منى أنيس
كاتبة وصحفية مصرية
لا أجد كلماتٍ مناسبة تُعبِّر عن فُقدان صديقة عزيزة، ما زلتُ لا أصدِّق حتى الآن أنَّها غابت تمامًا عن حياتنا المعيشة، وإن لم تغب عن فكري وبالي، تعرفتُ على سيزا في ثمانينيات القرن الماضي بينما أعد رسالة جامعية في الأدب المُقَارَن الإنجليزي-العربي عن نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كنتُ أقرأ لها مقالات في مجلة فصول، وأُعْجَب بثقافتها الواسعة وتحليلها المنضبط، فمعرفتها العميقة بالثقافة الغربية والعربية في آن، جعلت منها نموذجًا نادرًا وسط أساتذة دراسات الأدب المُقَارَن في مصر والعالم العربي، وكنت قد اطّلعتُ على رسالتها للدكتوراه، التي قامت فيها بدراسة باهرة عن ثلاثية نجيب محفوظ وعلاقتها بالواقعية الأوروبية وروايات الأجيال في الآداب الغربية وخاصة الأدب الإنجليزي والفرنسي..
ولمَّا كنتُ على علاقة صداقة طويلة بأمينة رشيد، أستاذة الأدب الفرنسي بجامعة القاهرة، وهي رائدة أخرى من رائدات الدراسات المقارنة في مصر، وصديقة لسيزا مُنْذُ الصِّبَا المبكر، فقد طلبتُ منها تقديمي لها وقد تم هذا بالفعل ربما عام 1983 أو 84 لا أذكر. كانت سيزا كريمة معي بوقتها وعلمها، حيث أمضينا بضع جلسات نناقش بحثي وتقترح عليَّ بعض المصادر العربية التي لم أكن أعرفها، سافرت بعد ذلك لاستكمال دراستي، ولم أرَ سيزا إلا مع بداية التسعينيات.
كنا نلتقي في مناسبات عامة نُسلِّم على بعض بحماس، وأعدها بأن أمر عليها ولا أفعل في أغلب الأحيان، كنت قد تركتُ البحث الأكاديمي وعملتُ بالصحافة، ولعلني بشكل ما كنتُ أخجل من سيزا وبعض الأصدقاء النابهين من أمثال رضوى عاشور وأمينة رشيد، بعد أن خيَّبتُ أملَهُم في أن أنضم لكتيبة الأكاديميين المقاتلة ضد التدهور الحاصل في الدراسات الأدبية في مصر، وبقينا أنا وسيزا نلتقي في مناسبات مُتفرِّقة حتى جاء عام 2006، الذي توفي قُرْبَ نهايته الدكتور إسماعيل صبري عبدالله، وهو أحد كبار المؤثرين في حياتي المهنية وتطوري الفكري، عرفته منذ صِبَاي المبكر صديقًا لأبي، وعملتُ معه في بداية الثمانينيات كمساعدة شخصية له في إطار مشروع للأمم المتحدة، وأحببته حبًا جمًّا وتعلمتُ منه الكثير، ومع وفاته وأثناء فترة العزاء لاحظت أن سيزا لا تُفارِق أرملة الدكتور إسماعيل، الأستاذة جولبيري أفلاطون، الشقيقة الكبرى للفنانة الراحلة إنجي أفلاطون، وجولبيري أفلاطون لمن لا يعرف مثقفة عميقة الثقافة تكتب الشعر والقصة بالفرنسية، ولها سيرة ذاتية جميلة كتبتها بالفرنسية أيضًا، وصدرت ترجمتها للعربية عام 2015 عن المركز القومي للترجمة بمصر، وكانت جولبيري أثناء معيشتها في باريس خلال فترة الأربعينيات من القرن الماضي قد تعرَّفت على شعراء الحداثة الفرنسية ونشرت أعمالها في مجلة “الليتر فرانسيز” وأصبحت صديقة لبول إيلوار وأراجون وزوجته إلزا تريولي التي كتب لها أراجون “عيون إلزا” و”مجنون إلزا”.
ومنذ وفاة إسماعيل صبري نهاية عام 2006 وحتى وفاة جولبيري عام 2014 أصبحنا، أنا وسيزا قاسم صديقتين حميمتين، تجمعنا بجولبيري أفلاطون جِلْسَة أسبوعية نستمع فيها للموسيقى الكلاسيك ونناقش الأدب والفن، تحضرها أحيانًا أمينة رشيد، ثالثة المُثلَّث الذهبي الفرانكوفوني التعليم والثقافة، وكان الحديث يدور في جلساتنا المُمْتِعَة تلك بالفرانكو آراب، وأحيانًا بالإنجليزية ذلك أن جولبيري كانت تتحدث العربية بصعوبة، وأنا أتحدث الفرنسية بصعوبة أكثر، كانت جولبيري تعيش وحيدة بعد وفاة الدكتور إسماعيل تعاني من الاكتئاب بسبب فقد رفيق حياتها وكانت الجلسة الأسبوعية معها، وحتى وفاتها، فكرة سيزا للتسرية عنها.
والحقيقة أن سيزا، التي تبدو لمن لا يعرفها متعالية وذات ميول نخبوية، كانت تتجلى في الظروف الصعبة أو عندما يحتاجها صديق، فتلمع كالأحجار الكريمة، لم أعرف إنسانة كريمة بوقتها وجهدها وعلمها ومالها مثل سيزا قاسم، عندما توفيت والدتي عام 2019 كانت سيزا تتصل بي يوميًا وتخترع مناسبات وخروجات كي تُخْرِجَني من حالة الاكتئاب التي كنتُ أعاني منها وعندما مرضتْ صديقتُنا المشتركة أمينة رشيد، كانت سيزا هي من يُعْنَى بأدق تفاصيل شأنها المعيشي اليومي، وشأن كل من يخدمها. كنا نتبادل المشورة حول أفضل الحلول لإخراج أمينة من حالة الاكتئاب الحاد التي رانت عليها بعد وفاة زوجها الدكتور سيد البحراوي، ونحثُّها على الخروج من عزلتها ثم توفيتْ أمينة وكان غيابها مُؤْلِمًا لسيزا ولي، وتشاركنا معا في ألم فقد صديقتنا العزيزة .
قد تبدو مثل هذه الذكريات خريفية بامتياز، وهي كذلك فعلًا، ولكنَّها أيضا ذكريات عمَّا يحمله الحب والتضامن الإنساني من تخفيف قسوة الرحلة الطويلة ذات النهاية المحتومة، وما حيلتي وعلاقتي الوثيقة بسيزا قاسم نمت في ظل رغبتنا المشتركة في تخفيف أحزان فقد الحبيب على من نحب.
عندما فقدتْ سيزا زوجها، وحبيب عمرها، المهندس وجيه دراز، أصبح لزامًا على أحبابها رد الجميل وقد حاولنا أن نحيطها بحُبِّنا قدر الإمكان، والحقيقة أنها كانت كريمة حتى في حزنها، وظلت تجمعنا في منزلها الأنيق حتى آخر لحظة. كان آخر لقاء معها قبل وفاتها بأسابيع قليلة، احتفالًا بعيد ميلاد أحد تلامذتها الأثيرين لقلبها، الصديق طارق النعمان، يومها أكلنا وشربنا في بيتها وأطفأنا شموع كعكة عيد ميلاد طارق التي كانت مفاجأة سيزا لطارق، وتفرَّقنا على أمل موعد قريب للقاء. ولكن القدر كان أسرع منا. كم كُنَّا نتمنى أن تبقى سيزا معنا مدة أطول، كي نَنْعَم بمحبتها ونُعبِّر لها عن امتناننا العميق لمعرفتها وصداقتها ولكنَّها لم تُمْهِلْنَا طويلًا، فقد كانت مُصَمِّمَة على اللحاق بزوجها الحبيب، الذي لحقت به بعد بضعة أشهر من وفاته، لتتركنا نحن أحباءها يواسي بعضُنا البعض في فقدانها الذي يصعُب ويعز تعويضه.