على مدى ستة أيام من شهر أكتوبر ، أرعدت الدنيا وأبرقت ، وزلزلت الأرض من تحت مدينة “بلجراد” . وقبل فجر اليوم السابع عمّ الهدوء ، بعض الهدوء اللطيف خيّم على النساء والأطفال الذين لاذوا وعانوا لمدة ستة أيام في السراديب والملاجئ في ذلك الجزء المحرر من مدينة “بلجراد” مابين منطقة “ترازيا” وحديقة الكلمكدان”.
اقترب النهار ولم يبدأ القصف ، وسادت بين الناس قناعة بأن ما يجري ليس هدنة ، وإنما هي النهاية .
ومع انبلاج الفجر تبدّى من هناك خوف مميت .. من البوابات المنسية للبيوت مثل إطلالة البراعم في الربيع .
أطلّ منها في الوهلة الأولى بعض الناس القلائل ، مدفوعين بقضاء الحاجة أو الهوس والفضول . وكان من بين أوائل من اندفعوا إلى الشارع “بيتر مالباشيتش” ، والذي أطلق عليه اسم ” مهندس الطابق الثالث ” . كان هو من بين أوائل السكان الذين عبروا الشوارع المحررة للتو في أعقاب حرب الأيام الستة ، وكان هدفه بيت مؤلف من خمسة طوابق في منطقة “حديقة الكلمكدان ” .
سار في شوارع مألوفة ، تغيرت معالمها ، وأصبحت فجأة ممتدة بلا نهاية ، لأنها امتلأت بالحواجز وشاعت فيها الأخبار المريعة والرعب . وكان في كل لحظة يتخطى الجثث المنتفخة والمتورمة للجنود الألمان . والأرض مغطاة بطبقة كثيفة من الزجاج المهشّم الذي يفرقع ويصرّ تحت الأرجل مثل الثلج بعد صحوات الشتاء .
نوافذ مخلعة تتهادى ، وبقايا آثار من الألغام ، وحفر من القذائف على واجهات البيوت . وأسلاك مقطعة تتعلق وتتأرجح في كل مكان .
( وبينما هي تتعلق في الهواء فوق رؤوسنا ، كان يستحيل على المرء أن يتوقع أنها بهذه الكثرة ! ) .
تقبع الدبابات المعطوبة هامدة ، والعربات نصف محترقة ، ويبدو الخراب ونتن الحرائق في كل مكان .
اعترت كيانه بأكمله إثارة استثنائية وغير مفهومة ، حتى تهيأ له أنه لا يرى المشاهد من حوله ، وإنما يضيع فيها بكامل كيانه ونظره بطريقة هائلة وخطيرة .
وفي “ترازيا” في المكان الذي سقط فيه آخر جنود الدبابات ، وحيث كانت زهور حمراء وبيضاء ورقية رخيصة ومثيرة ، وشمعتان مشتعلتان . جالبة الدهشة على ما حولهما . وبدا “لبيتر” أنه من غير المتوقع في مثل هذه اللحظات العصيبة ، أنه يمكن لشمعة أن تشتعل وسط الشارع ، وبدا له ذلك من بين الغرائب المتعددة التي تتبدّى من حوله .
أرتال طويلة من “البارتيزان – قوات الأنصار” ببنادق منكّسة يسيرون على الجانبين لصق البيوت . ويعبر الشارع القليل من الدوريات السوفييتية بملابسهم الرمادية ، ويعتمرون الخوذ على رؤوسهم ، أو يتراكض بعض المدنيين ممن على أذرعهم شارات حمراء أو ثلاثية الألوان .
أسرع “بيتر” لكي يصل إلى البيت الكبير في منطقة ” الكلمكدان” حيث من الممكن أن يكون بانتظاره الرفاق ، وحيث يكون وجوده ضروريا هنا كما يعتقد . كان يسرع ولكنه يبتعد ببطء .
شهورا بعد شهور قيل : “عندما يحين ذلك اليوم ” ، وهاهو قد جاء !
هذه البداية وتاريخها 20 اكتوبر ، ويوم خريفي جميل بلا مطر ولا رياح .
كل ذلك يعرفه المرء ويردده في سريرته بصوت هامس ، ثم ينسى على الفور ، لأن كل شيء في داخله وفيما حوله ينهار ويتأرجح ويتحرك بشكل دائم . لا نقاط ثابتة في أي مكان ! وفي أساسات هذا السفح المنحدر الذي تبدأ منه “بلجراد” يتم الإحساس بهذا الارتجاج .
” الأمور تحسّنت ” . سمع هذه الكلمات قبل عشرة أيام ، عندما تناهى إليه من وسط حديقة “الكلمكدان” هدير المدافع في منطقة “بانات” . نطقها رجل قصير وقميء ، لكنهم وكما تهيأ له يعبّرون بأفضل طريقة عن شعورهم العام والجمعي في هذه اللحظات .
نعم . إن كل شيء يمضي ، وكلّه باتجاه واحد ، الجيش والشعب معا مربوطون كما المدافع والعربات وآليات من كل نوع ، والبهائم أيضا، يقصدون موطنا ممغنطاً غير مرئي . الإنسان محمول ، ووعيه بذاته في أدنى مراتبه . وعليه أن يبوح بأفكاره الصمّاء بخياراته الشخصية بشكل علني وأن يرددها في دخيلته قبل أن يكملها . وهو يتحدث يصوت هامس : إنني ذاهب للتطوع . وعلى هذا النحو وفي أي قرار مهما صغر. كل حركة في شارع آخر عليه أن يعطي الأوامر لذاته ، وبالطبع فهو بهذه الطريقة يتقدم بثبات ، ولكن ليس بسرعة . وعلى وقع الحركة العامة من التوقفات والانحرافات التي لا يرى الإنسان لها معنى ولا سببا ، والتي لا يعرف أحد من أين تأتي أو لأي سبب .
“عندما يحين ذلك اليوم ! ” وهاهي الأمنية تتحقق ، ولكن عندما يأتي ذلك اليوم لا يمكن للإنسان أن يستدخله في وعيه ، وهو في عراك دائم مع الزمان والمكان .
يسير مع التيار ، وينفذ قرارا ، ويفكر في الوقت نفسه أين منه الشمال واليمين ، وما الذي بقي غير منجز وغير مرئي وغير منطوق .
ولكن هنا تكون الكلمة السحرية المنقذة : إلى الأمام ! فهي تحل كل شيء ، وهي في تضاد ظاهر مع القوانين الفيزيائية ، تعيد لجميع الأشياء انتظامها ، ولكل حركة معناها ، وللإنسان المتهيج التقاط أنفاسه ، لأن كل شيء يتحرك باتجاه واحد ، أقصر الخطوط الممكنة ، وبأقصى سرعة ممكنة .. إلى الأمام !
وعلى المساحة الممتدة أمام المسرح ، كانت هناك الجثث ثانية ، وبرميلاً حديدياً من البنزين وشبكات يصعب فكّها من أسلاك الهاتف ، والترامواي ، والأعمدة المحروقة والسيارات المحطمة . عندما عبر منطقة المسرح انفجر مدفعان بالتتالي ، بصوت قريب وواضح وخطر : دو .. أة .. دو .. أوو ، وانفجرت بعد ذلك مباشرة في مكان ما قرب نهر الدانوب القذائف التي ألقيت واحدة تلو أخرى بلا دوي : بام .. بام ، وأصبح يحسّ أكثر مما يرى بأن بعض المدنيين قد شرعوا في الهرب .
توقف رتل البارتيزان عن السير ، واحتموا بالبيوت ، وعن طريق بنود من قانون الطاعة بقي أحد معهم . تراكض الناس من ” حديقة الكلمكدان ” إلى منطقة “ترازيا” ، وتوقف بعضهم وسأل بصوت عال :
– ماالوضع الآن .. من أي مكان يطلقون القذائف ؟
وأثناء ركض الناس ، كانوا يلوحون بأيديهم فقط ، ويشيرون إلى مكان ما باتجاه منطقة “زيمون ” . لم يكن هؤلاء أناسا مرعوبين أو عاجزين ، كما بدوا في بعض الأحيان بعد القصف . لا .. فقد ركضوا بخطى واثقة ، ووجوه باشّة مثل أناس يلوذون من المطر !
لكن الحركة كانت معدية !
استدار “بيتر ” فجأة وبدأ الهرب بنفس الاتجاه معهم ، وليس بسرعة أكثر منهم منفرج الأسارير إلى حد كبير . وعندما عبر أكثر من نصف مساحة الساحة توقف فجأة ، وتوقف إطلاق النار . انحرف بقليل من الخجل ، ووجه خطاه باتجاه شارع “فاسين ” .
دبّت الحياة ثانية في رتل البارتيزان ، وبدأ التحرك بيسر وبشكل طبيعي ، وكأن أحدا يستدرجهم من بعيد بفكرة محددة واضحة .
ومجرد أن دخل في شارع “فاسين” ، وكان يعبر ببطء وحذر بين كتل الأسلاك ، ومزق الأنقاض بدأت تلك المدافع بالرماية ، وكانت تدوي بشكل مقزز . ولم يهرب في تلك المرة – وإنما وبأحد قوانين الاحتماء اللاواعي – ، التصق بإحدى البوابات المغلقة ، التي كانت عميقة بما فيه الكفاية حتى يشعر المرء بالأمان ، وخصوصا لإنسان في مثل أوضاعه لا يعرف معايير الخطر ولا قيمة الاحتماء !
كان الانفجار قريبا جدا ، هنا في مكان ما من منطقة “دورتشول” ، وكان يسمع دويّه وهو يقوض الطابوق ويعصف بالأشجار ، وكأنه صدى من أصدائه بعد الانفجار .
احساس بتقلصات في البطن ، ومن ثم في الصدر بأكمله ، خوف من الخوف ، واستحياء عاجز . وكان من الأفضل أن يغمض المرء عينيه ، لحظة أن تهيأ له أن المشاعر والتناقضات تتلاشى على هذا النحو ، لكن الخوف والتوجس يبقيها مشرعة على وسعها .
” كن هادئا ” – قال في سريرته بصوت خافت – . عندما أدرك أن هناك شخصا آخر عند البوابة ، شخصا ملتصقا بعارضة خشنة تشبهه . والتقت نظراتهما .
كان “بيتر” في اللحظات التي يتوقف فيها إطلاق النار يسترق النظر إلى جاره . إنه عامل شاب يعمل باليومية وهو أقرب إلى الفلاح ، يرتدي معطفا خفيفا ضيقا لدرجة لا يمكن تزريره ، وتطل من الأكمام القصيرة يدان بيضاوان كبيرتان بأصابع ملطخة بالسواد وأظافر متآكلة . آلتان من لحم ودم من أجل العمل . كانت عيناهما تتلاقيان مجرد أن تدوي المدافع ، لأن كل واحد منهما كان يقيس مقدار الخطر في عيني الآخر .
– هذه هي القذائف الأخيرة … آتية من منطقة “زيمون ” – قال “بيتر ”
لكن العامل لم ينبس ببنت شفة ، وبقي يتطلع بعينيه الزرقاوين الكبيرتين وكلّه حذر وانتباه . لديه حق .. وهو أكثر ذكاء ، ماالذي يمكن قوله في هذا المقام ؟ فكّر “بيتر” خجلا من فضوله !
كانت الفكرة الأكثر شذوذا من بين كل الأشياء على الرغم من ذلك ، أنه فقد وعيه القديم بذاته بشكل تام . إنه يكرر في سريرته كل ماافترضه نقاطا راسخة في وعيه خلال هذه السنوات الثلاث ونيف الأخيرة .
لو أنه هرب من وظيفته كمهندس محلي وعضو هيئة الدفاع المدني مثل كل الآخرين في السادس من نيسان عام 1941 !
لو أنه في مكان ما قرب “ملادينوفتس” كان في كامل قواه العقلية ، وأدرك ، وانفصل عن رتل الهاربين ، وعاد مع جماعته إلى “بلجراد ” !
لو أن زوجته الجميلة الشابّة ومعها ابنهما ذو العامين تخلت عنه بعد ذلك بقليل ، وذهبت إلى أهلها في “فيينا” ! ولو أنه بعد عقد من الزمن استلم رسالة تعلمه بموت ابنه الوحيد .
لو أنه عاش لفترة طويلة ، عاما بطوله أسير عذاب خالص ، وعلى أبواب الانتحار تماما !
لو أنه عثر في تلك الليالي الطويلة على كتب تجلب له المسرّات الاولى ! لو أنه من خلال تلك الكتب بدأ علاقة مع اثنين من رفاقه ، كانا من قبل قد استقبلاه ببرودة حرفية ” أو هكذا تهيأ له ” ، وبعد قليل شيئا فشيئا بأكثر مودة وثقة !
لو أنه وجد في تلك الحوارات مايخفف عنه ، أو وجد في نهاية الأمر احتراما أوليا لذاته ، وهو ما يصبح العيش بدونه مستحيلا ! التوضيح الصادق والصحيح ، ومجمل سلوكه ، وكل الانكسارات والخمود من حوله .
لو أن الكلمة لعبت دورا بارزا في تلك الحوارات ، “وعندما يأتي ذلك اليوم …” وأن يكون كل هذا الذي يحدث معه الآن ما هو إلا القيام بواجبات أخلاقية متأتية من تلك الحوارات .
دو .. أو .. دو .. أو .. ، بدأ قصف المدافع ثانية .. ثلاثة .. أربعة .. ، وترد عليها بنفس الانتظام انفجارات من مكان ما قرب نهر الدانوب . التقت نظرات “بيتر” بنظرات العامل ، ولكنه واصل أفكاره على الفور .
لو أنه عرف فقط أنه “يذهب للتطوع ” ، وهذا واضح تماما ومتواضع وطبيعي ، مع أنه لا يعرف تماما إلى أي جهة ؟ ولماذا ؟ وبأي طريقة ؟
لكنه يعرف أنه سيفعل هذا ، وأن هذا هو الأفضل . وكل مابقي وتراءى يوما مثل جبل لا يمكن لإنسان حي أن يجتازه ، انهال عليه كل ذلك عذابا ممضا شيئا فشيئا ، والربيع المخزي عام 1941 ، والهروب اليائس الجنوني لزوجته ، حتى إن الحزن على الطفل تغير في ضميره .. تحرر من كل شيء . ” التحرر” ، نطق ذلك بهدوء ، وجاره يتطلع فقط بتلك العينين الكبيرتين اللتين كانتا ضائعتين في لجة الحذر . “التحرر” لإثبات ذلك . أدخل “بيتر” رأسه الصغير من شق البوابة ، ورأى في أسفل الشارع ” حديقة “الكلمكدان ” المخضرّة !
لو أن الحياة ممكنة ! إنه يشعر بهذا بوضوح ، مع أنه يمكن أن يلقى مصرعه في أية لحظة بصلية من تلك القذائف القذرة الأخيرة ، كما يومئ له بوضوح الخوف الذي يبهض معدته ، والذي يقرأه في عيني العامل الشاب المحملقتين . ومع هذا فإن الحياة ممكنة وثريّة ومليئة بالمعاني ، ولم تكن قريبة ومتفهمة وممكنة على هذا النحو أبدا مثلما هي الآن .
وهذا هو الاخضرار الذي يطل ، على “حديقة الكلمكدان” وشرفاتها ومنحدراتها المجللة وطرقاتها .
يوجد هنا مكان لشرفات جديدة ، وبنايات ضخمة ، مدارس ومعاهد . وستكون هنا نساء جميلات وأطفال أصحاء . وهنا على حافة النهرين الكبيرين وبتلاحم غريب بين الضوء والرطوبة سوف ينمو كل شيء بسرعة ، ويتطور بشكل أفضل العشب والأشجار والأطفال .
كل هذه الأشياء سوف تنمو بنماء وثقة ، أو على الأقل بمضادات أفضل من الأمراض والعار . سيكون هنا شباب أشداء طبيعيون ملوّحون من أشعة الشمس ، موزعون في منامات مضاءة ، ومختبرات ومكتبات ، مقبلين على المرح بلا تردد ، حيويون إلى حد لا يطاق ، جاهزون دائما للرقص ، مخلوقون ليعملوا ويولدوا أناسا آخرين أكثر قوة وأفضل مما هم عليه ، وليس من أجل أن يهربوا بخزي ويموتون بجنون . نعم الحياة ممكنة .. الحياة الواعية …
انطلقت قذائف من مدفعين ثم ثالثة ورابعة . أراد “بيتر” أن يعدّ الانفجارات والقذائف مثلما كان يفعل من قبل . سمع صوت الأول والثاني ، ثم بعدها وعلى الفور اندفع من فوق رأسه انفجار مرعب وتلى ذلك حطامات ، وسقوط شظايا ثقيلة من الأشجار والجدران والزجاج .
خرّ العامل الشاب على ركبتيه ، استند إلى يديه ، وتقوقع بشكل غير منتظم على الأرض ، وألصق “بيتر” ظهره إلى الباب فقط ، مداريا وجهه وعينيه بمرفق يده اليسرى . قربهم وفي كل مكان من حولهم ، وإلى حد منتصف الشارع سقطت شظايا الطابوق والزجاج وجذوع الأشجار . تساقطت عليه بعض قطع الملاط الصغيرة ، وانبعثت رائحة الغبار الجيري .
وعندما هدأ وقع الانهيارات ، رفع “بيتر” يده عن وجهه ، ونظر إلى الأسفل . كان مجللا بالبياض تماما ، وإلى جواره يرتمي العامل مثل تل رمادي صغير ، ولكنه لم يزل يرفع رأسه ، وينظر بتلك العينين الحذرتين حوله ويصلح هندامه ببطء .
تذكر “بيتر” أن الخوف انزاح عنه بشكل غير ملاحظ مثلما استبد به ، وأن ما يبهضه عدم التروي ، وقلقه من أن لا يصل في الوقت المناسب إلى البيوت العالية قرب “حديقة الكلمكدان ” . وغادر البوابة على الفور وتوجه بحذر ولكن بتصميم حذاء الجامعة من بين الأسوار المحترقة ، والأنقاض والأسلاك ، محاذرا مثل أي جندي محترف ، ومثل إنسان عليه واجب ومهمة ” بأن يتطوع ” في مكان محدد ، وساعة محددة ومن أجل عمل محدد !!
ايفو آندرتش
ترجمة من اللغة البوسنوية : اسماعيل أبو البندوره *