، كأن الشاعر يرهن حياته كلها من أجل تلك القصيدة التي لا يكتبها، قصيدة القصائد، وهي التي تكون وصية على إرثه الشعري، أنجبها من رحم قصائده، ليست مكتوبة لكنها محسوسة هنا، هي التي تدفع عربة هذه الكلمات التي أكتبها هنا، وهي كلمات ليست موجهة إلى الشاعر لأن الشاعر نفسه قد رحل، لكن إلى شيء هائل، يسميه مبارك العامري رحم الكون نشترك فيه جميعنا، ومن أجل ذلك الكون يهب الشاعر خلاصته، تلك القصيدة السحرية:
لأَنَّ الكَوْنَ وَطَنِي
أسيرُ هَائِمَاً
عَلى أرصفَةِ الخَيَالِ
لأَهِبَ الأَبَدِيَّة
خُلاصَةَ تَشرُّدي ..
كأن غاية نهر الشاعر أن يبلغ هذا المصب الفلكي، يأتي الشاعر ويعجن حياته عجنًا عجائبيًا، يعرف له وطنًا في الفضاء الذي بلا نهاية، يمد يده إلى طحين الواقع يعجنه بالمياه السماوية، ليقدم خبزة للأبدية، هل انتبهنا بما يكفي إلى هذا الرجل الذي كان بين ظهرانينا يعيش على هذا الحلم في إطعام الأبدية، ليلد تلك القصيدة التي لا تكتب، بعد أن زرع البذرة في الأرض، وعانق الوردة، حارب ضراوة الألم وابتكر طريقًا في غابة الذاكرة، ثم وضع وصية حبه في مندوس نزوانيّ ورحل:
أشْعُرُ أنَّ القِطَارَ السريعَ
شَارفَ على الوصولِ
إلى مَحَطَّتِهِ الأخيرةِ
وأنَّ رِحَلَةَ الآلامِ المريرَةِ
حَانَ لَهَا أنَ تَنْتَهـي
دونَ إخْلالٍ بِخَطِّ سَيْرِهَا المُتَعَرِّج ..
ومَا دَامَ الأمْرُ كَذَلِك
تَرَكْتُ وَرْداتي الأثيرات :
أُصُول كِتَابَاتٍ لَمْ تُنْشَر ،
شِعْرٌ وروايتان
ومقالاتٌ
ونُصوصٌ مَفْتوحَة ،
في بَطْنِ مَنْدوسٍ صَغيرٍ
مُطَعَّمٍ بأنْجُمٍ مُذهَّبَةٍ
اقْتَنَيْتُهُ مُنْذُ شَهْرِ مَضَى
مِنْ سُوقِ نَزْوَى ..