انعطف السائق بالحافلة.. فانسابت بمرونة شديدة، وهي تخترق شارع (14 رمضان) باتجاه الطريق السريع المؤدي الى الرمادي ومنها على الحدود.. مرت الحافلة بكافتيريات ومحال هذا الشارع كان أغلبها مقفلا، وتبدو من خلف قضبانه السوداء المتشابكة ملابس ولا دية ونسائية مستوردة واكسسوارات وأحذية رياضية بألوان زاهية وبراقة. ثمة محلات قليلة تمرق بين تلك البوتيكات تبيع المواد الغذائية أو بعض التجهيزات المنزلية وتلك كانت مفتوحة.. أما الرصيف المحاذي لتلك المحلات فكان يشغله باعة السجائر المحلية والأجنبية من الأطفال والرجال الذين كانوا يفترشون الأرض المتراجعة وهي تجري بهم، مع مرور الحافلة، إلى الوراء مانحة كل واحد منهم وقفته المستتبة تلك قبل أن تمضي، إلى الأمام لتسلم نفسها لقدم بائع آخر.
مات الحسين شابا وعطشان في كر بلاء فأصبحت البيوت تضع جوا لق الماء أمام أبوابها تروي بها عطش سابلة الصيف الجهنمي ثم رحل الشهداء شبابا بالآلاف، فأصبحت تتخلل الأزقة وقد توشحت بأشرطة سوداء كتبت عليها سورة الفاتحة تارة أو آية من سورة "آل عمران" تارة أخرى، وتحت كلمات الله أسماء تكتب وأخرى تمحى.. دائما أسماء ثلاثية ودائما تتكون وتذاع وتتلاشى.. مثل قطرات الماء الصغيرة التي تنضح من جدران تلك الجوالق، ثم تدب عليها رويدا رويدا حتى تسقط أو تتبخر.. واليوم يهج الناس من الجوع فتصبح الأرصفة ملضومة بجداريات صغيرة من عارضات السجائر يقف خلفها صبيان مشعثون واجمون كالتماثيل أو رجال انمحى من وجوههم أي تعبير واضح للأمل أو الدهشة أو الحماس وأصبحوا يقفون خلف علاماتهم الغارقة تلك مستسلمين لقدر غامض أو غريب رمى بهم الى تلك الأمكنة المبعثرة السماء جريان لم يعترضه شيء يوقفه إلا عندما ألقم السائق سجلته شريطا لفيروز فاستغرب "خالد" أن يكون للسائق مثل هذا المزاج في الموسيقى.. ثم أوقف السائق صوت فيروز فجأة وقال شيئا كان المفروض أن يقوله قبل بدء الرحلة:
– الطريق بين بغداد وعمان يستغرق ست عشرة ساعة الساعة الآن هي الحادية عشرة وسنصل عمان في الثالثة من صباح غد بإذن الله.. الحافلة مزودة بالحمام والماء البارد.. مع ذلك أرجو الاقتصاد في استمال الماء لأننا لن نتوقف الا بعد عشر ساعات في أطراف الرمادي.. رحلة سعيدة.
أغلب الركاب سمعوا تلك الملاحظة ولم يعلقوا عليها.. أما أولئك الذين كانوا يستعملون الطريق البري لأول مرة فأطلق بعضهم اشارات تعجب، وصأصأ البعض الآخر متذمرا من طول الطريق..
قال رجل متوسط العمر كان يجلس قرب مسافرة أردنية رمادية الشعر:
– كنا نصلها بساعة واحدة بالطائرة
فقالت المسافرة الأردنية:
– استعمل هذا الطريق ذهابا وايابا مرة كل ثلاثة أشهر منذ بدء الحظر الجوي على الطائرات العراقية. وقال الرجل:
– ياه.. كيف تحتملين مشاقه كل مرة؟
فقالت المسافرة:
– من أجل لحظة الوصول.
قال الرجل:
– الوصول إلى أين؟ الى بغداد أو الى عمان؟
فقالت المسافرة وهي تبتسم:
– إلى حد ما.. إلى أي حد كان.
الصغيرة ذات الأساور ظلت تروح وتجيء كالقطط تمد رأسها بين المقاعد وتتطلع الى وجوه المسافرين، وعندها تجد بينهم أحدا في سنها تتوقف قليلا وتفتح فمها ويتبادل الاثنان حركات في الوجه تنم عن الخجل والانفعال تماما كما تشم الجراء الصغيرة بعضها البعض عندما تلتقي في الطريق. قطعت الصغيرة رحلتها باتجاه براد الماء وملأت القدح البلاستيكي الأبيض الذي تحمله ثم عادت إلى مكانها وهي تمسك بالمقاعد أثناء سيرها لتتفادى السقوط. مست أصابعها شعر المسافرة الأردنية فتأودت المرأة وتأففت وقالت لها بحزم مغلف بالمرح:
– انتبهي
ابتسم لها خالد الذي كان يجلس خلف المسافرة الأردنية مباشرة، وقال لها مداعبا:
– هل هذا الماء لي؟
ففتحت فمها بخجل ولم تجبه.
قال لها:
– ما اسمك؟
قالت بصوت خفيض جدا:
– نادين.
قال مستفهما؟
– نادية؟
فقالت أمها من خلفه:
– نادين
فقال وهو يلتفت قليلا:
– ياله من اسم جميل
فتحت الطفلة فمها مرة أخرى فقال لها:
– تعطشين بكثرة يا نادين
فقالت أمها:
– كلنا نعطش بسرعة، الحر شديد ثم وجهت الكلام لابنتها:
– هيا.. أعط عمو قليلا من الماء.
فقال:
– كنت أمزح.. لست عطشان.
فقالت الأم:
– هيا يا ماما عودي إلى مكانك.. انك تقطعين الطريق. تحركت الصغيرة ببطء شديد الى أمها وهي لا تزال ملتفتة إلى خالد وتنظر اليه ذات النظرة المستغربة التي التهمته بها عندما هبط بها من حنفية الماء إلى الأرض في كراج العلاوي. خالد أيضا ظل ملتفتا اليها وهو يبتسم.. ويبدو أنها همست شيئا لأمها عندما ضمتها إلى حضنها لأن الأم قالت لها بعد ذلك بصوت خفيض:
– اش ش.. عيب
فتبادل خالد مع الرجل الجالس بقربه ابتسامة خاطفة ثم عاد كل منهما إلى صمته العميق.. أعادت المسافرة الأردنية مقعدها قليلا إلى الخلف وشرعت تقرأ. أصبحت العناوين السوداء للصحيفة الأردنية مفروشة أمام أنظار خالد فراح يقرأ مع نفسه:
"إسرائيل توافق على عودة 84 من أعضاء المجلس المركزي"
"القيادة الفلسطينية تؤجل عودة العاملين في الكوادر"
"أسرى فتح يدعون لافساد الاحتفال بعودة عرفات" "إضراب مفتوح عن الطعام للمعتقلين الفلسطينيين"
"فريق دولي يتوجه إلى بغداد لتركيب كاميرات فيديو.. بمواقع عراقية"
"خيارات أمريكية لاقناع العسكريين بالتخلي عن السلطة في هاييتي"
"سوريا تلفي قرار المقاطعة التجارية لجنوب افريقيا"
"انطباعات عائد الي أريحا"
"نقابة الأطباء تدعو جميع الزملاء الأطباء وأصحاب المهن الطبية المساعدة "للتطوع إلى اليمن"
التطوع لهذه المهمة الإنسانية واجب قومي وديني من أجل تخفيف آلام المصابين وجرحى الاقتتال الدموي المؤلم في البلد الشقيق"
انكفأت الصحيفة فوق وجه المسافرة الأردنية بعد أن اشتد بها النعاس أثناء القراءة فاستغرقت في النوم، وكان خالد قد بدأ للتو القراءة في انطباعات كاتب فلسطيني يريد العودة إلى أريحا.. التفت إلى اليمين ألقى نظرة على صف المقاعد الموازي للصف الذي يجلس فيه.. ثم تململ في جلسته ورمى نظرة إلى الطريق مرة أخرى. صفا البيوت الفارهة المطلة على الطريق السريع قد انقطع وابتدأ صف آخر من بيوت لا تنم أطر بنائها عن الذوق رغم أنها حديثة التشييد.. بيوت يسكنها أناس بسطاء وتبدو من خلف اسيجتها الواطئة حزم الحطب اليابس وهي تغطي فوهات التنانير والتي ربما جمعت من مخلفات الحدائق العامرة التي تجاور تلك البيوت.. بعد قليل ستظهر بيوت بلا أسيجة أكثر بشاعة في الذوق من الأولى مسكونة بالبشر رغم أنها غير مكتملة البناء واطارات نوافذها صدئة لأنها لم تدهن بأي طلاء وواجهاتها مصبوبة بالأسمنت الكالح الذي لم يكس بأي مادة إنشائية أخرى اقتصادا بالنفقات.
كانت نوافذ الحافلة قد أغلقت منذ فترة بسبب سخونة الهواء الداخل إلى الحافلة والحرارة داخلها قد أخذت بالارتفاع، فالتفت خالد إلى نادين وطلب قدحها البلاستيكي الأبيض لشرب الماء فقالت له أمها:
– عندي بعض الشاي ان رغبت..
فقال لها:
– شكرا جزيلا.. أريد ماء فقط
ثم حمل القدح ونهض من مكانه باتجاه ثلاجة الماء.
ذكري شارع (14 رمضان) بشارع اسمه شارع (الوايت ليديز) كنت استعمله للذهاب والإياب بين بيتي وجامعتي أيام كنت طالبا في برستول. يومئذ كنت خاليا من الذكرى مكتظا بالجميلات.. واليوم وحيد من كل جميلة مكتظ بذكراها فقط.. تمتلئ حتى الشوارع والمحلات بذكراها وتتضافر على روحي لتجعل من هذا الوداع أصعب ما يحدث في حياتي على الإطلاق.. انعطف السائق بحافلته إلى شارع (14 رمضان) باتجاه الطريق السريع المؤدي إلى الرمادي فمررنا بكافتيريا- الكار دينيا- حيث جلست أنا وإياها يوما لأول مرة عندما كنا في الطريق إلى صيدلية بلاط الشهداء لصرف دواء دفتر الأمراض المزمنة الذي لم يكن يصرف من غير تلك الصيدلية.. يومها لمست يدي يدها للمرة الأولى فلمست روحي تلك الحرية التي تختلج لها الاحشاء لأنها أكثر مما يجب وأطلق مما يحتمل ثم لتترك فيها ذلك الأثر الذي لا يمحى لأنه ببساطة لا يتكرر.
لبثت صامتة.. خائفة.. تنظر إلى نقطة بعيدة في الفراغ ثم قالت فجأة وكأنها تحدث نفسها:
– فيروز شيء نادر وجميل.. مع ذلك فلم أعد أحبها
قلت لها:
– لماذا؟
قالت:
– في أغانيها فقدانات كثيرة.
قلت:
– ربما هذا هو ما يجعلها جميلة.
قالت:
– نعم.. أجمل الأغاني هي الأغاني الحزينة.. ذلك أن الشاعر والملحن يكتبان عادة قصة حب فاشلة.. قصة حب لم يعيشاها في الواقع.. فيعيشانها على الورق.. هذه هي أجمل القصائد: أحلام لم تتحقق.. وعواطف لم تتفجر ثم رددت بحياد وهي تنظر بوجوم
– أحلام وعواطف.. هذه هي أجمل الأغاني
قلت لها:
– قصة الحب الناجحة قد تكون جميلة أيضا لم ترد.. وظلت صامتة تنظر إلى يديها طيلة الوقت.. وتحرك أحيانا بإبهامها خاتم الخطوبة. سنتان مرتا على فقدان خطيبها، وكان لايزال في بنصر يدها اليمنى. نظرت إلى يديها بدوري فوجدتهما جميلتين ومتناسقتين وبأصابع طويلة ونحيلة.
قلت لها:
– أصابعك جميلة
فابتسمت وقالت:
– حقا؟
قلت لها:
– نعم
في داخلي كنت أحس نفسي مغتربا عن تلك الكلمات وأشعر بأنها لا تخصني ولا تليق بي وأنما تليق بفتى مراهق.. قلت لها مستدركا:
– كل ما تشاهدونه أنتم من الجسد البشري هو عروض.. مجرد عروض.. شوبزنس.. نحن فقط الذين نشاهده على حقيقته في الميدان.. مجروحا.. مفتوحا.. مدمى.. مدمرا.. والقاذورات تحيط به من كل مكان.. يداك مثلا اللتان قلت أنهما جميلتان قبل قليل، لا أستطيع وأنا أنظر اليهما أن امنع نفسي من التفكير بأن هذين العرقين الناخرين على ظهرهما هما الوعاءان اللذان ينقلان الدم الفاسد من الأطراف إلى القلب.
قالت:
– كيف يكون الطبيب رومانسيا إذن، ويتحدث عن الحب والجمال وأغاني فيروز؟
قلت:
– عندما يجد نفسه فجأة أمام الحب الحقيقي في حياته. نظرت في قعر فنجاني وقالت تغير الموضوع:
– هل أفقأ لك عين الحسد؟
قلت لها ضاحكا
– أتؤمنين بالحسد؟
قالت:
– أؤمن بوجوده ولا أؤمن بتأثيره ثم سحبت فنجاني من الطبق وقالت بحياد وكأنها تحدث نفسها:
– سأقرأ لك فنجانك.
قلت:
– أتؤمنين بالحظ؟
قالت وهي تضحك ضحكة منغمة رنت في قلب الفراغ الذي بيننا كالموسيقي:
– ما حكايتك اليوم يا دكتور؟ تسأل كثيرا عما أؤمن به.. وأنت بماذا تؤمن؟
قلت لها:
– أؤمن بقوة الكلام
قالت:
– هذا عنوان قصة مشهورة
قلت لها:
– أهي حقا كذلك؟
قالت وهي تنهض:
– نعم.. وأنا قد تأخرت فرفعت يدي بحركة عفوية لامنعها من النهوض.. مسكت كفها بكفي وقلت لها:
– لا يزال الوقت باكرا.. لنبق قليلا هنا نظرت الي لوهلة ثم غضت بصرها إلى الأرض.. ولم تبد أية مقاومة لسحب يدها من يدي.. بل أبقتها هناك وعادت للجلوس في كرسيها من جديد.. كان جلوسها أقرب إلى الذهول منه إلى الردة.. لبثت في كرسيها لحظات ويدها لا تزال لاهثة في يدي ثم دمعت عيناها لسبب لا أعرفه.. في تلك اللحظة فقط أدركت أن اللحظة المقدرة التي طالما انتظرتها قد حانت، وبدا لي أن تلك المرأة الفاتنة التي لا تؤمن بقوة الكلام قد استسلمت للتر لوهم من أوهام النساء.. ولكنها ظلت لعدة ثوان تنظر إلي بعينيها الدامعتين ويدها مأخوذة في يدي.. ثم انتفضت فجأة وسحبت يدها وخرجت من الكافتيريا ثم لم أرها في مكتبتها أسابيع بعد ذلك.
أحقا أودع بغداد من أجل حب فاشل أم أن كل الأشياء تآمرت لجعله يبدو كذلك؟ في تلك اللحظة المقدرة التي لا تحدث في الحياة إلا مرة واحدة، وقد لا تحدث، شعرت بأن القدر يكافئني أخيرا على عمر بأكمله من الانتظار.. كنت سأجيء بها من سهلها الوعر واقلعها منه.. كنت سأصل اليها وآخذها لأزرعها في روحي حيثما شئت.. ولكنها أبت وغضبت وقالت:
– لا تمش ولا تصل ولا تأخذ بالكلمات.. أنا هنا واقفة كالشجرة.. إن تقتلعني من مكاني أمت.
جاءت الصغيرة تتعكز على حافات المقاعد والماء يتساقط من قدحها البلاستيكي الأبيض.. مست يدها شعر المسافرة الأردنية، فانزعجت وسحبت رأسها إلى الأمام. كانت قبل قليل تتحدث إلى جارها عن لحظة الوصول إلى حد ما، ففكرت بالذي يقف خلف الباب ويعتقد أن الآخرين أمامه.. في الوقت الذي يكون هو أمام الباب والآخرون خلفه وأنا أين أقف الآن. أخلف الباب أم أمامه؟ أأدخل إلى الجنة أو أخرج منها؟.. مضت الصغيرة في طريقها إلى حضن أمها وقالت لها أن عمو لا يسمع جيدا، فالتفت جاري في المقعد الي وابتسمنا ثم أعادت المسافرة الأردنية مقعدها إلى الخلف وراحت تقرأ في صحيفة أردنية. رحت أقرأ عناوين الأخبار من خلف رأسها وكل عنوان يسلم نفسه إلى الآخر مثل ركضة البريد في العاب الساحة والميدان.. هذا الكلام كله لم يعد ذد نفع حقيقي لأحد.. ولا أحد يعرف أو يسأل أو يأبه ان كان هذا الكلام جادا أم هازلا، كاذبا أم صادقا.. منحرفا أم شريفا.. كل الأشياء ذابت في إناء كبير، وقطعة السكر الوحيدة ضاعت في جرة كبيرة هن الشراب المر فأصبح مذاق الملاعق كلها صغيرا باهتا.
جاري في المقعد كان يتفرج ساهما عبر النافذة إلى الخارج وكانت يداه الممدودتان فوق فخذيه ثابتتين طيلة الوقت تكادان تكونان جامدتين في مكانيهما من شدة السكون.
أصبح هواء الظهيرة ساخنا جدا فطلبت من جاري إغلاق النافذة.. أغلقها وقال:
– حافلة نفاثة وتكييفها عاطل.. يا للحظ السيئ.
× فصل من رواية مقدمة للنشر بعنوان "الحدود البرية".
ميسلون هادي (قاصة وروائية من العراق)